علم التاريخ

أيام الانتظار ومولد الكنيسة



أيام الانتظار ومولد الكنيسة

أيام
الانتظار ومولد الكنيسة

+
بين القيامة والصعود:

أهم
ما يميز مدة الأربعين يوماً بين قيامة السيد المسيح وصعوده، وظهوراته لتلاميذه
.. ولقد كان
لتلك الظهورات آثار هامة:

لقد
أكدت لهم حقيقة قيامته من بين الموات بما لا يدع مجال لأي شك (أع1: 3) ورفعت من
معنويات الرسل، وملأت قلوبهم فرحاً وعزاء (يو20: 20)
.. كما أن تلك
الفترة كانت بمثابة فترة تمهيدية لأعمال الخدمة والكرازة في المستقبل القريب، لقن
فيها السيد المسيح تلاميذه كثيراً من المعلومات التي ما كانوا يحتملوها قبل ذلك
(يو16: 25، أع1: 3).. ويؤكد ذلك أن تلك الققاءات لم تكن مجرد ظهورات خاطفة، بل
امتدت واستطالت. ومن أمثلتها الرحلة التي صحب الرب فيها تلميذي عمواس بعد ظهر يوم
أحد القيامة، وقطع المسافة من أورشليم على عمواس؟ وهى ستون غلوه أي نحو سبعة
أميال، وتستغرق اكثر من ساعتين مشياً علي الأقدام. وخلال هذه الرحلة ” أبتدأ
من موسى، ومن جميع الأنبياء، يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب ”
(لو24: 13 – 27)
.. وأيضاً الظهور الثالث الذي أظهر فيه ذاته
لتلاميذه عند بحر طبرية، ومكث فيه معهم من الصباح حتى ما بعد الغداء (يو21: 4 –
15)

 

+
بين الصعود ويوم الخمسين:

بعد
أن أرتفع السيد المسيح عن تلاميذه عند جبل الزيتون، وصعد إلى السماء، ورجعوا إلى
أورشليم بفرح عظيم (لو24: 52).. وكان فرحهم لأنه صعد إلى الآب (يو14: 28) ولأنه
سيأتى ثانية (أع1: 11) وفي اورشليم اجتمعوا في العلية التي كانت في بيت أم مارمرقس
الكاروز.. هناك كانوا يواظبون بنفس واحدة علي الصلاة والطلبة مع نساء مؤمنات، في
مقدمتهن مريم العذراء لقد أوصاهم الرب أن يذهبوا إلي العالم أجمع ويكرزوا بالإنجيل
للخليقة كلها، لكنه في نفس الوقت أمرهم بالبقاء في أورشليم، انتظارا لموعد الاب
(الروح القدس)
.. بل لقد
حذرهم من مبارحتهم قبل أن يلبسوا قوة من الأعالى (لو24: 49، أع1: 4)
.. وفي هذه
الفترة، كان لابد أن يختاروا تلميذاً خلفاً ليهوذا الخائن
.. واشترطوا
أن يكون أحد الذين اجتمعوا معهم كل الزمان منذ معمودية يوحنا إلى ذلك الوقت، حتى
يشهد معهم بقيامة الرب المجيدة، التي ستصبح حجر الأساس في العمل الكرازي الجديد
فصلوا وطلبوا إلي الرب أن يظهر اختياره لأحد أثنين: يسطس أم متياس.. ثم ألقوا
فوقعت على متياس (أع1: 15 – 26) فصار واحدا من الأثنى عشر وهي المرة الوحيدة التي
ذكر فيها استخدام القرعة.

 

+
يوم الخمسين:

في
اليوم الخمسين لقيامة السيد المسيح، وفي الساعة الثالثة بالتوقيت العبري (التاسعة
صباحاً بتوقيتنا) أثناء احتفالات اليهود في أورشليم بأحد أعيادهم الكبرى – وهو عيد
الخمسين – حل الروح القدس علي الرسل والتلاميذ (جميع الموجودين بالعلية) بينما
كانوا مجتمعين بها بنفس واحدة، وإذا صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح
عاصفة، وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين
.. وظهرت لهم ألسنة
منقسمة كأنها من نار واستقرت علي كل واحد منهم، وامتلأ الجميع من الروح القدس
(أع2: 1 – 4). لقد أختار الرب هذه المناسبة عند اليهود موعداً لمولد كنيسته، حيث
تتم رموز وأشارات
.. لذا يحسن ان نقف قليلاً لنعرف شيئاً عن هذا
العيد عند اليهود
.. كان لهذا العيد اليهودي ثلاث تسميات: عيد
الحصاد (خر23: 16)، وعيد أوائل الثمار (عد28: 26). وعيد الأسابيع (تث16: 9، 10، لا
23: 15) وأطلق عليه عيد الخمسين لأنه يقع في اليوم الخمسين بعد الفصح اليهودي
.. كان هذا
العيد من حيث تسميته بعيد الأسابيع، يبدأ مباشرة بعد عيد الفصح، بتقديم أول حزمة
من حصاد الشعير، وينتهى في عيد الخمسين بتقديم أول رغفين من حصاد القمح. وكان
يحتفل بعيد الخمسين يوماً واحداً وهو من أعياد اليهود الثلاثة الكبرى السنوية
الفطير والحصاد والمظال التي كان علي جميع ذكور بني إسرائيل أن يظهروا فيها أمام
الرب إلههم (تث16) كان هذا العيد عند اليهود عيد فرح وبهجة. وكان يقع في ألفطف
فصول السنة. ولذا كان يجذب اعداد ضخمة من اليهود الزائرين من البلاد والأقاليم
الأخرى إلى أورشليم ويصف يوسفيوس اليهودي هذا العيد ويتكلم عن عشرات الآلاف الذين
كانوا يجتمعون حول الهيكل في هذه المناسبة وكان عدد كبير من اليهود الوافدين من
بلاد بعيدة إلى أورشليم لحضور عيد الفصح يبقون فيها حتى يحضروا هذا العيد أيضاً.
كان عيد الخمسين إذن – بحسب ما جاء في الكتب المقدسة – هو عيد الحصاد وعيد أوائل الثمار
وعيد الأسابيع
.. لكنه كان
أيضاً – طبقاً لتقليد الربيين في التلمود – هو عيد الاحتفال السنوي بتذكار تسلم
الشريعة في سيناء
.. فقد قيل أن موسى استلم الشريعة فوق جبل سيناء،
وفى اليوم الخمسين لخروج بني إسرائيل من مصر. ومن هنا جاءت تسميته بالعبرية (عيد
البهجة بالناموس) كانت هناك عادة يهودية قديمة حرص اليهود عليها في العصر الرسولي
.. كانوا
يقضون الليلة السابقة لعيد الخمسين في تقديم الشكر لله من أجل عطية الناموس.

 

+
العيد التأسيسي للكنيسة:

لا
شك أن الله الذي يتمم كل أموره بحكمة، أختار مناسبة هذا العيد اليهودي ليجعل منه
عيداً لمولد الكنيسة، فأرسل روحه القدوس بقوة علي رسله وتلاميذه وأسس كنيسة علي
الأرض
.. كانت فرصة
هذا العيد اليهودي أكثر ملاءمة لتأسيس الكنيسة المسيحية من عدة وجود، بالنظر
للمدلولات اليهودية للعيد
.. لقد كانوا تحتفلون به كعيد لحصاد
المزروعات، فاضحى عيداً لحصاد الزرع الجيد الذي هو بنو الملكوت (مت13: 38)
.. وكانوا
يحتفلون به كعيد لأوائل الثمار الزراعية، فغدا في المسيحية عيداً لأوائل الثمار
الخلاصية، حين أنضم إلي الكنيسة في ذلك اليوم ثلاثة آلاف نفس
.. هذا
بالإضافة إلي ثمار الروح القدس التي تكلم عنها الرسول (غل5: 22)
.. ثم أنهم
كانوا يحتفلون به كتذكار لإعكائهم الشريعة المكتوبة علي لوحين من حجر فأصبح عيداً
للروح القدس روح الحياة الذي كتبت به وصايا الله لا هي ألواح حجرية، كما حدث في
القديم بل في ألواح قلب لحمية (2كو3: 3). وثمة نظرية أخرى
.. فالعدد
خمسين يشير إلى العفو والصفح
.. ففى العهد القديم كانت تقدس السنة
الخمسون، ويعفى المديونون من ديونهم ويحرر العبيد ” وتقدسون السنة الخمسين،
وتنادون بالعتق في الرض لجميع سكانها وتكون لكم يوبيلاً وترجعون كل إلى ملكه،
وتعودون كل إلى عشيريته ” (لا 25: 10) كانت هذه السنة تبدأ بيوم الكفارة حين
يضربون بالبوق إيذانا سنة اليوبيل
.. فالعدد 50 إذا كان ينظر إليه كرمز للعفو
عن الديون
.. ثم أن عيد
الخمسين اليهودي، كان اكثر ملاءمة لتاسيس الكنيسة من جهة الجماهير التي كانت
تحضره. فقائمة الشعوب التى اوردها القديس لوقا في (أع2: 8 – 11) كانت على وجه
التقريب تشمل أنحاء الإمبراطورية الرومانية التى كانت بدورها تضم معظم العالم
القديم المعروف وقتذاك
.. والغرباء الذين ذكرهم لوقا كشهود كرازة
الرسل.. ومما لا شك فيه أن أولئك الذين آمنوا في يوم الخمسين حملوا إيمانهم الجديد
إلى أخوهم قبل أن يصل إليهم الرسل في كرازتهم. وهذا يوضح لنا وجود مسيحيين في دمشق
قبل إيمان بولس (أع9: 2)، ووجود عدد كبير من المؤمنين في روما، قبل أن يكتب لها
بولس رسالته بوقت كبير (رو1: 8). كان إعطاء الشريعة في سيناء مصحوباً برعود وبروق
وسحاب ثقيل على الجبل وصوت بوق شديد جداً، ارتعد منه كل الشعب الذى كان في المحلة
.. لذا لا
تعجب أن جاءت كنيسة العهد الجديد إلى الوجود أيضاً بعلامات عجيبة ملأت المشاهدين
دهشة وحيرة (أع2: 6، 7). لقد صاحب حلول الروح القدس على الرسل والتلاميذ مظاهر
ثلاثة
:
صوت
كما من هبوب ريح عاصفة، وظهور ألسنة منقسمة كأنها من نار استقرت على كل واحد منهم،
والتكلم بألسنة أخرى
.. والريح في كتاب العهد القديم نراها رمزاً للقوة
الروحية الخلاقة، ورمزاً للعمل غير المنظور (يو3: 8) والحرية السامية التي للروح
القدس ” حيث روح الرب هناك حرية ” (2كو3: 17)
.. والنار كانت
معروفة لدى بنى إسرائيل. فقد حل الله علي جبل سيناء بالنار (خر19: 18)، وهى تكنف
مجد الله (حز1: 4). وهى تشير الي عمل التظهير الذى للروح القدس (أش6: 6،7)
.. والتكلم
بألسنة هو تصويب لما حدث قديماً عند برج بابل حينما بلبل الرب لسان هؤلاء الأشرار
ومهما يكن من أمر فأن حلول االروح القدس علي التلاميذ في ذلك اليوم، وصيروتهم
هياكل لله ومساكن لروحه لهو اكبر معجزة في حياة البشر الداخيلة، لأنهم به نالوا
طبيعة جديدة عوضاً عن الطبيعة القديمة التي أفسدتها الخطية.

+
عظة بطرس:

وعظة
بطرس التي ألقاها في يوم الخمسين (أع2: 14 – 36). هي عظة بسيطة لكن روح الله الذى
كان يصحب كلماتها، نخس قلوب السامعين
.. فلما سألوا الرسل عما
ينبغى أن يعملوه، أجابوهم ” توبوا وليعتمد كل واحد منكم علي أسم يسوع المسيح
لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس ” وهكذا انضم إلي الكنيسة في ذلك
اليوم ثلاثة آلاف نفس
.. أما عن موضوع العظة، فباستثناء الربط الذي ربط
به القديس بطرس أحداث تلك الساعة بنبوءة يؤئيل النبي، نجد أن هدف العظة الكبير هو
إثبات أن يسوع الناصري الذى قتله اليهود ظلماً وقام من الأموات، هو عينة المسيا
الذي تنبأ عنه داود وجاء من نسله حسب الجسد. لكن التركيز الأكبر في العظة كان على
قيامة الرب يسوع من بين الأموات (أع2: 24، 27، 31، 32).

 

+
أثر يوم الخمسين:

“وامتلأ
الجميع من الروح القدس” (أع2: 4)
.. هذه هي الأعجوبة
الحقيقية الداخلية، ومحور ما حدث في يوم الخمسين
.. ونلاحظ أن
الروح القدس لم يحل على الرسل وحدهم، بل علي كل التلاميذ (كل المؤمنين) المجتمعين
في العلية منتظرين موعد الآب، وكان عددهم مائة وعشرين (أع1: 15).. كان ما حدث في
يوم الخمسين هو الوحي العظيم الذي أعانهم فيما بعد ليصبحوا معلمين ملهمين ذوى
سلطان للإنجيل، سواء باللسان والقلم
.. وما كان غامضاً صار
الأن واضحاً مفهوما لهم
.. لقد كشف لهم الروح القدس عن حقيقة
الفادي وعمله علي ضوء قيامته المجيدة، وملك عليهم (عقولهم وقلوبهم).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى