اللاهوت العقيدي

ثالثاً: التسبحة الشاروبيمية



ثالثاً: التسبحة الشاروبيمية

ثالثاً: التسبحة الشاروبيمية

Sanctus

كلمة([1])
سانكتوس
Sanctus تعني “قدوس” باللغة اللاتينية، ولكن هذه الكلمة صارت تعني في
الأبحاث الليتورجية معنى التسبحة الشاروبيمية كلها. وأول مَنْ استخدم هذه الكلمة
وأشاعها هو قداس سيرابيون([2]).

منذ أول كلمة في
مقدِّمة الإفخارستيا
preface نبدأ نحس بالاستعداد للتسبحة الشاروبيمية، لأن الأصل في مقدِّمة
الإفخارستيا حسب التقليد القديم المنحدر
للكنيسة كما
هو منذ ليلة الخميس أن يقدِّم رئيس المتكأ “الشكر” فقط لله على الخليقة،
كما هو واضح جداً في إفخارستية هيبوليتس، كذلك الموجود في الحبشة باسم “قداس
الرب”،
ولكن توجد منه نسخ في الحبشة أدخلت فيها التسبحة مثل “قداس الرسل”.
أمَّا أن يدخل عنصر التسبيح قبل الشكر وبصورة طاغية، فهذا
خارج عن
التقليد القديم لمقدِّمة الإفخارستيا، لأن بحسب الطقس القديم يقع التسبيح بعد
صلاة الإفخارستيا، أي بعد
الصلاة على
كأس الإفخارستيا الأخيرة «ثم سبَّحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون.»
(مت 30: 26)

مقالات ذات صلة

ولكن المُلاحَظ أن عنصر
التسبيح الذي دخل على بداية الإفخارستيا (ذات الطبيعة الشكرية) ليس أصيلاً أيضاً
في تركيبها كما يبرهن على ذلك العالِم دكس (صفحة 219 من كتابه).

لأنه كلما رجعنا إلى
النصوص الأقدم كلما وجدنا انكماشاً في عنصر التسبيح داخل المقدِّمة. فمثلاً في نص
أنافورا مرقس الرسول الذي يستخدمه برايتمان،
وهو نص من
القرن 13 (ويطابق النص المطبوع المستخدم عندنا الآن في الكنيسة القبطية)، نجد
سبعة أفعال تختص بأعمال التسبيح ومعها فعل واحد للشكر.

بل ونلاحظ في هذه
المخطوطة أنه قد أُضيف عليها بعد القرن الرابع جملة تتعلَّق أساساً بتسبيح
الشاروبيم أكثر منها تعلُّقاً بموضوع مقدِّمة الإفخارستيا الذي للشكر، الذي بدأ
يختفي تحت وطأة أفعال التسبيح. إذ تقول المقدِّمة بعد أفعال التسبيح السبعة: [ونعترف
“بالتسبيح” ليلاً ونهاراً بشفاه غير هادئة وقلب لا يسكت وتمجيدات لا تنقطع أنت
الذي خلقت …]. هذه الجملة التي تأتي بلهجة تسبحة الشاروبيم ولتخدم التقديم لهذه
التسبحة لا نجدها في مخطوطة بردية القرن الرابع لإفخارستيا مار مرقس. إذاً فقد بدأ
الإمعان في الابتعاد عن معنى الشكر بسبب طغيان فكرة التسبيح على الإفخارستيا
الجديدة. وفي هذا يقول دكس:

[إنه
من العادة اعتبار مقدِّمة التسبحة مع التسبحة الشاروبيمية بحد ذاتها كتطور متميز
في صلاة الشكر التي تأتي في بداية الصلاة (المقدِّمة). ولكن الحقيقة تبقى أمامنا
أنها من الجهة العملية لا تبدو هذه التسبحة تطوراً في صلاة الشكر، بل هي في الواقع
بديل لصلاة الشكر! وكأنها “ليتورجية” بنوع ما لأنها تنتهي بأنها تأخذ موضع صلاة
الشكر فعلاً في أي مكان توضع فيه … وليس ذلك فقط بل أن وجودها (كما هو في حالة
قداس القديس يعقوب) تسبب في رفع مفهوم الشكر نهائياً عن الجمل التي تجيء بعدها.
فبدل أن تعود الكلمات بعد التسبحة لتعبِّر عن “إعطاء الشكر لله”، إذ بها
تقول “قدوس أنت”!! (يُلاحَظ أن هذا هو الحادث بصورة شديدة في قداس القديس
باسيليوس وغريغوريوس المستخدمين في مصر). وحينما نفحص قداس القديس مرقس نجد أن نفس
الشيء قد حدث في الإسكندرية نفسها وهي التي بدأ فيها طقس التسبحة ومقدمتها، إذ نجد
أن أسباب “الشكر” وأولها من أجل “الخليقة” (بالكاد) احتفظت به ليتورجيا
القديس مرقس. أمَّا الشكر من أجل التجسُّد والفداء وبقية التشكُّرات فقد تجاوزها
المصنِّف ليحل محلها التسبحة الشاروبيمية بمقدمتها. أمَّا لماذا أبقى على الشكر من
أجل “الخليقة” فقط (وهذا ما شرحناه سابقاً في
صفحة 556)
فهو ربما لارتباط “الاسم” بالخلقة مما يصعب فكهما عن بعض.]([3])

كذلك فإن بردية
استراسبورج مهما تمشينا مع النص الممسوح لن نجد أكثر من
خمسة أفعال للتسبيح مع فعل واحد للشكر.

فإذا رجعنا إلى نص
إفخارستية سيرابيون وهو من منتصف القرن الرابع نجد ثلاثة أفعال للتسبيح حيث
لا يوجد فعل للشكر ولا حتى أي إشارة إليه([4]). ولكن غياب فعل
الشكر هنا يكشف عن اعتماد إفخارستية سيرابيون على فعل شكر أساسي سابق (في تقديم الحمل).
وهنا تأتي المقدِّمة تسبيحية خالصة ملتحمة بالتسبحة الشاروبيمية.

أمَّا في نص إفخارستية
هيبوليتس وهي من قبل بداية القرن الثالث فلا نجد أي فعل
ولا أية إشارة للتسبيح على الإطلاق. وهنا نسأل لماذا؟ والسبب في ذلك واضح، لأن
إفخارستية التقليد الرسولي تخلو تماماً من التسبحة الشاروبيمية، لذلك بقي
الشكر هو طابعها السائد. فحتى هذا الزمان أي بداية القرن الثالث لم
تكن الإفخارستيا قد دخل عليها لا تسبحة الشاروبيم ولا الأواشي، اللتان كانتا من
اختصاص طقس خدمة الصباح
Synaxis يوم الأحد فقط. وهذا يكشف لنا عن زمان دخول الأواشي والتسبحة
الشاروبيمية داخل الإفخارستيا.

زمن دخول التسبحة الشاروبيمية ملتصقة بالمقدِّمة

التقليدية الخاصة بها، داخل الإفخارستيا:

إن الإشارة الواضحة
التي يوردها أوريجانوس بخصوص وجود التسبحة الشاروبيمية داخل الإفخارستيا ملتصقة
بمقدمتها يكشف عن بداية استخدام التسبحة في الخدمة:

[الذي
هو فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل وفي
المستقبل أيضاً … لأن الملائكة المقدسين والقوات المقدَّسة والعروش (الكراسي)
المباركة والسيادات (الأرباب) الممجَّدة هي ذات قوة وكرامة ومجد باستحقاق طبيعتها.]([5])

[إن الساروفيمين اللذين
يذكرهما إشعياء موصوفان أن لهما ستة أجنحة ويصيحان الواحد قبالة الآخر قائلين:
» قدوس قدوس
قدوس رب الصباؤوت
«(إش
3: 6).]([6])

[وتسبحة حبقوق النبي: » يا رب سمعت
خبرك فجزعت، وتبصَّرت أعمالك فَدُهِشت “إنك تُعرف بين حيوانين” وتُدرك في
مجيء السنين
«(حب 2: 3 ترجمة
سبعينية).]([7])

[فنحن قد علمنا أن ألوف
ألوف قدامه وربوات ربوات يقدمون له الخدمة (دا 10: 7).]([8])

وأوريجانوس إذ يشير إلى
كل هذه العناصر بنفس اللغة المستخدمة في التسبيح داخل الإفخارستيا يكشف بغاية
الوضوح عن أن دخول التسبحة الشاروبيمية في الإفخارستيا في مصر بدأ في الإسكندرية
بالذات قبل سنة 230م (أي قبل أن يسجِّل هيبوليتس ليتورجية التقليد الرسولي بقليل).
كما يقول العالِم دكس:

[ومن الإسكندرية خرج
طقس التسبحة إلى كل مصر. ومن القطر المصري إلى كل المسيحية في كافة أنحاء العالم]
([9])

ولكن بالبحث وجدنا
أيضاً أن كلمندس الإسكندري (190 200م) في كتاباته ألمح هو الآخر إلى
هذه النصوص الخاصة بالتسبحة الشاروبيمية. فهو يقول:

[مقدماً “الشكر” لله
دائماً أبداً على مثال ما قاله إشعياء بخصوص تسبيح الحيوانات.]([10])

[هذه كنيسة الأبكار ذات
الأولاد الكثيرين، هؤلاء الأبكار المكتوبة أسماؤهم في السماء الذين يعيِّدون مع
ربوات الملائكة.
]([11])

[الرتبة الأُولى هم الملائكة
“لأن الملائكة مُخْضَعُون له”، ثم الرئاسات “وهم خاضعون أيضاً”.]([12])

وبهذا
يحتمل أن تكون التسبحة الشاروبيمية داخل الإفخارستيا الإسكندرية هي أقدم من القرن
الثالث.

ونحن إذا وضعنا النصوص
الثلاثة التي بين أيدينا والتي تحمل أقدم صورة للتسبحة الشاروبيمية، وهي: نص
سيرابيون، ونص دير البلايزا، ونص القديس مرقس القرن الثالث عشر، نجد التطابق
العجيب الذي يوحي إلينا بأن التسبحة الشاروبيمية مع مقدمتها ذات أصالة وقدم ورسوخ
في التقليد الإسكندري منذ عصر مبكر للغاية:

 

نص
سيرابيون

(القرن الرابع)

نص
بردية دير البلايزا

(القرن السادس)

نص
مخطوطة برايتمان

(القرن
الثالث عشر)

لأنك
أنت عال فوق كل رياسة وقوة وسلطان وسيادة وكل اسم يسمَّى ليس في هذا الدهر فقط
بل وفي الدهر الآتي أيضاً.

لأنك
أنت فوق كل رياسة وسلطان وقوة وفوق كل اسم يسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل وفي
الدهر الآتي أيضاً.

لأنك
أنت هو
الله الذي فوق كل رياسة وكل سلطان وكل قوة وكل اسم
يسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل وفي الدهر الآتي أيضاً.

أنت
الذي يقف أمامك ألوف ألوف وربوات ربوات الملائكة

ألوف
الملائكة
المقدسين.

[ألوف،
وربوات، ربوات الملائكة … حُذف].

أنت
الذي يقف أمامك ألوف ألوف وربوات ربوات الملائكة

ورؤساء
الملائكة
والعروش والسيادات والرئاسات والقوات

وأجناد
رؤساء الملائكة الذين بلا عدد يخدمونك.

ورؤساء
الملائكة
المقدسين يخدمونك.

 

باسيليوس

 

أنت
الذي يقف حولك
الساروفان الكريمان ذوو الستة
الأجنحة

[الشاروبيم
… حُذف]

مع
الشاروبيم المملوئين أعيناً والسيرافيم ذوي الستة أجنحة

أنت
الذي يقف أمامك حيواناك الكريمان جداً.

ذوو الستة
الأجنحة
كثيرو الأعين الساروفيم والشاروبيم

فبجناحين
يغطون الوجه.

 

 

الذين
بجناحين يغطون وجههم.

 

بجناحين
يغطون وجوههم

من
أجل لاهوتك الذي لا يستطاع النظر إليه ولا التفكير فيه.

وباثنين
يغطون الرجلين ويطيرون باثنين
ويصيحون قدوس.

وبجناحين يغطون
أرجلهم ويطيرون باثنين
والكل على الدوام يقدسونك.

وباثنين
يغطون أرجلهم ويطيرون بالاثنين الآخرين

لأن في كل زمان يقدسك كل أحد.

ومعهم
اقبل منا
نحن أيضاً دعاءنا بالتقديس

قائلين:

فمع
هؤلاء الذين يقدسونك اقبل تقديسنا منا نحن أيضاً

قائلين:

لكن
مع كل مَنْ يقدسك اقبل تقديسنا منَّا نحن أيضاً يا رب إذ نسبحك
معهم.

قدوس
قدوس قدوس رب الصباؤوت السماء والأرض مملوءتان من مجدك.

قدوس
قدوس قدوس رب الصباؤوت السماء والأرض مملوءتان من مجدك.

قدوس
قدوس قدوس رب الصباؤوت السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس.

وعمق هذا التركيب
الليتورجي يظهر أكثر إذا تتبعنا كيفية تجميعه من أصوله في الكتاب المقدس ثم ربطه معاً بهذه الكيفية المنسجمة. فالهيكل العام
لتسبحة الشاروبيم يقوم على ثلاثة أجزاء مترابطة:

 

الجزء الأول: وهو عبارة
عن ديباجة مشتركة في الثلاثة قدَّاسات، وهي مأخوذة بنصها من رسالة أفسس 21: 1،
مضافاً إليها بادئة واحدة في الجميع “لأنك أنت”. أمَّا الأصل في الآية فهو
موجه للمسيح بصورة الغائب
» الذي عمله في المسيح إذ
أقامه من الأموات وأجلسه عن يمينه في السماويات فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة
وكل اسم يسمَّى ليس في هذا الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً
«(أف 1: 20و21). ولكن القدَّاسات الثلاثة تشترك في توجيه هذ   ه
الصفة لله الآب وليس للمسيح وبصورة المخاطب وليس بصورة الغائب.

وواضح جداً أن البادئة
المذكورة في البداية “لأنك أنت” مأخوذة من أصل ليتورجي أخذت عنه القداسات الثلاثة بلا أي تغيير. ويقينا أن هذه
البادئة أصلاً أخذت كما هي من خدمة الصباح
Synaxis.

الجزء الثاني: وهو عبارة
عن منطوق التسبيح ذاته وهو مأخوذ من أوصاف إشعياء لليتورجية السمائية (إش 2: 6، دا
10: 7). مع فارق أنه يضيف هنا “السماء” لأن إشعياء يقول: “الأرض مملوءة من مجدك
(فقط)”،
ولكن الإضافة المسيحية تعتمد أيضاً على نص كتابي يقول:
» ألستُ أنا
أملأ السماء والأرض.
«(إر
24: 23)

كذلك بالرجوع إلى
القدوشاه (تسبحة الشاروبيم) “الثالثة” المسمَّاه “سدرا” التي تُقال
في آخر خدمة الصباح نجد أن النص فيها يحوي “السماء والأرض” مملوءتان من
مجدك. ويعترف العالِم البوجن
Elbogen
اليهودي أن التسبحة المصرية هي طبقاً لأقدم تقليد عبري معروف
([13])!

وأمَّا الطقس
الأُورشليمي والطقس السرياني والطقس البيزنطي (القسطنطينية) وطقس روما (وهو مأخوذ
كله من مصر) يضيف “أوصنا في الأعالي مبارك الآتي باسم الرب”. ويضيف الطقس الأنطاكي
“مبارك إلى الأبد” كما نجدها في رسالة كليمندس الروماني إلى أهل كورنثوس هكذا: “الخليقة
كلها مملوءة من مجدك” حيث وضع “الخليقة” بدلاً من “الأرض”. ويشترك في هذه الإضافة قدَّاس
“غريغوريوس”
المستخدم في مصر.

ويُلاحَظ أن قدَّاس
سيرابيون يتميز بأنه يضيف إلى مقدِّمة التسبحة الشاروبيمية نص دانيال 10: 7.
ومعروف أن النص الذي استخدمه سيرابيون في الأنافورا هو النص الرسمي الذي ذكره
القديس أثناسيوس الرسولي في رسائله عن الروح القدس الذي صار معتمداً في كافة أنحاء
العالم([14]).

أمَّا ليتورجية قوانين
الرسل([15])،
الكتاب الثامن (ليتورجية كلمندس)، فهي تمزج إشعياء 3: 6 مع نص حزقيال 12: 3 مع ما
جاء في كولوسي 16: 1
» العروش والسيادات والرياسات والسلاطين «

وفي نهاية هذه
المقدِّمة تلي هذه النصوص الثلاثة عبارة ليست من الكتاب المقدَّس تعبِّر عن اتحاد
الليتورجيا الأرضية بتلك التي للملائكة متضرعة إلى الله أن يقبل هذا التسبيح:

“مع
هؤلاء اقبل تقديسنا”.

أمَّا إذا فحصنا هذه
النصوص الثلاثة من جهة أصالتها واتصالها بأقدم نص، فإن قداس مرقس الرسول يبدو
أكثرها التزاماً بالجمل الأساسية وأقلها إضافات وأقلها حذفاً في النصوص الأصلية([16])،
كما هو واضح من الجدول السابق، أمَّا أكثرها حرية في الزيادة والحذف فهو سيرابيون
بلا شك، ولو أنه في حذفه لذكر الشاروبيم جاء محاولة منه ليكون أكثر أمانة لنص
إشعياء([17]).
أمَّا خلو الطقس الإسكندري عموماً من هتاف “أوصنَّا في الأعالي” و“مبارك الآتي
باسم الرب” فإنه جعل تسبحة الشاروبيم منحصرة في “تقديس” أي “عبادة”
الأقانيم الثلاثة في حدود الفعل الليتورجي المطلوب، وهو تقديس العابدين وتقديس
الذبيحة الموضوعة!! و“أوصنَّا في الأعالي” ليس موضعها هنا على الإطلاق لأنها خاصة
بمجيء الرب، وها نحن على أبواب التقديس فقط!! كذلك “مبارك الآتي باسم الرب” فبكل
تأكيد ليس موضعها هنا.

وأخيراً تضيف مخطوطة
مار مرقس من القرن الثالث عشر كلمة “مجدك الأقدس” على الأصل الموجود في إشعياء
الذي يقول:
» الأرض مملوءة من مجدك (فقط) « وهذه الزيادة ليست أصيلة وهي فعلاً غير موجودة في باقي النصوص
القديمة. ولكننا نجد هذه الزيادة “مجدك الأقدس” قد دخلت أيضاً في الطقس
الأثيوبي.

والملاحَظ أن التسبحة
الشاروبيمية، أي الثلاثة “قدوسات للثالوث” مقتبسة مباشرة من الخدمة الصباحية ليوم
الرب، التي هي بدورها أصلاً كانت في خدمة الصباح في المجمع اليهودي([18]).
والعجيب أنها كانت تُقال مباشرة وكتمهيد لقانون الإيمان اليهودي
» اسمع يا
إسرائيل الرب إلهك واحد…
«ولا تزال آثارها باقية
في تسبحة الشاروبيم كتقديم لقراءة أوشية الإنجيل. والمعروف أن الإنجيل بدوره هو
قانون الإيمان المسيحي للعهد الجديد.

ولكن من أهم ما يميز
موضع تسبحة الشاروبيم في بداية الإفخارستيا هو أنها أُخذت من الخدمة الصباحية
لخدمة تسبيح عبادي حسب التقليد القديم لتدخل كعنصر أساسي في “الإفخارستيا” كعنصر
تسبيح استعلاني في العهد الجديد في موضع التسبيح الإفخارستي لاستعلان الخلاص بدم
المسيح في كأس الإفخارستيا. وهنا يلزم أن نعود ونذكِّر القارئ أن التسبيح في
العشاء الأخير الذي صنعه المسيح مع تلاميذه (والذي هو بحسب التقليد اليهودي) كان
بعد العشاء بعد رفع كأس البركة
الذي يسمَّى الآن كأس “الإفخارستيا” أي
كأس الشكر. فبعد الشكر في العهد القديم كان التسبيح يقدَّم بالمزامير، ولكن
الكنيسة في العهد الجديد حريصة دائماً أن لا تستخدم المزمور (باعتباره نبوَّة) في
لحظات الاستعلان الإلهي، أي استعلان تدبير الخلاص الذي أكمله المسيح بمشورة الآب
وعمل الروح القدس بالتجسُّد والفداء. لذلك قدَّمت الكنيسة تسبحة الشاروبيم بدل
المزامير تعبيراً عن الاستعلان السمائي كما رآه إشعياء بالنسبة لله، إنما هنا
بالنسبة للثالوث باعتبار أن استعلان الثالوث هو أعظم تسبيح يمكن أن يقدم لله.

كما ينبغي أن نلتفت إلى
أن التسبيح هنا يأتي بعد طقس تقديم الحمل … أي تقديس الخبز و
» الشكر «على الكأس!!
إذاً فتسبحة الشاروبيم مع مقدِّمة الإفخارستيا هي في حقيقتها
“إفخارستية التسبيح” كأساس ونواة الإفخارستيا المسيحية الجديدة. أو كما يقول
بومشتارك وبالحرف الواحد، إنما بدون أن يخوض في الموضوع بدقة:

[هذه كانت نقطة البداية
لنشأة وتطور الإفخارستيا (الأنافورا) في الشرق وكل الإفخارستيات (الأنافورات) في
الغرب.]([19])

ولكن يعود بومشتارك في
حزن لائماً نفسه وكل مَنْ سبقه من العلماء العظام مثل ليتزمان بسبب عدم قدرته على
ملء الفراغ الذي ظل يتحداهم في شرح هذا الموضوع وخاصة من جهة كيف تبدأ
إفخارستيا بتسبحة الشاروبيم؟ والتسبيح يأتي عادة ختاماً وليس بداية؟
([20]).
هكذا يظهر عجز العلماء عن إدراك سر تقديم الحمل كأساس لا يمكن بدونه فهم
الليتورجيا.

ولكننا قد أوضحنا في
مواضع كثيرة، ونعود ونوضح، أن الذي خفي على بومشتارك وليتزمان وغيرهما هو أن
الإفخارستيا المسيحية الجديدة التذكارية بكل أنواعها إنما بدأت كوصف مسيحي تذكاري،
تفسيراً لطقس “عشاء الرب” العملي (تقديم الحمل الآن) الذي كان يخلو من التعبيرات
المسيحية.

لذلك لم تكن الإفخارستيا المسيحية ملتزمة في البداية بأكثر من شرح عابر، لأن تقليد
العشاء الأخير الذي هو كسر الخبز ظل كاملاً ومستوفياً لكل مطالب التقديس. فكان
المطلوب من الإفخارستيا الجديدة هو استيفاء استعلان المسيح وتذكاره. وكان أول مجال
لهذا العمل في الإفخارستيا هو الشكر و“التسبيح بعد العشاء” لأن هذا كان هو
العنصر المسيحي الوحيد الناقص في طقس “كسر الخبز” القديم. ومن عند نقطة هتاف الشعب
“رحمة السلام ذبيحة التسبيح” بدأت الإفخارستيا الجديدة تصف حركات العشاء
الأخير حركة حركة حتى أخذت كل صورة العشاء الأخير، إنما في قالب وصفي تذكاري
وتسبيحي وشكري معاً، الذي هو الآن “الأنافورا الكبرى” أو “الليتورجيا” والذي
سندعوه لتسهيل تمييزه عن طقس “تقديم الحمل” ب“القداس الوصفي” أو “الإفخارستيا
الوصفية”.

وصلة نهاية التسبحة
الشاروبيمية بالإفخارستيا مرة أخرى وتسمَّى
Embolism:

التسبحة
كما عرفنا، لها وصلة في مبدأها تربطها بالإفخارستيا وتسمَّى مقدِّمة
“التسبحة” التي تقول: “لأنك أنت العالي فوق كل رئاسة … إلخ”([21]).
أمَّا الوصلة التي تربط نهاية التسبحة الشاروبيمية بالإفخارستيا مرة أخرى فهي على
صنفين أو طقسين: طقس إسكندري مصري أصيل لم يخرج خارج مصر، وهي كلمة التخاطب مع
الله: “املأ هذه الصعيدة” المأخوذة مباشرة من كلمات التسبحة “السماء والأرض
مملوءتان”. أمَّا الطقس الآخر وهو في كل ما هو خارج مصر، وقد استخدم كلمة
التخاطب “مقدَّس أنت” وهي مأخوذة من الروح العامة للتسبحة “قدوس قدوس قدوس”.

ولكن لم يقتصر الفارق
بين الطقس الإسكندري والطقس الآخر مثل الأنطاكي على نوع كلمة الوصلة فقط، إذ نرى
أنه بينما يمتد الطقس الأنطاكي مثلاً ليتوسع في هذه المرحلة ليعلن الأقانيم
الثلاثة ثم يمتد بسرعة وبدون مناسبة ليشمل تدبير الخلاص، نجد الطقس الإسكندري يقف
في وضعه النواتي (نواة) الأول كما هو، محصوراً فقط في وسيلة الانتقال من التسبيح
إلى طلب ملء الذبيحة تمهيداً للدخول في التأسيس أي تقديس الخبز
والخمر.

وفي مخطوطة دير
البلايزا يبدو هذا الاختصار في الانتقال على أدق صورة، إذ يكتفي بعد “قدوس قدوس
قدوس رب الصباؤوت السماء والأرض مملوءتان من مجدك” بأن يقول: “املأنا نحن أيضاً من
مجدك وتفضَّل وأرسل روحك القدوس …”. كما توجد مخطوطة أخرى بردية محفوظة بمكتبة
جون رايلاند بمنشستر بإنجلترا([22])
فحصها بدقة العالم ك. ه. روبيرتس([23])
وقرر أنها منسوخة في القرن السادس وأنها تعطي صورة مطابقة كثيراً لإفخارستيا مار
مرقس. وهي تشمل نهاية التسبحة الشاروبيمية حتى آخر “الاستدعاء” الذي

يلي
التسبحة الشاروبيمية. هذه المخطوطة نقرأ لها في هذا االموضع الوصلة التي تربط
التسبحة بالاستدعاء هكذا:

[لأنه
بالحقيقة السماء والأرض مملوءتان من مجدك المقدَّس بواسطة ربنا وإلهنا
ومخلِّصنا يسوع المسيح].

كذلك قداس مار مرقس
(المخطوطة المستخدمة في برايتمان)، فإنه يتسع في هذا الموضع ولكن بحذق إذ يأخذ آخر
عبارة في النص
الكتابي “السماء والأرض
مملوءتان من مجدك الأقدس” ويزيدها “تحقيقاً” بروح العبادة قائلاً “بالحقيقة”،
ثم يستمر بنفس روح مقدِّمة الإفخارستيا التي بدأ بها ليحقق أن هذا الملء أي أن
انتشار المجد الإلهي حتى ملء السماء والأرض هو حادث عن طريق وساطة الرب يسوع،
بنفس
تسلسل المعنى الذي قدمت به الإفخارستيا في البداية أي أنك
أكملت خلقة السماء والأرض وكل ما فيها وأكملت خلقة الإنسان وكل شيء “بواسطة
حكمتك نورك الحقيقي ابنك الوحيد”.

وأيضاً كما أن
إفخارستيا الذبيحة الناطقة، الخدمة غير الدموية هي أيضاً من قبله تقرب للآب
معه!!
كذلك فالسماء والأرض امتلأت من مجد الله بواسطة ظهور ابنه!!

وبهذا تكون مقدمة
إفخارستية مار مرقس قد نجحت في تلافي انقطاع التسلسل الفكري أو حدوث أي

فراغ
أو تبلبل في المعنى من جراء دخول التسبحة الشاروبيمية داخل تقديم الإفخارستيا.

ويعلِّق على ذلك
العالِم كوكن([24])
أن إفخارستية مار مرقس تصر على تفخيم دور الوساطة التي يقوم بها الرب يسوع مؤكدة
على أنه ينبغي أن يكون موضع إعلان وشهادة. ويضيف كوكن “إننا في الواقع لا نقابل
مثل هذا الحذق في أي قداس شرقي آخر.”

ويقيناً أن هذا الاتجاه
الفكري في إبراز وساطة الرب يسوع هو عقيدة لاهوتية متأصلة في التقليد الإسكندري،
لأننا نجدها أيضاً بغاية الوضوح والإصرار في قداس باسيليوس المستخدم في مصر الذي
يورد هذا النص: [هذا الذي خلقت به كل شيء ما يُرى وما لا يُرى] استدراكاً
لما سبق ذكره من خلقة الله للسماء والأرض والبحر وكل ما فيها، وهنا يبرز عنصر
الإصرار في التقليد القبطي. في حين أن قداس باسيليوس السرياني البيزنطي يخلو من
هذا الاتجاه العقيدي تماماً([25]).

وهذا الاتجاه العقائدي
الذي يبرز أهمية وساطة الابن في الخلقة وفي تقديم الذبيحة، كما هو واضح في قداس
مرقس الرسول والقداس المصري لباسيليوس، وهو في الواقع تقليد عتيق للغاية، نقرأ عنه
كثيراً جداً وبوضوح عند أوريجانوس:

[وعلى ذلك فنحن نعبد
بكل قوانا الله الواحد وابنه الوحيد الكلمة صورة الله
وذلك بالصلوات والتضرعات، مقدمين توسلاتنا لله خالق العالم بواسطة ابنه الوحيد، نقدِّمها
أولاً للابن متضرعين إليه بصفته كفارة لخطايانا وكاهناً أعظم لكي يقدم ذبائحنا
واشتياقاتنا
وصلواتنا إلى الله العلي.]([26])

ونضيف إلى ذلك أقوالاً
من كليمندس الإسكندري تثبت أن هذه العقيدة في مصر أقدم أيضاً من القرن الثالث:

[وإن
كنَّا نقول (في الكنيسة) إن الرب كرئيس كهنة أعظم يقدِّم إلى الله بخوراً
ذا رائحة

عطرة، فلا نتصور أن ذلك يعني ذبيحة وبخوراً عطراً (مادياً)، ولكن ينبغي أن نفهم أن
ذلك يعني أن الرب يصنع ذبيحة “الأغابي” المقبولة كرائحة روحية عطرة على المذبح
(السمائي).]([27])

وهنا يتحفنا العالِم
كوكن بعدة مراجع تبرهن على مقدار قدم هذه العقيدة حيث يتتبعها العلماء إلى القرن
الثاني، ومنها يستقرئ كوكن أن قداس مار مرقس كان قد بلغ نضوجه العقيدي هذا
مسجِّلاً هذا النص (بدون الاستدعاء المطوَّل الذي يأتي بعد التذكار)
قبل الدخول في الصراعات مع الآريوسية التي بدأت في بكور القرن الرابع([28]).

“املأ”
هذه الصعيدة
plhrîson:

هذه
الكلمة هي إحدى مميزات الإفخارستيا الإسكندرية، وتُستخدم كما سبق وقلنا لربط
التسبحة
الشاروبيمية بالإفخارستيا مرة أخرى، وذلك استعداداً للدخول في الاستدعاء “الصغير”
Epiclesis.

ولكن بينما تتجه بردية
دير البلايزا إلى طلب ملء المجد (وليس بالبركة فقط كالعادة) للعابدين
الواقفين في الكنيسة ومقدمي الذبيحة [املأنا نحن أيضاً من مجدك] أي
بنفس المجد الذي يملأ السماء والأرض([29])، نجد أنافورا
مار مرقس تتجه إلى ملء “هذه الصعيدة” التي لك “بالبركة”، والبركة في
المفهوم الطقسي واللاهوتي القديم هي التقديس. أمَّا أنافورا سيرابيون فيطلب: [املأ
هذه الذبيحة “بقوتكو“شركتك”]. وليلاحَظ دائماً أنه لا فرق إطلاقاً
في المفهوم الذبائحي الإفخارستي بين “قربان” و“ذبيحة” و“صعيدة”، فقد وردت كلها
معاً في آية واحدة:
» كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا
قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة (بخوراً).
«(أف 2: 5)

رؤية أعمق لمفهوم هذا
الاصطلاح الليتورجي الإسكندري “املأ”:

هذا الاصطلاح الكنسي
الذي استخدمته الإسكندرية لربط تقديس الله بتقديس الذبيحة “املأ”
plhrîson هو نفس الاصطلاح الذي استخدمه المسيح للتعبير
عن “تكميل” الإفخارستيا في ملكوت الله
plhrwqÍ حيث الكلمة تعني “ملء” أو “تكميل” على حد سواء: » لا أشرب منه بعد حتى يكمل
في ملكوت الله plhrwqÍ ™n tÍ basile…v toà Qeoà. «(لو 16: 22)

ولكي يتضح أكثر أن كلمة “املأ” هي هي نفسها كلمة “أكمِّل” سواء باليونانية أو العبرية، يكفي أن نشير إلى أن كلمة “يكمِّل” في العبرية يجيء نطقها هكذا mill’e وهو يطابق الكلمة العربية “ملأ”.

فهنا التكميل
لهذه الذبيحة كان بالنسبة للمسيح متوقفاً على قيامته وصعوده.

وأيضاً فإن
التكميل لهذه الذبيحة كان متوقفاً على إرسال الروح القدس بالنسبة
لنا.

لذلك حينما
يصلِّي الكاهن طالباً الملء أو التكميل، فهو يتمسك بوعد إفخارستي نطقه الرب ضمن
تأسيس السر، ويحقق عهداً بآن واحد. فإذا طلب الكاهن الروح القدس “للتكميل”
أي الملء، فهو يمارس حقاً وعد به المسيح، وإذا لم يطلب الروح القدس بالذات ولكن
اكتفى بطلب “الملء” فالحاصل أن الرب سيرسل الروح القدس من تلقاء ذاته
“ليكمل” الذبيحة.
لأن المسيح يجلس معنا الآن، أو بالحري نجلس نحن معه، على
مائدته في ملكوته ونشرب معه أو بالحري يشرب معنا من نتاج الكرمة الجديد، حيث
“الجدة” تشير إلى ملء الروح.

ولكن الذي ينبغي الإشارة
إليه هو أن هذا الاصطلاح “املأ هذه الذبيحة” هو في الواقع نص إفخارستي
احتفظت به الليتورجية القبطية منذ البدء كجزء لا يتجزأ من قانون الإفخارستيا أو
“الرسم الإفخارستي” الذي أسسه الرب بقوله:
» إلى أن يكمل
(أو يملأ)
« فهو
ضمن كلمات الرب التأسيسية لسر الإفخارستيا
احتفظت به
الليتورجيا القبطية منذ البدء وتمسكت به حتى اليوم، ولكنه مفقود من كافة
الليتورجيات الأخرى.

ولكن الدقة والحبك الذي
استخدمه الأقباط في اختيار “الموضع” المناسب الذي يُقال فيه، هو الذي صرف
انتباه العلماء عن “المعنى الإفخارستي” الأساسي له والقصد اللاهوتي في
استخدامه. فلأن الأقباط وضعوه بعد لفظة “السماء والأرض مملوءتان من مجدك، هكذا …
املأ أيضاً هذه الصعيدة” ظن العلماء أن المسألة لا تعدو تسلسل أفكار ولباقة
في استخدام “الكلمات المترادفة”. فكما ملأ الله السماء والأرض من مجده بظهور
المسيح يطلب الكاهن أن يملأ هذه الذبيحة أيضاً. ولكن المعنى الحقيقي يتعدَّى هذا
المعنى الظاهري:

أولاً:
فالمسيح الآن وقد صعد فوق السموات فوق كل رياسة وسلطان وفوق
الشاروبيم والسيرافيم،
كما تقول الصلاة، أي استوى على عرشه ودانت له
ملكوت السموات. فالآن حق لنا أن نتمسَّك بالوعد
الذي قاله أنه سيكمِّل الإفخارستيا في ملكوت السموات:
» إني لا آكل
منه حتى يكمل في ملكوت الله
«
لذلك يتوسل الكاهن كواثق من وعد المسيح “فالآن املأ هذه الصعيدة” أي
“كمِّلها”!

ثانياً: أمَّا
اختيار هذا الموضع بالذات للهتاف بالتسبحة الشاروبيمية فالموقف نفسه هو الذي حتَّم
بذلك لأن المسيح مستعلن الآن على المذبح بحسب هتاف الشماس سابقاً “والقلوب مرفوعة
إليه”، فالهتاف مع الملائكة والسيرافيم والشاروبيم أصبح ضرورة حتمية. وهذا الهتاف
بهذه التسبحة للمسيح مع طلب ملء الذبيحة باعتبار المسيح موجوداً الآن وقائماً على
المذبح هو بحد ذاته اعتراف وشهادة بأن “ملكوت الله قد أتى”. المسيح هنا هو ملكوت
الله، هو الآتي باسم الرب
» لن تروني من الآن حتى
تقولوا
مبارك الآتي باسم الرب
«(مت 39: 23). وهذه الآية يضعها قداس القديس غريغوريوس بالذات هنا
تأكيداً لهذا المعنى، ويضيف إليها أيضاً:
» أوصنا في
الأعالي
« أي أن
المسيح قد استعلن والخلاص معه ممثلاً في الجسد، ولو أن الطقس يعتبر هذا النداء
سابقاً لأوانه.

كما يهتف الكاهن قبل
ذلك عند قراءة الإنجيل حيث تستعلن “الكلمة” وكما سيهتف كل الشعب عندما يقول الكاهن
“القدسات للقديسين”.

أي أن هذا التسبيح هو
إعلان لاستعلان ظهور ملكوت السموات في جسد ودم المسيح، لذلك تُعتبر هذه
اللحظة أنها هي اللحظة الحاسمة التي نطلب فيها من الرب أن يكمِّل وعده
» لأني أقول
لكم إني لا أشرب من نتاج الكرمة حتى يأتي ملكوت الله.
«(لو 18: 22)

والآن، وإذ قد أتى
ملكوت الله، إذاً “املأ وكمِّل هذه الصعيدة حسب وعدك”.

ومن الأشياء الملفتة
لنظر الباحث المدقق محاولة قداس باسيليوس وضع لمسة من اللمسات المصرية الصميمة (في
تركيبه البيزنطي) بتطبيق عقيدة الملء هذه، ولكن بتسبحة أخرى غير تسبحة الشاروبيم.
فهو هنا إمعاناً في صبغ القداس بالصبغة المسيحية الصرف، يختار تسبحة
الملائكة يوم ميلاد الرب يسوع: “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفي الناس
المسرة”، يلتقط كلمة “المسرة” من نهاية التسبحة ويضعها في فم الكاهن لتكون وصلة
الدخول في موضوع الإفخارستيا مرة أخرى “بمسرتك يا الله املأ قلوبنا من
سلامك … لكي نتناول …”.

ولكن وبالرغم من هذا
الوعي للتقليد الإسكندري الذي جاء متقدماً في صلاة الصلح (قبل الدخول في القداس
رسمياً علماً بأن الإفخارستيا الكبرى تبتدئ ب “ارفعوا قلوبكم”)، نجد
في هذا القداس ذاته (قداس القديس باسيليوس) تجاوزاً للقاعدة التقليدية في تركيب التسبحة
الشاروبيمية حيث لا تبتدئ ولا تنتهي بالشكر أو تمجيد الاسم كالتقليد القديم
مثل قداس مار مرقس، وهذا يسجله لنا أوريجانوس: [وكما بدأنا الصلاة بتمجيد الله،
فمن المناسب أن نختمها بتمجيد وتسبيح: نمجد الآب بالمسيح يسوع في الروح القدس]([30])،
ولا تهتم باختيار الوصلة المختصرة المناسبة التي تربط التسبحة بالإفخارستيا، بل
يمتد قداس باسيليوس بالتسبحة بالعكس، ويدخل مرة أخرى فيما يصلح أن يكون مقدمة
الإفخارستيا: الخلقة والسقوط والتجسُّد (حيث كان المنتظر أن يدخل هنا في التقديس
ولكنه يستمر ليذكر الآلام والقيامة والصعود والجلوس والمجيء الثاني والدينونة، قبل
التقديس). وأخيراً [وفيما هو راسم أن يسلِّم نفسه عن حياة العالم] يدخل إلى تقديس
الخبز والخمر! ثم يعود مضطراً بحكم التقليد الطقسي ويستدرك كل ما قاله
قبل التقديس ويعيد تذكاره مرة أخرى في موضعه الأصيل بعد التقديس.
[ففيما نحن نصنع ذكر آلامه وقيامته … وصعوده … وجلوسه … وظهوره الثاني].
وهكذا يظهر لنا أن تقليد أنافورا باسيليوس يختلف عن التقليد الإسكندري في مواضع

هامة.
كذلك يتبين لنا أصالة قداس مار مرقس ودقته التقليدية، وقدمه السحيق الذي يقول عنه
دكس: “إن امتداده غير منقطع قط حتى إلى الرسل”!

كما يتبين لنا من تركيب
قداس القديس باسيليوس أنه تخريج من التقليد القديم (من قداس مار مرقس) تحرر كثيراً
عن الدقة التقليدية حسب الطقس الليتورجي القديم.

كذلك نعتقد أن صلاة
الصلح في قداس القديس باسيليوس هي مصرية الأصل والتأليف، وأقدم من زمن القديس
باسيليوس نفسه، ويشتبه في أن تكون هي بحد ذاتها إفخارستيا مسيحية كاملة، أي
نموذجاً مسيحياً لصلاة شكر كاملة قديمة غاية القدم
قصد مؤلفها
أن يضع تسبيحاً ملائكياً مسيحياً أصيلاً وكاملاً هتفت به الملائكة يوم ميلاد
المسيح نفسه، ليكون بديلاً عن التسبحة الشاروبيمية المأخوذة من خدمة الصباح للمجمع
اليهودي، وضعت بعد تقديم الحمل بمفهومه القديم (الذي يتم فيه تقديس الخبز والخمر
وحلول المسيح).

وبهذا
كانت “صلاة الصلح” هذه تنتهي بالتناول وذلك من واقع منطوقها [لكي نتناول بغير وقوع
في دينونة من قربانك غير المائت السمائي]، حيث تأتي القبلة المقدَّسة قبل التناول
مباشرة حسب أقدم تقليد ليتورجي في مصر (أخذت عنه روما وبقي فيها حتى الآن، وأول
مَنْ كشفه وأثبته هو البابا إينوسنتيوس وحسب ما سجله العلاَّمة
أوريجانوس الإسكندري) وبعد القبلة ينادي الشماس أصلاً [تقدَّموا تقدَّموا
بالترتيب kat¦
trÒpon
] أي الأساقفة أولاً ثم الشمامسة ثم النسَّاك (طقس
قديم قبل الرهبنة) ثم الشعب. وبقية نداء الشماس هنا يكشف بوضوح أنه نداء يختص
بالتناول حيث يقول صراحة أن الموجود على المذبح هو [جسد ودم عمانوئيل] ويرد الشعب
(رحمة السلام ذبيحة التسبيح) الذي هو مطلع التسبيح بالمزمور المناسب أثناء التناول.
ولكن بدخول الإفخارستيا الكبرى انحصر كل هذا الطقس في حدود تقديم الحمل فقط حيث
تبدأ الإفخارستيا الكبرى الجديدة من أول [ارفعوا قلوبكم].



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى