علم التاريخ

أنبياء التعليم والإنذار في مملكة يهوذا في الفترة من 721-687 ق



أنبياء التعليم والإنذار في مملكة يهوذا في الفترة من 721-687 ق

أنبياء
التعليم والإنذار في مملكة يهوذا في الفترة من 721687 ق.م

وقدرة
الأنبياء على اختراق الأحداث الجسام لتبيان تعادل الوعد الأبدي مع العدل الزمني لبقاء
تفوُّق حب الله ورحمته فوق أخطاء الإنسان!!

 

إشعياء
النبي:
[نبوته
من 742700 ق.م]([1])

دعي للنبوَّة في سنة وفاة عُزِّيا ملك يهوذا (إش 1: 6) وذلك
سنة 742

ق.م، وكان عمره آنئذ يقرب من ثلاثين سنة، وعندما قَرُبَ من خمسين سنة خدم إشعياء
مأساة أمته بصوت النبوَّة الذي لم ينقطع قط، وتوفَّى ربما سنة 692 ق.م. وكان من عائلة نبيلة، وكان قريباً جداً من الملك ومن الشعب
أيضاً.

ولكن
تطرح نبواته ضوءها على كل التاريخ، وهو محسوب في العهد الجديد كأعظم أنبياء التعليم والإنذار في العهد القديم. وهو واحد من أعظم
أنبياء إسرائيل قاطبة، وهو الذي رأى بعينيه المستقبل “هأنذا أؤسِّس في

صهيون حجراً، حجر امتحان، حجر زاوية، كريماً أساساً مؤسَّساً من آمن لا يهرب

” (إش 16: 28). وهو
الذي رأى ميلاد المسيَّا وآلامه ورئاسته وملكوته معاً!!

وهو
يبدأ حياته العملية برؤيا مهيبة لإله إسرائيل تضع إشعياء في القمة الشامخة لأنبياء
الرؤى. ولقد تقدَّس إشعياء لبدء النبوَّة بصورة نادرة ورمزية بعد أن لمست شفتيه
جمرةٌ سريَّة التقطها الملاك من فوق مذبح الله وطهَّر بها شفتيه. كما انفتحت أذنا
إشعياء لسماع صوت تقديس الملاك لله بكلمة قدوس قدوس قدوس ثلاث مرَّات على التوالي،
ورأى إشعياء الملائكة بأجنحتها رؤيا العين، واتسعت بصيرة إشعياء ليرى مجد الله ليس
لملء الهيكل بل ملء كل الأرض!! (إش 6).

كان
إشعياء مضغوطاً بين تثقيل صوت يهوه المهيب القدوس من ناحية، ومن الأخرى خِضَم من
خطايا وتجاوزات شعب يهوذا الذي كان يتكل خطأً على وعود الله لداود دون أن يراعي
شروط التقوى ومخافة الله ومحبة وصاياه والخضوع لأوامره. لذلك كان واضحاً فاضحاً في
تحذيراته وإنذاراته للأغنياء المتسفلين والقضاة المرتشين الذين سلبوا الشعب من كل
حقوقه وداسوا على وصايا الله وأحكامه.

+
“كيف صارت القرية الأمينة زانية؟ التي كانت ملآنة حقا وكان العدل يبيت فيها
وأمَّا الآن فالقاتلون!! صارت فضتك زَغَلاً (مغشوشة)، وخمرك مغشوشة بماء،
رؤساؤك متمردون ولغفاء (شركاء) اللصوص. كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا. لا
يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم” (إش 1: 2123)

+
“قد انتصب الرب للمخاصمة وهو قائم لدينونة الشعوب. الرب يدخل في المحاكمة مع
شيوخ شعبه ورؤسائهم. وأنتم قد أكلتم الكرم. سَلَبُ البائس في بيوتكم. مالكم تسحقون
شعبي وتطحنون وجوه البائسين يقول السيد رب الجنود” (إش 3: 1315)

+
“ويل للذين يصلون بيتاً ببيت ويقرنون حقلاً بحقل حتى لم يبق موضع. فصرتم
تسكنون وحدكم في وسط الأرض.. الذين يبرِّرون الشرير من أجل الرشوة، وأمَّا حق
الصدِّيقين فينزعونه منهم” (إش 5: 8و23)

+
“ويل للذين يقضون قضايا البُطل وللكتبة الذين يسجِّلون جوراً ليصدُّوا
الضعفاء عن الحكم ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الأرامل غنيمتهم وينهبوا
الأيتام” (إش 10: 1و2)

ويخاطب رجال ونساء الطبقات العليا والمرفَّهين المهتمين
بملكياتهم وملاهيهم:

+
“وقال الرب: من أجل أن بنات صهيون يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق وغامزات
بعيونهنَّ وخاطرات في مشيهنَّ ويخشخشن بأرجلهنَّ (الخلاخيل). يُصلِع السيد هامة
بنات صهيون ويعرِّي الرب عورتهنَّ، ينزع السيد في ذلك اليوم زينة الخلاخيل
والضفائر والأهلَّة والحلق والأساور والبراقع والعصائب والسلاسل والمناطق وحناجر
الشمَّامات (عُلب العطور أو آنية الطيب) والأحراز والخواتم وخزائم الأنف والثياب
المزخرفة والعُطُف والأردية والأكياس (موضات ذلك الزمان) والمرائي والقمصان
والعمائم والأزُر فيكون عوض الطيب عفونة.. رجالكِ يسقطون بالسيف وأبطالكِ في
الحرب، فتئن وتنوح أبوابها وهي فارغة تجلس على الأرض” (إش 3: 1626)

+
“ويل للمبكِّرين صباحاً يتبعون المسكر، للمتأخرين في العتمة تُلهبهم الخمر،
وصار العود والرباب والدف والناي والخمر ولائمهم وإلى فعل الرب لا ينظرون.. ويل
للأبطال على شرب الخمر ولذوي القدرة على مزج المسكر” (إش 5: 1012و22)

ولكن
حزن إشعياء الأعظم أنه يكلِّم شعباً لا يريد أن يعلم ولا أن يسمع!!

+
“على مَ تُضربون بعد؟ تزدادون زيغاناً!!
” (إش 5: 1)

+
“فقال: اذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعاً ولا تفهموا، وابصروا إبصاراً ولا تعرفوا.
غلِّظ قلب هذا الشعب وثقِّل أذنيه واطمس عينيه لئلاَّ يبصر بعينيه ويسمع بأذنيه
ويفهم بقلبه ويرجع فيُشفى. إلى متى أيها السيد؟ فقال لي: إلى أن تصير المدن خربة
بلا ساكن والبيوت بلا إنسان وتخرب الأرض وتصير قفراً” (إش 6: 913)

ثم
يكلِّم الكهنة والعابدين بالاسم المتمسِّكين بالطقوس والمهتمين بالشكليات
والمدققين في التلاوات ظانين أنهم بذلك يرضون مطالب الله. ويحذِّرهم أن يعملوا
الحق أولاً:

+
“لماذا لي كثرة ذبائحكم يقول الرب. اتَّخَمْتُ من محرقات كباش وشحم مسمنات.
وبدم عجول وخرفان وتيوس لا أُسر. حينما تأتون لتظهروا أمامي مَنْ طلب هذا من
أيديكم أن تدوسوا دوري؟ لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة. البخور هو مكرهة لي. رأس
الشهر والسبت ونداء المحفل. لست أطيق الإثم والاعتكاف. رؤوس شهوركم وأعيادكم
بغضتها نفسي، صارت عليَّ ثقلاً. مللتُ حملها. فحين تبسطون أيديكم أستر عينيَّ عنكم
وإن كثَّرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دماً. اغتسلوا تنقُّوا اعزلوا شر
أفعالكم من أمام عينيَّ، كفُّوا عن فعل الشر، تعلَّموا فعل الخير، اطلبوا الحق،
انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة. هلم نتحاجج يقول الرب. إن كانت
خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف. إن شئتم وسمعتم
تأكلون خير الأرض وإن أبيتم وتمرَّدتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلَّم” (إش
1: 1120)

والميراث
التقليدي عن “يوم الرب” الذي سرى بين قلوب الأجيال على أنه يوم خلاص، خلاص
من الأعداء والفقر وغضب الله ذي المظاهر المتعددة من السخرة والعبودية والسبي، رآه الأنبياء جميعاً أنه يوم دينونة على الخطاة،
فهو
يوم رعب وظلام وانتقام وليس يوم
فرح وسلام. وإشعياء يوضِّح الفكر النبوي
بدوره:

+
“فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظِّم وعالٍ، وعلى كل مرتفع فيوضع.. فيُخفَض
تشامخ الإنسان وتوضع رفعة الناس، ويسمو الرب وحده في ذلك اليوم، وتزول الأوثان
بتمامها، ويدخلون في مغاير الأرض وفي حفائر التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء
عظمته، عند قيامه ليرعب الأرض” (إش 2: 1219)

وإشعياء
يرى قضاء الرب آتٍ ويرى أشور أنها هي أداة التأديب والقضاء:

+ “من أجل ذلك حمى غضب الرب على شعبه ومدَّ يده عليه
وضربه حتى ارتعدت الجبال وصارت جثثهم كالزبل في الأزقة. مع كل هذا لم يرتد غضبه بل
يده ممدودة بعد. فيرفع راية للأُمم من بعيد ويصفِّر لهم
من أقصى الأرض فإذا هم
بالعجلة يأتون سريعاً. ليس فيهم رازح ولا عاثر، لا ينعسون ولا ينامون ولا تنحل
حُزُم أحقائهم ولا تنقطع سيور أحذيتهم. الذين سهامهم مسنونة وجميع قسيهم ممدودة.
حوافر خيلهم تُحسب كالصوان وبكراتهم كالزوبعة. لهم زمجرة كاللبوة ويزمجرون كالشبل ويهرُّون ويمسكون الفريسة
ويستخلصونها ولا
منقذ” (إش
5: 2529)

+
“ويل لأشور قضيب غضبي، والعصا في يدهم هي سخطي. على أُمة منافقة أُرسله وعلى
شعب سخطي أُوصيه ليغتنم غنيمة وينهب نهباً، ويجعلهم مدوسين كطين الأزقة” (إش
10: 5و6)

ويرى
إشعياء يهوذا وأُورشليم وقد انتكست وأقفرت من مجدها وعظمتها ورجالها وكل مظاهر
الحياة فيها:

+
“فإنه هوذا السيد رب الجنود ينزع من أُورشليم ومن يهوذا السند والركن، كل سند
خبز وكل سند ماء. الجبار ورجل الحرب. القاضي والنبي والعرَّاف والشيخ. رئيس
الخمسين والمُعْتَبَرَ والمُشِيرَ والماهرَ بين الصُنَّاع والحاذق بالرُّقية.
وأجعل صبياناً رؤساءَ لهم وأطفالاً تتسلَّط عليهم. ويظلم الشعب بعضهم بعضاً والرجل
صاحبه، يتمرَّد الصبي على الشيخ والدنيء على الشريف. إذا أمسك إنسان بأخيه في بيت
أبيه قائلاً لك ثوب فتكون لنا رئيساً وهذا الخراب تحت يديك، يرفع صوته في ذلك
اليوم قائلاً لا أكون عاصباً وفي بيتي لا خبز ولا ثوب، لا تجعلوني رئيس الشعب. لأن
أُورشليم عثرت ويهوذا سقطت، لأن لسانهما وأفعالهما ضد الرب لإغاظة عيني مجده.
نَظَرُ وجوهِهِم يشهد عليهم وهم يخبرون بخطيتهم كسدوم، لا يخفونها، ويل لأنفسهم
لأنهم يصنعون لأنفسهم شرًّا. قولوا للصدِّيق خير لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم، ويل
للشرير شرّ لأن مجازاة يديه تعمل به. شعبي ظالموه أولاد، ونساء يتسلَّطن عليه. يا
شعبي مرشدوك مضلُّون ويبلعون طريق مسالكك” (إش 3: 112)

+
“فقلت: إلى متى أيها السيد؟ فقال: إلى أن تصير المدن خربة بلا ساكن، والبيوت
بلا إنسان وتخرب الأرض وتقفر. ويُبعد الرب الإنسان ويَكْثُر الخراب في وسط الأرض.
وإن بقي فيها عُشرٌ بعد فيعود ويصير للخراب. ولكن كالبطمة والبلوطة التي وإن قُطعت
فلها ساقٌ يكون ساقه زرعاً مقدَّساً” (إش 6: 1113)

+
“اليوم يقف في نوب، يهز يده على جبل بنت صهيون أكمة أُورشليم. هوذا السيد
ربُّ الجنود يقضب الأغصان بِرُعْبٍ والمرتفعو القامةِ يُقطعون والمتشامخون
ينخفضون” (إش 10: 32و33)

ولكن في وسط مخاوف الحروب والحصار والسبي والهلاك بسبب ورود أخبار
باتفاق دمشق وإسرائيل لمحاربة آحاز ملك يهوذا، يتقدَّم إشعياء لآحاز الملك المرتعب
والمرتجف: “كرجفان شجر الوعر (الأثل)
” (إش 2: 7) ليسلِّمه رسالة لم يفهمها ولم يصدِّقها؛ بل ومن
العسير لأي مفسِّر أن يفهمها إلاَّ إذا وضع في
الحسبان أن إشعياء نبي وليس مفكِّر أو واعظ، فهو حينما يضع حلولاً فهي ليست
لزمن
ما ولا تنحصر في شخص، ولكن على مستوى الله وفكره وتدبيره.

قال
إشعياء لآحاز ملك يهوذا:

+
“احترز واهدأ، لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل.. رصين (ملك دمشق) وأرام وابن
رمليا (ملك إسرائيل).. هكذا يقول السيد الرب: لا تقوم لا تكون..!!

” (إش 7: 4و7)

ولكن لم يؤمن آحاز بوعد الله هذا، فماذا يكون ردّ
الله على فم نبيه إشعياء؟

“إن
وعدي ببقاء يهوذا وأُورشليم وسلامة الملك هو وعدٌ أبدي قائم على أساس محبتي لداود
الذي كان “قلبه حسب قلبي “ولم تصدِّق أنت ولا الآتون بعدك واضمحلت
الأرض، فسأبقى أميناً على وعدي أتمِّمه بنفسي على مستوى المعجزة: “يعطيكم
السيد نفسه آيةً. ها العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمانوئيل (أي الله معنا)”
(إش 14: 7)”.

ويعود
الله ويكمِّل خطة خلاصه بواسطة هذا الابن الذي يملك إلى الأبد على كرسي داود هكذا:

+
“لأنه يولد لنا ولد ونُعطَى ابناً وتكون الرياسة على كتفِهِ ويُدعى اسمه
عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبديًّا رئيس السلام. لنمو رياسته وللسلام لا
نهاية، على كرسي داود وعلى مملكته، ليُثبِّتها ويُعضِّدها بالحق والبر من الآن إلى
الأبد”
(إش 9: 6و7)

من
هذا نُدرك كيف يضع الله الحلول للمآزق الزمنية التي بها يكشف قدرته السرمدية على
بقاء أمانته لوعده، متخطياً عدم إيمان الملوك والشعب آنذاك إذا لم يؤمنوا، لتبقى
العبرة في عدم الإيمان، وتبقى قدرة الله على الحل، وتبقى أمانة الله العظمى في
الحفاظ على وعده واضحة بالنسبة للأجيال القادمة إلى مدى الدهر. وهذا هو عمل
الأنبياء الأول والأهم والأبقى على مدى الأجيال وإلى منتهى الدهر، يعطون حلولاً
وأجوبة لو طبقها الذين سمعوها وآمنوا بها بشدة فإنهم لابد ناجون، ولابد منتصرون
مهما كانت الظروف صعبة ومستحيلة- والأمثلة كثيرة. أمَّا إذا لم يؤمنوا فتبقى
النبوَّة قائمة بقوتها وجلالها وسموِّها مهيَّئة لكل مَنْ يؤمن بها حتى ولو بعد
آلاف السنين، لينجو بتصديق كلماتها هي نفسها وينجح وينتصر في كل المآزق والصعاب
التي على نفس المستوى. فالله الأبدي والنبي الزمني هما دائماً على مستوى الجزء
والكل وعلى مستوى الزمن والأزل. فكلمة الله المنطوقة بفم النبي فعَّالة، فعلى
مستوى الإيمان لابد ويتحتَّم أن تنجح، وإذا عجز الإيمان الوقتي أن يُظهر فاعليتها
فهي تظل قائمة بقوتها تنتظر مَنْ يؤمن بها ليكشف قوتها وبأسها.

فإذا
عجز آحاز وكل الملوك أن يقيموا خيمة داود الساقطة فسيقيمها هو بنفسه لنفسه، وإذا
سقطت صهيون ملجأ البؤساء فالرب أعدَّ لهم مدينة أعظم، أُورشليم السماوية:
“فبماذا يُجاب رُسل الأمم؟ إن الرب أسَّس صهيون وبها يحتمي بائسو شعبه”
(إش 32: 14)

وإشعياء
النبي إذ هو أداة في يد القدير لابد أن يخدم المبادئ العليا لله ولا يُعطي حلولاً
تتعارض مع الإيمان المطلق بقوة القدير، ومع قوله المختصر العجيب: “إن لم
تؤمنوا فلا تَأْمَنُوا
” (إش 9: 7). ولذلك حينما أراد حزقيا في أيام ضيقته الثانية
أن يُرسل في طلب معونة فرعون مصر، ولم يسمع لقول إشعياء بالامتناع عن ذلك، حُسِب
له ذلك خطية. وكانت الخطية ليست في النزول إلى مصر بل في عدم الإيمان بأن الله
قادر أن يدافع عن عهده لداود ومواعيده للآباء. “يزيدون خطيئة (ترك مشورة
الله) على خطيئة (أعمالهم) الذين يذهبون لينزلوا إلى مصر ولم يسألوا فمي

” (إش 30: 1و2).
“هل تقصر يدي عن أن تخلِّص
” (إش 1: 59). “لأنه هكذا قال لي الرب: كما يَهِرُّ
(يزأر) الأسد فوق فريستهِ.. هكذا ينزل رب الجنود للمحاربة عن جبل صهيون وعن
أكَمَتِهَا”
(إش 31: 4و5)

مِن
هذا نرى أن همَّ الأنبياء الأول هو ضبط حركة التاريخ لتكون على إيقاع كلمات وعد
الله بكل دقة وانتباه لبلوغ الغاية من الإيمان الموضوع، بواسطة التاريخ المتحرِّك،
ولكن دون أي مساس بحرية الإنسان، لأن بطاعة الإنسان أو بعصيانه لابد من البلوغ إلى
النهاية الموقَّعة والمرصودة. ولكن الوصول إليها بالطاعة له أجر الطاعة: أي فرحة
الإنسان ونمو حاسة البصيرة والرؤيا وإدراك تدبير الله واختصار الزمن والقربى من
الله. أمَّا إذا تنكَّب([2])
الإنسان الطريق بعصيان التدبير الإلهي وركوب العقل واستصغار الإيمان- فهذا لن يمنع
الله من بلوغ الغاية والنهاية، ولكن لابد من إطالة الطريق واستطالة الزمن لدخول
عنصر التأديب واستيعاب العقاب المساوي لمقدار العناد وعمى البصيرة.

وعقاب
الله وتأديبه إذا لم يسبق النبي ويشرح سببه ويصف مرارته وعمقه ويحدِّد زمنه قبل
وقوعه، بل ويوضِّح غايته، لا يستطيع الشعب أن يربط بين هذا التأديب كمصائب وحوادث،
وبين خطيته وعناده وعدم إيمانه، بل يعتبرها مجرَّد حوادث عادية من صنع الظروف
والزمن. ولكن بسبق إعلان النبي عن وقوعها قبل أن تقع وشرح أسبابها، تبلغ هذه
المصائب قصدها الإلهي ويدركها الشعب كتأديب وعقاب إلهي، فيتعلَّم الشعب ويحس بعين الله
المسلَّطة عليه، ويتيقَّن الإنسان أن عمله يدخل داخل تدبير الله الفائق، وأن سلوكه
ومشيئته الحرة تماماً ليست بلا حساب أو رقيب؟ هنا وبواسطة النبي تدخل أعمال الناس
وتصرفاتهم في مسار التاريخ المقدَّس، حتى القبيح منها والرديء جداً!!

+
“إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمرَّدتم تُؤكلون بالسيف لأن
فم الرب تكلَّم” (إش 1: 19و20)

+
“قولوا للصدِّيق خيرٌ، لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم، ويلٌ للشرير شرٌّ، لأن
مجازاة يديهِ تُعمَلُ بهِ” (إش 3: 10و11)

وهكذا
نرى أن نبوات الأنبياء هي في مظهرها تعليم وتفهيم وتوبيخ وتشجيع لمسيرة بشرية، هي
التاريخ، تصب في محتوى تدبير الله ليصبح للتاريخ معنى وهدف من وراء الأجيال
والدهور، وتصبح أعمال الناس بالنهاية آية لعمل الله نفسه!!

+
“فاصطبر للرب الساتر وجهه عن بيت يعقوب وانتظره (لأن وراءه حكمة التدبير)،
هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب (الخاضعون الطائعون الفاهمون مشيئة الله) آيات
وعجائب في إسرائيل من عند رب الجنود الساكن في جبل صهيون!!
” (إش 8: 17و18)

لذلك
ننبِّه ذهن القارئ لتاريخ العهد القديم أن يضع أمام عينيه كل هذه الاعتبارات، فهو
لا يقرأ قصصاً انتهت وتاريخاً فات عهده لأشخاص محدَّدين أو شعب محدَّد، بل تاريخ
معاملات الله مع الإنسان، أي إنسان، يكشف فيها الله عن أُسُس تدبيره وأصول أحكامه،
ويوضِّح المبادئ التي تحكم العلاقة بينه وبين الإنسان سواء كان من عامة الشعب أو
كان مَلِكاً أو كاهناً. بالإضافة إلى إعلان الله عن مدى قدرته القوية الفائقة على
كل تصورات واحتمالات الإنسان والتي يضعها الله رهن إيمان وتعلُّق الإنسان بالله
وحبه له والإيمان به. كما أن هذه القصص وهذا السرد الطويل الدقيق للتاريخ يكشف
الهدف النهائي الذي يصوِّب إليه الله كل تدبيراته، والغاية النهائية من عمله
وإرادته وحبه للإنسان، الأمر الذي يُكتشف درجته كلما خطا التاريخ خطوة.

+ “تعال الآن اكتب هذا عندهم على لوحٍ وارسمه في سفرٍ
ليكون لزمنٍ آتٍ للأبد إلى الدهور، لأنه شعبٌ متمرِّدٌ أولادٌ كذبةٌ أولادٌ لم
يشاءُوا أن يسمعوا شريعة الرب، الذين يقولون للرائين لا تروا! وللناظرين لا تنظروا
لنا مستقيمات، كلِّمونا بالناعمات انظروا مخادعاتٍ، حيدوا عن الطريق ميلوا عن
السبيل اعزلوا من أمامنا قدوس إسرائيل” (إش 30: 811)

كذلك
فإن كافة الأسماء التي تقابل القارئ مع سِيَرِهم الخاصة والعامة وتصرفاتهم التي
يدقِّق الكاتب في تسجيلها بكل ملابساتها الهزيلة منها والخطيرة، هذا كله لا يخرج
عن كونه مثلاً ودرساً وتوجيهاً وتحذيراً، أو تشجيعاً لكل قارئ منذ كتابتها حتى
الآن وإلى الأبد.

+ “الذين أُعلن لهم أنهم ليس لأنفسهم، بل “لنا”
كانوا يخدمون بهذه الأمور
التي أُخبرتُم بها “أنتم” الآن، بواسطة الذين
بشَّروكم في الروح القدس المُرسَل من السماء، التي تشتهي الملائكة أن تطَّلع
عليها” (1بط 12: 1)

لاحِظ
هنا أن كلمة “لنا” و“أنتم” هي لي ولك.

+
“لأنه لم تأتِ نبوَّةٌ قط بمشيئة إنسانٍ، بل تكلَّم أُناسُ الله القديسون
مسوقين من الروح القدس”
(2بط 21: 1)

+
“كلُّ الكتاب هو مُوحى به من الله، ونافعٌ للتعليم والتوبيخ، للتقويم
والتأديب
الذي في البر، لكي يكون إنسان الله كاملاً مُتأَهِّباً لكل
عملٍ صالحٍ” (2تي 16: 3و17)

وكان
آخر صوت سمعناه لهذا النبي العظيم كان بخصوص أشور، لمَّا عيَّر سنحاريب شعب يهوذا
وملكها حزقيا بإلههم وجدَّف على إله إسرائيل، وأهان اسم الله وكرامته، فكان صوت
الله على فم إشعياء أن نهاية سنحاريب قد أتت ونقمة السماء حلَّت على كل أشور:

+
“قد حلف رب الجنود قائلاً: إنه كما قصدتُ يصير وكما نويتُ يثبت أن أُحطِّم
أشور في أرضي وأدوسه على جبالي فيزول عنهم نيره ويزول عن كتفهم حمله. هذا هو
القضاء المقضي به.” (إش 14: 2426)

هذا
هو آخر ما نطق به إشعياء النبي:

+
“ويسقط أشور بسيف بلا رجل، وبسيف بلا إنسان يأكله فيهرب من أمام السيف”
(إش 8: 31)

وهذا
الوصف ينطبق على ما حدث لجيش أشور إذ أباده سيف الطاعون لمَّا سقط جيشه في وليمة
الفئران!! أكله الطاعون بلا أكل فصرع منه 185 ألف جندي. ونقمة الله هنا ليست من
أجل يهوذا ولا إنصافاً لحزقيا، ولكن لأن سنحاريب تعالى جداً واستهان بإله إسرائيل
ورفع رأسه وجدَّف عليه:

+ “ولكنني عالم بجلوسك وخروجك ودخولك وهيجانك عليَّ،
لأن هيجانك عليَّ وعجرفتك قد صعِدا إلى أُذنيَّ، أضعُ خزامتي في أنفك وشكيمتي في
شفتيك
وأرُدُّك في الطريق الذي جئتَ فيه” (إش 37: 28و29)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى