علم المسيح

80- انشقاق بين المجمع، والسنهدرين يتحرَّك



80- انشقاق بين المجمع، والسنهدرين يتحرَّك

80- انشقاق بين المجمع، والسنهدرين يتحرَّك

ظلَّ
المسيح يعلِّم في الهيكل على مدى أيام العيد. وكان السنهدرين قد حبس غضبه وضيقه
خوفاً من الجموع الحاشدة التي كانت منفعلة به ومتمسِّكة بتعاليمه. حتى انفضَّ
العيد وظلَّ المسيح يعلِّم في الهيكل تحت هذه التهديدات. ولمَّا أراد السنهدرين أن
يتحرَّك واجه انقساماً حاداً بين جماعة الغيورين المتعصبين، فكثيرون من المعتدلين
مانعوا في أي إجراء من هذا، بل وحدث بالفعل وأثناء العيد أيضاً أن أرسل السنهدرين
الضباط المنوط بهم القبض عليه وتوجهوا إليه أمام الشعب وهو يعلِّم، فما كان منهم
إلاَّ أنهم نسوا مهمتهم ووقفوا يسمعون وهم مندهشون وعادوا أدراجهم خجلين. فلمَّا
عاتبهم رؤساء الكهنة لماذا لم تقبضوا عليه؟ قالوا قولتهم المشهورة في الإنجيل: ”
فقال هؤلاء لهم: لماذا لم تأتوا به؟ أجاب الخدَّام: لم يتكلَّم قط إنسان هكذا مثل هذا
الإنسان”
(يو 46: 7)

ولمَّا
انفعل الفرِّيسيون لهذا التصرُّف وطلبوا أن يُقبض عليه ويُحاكم فوراً، لأنه ينقض
الناموس ويجدِّف على الله، ردّ عليهم الذين سمعوه وعرفوه وأدركوا الأعماق المهيبة
التي تسند فكره وتعليمه وسمو شخصه؛ إذ قالوا لهم بفم نيقوديموس الجليل، أحد أعضاء
السنهدرين البارزين، موبِّخاً الذين يحاولون سرعة الحكم دون تعقُّل وفحص وسماع: “ألعلَّ
ناموسنا يدين إنساناً لم يسمع منه أولاً ويعرف ماذا فعل؟” (يو 51: 7)

فلمَّا
رأى الغيورون والمتعصبون من الفرِّيسيين أنهم خُذلوا نادوا بمبدأ المقاومة
والمحاصرة، حتى لا تتسع دائرة نفوذه وتعاليمه، وأصدروا قراراً من السنهدرين وكان
أول قرار رسمي ضدَّه: “تعاهدوا أنه إن اعترف أحد بأنه المسيح يُخرَج من
المجمع.” (يو 22: 9)

 

أعمال
وتعاليم خارج الهيكل

81- شفاء
المولود أعمى ومحاولة السنهدرين التغطية على المعجزة

كان أساس هياج الغيورين والمتعصبين من الناموسيين على
المسيح في

تعاليمه السابقة كسره ليوم السبت، إذ اعتبروه
خروجاً عن الدين وكسراً للناموس.
ولكن المسيح لم يكن يعتقد ذلك أبداً في
نفسه، فهو يحترم الناموس وأعلن أنه جاء ليكمِّله باعتباره ابن الله المسئول عن
الناموس. ولكن راحة السبت في نظره لا تمنعه بصفته ابن الله من أن يعمل يوم السبت
ما هو لخير الإنسان، وأعلن مبدأه بوضوح: “أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل”
(يو 17: 5)، باعتبار أن السبت كان راحة لأعمال الخلقة، ولكن الله لا يزال يعمل
لصالح الخليقة، وها هو الابن ينزل ليقدِّم نفسه فدية من أجل خلاص العالم. وكما قال
هو إن: “ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً” (مت 8: 12). فالسبت جُعل
للإنسان وليس الإنسان الذي جُعل للسبت (انظر: مر27:
2). لهذا صمم المسيح أن يكمل تعاليمه ويشفي يوم السبت أيضاً بعد هذه الزوبعة التي
مرَّت بسلام، والقصد
هو بالطبع ضرورة
أن ترتفع كلمة الحق والمسيح فوق رأي وفكر الغيورين والمتعصبين.

وبمرور
المسيح مع تلاميذه وجد إنساناً أعمى منذ ولادته، فسأله تلاميذه: “يا معلِّم،
مَنْ أخطأ: هذا أم أبواه حتى وُلد أعمى؟”
(يو 2: 9). بمعنى أنهم أرادوا أن يربطوا بين الخطية وقصور الخلق،
ولكن المسيح لم يقبل هذا القرار فقال لهم: “لا
هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه.” (يو
3: 9)

هنا أراد المسيح أن يرفع مسئولية الإنسان عن عجز خلقته
وكأنه بسبب الخطية، فنقلها المسيح من مسئولية الإنسان وجعلها لتمجيد الله كعمل من
أعماله.

ومن
هنا يصير التطبيق على المولود أعمى هكذا: إذ يدخل حزنه وألمه وإحساسه بالمرارة
والحرمان، ودموعه الغزيرة وعجزه عن تأدية واجبات الحياة، وحرمانه الكبير من النور
والبهاء والجمال؛ يدخل تحت مسئولية الله مباشرة. فهنا يتجه السؤال لله: فماذا عمل
الله له ليتمجَّد فيه؟ الجواب نسمعه في عظة الجبل: طوبى للمساكين والباكين لأن لهم
ملكوت الله. فالعمل الذي عمله الله لكل مولود أعمى وكل مريض بكل مرض وكل إنسان
متألِّم وباكٍ بكل ألم، هو أن جعل المسيح يتحمَّل ثقل أتعابه وأمراضه وآلامه من
جهة السبب والعلة، بأن حمل خطايا الإنسان التي تسببت في كل ذلك. فأصبح الإنسان
يمرض ويتألَّم بدون أن تكون الخطية سبباً لذلك، وأصبح الإنسان إذا رَضِيَ بمرضه
ورَضِيَ بآلامه كان هذا تمجيداً لله! تمجيداً مباشراً حرًّا. هذا من ناحية، ومن
الناحية الأخرى، فإن كل ما يُقدَّم لذلك الإنسان من إشفاق ومواساة ومعونة ومحبة
وأموال هذا يمجِّد الله أيضاً، فأصبح المريض والمتألِّم سبباً لتمجيد الله تمجيداً
غير مباشر. وهذا هو كلام المسيح: “لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال
الله فيه
” وتأكيداً لقول المسيح هذا تقدم لكي يعمل في الأعمى: “عمل
الله لتمجيد الله”.

وهكذا
طلى عيني الأعمى بتراب الأرض بعد أن بلَّله بريقه، وكأنها عملية خلق جديدة من تراب
الأرض ومن جسده الخاص. وقال له: اذهب اغتسل، فذهب واغتسل وجاء بصيراً!

محاولة
السنهدرين التغطية على المعجزة:

العُمْي يُبصرون، والمبصرون
يعمون”:

كانت
حادثة مثيرة للجماهير: عودة المولود أعمى للبصر والنظر والمسيرة في وسطهم بعينين
صحيحتين برَّاقتين، يتفحص فيهم كما يتفحصون فيه. إنه أمر مُسر جداً ومُعزٍّ لأقصى
درجة. وللحال بدأ السنهدرين حركته لإطفاء لهب هذا
الحدث الذي سرى خبره بين الناس كأعظم حدث سُمع به، وإليك
الحوار:

س:

الفرِّيسيون
يسألون الأعمى الذي أبصر: كيف أبصرت؟

ج:

الأعمى
يجيب: “وضع طيناً على عينيَّ واغتسلت، فأنا أبصر”

_

الفرِّيسيون يقررون: “هذا الإنسان ليس من الله، لأنه لا يحفظ السبت”

_

رد
القوم على الفريسيين: “كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات”
فكان بينهم شقاق.

س:

الفريسيون:
“ماذا تقول أنت عنه من حيث إنه فَتَحَ عينيك”

ج:

الأعمى
يجيب: “إنه نبيٌّ”

 

هنا
استدعاء لأبوي الأعمى وبدء التحقيق معهما.

س:

الفرِّيسيون
يسألون: “أهذا ابنكما الذي تقولان أنه وُلِدَ أعمى؟ فكيف يُبصر الآن”

ج:

الأبوان:
“نعلم أن هذا ابننا، وأنه وُلِدَ أعمى. وأمَّا كيف يُبصر الآن فلا نعلم! أو
مَنْ فَتَحَ عينيه فلا نعلم! هو كامل السن. اسألوه فهو يتكلَّم عن نفسه. قال
أبواه هذا لأنهما كانا يخافان من اليهود، لأن اليهود كانوا قد تعاهدوا أنه إن
اعترف أحد بأنه المسيح يُخرَج من المجمع. لذلك قال أبواه: إنه كامل السن، اسألوه”

 

استئناف
التحقيق: دعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى وقالوا له:

س:

الفريسيون:
“أعطِ مجداً لله (جملة خطيرة كان يُستَنطق بها المجرم قبل إعدامه حتى لا
يُحرم بعد الموت من رحمة الله). نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ”

ج:

الأعمى يجيب: “أخاطئ هو؟ لست أعلم. وإنما أعلم شيئاً
واحداً: أني كنت أعمى والآن أُبصر”

س:

الفريسيون:
“ماذا صنع بك؟ كيف فَتَحَ عينيك”

ج:

الأعمى
يجيب: “قد قلت لكم ولم تسمعوا. لماذا تريدون أن تسمعوا أيضاً؟ ألعلَّكم
أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟” (تهكُّم).

وهكذا
إذ لم ينفع معه لا سلطانهم ولا تهديدهم، ركنوا إلى الشتيمة.

الفرِّيسيون يشتمون الأعمى قائلين له: “أنت تلميذ
ذاك. وأمَّا نحن فإننا تلاميذ موسى (هذا القول يعني أنهم أخرجوه من المجمع). نحن
نعلم أن موسى كلَّمه الله، وأمَّا هذا فما نعلم من أين هو”

ج:

الأعمى
يرد على الفريسيين: “إن في هذا عجباً! إنكم لستم تعلمون من أين هو، وقد
فَتَحَ عينيَّ. ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة. ولكن إن كان أحد يتَّقي الله
ويفعل مشيئته، فلهذا يسمع! منذ الدهر لم يُسْمَع أن أحداً فَتَحَ عيني مولود
أعمى. لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئاً”

الفرِّيسيون
يردون على تهكُّم الأعمى: “في الخطايا وُلِدتَ أنت بجملتك، وأنت تعلِّمنا!
فأخرجوه خارجاً”

لقد
دفع الأعمى ضريبة شفائه على يد المسيح أن أخرجوه خارج المجمع.

المسيح
يجد الأعمى كأنها مصادفة، ويسأله أتؤمن بابن الله؟ أراد المسيح أن يعوِّضه عن
خروجه من المجمع بدخوله الملكوت.

الأعمى:
مَنْ
هو يا سيد لأُومِن به”

المسيح:
قد
رأيته، والذي يتكلَّم معك هو هو”!

الأعمى:
أُومِن
يا سيد! وسجد له”

وكان
الأعمى أقوى مَنْ دافع عن المسيح بمنطق فائق القوة والشجاعة؛ وأُعطي له، وهو الذي
كان أعمى، أن يرى ابن الله رؤيا العين، ويسجد له!!

وفي
ختام هذه الرؤية شديدة التعبير والتأثير قال المسيح قولته: “لدينونة أتيت أنا
إلى هذا العالم، حتى يُبصر الذين لا يبصرون، ويَعْمَى الذين يبصرون!” (يو 39:
9)

 

82- راعي
الخراف وبابها والخراف الأُخر

كانت
معاملة الفرِّيسيين مع المولود أعمى تكشف عن قسوة جاهلة مريرة لمعلمي إسرائيل،
فبدلاً من أن يرحبوا بالأعمى الحامل لمعجزة الله الخالقة، يُخرجونه من المجمع بشبه
حرم! هذا دفع المسيح ليتكلَّم عن الراعي
الصالح الذي يحنو على خرافه، يحمل الضعيف ويقود المرضعات (انظر: إش
11: 40)،
فقال مثله البديع: “أنا هو راعي الخراف”!

+
“أنا هو الراعي الصالح”

+
“أنا أضع نفسي عن الخراف”

+
“ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة”

ابتدأ
المسيح توصيفه البديع عن كونه راعي الخراف الإلهي بقوله: إن الذي يدخل إلى حظيرة
الخراف من غير الباب يكون سارقاً ولصًّا، وما باب حظيرة الخراف الإلهي إلاَّ
المسيح نفسه. فالحظيرة في مَثَل المسيح هي ملكوته، هي كنيسته. والخراف هي الرعية
الصالحة. والباب الذي أقامه الله للحظيرة السماوية هو ابنه الوحيد الذي دخل أولاً
كسابق، فوجد للخراف فداءً أبدياً. فهو باب السماء الوحيد. لذلك فكل مَنْ دخل إلى
الحظيرة الآن في مستواها الأرضي بدون الباب حسبه المسيح سارقاً ولصاً. والقصد هم
المعلِّمون الذين رفضوا المسيح: كتبةً وفريسيين.

فالمسيح احتسب نفسه الباب الوحيد للملكوت المُعدّ، كل مَنْ
يأتي
بواسطته يدخل ويخرج ويجد مرعى. وقد أتى المسيح من أجل خراف
إسرائيل الضالة،
لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل في السماء. جاء ليرعاهم،
بمعنى يطعمهم ويسقيهم وينيرهم ويحييهم، فهو الراعي الصالح والوحيد، لأنه له الآب
وله الملكوت.

أمَّا
كيف صار هو الباب الذي يفتح على الملكوت؟ عندما قدَّم نفسه فدية عن حياة العالم،
لكل مَنْ يؤمن به. فصار المدخل والباب والطريق والسُلَّم، كلها مصنوعة من جسده
ودمه.

أمَّا
لماذا هو الراعي الصالح والوحيد؟ فلأنه لم يأتِ ولن يأتي راعٍ آخر يستطيع أن
يقدِّم نفسه فدية عن الخراف.

أمَّا
لماذا هو الوحيد الذي يرعاها؟ فلأنه الوحيد الذي له معرفة الآب وله الحظيرة.

وأمَّا
لماذا هو الوحيد الذي تدخل بواسطته الخراف إلى الحظيرة؟ فلأنه الوحيد الذي صالحها
مع الآب بدم نفسه.

وأمَّا لماذا هو الوحيد الذي تتبعه الخراف؟ فلأنه الوحيد
الذي مات من أجلها ونقش أسماءها على كفِّه.

وأمَّا
لماذا له خراف أخر ينبغي أن يأتي بها لتكون رعية واحدة لراعٍ واحد؟ فلأنه ذُبح على
الصليب ومات من أجل حياة العالم كله.

 

83- انقسام
الشعب والعودة إلى الجليل

وكالعادة
حدث انشقاق بين اليهود من أجل هذا الكلام.

والسنهدرين
يتربَّص ويزداد توتراً وحيطة. فترك المسيح أُورشليم عائداً إلى الجليل واستقر في
كفرناحوم.

ومن
كلام ق. يوحنا يمكن أن نفهم أنه لم يترك أُورشليم فوراً بعد العيد، بل تأخَّر مدة
وهو يعلِّم حتى عيد التجديد(
[1]).

+
“وكان عيد التجديد في أُورشليم، وكان شتاء. وكان يسوع يتمشَّى في الهيكل في
رواق سليمان، فاحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تُعلِّق أنفسنا؟ إن كنت أنت
المسيح فقل لنا جهراً. أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون.. لأنكم لستم من
خرافي، كما قلت لكم!” (يو 10: 2226)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى