أحياناً كلنا نجد أن تأملات كثيرة منتشرة، قد تكون غريبة عن روح الإنجيل، والتعليم المُسلَّم عبر العصور من جيل لجيل في الحق، وحينما يحاول أحد تصحيح الرؤيا يكون الرد الدائم [ أننا نتأمل ولا نكتب تعليم ويا ريت بلاش التدقيق ده في التأملات لأن فيها كل واحد بيكتب حسب إحساسه الخاص وفكره هو ولا يكتب عقيدة ولا تعليم ]، وطبعاً هذا هو الكلام الخطير والذي فيه هروب من التعليم الإلهي الصحيح والتحجج أن العمق والتعليم غير مطلوب في كل وقت، ويُعتبر البعض أن هذا نوع من أنواع التدقيق المُبالغ فيه، أو تضييق على الناس أو قمع قدراتهم الشخصية وعدم ترك كل واحد ليُعبِّر عن مشاعره الخاصة، مع أن في الواقع هذا ليس تضييق على الناس ولا مبالغة في التدقيق كما يظن الكثيرين وعلى الأخص كل من لا يدرك أهمية التعليم الذي فقده الكثير – بحسب أصوله – في هذا الزمان الصعب، بل لأن كل واحد يسير وفق هواه الخاص ويظن أن هذه هي الحياة مع الله، مع أنه يسلك عكس الوصية وعكس التعليم الإلهي الواضح في الإنجيل وذلك كله عن دون دراية ومنه وبدون إفراز، وبدون تمييز لمعرفة ما هو من الله وما هو من ذاتي وما هو من الناس !!! وبعد ذلك يعجبني تأملات ذاتي والناس تعجب بها مع أنها عكس مشيئة الله وإرادته المعلنه في الكتاب المقدس !!! وهذا ما يُسمى خطأ بساطة شخص أو بمعنى أدق سذاجة في المعرفة، أو نوع من أنواع السطحية، لأن البساطة لا تلغي التعليم والمعرفة بعمق، لأن ألاباء الرسل كانوا أُناس بسطاء في الروح وحياة الجسد ومع ذلك كانوا كلهم في عمق المعرفة الإلهية وقمة التعليم الإلهي الحي …
عموماً هذا الكلام وتصور الناس عن المعرفة والتعليم والتأمل هو ناتج عن أن هناك من يعتقد أن التأمل عبارة عن تخيلاتنا الشخصية، فأحياناً كثيرة جداً نتخيل أنفسنا أمام الله ونسرح بخيالنا ونُسميها صلاة تأمليه، وايضاً عندما نجلس أمام الكتاب المقدس نحاول نتصور النصوص بخيالنا ونخرج بنتيجة ما تخيلناه ونقول أننا نتأمل، ففي التأمل نعتقد أنه ينبغي لنا أن ننشط خيالنا ونوسعه، ونحاول أن نصور أحداث الكتاب المقدس في مخيلتنا وأن نتصورها، ونتصور أحداثها حسب قدرتنا العقلية في تخيل الأمور والتفكير فيها !!! ونكتب متأملين في النص ونصور ما في خيالنا عن كلمة الله ونكتبه للناس في صورة كلمات شعرية أو نثرية أو كموضوع روحي أو فكري كنسي أو تأملي، ليُعبَّر عن خيالنا الشخصي وما فهمناه على مستوانا العقلي وقدراتنا الخاصة والشخصية على الفهم والمعرفة وليس حسب الروح القدس، ونفرح لأننا تأملنا وكتبنا ما في خاطرنا ونظن أنه من الله وعلى الأخص لو كان كلام جميل ورنان وله مصداقية عندنا ويُرضي الناس، ونفعل كما يفعل الشعراء حينما يكتبون أحاسيسهم الشخصية في صورة كلمات تُعبِّر عن ما يدول في خاطرهم من أحاسيس ومشاعر شخصية، وأحياناً كثيرة حينما نكتب هذه التأملات تكون غالباً عكس التعليم الإلهي، وعكس آيات أخرى في الكتاب المقدس، وكمثال لذلك، حينما يكتب البعض عن أهمية التجارب ويقول ينبغي أن نُصلي لكي يدخلنا الله في تجربة لأن التجربة مفيدة للإنسان وأن لم يدخل فيها فهناك شيء ناقص أو لأنه ضعيف، مع أن الصلاة الربانية بفم المسيح الرب نفسه واضحة [ لا تدخلنا في تجربة ] وايضاً قال [ اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة ]، فهذا التأمل يعتبر عكس التعليم وبالتلي فهو مغلوط لأنه عكس كلمة الله، فيستحيل يوجد تأمل حقيقي من الله للإنسان ويبقى عكس التعليم أو كلمات الله، وحينما يرُد البعض على هذا الكلام ويُدافع عن ما كتبه يؤكد دائماً أنه لم نُخطئ في شيء ونقول في مثل هذه المواقف [ أننا لا نكتب تعليم بل نتأمل ] معتقدين خطأ أن التأمل ليس له علاقه بالتعليم، وهذه هي خطورة الموضوع لأننا بنعيش بتعليم غريب وندَّعي أنه تأمل !!! هذا كذب وتلفيق لخداع الشيطان لنا لكي نضل ونبتعد عن التعليم الإلهي الصحيح الذي فيه شفاء للنفس، فتتعثر حياتنا ونسقط حتماً لأننا لا نلتزم بتعليم الله التي تعطي لنا حياة حسب مقاصد الله، ومن هنا نُدرك أن التعليم يضبط التأمل !!!
عموماً التأمل – في الحقيقة والواقع الإلهي المُعاش – ليس هو الخيال، فنحن لا نتخيل، إنما نرى ما لا يُرى بعين القلب الداخلية فترتسم صورة الله في القلب والذهن معاً، فلا خيال في التأمل على الإطلاق، إنما الروح القدس يقدس خيال الإنسان الطبيعي، فيتحول من شكل الخيال العقلي المجرد إلى حالة التصور والرؤية الحقيقية بالروح في تواضع في سر التقوى، لأن الخيال في الأشياء المادية العادية يسمو بها في الفكر العميق ومن خلالها يتصور أشياء يُعبَّر عنها في حياته الواقعية ويحاول تحقيق حلمه الذي يدور في خياله الخاص وليس حسب مقاصد الله التي تُعلن بالروح القدس وليس بخيال الفكر الإنساني ….
أما مع الله الموضوع يختلف تمام الاختلاف فالتأمل : ( Contemplation ) التأمل ( التاورية باليونانية ) هو اختبار روحي ناتج عن التأمل في الحق الإلهي، حينما يكون القلب في حالة يقظة وانتباه يسميها الآباء ( Sobriety ) ( الرزانة )، أي تكون النفس غير منشغلة بشيء آخر غير التركيز في الله بالصلاة وقراءة الكلمة، حيث يكون القلب في حالة يقظة وانتباه يسميه الآباء ( Attention of the heart ) ( انتباه القلب أو يقظة القلب الداخلي )، وهذا هو أساس التأمل الذي يؤهل الإنسان لاستقبال الحق الإلهي والتأمل فيه، والذي برهانه هو حصول الإنسان على التمييز في التعليم وكل الأمور والتصرف الحسن والحكم على الأمور روحياً برؤية واضحة في الذهن، وهذا يُسمية الآباء الإفراز أو الفطنة أو التمييز ( The faculty of discernment )، والتأمل على هذا المستوى يُنشئ في القلب حب الحق والتقوى أي مخافة الله، وكل هذا يجعل القلب يدخل في حالة من النقاوة والتي بها يبدأ في معاينه الله والنظر إليه فتنطبع على قلبه صورته الخاصة ويشع نور سماوي يراه الكل في ثمر الروح القدس في حياته الخاصة، فتصير كل أعماله تشهد لله وتمجده، وحينما يكتب تأمله يكتبه بالروح ويكون عادة بل وبكل تأكيد متوافق مع التعليم، لأنه خبرة حصل عليها الإنسان بالروح القدس، روح التعليم الإلهي، روح الحق، ويستحيل في هذه الحالة أن يكتب الإنسان [ الذي عمل الروح القدس في قلبه واعطاه تأمل ] ما هو عكس التعليم حتى ولو لم يعرفه كله أو قرأه أو سمعه، لأن تأمله خرج من الروح القدس في داخله، والروح القدس لا يُعطي ما يُخالف أقوال الله في الكتاب المقدس لأنه كُتبت به هو، أي كُتب بالروح القدس، فكيف يخالف ذاته ويعطي ما هو مخالف لما أوحى به، أو أعطاه بالتعليم للكنيسة عَبر الأجيال كلها.
يقول القديس غريغريوس الكبير: [ يتدرب العقل أن يحجب عن عينيه أي خيالات وتصورات سواء كانت أرضية أو سماوية، ويطرد كل الحركات التي تأتيه من خارج أثناء وقوفه للتأمل، سواء كانت من جهة السمع أو البصر أو الشم أو حتى التذوق أو الإحساس، حتى يتفرغ لأن يطلب نفسه من الداخل كأنه بغير حواس … إن أول خطوة هي أن يثوب العقل إلى نفسه وينجمع إلى ذاته، والخطوة الثانية أن ينظر ذاته مجموعاً مصلوباً خالياً من التصورات الجسدية، وبهذا يصنع من ذاته سلماً لذاته ليصعد إلى الخطوة الثالثة التي هي فوق ذاته وهي التأمل ]
عموماً يكون الإنسان قبل الدخول في التأمل في حالة رجاء حي، فهو يرجو أن يرى ما لا يُرى، أي شخص الله الحي في أعماق قلبه من الداخل، لذلك فالتأمل – يا إخوتي – ليس مجرد سرحان بالفكر أو تخيل أشياء يتصورها الإنسان من تلقاء ذاته، أو من خلال أحلامه الخاصة أو تصورات فكره من واقع شكل قصص في الكتاب المقدس وسرحان العقل فيها ليخرج منها حكمة أو قيمة خاصة ليطبقها في حياتة العملية، وان كان ذلك نافع ولكن ليس هو التأمل المقصود في الكتاب المقدس ولا عند آباء الكنيسة ,,,,
يقول الأب يوحنا الدرجي: [ لا تتسرع إلى التأمل طالما هو ليس وقت التأمل. حتى يأتيك هو ويضبطك وأنت في جمال التواضع ليتحد معك إلى الأبد بالروح للطهارة ]