علم الكتاب المقدس

أباء الكنيسة والعهد القديم



أباء الكنيسة والعهد القديم

أباء
الكنيسة والعهد القديم

يعبّر القديس أوغسطين بشكل نموذجي عن الموقف الآبائي العام من
الشريعة القديمة بقوله الشهير ”
Novum Testamentum in Vetere latet. Vetus Testamentum in Novo patet” (العهد الجديد هو إتمام العهد القديم).
يسوع المسيح هو الماسيّا الذي تكلّم عنه الأنبياء. فيه تحققت كل الوعود والتوقعات.
الناموس والإنجيل متلائمان. ولا يستطيع أحد أن يدّعي بأنّه من أتباع موسى
الحقيقيين إلاّ إذا آمن بأن يسوع هو رب. إن كل مَن لا يدرك بأن يسوع هو الماسيّا،
مسيح الرب، يخون بذلك الشريعة القديمة نفسها. وحدها كنيسة المسيح تحتفظ الآن
بالمفتاح الصحيح للكتاب المقدّس، المفتاح الحقيقي للنبوءات القديمة. لأن كل هذه
النبوءات تحققت بالمسيح.

 

يرفض القديس يوستينوس الاقتراح بأن العهد القديم هو صلة ربط بين
الكنيسة والهيكل اليهودي. بالنسبة له العكس صحيح تماماً. يجب رفض الادّعاءات اليهودية
بشكل منهجي. لم يعد العهد القديم ينتمي لليهود بل هو يخص الكنيسة وحدها وبالتالي
كنيسة المسيح هي إسرائيل الله الحقيقية الوحيدة. لم تكن إسرائيل القديمة سوى كنيسة
غير نامية. بحسب استعمالها في كنيسة الفترة الأولى، كلمة “الكتب” ذاتها
عنَت قبل كل شيء العهد القديم وبهذا المعنى تُستعمَل بشكل جلي في قانون الإيمان
“كما جاء في الكتب”، أي بحسب نبوءات الشريعة القديمة ووعودها.

 

وحدة الكتاب المقدّس

يستَشهد الكتّاب الأوائل بالعهد القديم بغزارة. وحتى بالنسبة للأمم،
كانت رسالة الخلاص دائماً تقدَّم بإطار العهد القديم. هذا كان حجة منذ القدَم. لم
يلغِ المسيح العهدَ القديم لكنه جدّده وأتمّه. بهذا المعنى لم تكن المسيحية ديناً
جديداً. ببساطة دُمجت الكتب المسيحية الجديدة بالكتاب اليهودي الموروث على أنها
تتمته العضوية. ووحده الإنجيل كاملاً، أي العهدان معاً، اعتُبر السجلّ الوافي
للوحي المسيحي. لم يكن هناك أي انقطاع بين العهدين بل وحدة من التدبير الإلهي. وقد
كانت المهمة الأولى للاهوت المسيحي إظهار وشرح كيف أن الشريعة القديمة كانت تهيئة
وتوقعاً لإعلان الله النهائي في يسوع المسيح. لم تكن الرسالة المسيحية مجرد إعلان
لبعض العقائد، بل هي قبل كل شيء سجل لأعمال الله العظيمة وأفعاله عبر العصور. لقد
كانت تاريخاً للإرشاد الإلهي بلغ ذروته في شخص المسيح يسوع الذي أرسله الله ليفتدي
شعبه. لقد اختار الله إسرائيل لميراثه، ليكون شعبه وحافظ حقيقته، ولهذا الشعب
المختار وحده أوكِلَت الكلمة الإلهيّة. والآن تسلّمت الكنيسة هذا الميراث.

 

لقد اعتُبر العهد القديم بأكمله نبوءة مسيحية و”تهيئة
إنجيلية”. منذ وقت مبكر جمّعت بعض المختارات الخاصة من نصوص العهد القديم
واستعملها المبشرون المسيحيون. من أفضل عيّنات هذا النوع هي شهادات القديس
كبريانوس (
Testimonia). وقد حاول القديس يوستينوس في حواره مع تريفو
أن يثبت حقيقة المسيحية من العهد القديم. محاولة الماركيونيين قطع العهد الجديد عن
جذوره في القديم قوبلت بمقاومة نشيطة وأدينت من الكنيسة العظمى. لقد أُكّدت وحدة
العهدين بقوة وشُدّد على انسجامهما الداخلي. لقد كان هناك دائماً بعض الخطر من
قراءة الكثير من العقيدة المسيحية في كتابات العهد القديم. وقد عُتِّم المنظار
التاريخي أحياناً بشكل خطير. ولكن لن يزل هناك حقيقة عظيمة في كل هذه المساعي
التفسيرية. لقد كان هذا شعوراً عظيماً بالتوجيه الإلهي عبر العصور.

 

العهد القديم كقصة رمزية

تاريخ تفسير العهد القديم في كنيسة الأزمنة المسيحية الأولى هو من
أكثر الفصول اهتزازاً وإرباكاً في تاريخ العقيدة المسيحية. ورثت الكنيسة بعض
التقاليد التفسيرية مع العهد القديم اليوناني. فيلو، اليهودي المتهلّن من
الإسكندرية، كان من أفضل الممثلين لهذا المسعى ما قبل المسيحي لاستيداع العهد
القديم للأمم. لقد اختار لهذه المهمة طريقة فريدة جداً هي المجاز. لم يكن لفيلو أي
فهم للتاريخ. لقد أغفل الحوافز المسيانية أو أهملها في فلسفته للكتاب. بالنسبة له،
الكتاب كان فقط نظاماً للفلسفة الإلهية أكثر مما هو تاريخ مقدّس. وعلى هذا الأساس
لم يكن للأحداث التاريخية أي أهمية أو شأن بالنسبة إليه. لقد كان الكتاب المقدّس
بالنسبة له كتاباً واحداً فشل في أن يتبيّن فيه أيّ منظار أو تقدّم تاريخي. لقد
تعاطى معه بالواقع كمجموعة من الحكايات الرمزية المجيدة والقصص التعليمية المعدّة
لحمل بعض الأفكار الفلسفية والأخلاقية وتصويرها.

 

لم تقبل الكنيسة هذه الطريقة الرمزية بهذا الشكل المتطرف. ومع ذلك،
ينبغي الإقرار بتأثير فيلو القوي على كل المقالات التفسيرية في القرون الأولى. لقد
استعمل القديس يوستينوس فيلو كثيراً. برنابا المنحول (أوائل القرن الثاني) ذهب حتى
إلى إنكار الصفة التاريخية للعهد القديم. لقد تبعت مدرسة الإسكندرية المسيحية
التقاليد الفيلونية. وحتى لاحقاً، القديس أمبروسيوس كان يتبع فيلو إلى حد بعيد في
تعليقاته ومن الممكن تسميته بحق
Philo latinus. لقد كان هذا التفسير الرمزي ملتبساً ومضللاً.

 

لقد مر وقت طويل قبل أن يُستعاد التوازن ويتثبّت. ومع هذا ينبغي أن
لا يغفل المرء عن المساهمة الإيجابية لهذه الطريقة. أفضل ممثل للتفسير المجازي في
الكنيسة كان أوريجنس وتأثيره كان هائلاً. قد يُفاجأ المرء بجرأته التفسيرية
وانحرافه. لقد اعتاد بالواقع أن يقرأ الكثير من عنده في النص المقدّس. لكن وصفه
بالفيلسوف يكون خطأً مريعاً. لقد كان قبل كل شيء وطوال الوقت باحثاً كتابياً،
طبعاً بأسلوب زمنه. لقد قضى أياماً وليالٍٍ على الكتاب المقدّس. هدفه الرئيسي كان
فقط تأسيس كل عقيدة وكل لاهوت على أساس كتابي. لقد كان مسؤولاً إلى حد كبير عن قوة
الروح الإنجيلية في كل اللاهوت الآبائي. قدّم الكثير للمؤمن العادي إذ جعل الكتاب
المقدّس سهل المنال بالنسبة إليه. كان دائما يُدخِل العهد القديم في تعليمه. لقد
ساعد المؤمن العادي على قراءة العهد الجديد ليتقدّس به. وهو شدّد دائماً على وحدة
الكتاب المقدّس واضعاً العهدين في علاقة أكثر قرباً. لقد قام بمحاولة جديدة لبناء
عقيدة الله بأكملها على أساس كتابي.

 

إنّ قصور أوريجنس واضح لكنّ مساهمته الإيجابية أكبر بكثير. فبمثاله
علَّم اللاهوتيين المسيحيين أن يعودوا دائماً إلى نصوص الكتب المقدّسة ليستلهموها.
لقد تبع أغلب الآباء خطّه وفي الوقت نفسه لقي مقاومة شديدة. ليس من مجال هنا للخوض
مطوّلاً في الجدل بين مدرستي التفسير في كنيسة القرون الأولى، فالمعالم الأساسية
معروفة إجمالاً. المدرسة الأنطاكية توقفت عند التاريخ بينما اهتمّ الإسكندريون
بالتأمّل. وبالتأكيد ينبغي جمع العنصرين بتركيبة متوازنة.

 

التاريخ أو الوعظ

لقد كان الافتراض الاسكندري الأساسي بأن الكتب، كونها ملهَمة من الله،
تحمل في طياتها رسالة كونية لكل الأمم والعصور. هدف الكتب بالتمام هو عرض هذه
الرسالة واكتشاف كل هذه الثروات، التي حفظتها الحكمة الإلهية بعناية في الكتاب،
وتعليمها. تحت حرف الكتابات المقدّسة بعض الدروس التي ينبغي بالمتقدمين تعلّمها.
خلف كل السجلاّت البشرية لظهورات الله المتنوّعة يمكن للمرء أن يتبيّن الوحي
الإلهي وأن يفهم كلمة الله في كل بهائها الخالد.

 

لقد افتُرض أنّه حتى عندما تكلّم الله في ظل بعض الظروف كان في كلامه
دوماً ما يتخطّى كل القيود التاريخية. على المرء أن يميّز بتأنٍ بين النبوءة
المباشرة وما يمكن وصفه كتطبيق لها. يمكن للكثير من روايات العهد القديم أن تنوّر
المؤمن حتى ولو لم يكن الكاتب قد قصد فيها أي تصوير مسبق لحقيقة مسيحية ما. إن
الافتراض المسبَق الأساسي كان بأنّ الله أراد أن تكون الكتابات المقدّسة الدليل
الأبدي لكل الجنس البشري. وبالتالي كان جائزاً استعمال العهد القديم أو إعادة
تفسيره بشكل محترم.

 

اهتمّ التفسير الأنطاكي بالمعنى المباشر للروايات والنبوءات القديمة.
الشارح الأبرز لهذا التفسير التاريخي كان ثيودور المبسويستي المعروف في الشرق
بالمفسّر. ومع أن مرجعيته تعرّضت للشبهة بشكل خطير لإدانته بسبب تعاليمه الخاطئة،
إلاّ إن تأثيره على التفسير المسيحي للعهد القديم ما يزال مهماً جداً. هذا التفسير
التاريخي كان غالباً في خطر فقدان المعنى الكوني للوحي الإلهي عن طريق التشديد
المفرط على الأوجه المحلية والقومية في العهد القديم. وأكثر من ذلك، في خطر فقدان
المنظار الإلهي والتعاطي مع تاريخ العهد القديم وكأنه تاريخ شعب واحد بين أمم
الأرض وليس تاريخ ميثاق الله الحقيقي الوحيد.

 

لقد دمج القديس يوحنا الذهبي الفم أفضل العناصر من المدرستين في
مسعاه التفسيري. لقد كان عالماً أنطاكيّاً لكنه كان في كثير من الأوجه من أتباع
أوريجنس أيضاً. قد تكون الرمزية مضللة ولكن على المرء ألاّ يهمل المعنى النموذجي
للأحداث. مؤسسات العهد القديم وشخصياته كانوا أيضاً نماذج ورموز للأشياء القادمة.
التاريخ نفسه كان نبوياً. فالأحداث نفسها تتنبأ، وهي تنبأت مشيرة إلى شيء ما
يتخطاها. يصعب وصف الآباء الأوّلين بالأصوليين. لقد كانوا دائماً يسعون وراء
الحقيقة الإلهية ووراء الرسالة الإلهية نفسها التي غالباً ما كانت محتجبة خلف ستار
الحرف. بالكاد استطاع الإيمان بالوحي أن يعيق الميل الأصولي. لا يمكن تحويل
الحقيقة الإلهية إلى حرف حتى ولو كان الكتابات المقدسة. أحد أفضل نماذج التفسير
الآبائي هو الأيام الستة (
Hexameron) للقديس باسيليوس الذي نجح في تقديم الحقيقة الدينية للرواية
الكتابية عن الخلق بتوازن حقيقي واعتدال لا عيب فيه.

 

العهد القديم والعبادة المسيحية

 

انعكس الموقف الآبائي من العهد القديم في تاريخ العبادة المسيحية.
الجذور اليهودية لليتورجيا المسيحية واضحة لكن نظام العبادة المسيحية العمومية كان
مرتبطاً بشدة بممارسة المعبد اليهودي أيضاً. المزامير هي ميراث من اليهود وقد صارت
نموذجاً لكتابة الترانيم في كنيسة القرون الأولى. إلى اليوم، تشكّل المزامير
الهيكل العظمي لكل الخدم المسيحية وقد كانت الأساس لكل الأدب التعبدي في الأيام
القديمة.

 

يتأثّر دارس العبادة العامة في الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية بكثرة
الإشارات والتلميحات والصور التي من العهد القديم، في كل خدم هذه الكنيسة
وترانيمها، ما يؤكَّد وحدة العهدين. الحوافز الكتابية غزيرة والكثير من الترانيم
ليست سوى أشكال مختلفة لنمط تراتيل العهد القديم، من ترنيمة موسى عند اجتياز البحر
الأحمر إلى نشيد زخريا والد يوحنا المعمدان. وقد حُدد في الأعياد الكبيرة عدد من
فصول العهد القديم التي تُقرأ للتشديد على أن الكمال المسيحي ليس سوى تحقيقاً لما
سبق تصويره وأنذِر به أو حتى أعلِن مباشرة منذ القديم. ويُشدد بشكل خاص على هذا
الاستعداد من العهد القديم في خدم الأسبوع العظيم. ترتكز كل العبادة على هذه
القناعة بأنّ الميثاق الحقيقي كان دائماً واحداً، وبأنّه كان هناك دائماً توافق
كامل بين الأنبياء والرسل. وقد تأسّس كل هذا النظام لاحقاً في العصر الآبائي.

 

يُقرأ القانون الكبير للقديس أندراوس الكريتي في صلاة النوم الكبرى
في الصوم الكبير. بين الأمثلة المختلفة عن الكتابة العبادية، هذا القانون هو
الأكثر لفتاً للنظر. إنه حضّ قوي ومناشدة على التوبة مؤلّف بإلهام شعري حقيقي
ومرتكز على الإنجيل. فيه يتم تذكّر كل سلسلة خطأة العهد القديم، التائبين منهم
وغير التائبين. قد يضيع المرء في هذا الدفق المستمر للأسماء والعِبَر. يتذكَر
المسيحي بشكل رائع أن قصة هذا العهد القديم تخصّ المسيحيين. المسيحي مدعو إلى
التفكير مرة وتكراراً في هذه القصة الرائعة عن التوجيه الإلهي والعصيان والسقطات
البشرية. إنّ العهد القديم محفوظ ككنز ثمين. على المسيحي أن يشير أيضاً إلى تأثير
نشيد الأنشاد على نشوء النسك المسيحي. لقد كان تعليق أوريجنس على هذا السفر، برأي
القديس أيرونيموس، أفضل مؤلّفاته إذ فيه تخطّى نفسه. كما أنّ التفسير النسكي
للقديس غريغوريوس النيصّي لنشيد الأنشاد هو منجم غني للوحي المسيحي الأصيل.

 

العهد القديم ككلمة الله

 

أكثر من مرة تمّ اقتراح أن الرسالة المسيحية الأصلية قد هُلّنَت (hellenized) كثيراً مع الآباء اليونان. على المرء أن يكون شديد الحذر نحو هذه
الأقوال. في كل حال، إن الآباء هم مَن حفظ كل كنوز العهد القديم وجعلها إرثاً لا
غنى عنه للكنيسة، في العبادة كما في اللاهوت. الشيء الوحيد الذي لم يفعلوه هو
أنّهم لم يتوقفوا عند القصور اليهودي. فالكتابات المقدسة كانت بالنسبة لهم إعلاناً
أزلياً وكونياً وهي موجّهة الآن إلى الجنس البشري لأنها، ببساطة، وُجِّهت إلى كل
الأمم من الله نفسه حتى عندما كانت كلمة الله منقولة من الأنبياء إلى الشعب
المختار وحده. هذا يعني أنّه غير ممكن قياس عمق الإعلان الإلهي بمقياس بعض الأوقات
الغابرة مهما كانت هذه الأوقات مقدّسة. لا يكفي أن نكون أكيدين من أنّ اليهود
القدامى فهموا الكتاب المقدس وفسّروه بطريقة ما إذ لا يمكن أن يكون هذا التفسير
نهائياً. إنّ الذي أتى فقط ليتمّ الناموس والأنبياء قد سلّط ضوءً جديداً على
الإعلانات. ليست الكتابات المقدسة مجرّد وثائق تاريخية. إنّها بالحقيقة كلمة الله
والرسالة الإلهية لكل الأجيال. ويسوع المسيح هو ألف الكتاب المقدس وياؤه، ذروة
الإنجيل وعقدته. هذه هي رسالة الآباء القائمة إلى كل الكنيسة حول التدبير القديم.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى