علم الخلاص

عقيدة الكفارة والفداء



عقيدة الكفارة والفداء

عقيدة
الكفارة والفداء

 

مشكلة
البشرية

إذا
أردنا أن نلخِّص مشكلة البشرية في كلمة واحدة، فإن هذه الكلمة الواحدة ستكون هي
“الخطية”.

 

والآن
ماذا تعني كلمة “الخطية”؟

كثيرون
يظنون أن الخطية لا تعني سوى الكبائر فقط، أو ما يسميه العالم جرائم، أما ما عدا
ذلك فإن الناس يلتمسون – من جهته – لأنفسهم الأعذار، ويخففون من وقعه على ضمائرهم،
بأن يسمونه “عيباً” أو “ضعفاً” أو “زلة”. بل إن
الإنسان حتى إذا اعترف بحدوث الخطية، فإنه عادة يجد لنفسه أو لغيره المبررات
العديدة لها.

 

لكننا
نجد في الكتاب المقدس فكراً مختلفاً تماماً عن ذلك.

 

إن
كلمة “الخطية” – بحسب مفهوم الكتاب المقدس – كلمة هامة وخطيرة، ويمكننا أن نجد لها
من كلمة الله تعريفين:

1)
عدم إصابة الهدف

2)
تجاوز الحد

 

التعريف
الأول نفهمه من قول الوحي في قضاة20: 16 «هؤلاء يرمون الحجر بالمقلاع على الشعرة
ولا يخطئون». فالخطية بحسب هذه الآية تعني عدم إصابة الهدف. أما المعنى الثاني،
وهو مكمِّل للمعنى الأول، فهو ما نستنتجه من قول شاول الملك لصموئيل النبي «أخطأت
لأني تعديت قول الرب» (1صموئيل15: 24)، فأن يتعدى الإنسان أقوال الله، متجاوزاً
الحد المسموح به من قبل الله، فهذا – في نظر الوحي المقدس – خطية.

 

يمكن
القول إن الخطية بحسب التعريف الأول سلبية: أن تحاول إصابة الهدف فتخطئه، هذه
خطية. وعن هذا يقول الكتاب المقدس «الجميع أخطأوا وأعوزهم (
come short) مجد الله» (رومية3: 23). وأما بحسب التعريف الثاني فإنها
إيجابية: فأن تتعدى وتتجاوز الحد المسموح به، سواء بأسلوب عمدي أو لا إرادي، فأنت
بذلك أخطأت. وعن هذا يقول الوحي المقدس: «الخطية هي التعدي» (1يوحنا3: 4).

 

وواضح،
حتى في الحياة العادية، أنه يخطئ الهدف من لم يُصبه، ولا يُشترط أن تكون عدم إصابة
الهدف بمسافة كبيرة أو صغيرة، ونفس الأمر يقال عن تجاوز الحد المسموح به. فإنك إن
لم تُصب الهدف أو تجاوزت الحد، فأنت قد أخطأت، وهذا يكفي.

 

مما
سبق فإننا نقول إنه لكي نفهم المعنى الكتابي لكلمة “الخطية” يلزمنا أولاً أن نعرف
ما هو الهدف المطلوب منا أن نحققه، وما هي الحدود التي لا يجب أن نتجاوزها. ومن
أين يمكننا معرفة هذا الأمر أو ذاك بدون الإعلان الإلهي؟ ولعل هذا هو سبب محاولة
الشيطان إبعاد النفوس عن الكتاب المقدس، فبذلك يكون بوسعه أن يخدعهم كما يحلو له،
كقول الرب له المجد لبعض اليهود في أيامه «أ ليس لهذا تضلون، إذ لا تعرفون الكتب؟»
(مرقس12: 24).

 

ترى
ما هو الهدف الذي كان مطلوباً منا أن نصيبه فأخطأناه؟ إنه مجد الله. فالله خلق
الإنسان لمجده (إشعياء43: 7)، وكان ينبغي لنا إذ عرفنا الله أن نمجده (رومية1:
21)، بل بحسب إعلان الله لنا في العهد الجديد ينبغي أن يكون مجد الله هو المحرك
لنا في كل أعمالنا، حتى الاعتيادية أو الضرورية «فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو
تفعلون شيئاً، فافعلوا الكل لمجد الله» (1كورنثوس10: 31). لكن هذا بالطبع لم يحدث،
إذ يسجل الوحي بصريح العبارة قائلاً:

 

«الجميع
أخطأوا وأعوزهم مجد الله» (رومية3: 23).

 

نعم
«الجميع أخطأوا». تفكر في عمومية الخطية عند كل البشر. إنه لم ينجُ من لطخة الخطية
شعب أو جنس أو حضارة. الفارق الوحيد بين قوم وقوم هو في مدى القدرة على المغالطة
التي بها نُظهر حقيقة حالتنا. من أيام آدم وحتى اليوم جاء إلى العالم أكثر من 40
بليون من البشر. كم واحد منهم لم يخطيء؟ الإجابة القاطعة، من كتاب التاريخ وكتاب
الوحي على السواء، هي أن الجميع أخطأوا.

 

كم
من تصرفات، انحط فيها الإنسان إلى مستوى أقل من الحيوان! «في طرقهم اغتصاب وسحق،
وطريق السلام لم يعرفوه، ليس خوف الله قدام عيونهم» (رومية3: 16-18). لقد قدّر
البعض أن من هؤلاء الأربعين بليوناً من البشر الذي ولدوا في العالم، مات نحو ثلثهم
مقتولين بأيدي بشر آخرين! والكثير منهم مات ميتات بشعة. ما أكثر من رُجم، أو أُحرق
أو دُفن حياً، أو سُحل، أو مُثِّل بجثته! ثم ما أكثر الذين استيقظت ضمائرهم فلم
يحتملوا ما عملوه هم بإخوتهم، فقتلوا أنفسهم منتحرين!

 

والآن
انظر إلى بصمة الخطية الواضحة على البشر، فإنك تجدها في كل ما حولك: ستجدها بصورة
مأساوية ومخيفة في أحياء المدن الفقيرة والمكتظة، وستجدها أيضاً بصورة محزنة
ومؤسفة في الأحياء الراقية.

 

قم
بزيارة إلى السجون والتقِ بمن فيها. استمع إلى ما عملوه في المجتمع وما عمله
المجتمع فيهم! ألقِ نظرة خاطفة على الحانات والمراقص ودور الفجور ونوادي القمار،
ثم على بيوت مرتادي هذه الأماكن، ومن فيها من نسوة بائسات، وأولاد تعساء، وأزواج
أو آباء محطمين. هذه بعض نتائج الخطية المرة. بل إنك لن تحتاج إلى رحلة بعيدة كي
ما تتبع آثار الخطية، فإنك ستجدها – إن كنت مخلصاً مع نفسك – داخل قلبك أنت، وقلب
البشر المحيطين بك.

 

قال
أحد الحكماء لكي يوضح استفحال الخطية في العالم: “إن السلطة التشريعية نَمَت لأن
البشر لا يمكن أن يوثق فيهم لتسوية خلافاتهم بأمانة ونزاهة وحيدة. والكثير جداً
مما نعايشه، ما كان ليحدث لولا تأصل الخطية في الطبيعة البشرية. فالوعد لم يعُد
كافياً، بل أصبح العقد لازماً، والأبواب ما عادت كافيه بل أصبح يلزم لها ترابيس
وأقفال، ودفع ثمن الرحلة ما عاد كافياً، بل أصبح يلزم قطع تذكرة، ومفتش لفحص
التذاكر، وشخص آخر ليجمعها في نهاية الرحلة. القوانين والتعليمات لم تعد كافيه، بل
يلزم وجود الشرطة لفرض القانون والنظام. هذه وأشياء أخرى كثيرة ما كان لها أي لزوم
لولا الخطية. فنحن لا نقدر أن نثق في بعضنا البعض، بل نحتاج إلى حماية الواحد من
صاحبه”.

 

ثم
تفكر في أمر آخر وخطير، يصور لنا بصمة الخطية: أعني به الموت، عدو البشرية الأول،
الموت الذي سرى على الجميع بدون استثناء. أ يمكنك أن تتتبع نهر الدموع التي سالت
من العيون، وأن تحيط علماً بالنفوس التي تلوعت، والقلوب التي تحطمت علي مَر العصور
بسبب الموت؟ أ يمكنك أن ترى ما نتج عن الحروب من ملايين القتلي والمشوهين، والأسرى
والمجروحين، وكذا قدر الدمار والخراب لكل ما كان يوماً ينبض بالحياة؟ أ يمكنك أن
تشاهد المرضى في كل زمان ومكان، والموت وهو يتسرب إلي أجسادهم ببطء لكن بثبات،
والأحباء على مقربة منهم، لكنهم في موقف العجز الكامل عن مساعدتهم. أ يمكنك تستمع
إلى أنين المطروحين وتأوهاتهم وصرخاتهم؟ إن هذه كلها هي بعض ثمرات الخطية المُرة!

 

آه
من الخطية وذكرياتها المرعبة! كم أذلت! كم أضلت! كم حطمت! كم بددت! كم كسرت من
قلوب، وأثارت من شجون!

 

لكن
أنت – بعد كل هذا – لم تعرف من الخطية إلا مظاهرها الخارجية. لقد شاهدت بعضاً من
أعراض المرض لا المرض ذاته، فالداء غائر في القلب، والضربة أعمق من الجلد!

 

لكنك
حتى لو دخلت إلى القلوب لترى ما فعلته الخطية في بني البشر، فليس هذا هو الجزء
الأهم في المسألة. فالخطية هي في المقام الأول ضد الله، وهي إهانة لمجده تعالى،
كما قال داود النبي للرب «إليك وحدك أخطأت، والشر قدام عينيك صنعت» (مزمور51: 4).

 

هذا
يقودنا إلى نقطة ثانية هامة قبل أن نفهم الفكر المسيحي للكفارة

قداسة
الله و غضبه

إن
قداسة الله هي قداسة مطلقة ليس فيها ذرة واحدة من النجاسة. يقول الوحي: «هذا هو
الخبر الذي سمعناه منه، ونخبركم به: أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة» (1يوحنا1:
5). ويقول النبي حبقوق في العهد القديم: «أ لست أنت منذ الأزل يا رب إلهي قدوسي..
عيناك أطهر من أن تنظرا الشر، ولا تستطيع النظر إلى الجور؟» (حبقوق1: 12،13).
ويعوزنا الوقت والإدراك حقاً لنفهم شيئاً عن تلك القداسة التي ليس لها نظير على الإطلاق.
فيقول له موسى في الترنيمة الأولى المسجلة في الكتاب «من مثلك… يا رب؟ من مثلك
معتزّاً في القداسة، مخوفاً بالتسابيح، صانعاً عجائب» (خروج15: 11)، ويقول الرب
نفسه في العهد القديم: «فبمن تشبهونني فأساوية يقول القدوس» (إشعياء40: 25). ويقول
الرائي في سفر الرؤيا: «من لا يخافك يا رب ويمجد اسمك، لأنك وحدك قدوس؟» (رؤيا15:
4).

 

عندما
ظهر الرب لموسى بلهيب نار من وسط عليقة، ومال موسى لينظر هذا المنظر العظيم، لماذا
لا تحترق العليقة، فإن الرب ناداه من وسط العليقة قائلاً: «موسى موسى.. لا تقترب
إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك، لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة» (خروج3:
2-5). حقاً إنه كما أعلن الوحي المقدس عن الله: «إن إلهنا نار آكلة» (عبرانيين12:
29). وعليه فإن أولئك الواهمين، الذين نظراً لشر قلوبهم، يقللون من مستوى قداسة
الله ليتناسب مع مستوى أخلاقياتهم وطبائعهم، سيكتشفون، بعد فوات الأوان، أن إبليس
– ذاك القتّال للناس من البدء – قد خدعهم. وعندها ستنطبق عليهم كلمات الوحي
«اسمعوا أيها البعيدون ما صنعت، واعرفوا أيها القريبون بطشي. ارتعب في صهيون
الخطاة، أخذت الرعدة المنافقين. من منا يسكن في نار آكلة؟ من منا يسكن في وقائد
أبدية؟!» (إشعياء33: 13،14).

 

الله
الذي نتعبد له، والذي أمامه سيقف جميع البشر ليعطوا حساباً له، هو إله كلي
القداسة، ودائماً قدوس. وأما نحن فبالسقوط وقعنا في كل ما يمكن للإنسان أن يقع
فيه. وبلغة أحد الحكماء: “لقد وُلدنا في عالم ملوث،ولقد عايشنا القذارة من مهدنا،
ورضعناها مع لبن أمهاتنا، وتنفسناها مع كل شهيق هواء، ونمَت فينا مع السنين،
وتعمقت في اختبارنا مع مرور الأيام، فكل شيء حولنا ملوث، وأكثر الأشياء بياضاً في
عالمنا هذا، هو في حقيقته رمادي قاتم”.

 

مشكلة
الإنسان الخاطئ أنه يفكر في الله بمفهومه المنحرف. يقول الله للشرير في مزمور50
«ظننت أني مثلك» (انظر مزمور50: 16-21). ولهذا فبينما يخفف الإنسان من شناعة
خطيته، نظراً لجهله بقداسة الله، فإننا نجد الوحي المقدس يتكلم عن الخطية بمفهوم
مختلف تماماً عن مفهوم البشر لها، فيقول مثلاً «من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل
فذلك خطية له» (يعقوب4: 17). كما يقول أيضاً «فكر الحماقة خطية» (أمثال24: 9).
ويقول إن «كل كلمة بطالة (أي عاطلة ولا لزوم لها) سوف يعطي الناس عنها حساباً يوم
الدين» (متى12: 36).

 

إنك
إن لم تنظر إلى الخطية بهذه النظرة، فلن يمكنك فهم الكفارة. فالطبيب ما لم يقدر أن
يشخِّص الداء، فإنه لن يقدر أن يصف الدواء. وينبغي قبل أن نبحث عن الحل الصحيح
للمشكلة أن نعرف أولاً حقيقة المشكلة.

 

يخبرنا
الكتاب المقدس أنه بسبب خطية واحدة طُرد أبوانا الأولان من الجنة وحلت بالأرض كل
هذه المصائب (تكوين3). كما يخبرنا أنه بسبب خطية واحدة لحام أبي كنعان حلت اللعنة
على الملايين الغفيرة من نسله (تكوين9: 20-25). ويخبرنا أيضاً أنه بسبب خطية واحدة
لخادم أليشع ضُرب بالبرص هو ونسله إلى الأبد (2ملوك5: 27)!

 

لكن
هناك شيئاً آخر بالغ الخطر يجب أن نعرفه في الله، وهو غضبه المقدس بسبب الخطية.
يقول الرسول بولس «لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم»
(رومية1: 18). وعندما ذكر قائمة من شرور البشر في أفسس5: 6، وفي كولوسي3: 6، أردف
الرسول قائلاً «إنه بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على أبناء المعصية». لقد تجلى
غضب الله في الماضي على العالم القديم في أيام نوح، عندما فاض عليه الماء فهلك
(تكوين6-8)، ولقد تجلى ذلك الغضب مرة ثانية عندما «رمّد مدينتي سدوم وعمورة والمدن
التي حولهما» وجعلها «عبرة، مكابدة عقاب نار أبدية» (تكوين19؛ يهوذا7). ويقول
المرنم في المزمور: «الله قاض عادل، وإله يسخط في كل يوم» (مزمور7: 11). وهو طبعاً
يسخط بسبب الشرور التي تُرتكب يومياً من بني البشر. بل وفي الإنجيل يذكر لنا هذا
الغضب في قول البشير يوحنا: «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن
بالابن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله» (يوحنا3: 36).

الخطية
الاولى

لنعد
إلى القصة من بدايتها وندرس بشيء من التفصيل الخطية الأولى، خطية أبوينا الأولين
في الجنة.

 

في
سفر التكوين والأصحاح الثاني نقرأ كيف خلق الله الإنسان، وكيف وضعه في جنة وحوله
كل مظاهر الجمال وأسباب السعادة. تفكر في روعة جنة من غرس الرب الإله نفسه! تفكر
في نسمات الصباح المنعشة في تلك الجنة، وفي هدوء المساء الجليل فيها! لكن ليس هذا
فقط، بل لقد اختص الله آدم أيضاً، دون باقي المخلوقات، بنسمة الحياة، التي بها
أصبح الإنسان في توافق مع خالقه وفي شركة معه. ما أسعد آدم وهو يسير إلى جوار الرب
الإله في الجنة وإلى جواره المرأة التي صنعها الرب ليكمل بها سعادة آدم. وبالإضافة
إلى كل ذلك، فقد أعطاه الله السلطان والسيادة على كل الخليقة. ولقد تجلى سلطانه
هذا على كل المخلوقات عندما أحضر الله إليه كل الحيوانات وكل الطيور ليدعوها
بأسمائها.

 

لكن
الله أعطاه أيضاً وصية واحدة، محظوراً واحداً، امتحاناً له، ليثبت بها تقديره
لفضله عليه واعترافه بنعمته. فما الذي حدث؟

 

لقد
جاء الشيطان مستخدماً الحية (تكوين3)، وهمس في أذن حواء بكلام سام مضمونه: أولاً:
إن الله كاذب. أ لم يقل لكما إنكما إذا أكلتما من الشجرة ستموتا؟ الحقيقة أنكما
«لن تموتا». ثم إنه ليس عادلاً، وإلا فلماذا يسلبكما حرية التصرف ويمنعكما من
التسلط على هذه الشجرة مع أنكما رأسا الخليقة؟! ثم هو أيضاً لا يحبكما. لو كان
يحبكما حقاً، أ كان يحرمكما من التمتع بشيء؟ «بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه (أي
من ثمر هذه الشجرة) تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر» والله لا
يريدكما نظيره، بل أن تظلا أقل منه!

 

هذه
هي كلمات الحية للمرأة. وبكل أسف صدّقت المرأة هذا كله، وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً
فأكل. وعندما أكل الإنسان كان معنى ذلك أنه قال: “آمين” على كل هذه الافتراءات
والأكاذيب الشيطانية. وكانت هذه إهانة بالغة لله أمام كل الخليقة. ويا للكارثة!

 

كان
بوسع الله من أول لحظة أن يثبت أنه صادق. فما كان أسهل أن يوقع حكم الموت على آدم
وامرأته في الحال، فيتبرهن أمام الجميع أنه صادق. وإذ ذاك كانت الخليقة كلها ستعرف
أيضاً أنه عادل وبار، لأن التعدي والمعصية نالا مجازاة عادلة. لكن السؤال الذي كان
سيظل إلى أبد الآبدين بدون إجابة: هل الله محبة؟

 

لذا
فقد سلك الرب مسلكاً آخر، وأجَّل الرد على افتراءات الشيطان نحو أربعة آلاف سنة،
عندما أُظهر ابن الله لكي ينقض أعمال إبليس (1يوحنا3: 8).

 

لكن
بالنسبة لآدم وحواء، فإننا نقرأ قول الوحي: «فانفتحت أعينهما وعلما أنهما
عريانان». ولقد كانت أولى محاولاتهما بعد أن سقطا في الخطية كما يقول الكتاب أنهما
«خاطا أوراق تين، وصنعا لأنفسهما مآزر» لتغطية عريهما. بكلمات أخرى إنهما حاولا
إصلاح ما أفسداه، وعلاج ما اقترفته أيديهما، لكن هيهات!

 

صحيح
ربما يكونان قد نجحا إلى حد ما في مداراة نتائج الخطية، أحدهما عن الآخر، لكن
علاجهما لم يُجدِ نفعاً أمام الله. فإنهما ما أن سمعا صوت الرب ماشياً في الجنة،
حتى اختبئا خلف أشجارها. ولما نادى الرب آدم قائلاً له «أين أنت؟» كانت إجابته
الأسيفة «سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت».

 

أين
إذاً مآزر ورق التين التي كان قد عملها آدم وحواء؟

 

إن
أوراق التين وأشجار الجنة دلّت على شعور أبوينا بالخزي، وحاجتهما للستر، لكنها
أثبتت فشل محاولة علاج الخطية وسترها من أمام نظر الله.

 

على
أن محاولة أبوينا في الجنة إنما كانت مقدمة لمحاولات عديدة للإنسان لعلاج الخطية
وتغطيتها، كما سنرى فيما يلي، لكنها كلها محاولات باءت بالفشل والخسران!

العلاج
الالهى و العلاج البشرى

لما
لم تنجح محاولات آدم أن يستر نفسه، فقد تداخل الله بنفسه لعلاج الأمر. فواضح من
قصة سفر التكوين أن ما فشل فيه آدم، عالجه الله بنفسه. فالله هو الذي قام بستر آدم
وحواء، إذ لا تُختم قصة السقوط قبل أن نقرأ: «صنع الرب الإله لآدم وامرأته أقمصة
من جلد وألبسهما».

 

أرجو
أن تلاحظ – عزيزي القارئ – أن الكتاب لم يقل إن الله خلق لآدم وامرأته أقمصة
الجلد، مع أن ذلك كان في مقدوره طبعاً لو أراد، بل إن الوحي يقول إن الله صنع
أقمصة الجلد. فكيف صنعها الله؟ ومن أين أتى الله بالجلد؟

 

يقيناً
كان هناك حيوان ذُبح وسُلخ جلده. ولقد ذُبح ذلك الحيوان البريء الذي لم يفعل
الخطية، بينما عفا الله عن آدم وحواء، لقد تعرى ذلك الحيوان من جلده، بينما كسا
الله الرجل وامرأته بجلد هذه الذبيحة. ثم تقدم الرب بنفسه من الإنسان الخاطئ
العاري لكي يستره بنفسه، ولكي يكسوه بجلد الذبيحة. فيا للنعمة التي تشع من هذه
العبارة العجيبة «صنع الرب.. أقمصة… وألبسهما»!!

 

هذه
هي أولى الإرهاصات في الكتاب المقدس عن الكفارة: الله ستر آدم وامرأته. والكفارة
كما نعلم تعني الستر. يُقال “كفر الشيء” أي ستره وغطاه. ولم تكن تلك الذبيحة، التي
قدمها الله في الجنة لعلاج خطية آدم وستر عريه، إلا رمزاً بسيطاً لعلاج الله
العظيم للخطية، وفدائه الذي كان عتيداً أن يجريه لكل البشرية بذبح عظيم، كما سنشرح
بعد قليل.

 

والآن
قبل الاسترسال في موضوعنا، دعنا نلخص الدروس التي تعلمناها من خطية الإنسان الأول
حسبما ورد في تكوين 3:

 

أولاً:
حاجة الإنسان إلى الستر.

ثانياً:
عدم استطاعة الإنسان أن يستر نفسه.

ثالثاً:
قيام الرب بنفسه بستر الإنسان.

 

وكما
عبّر الله عن نعمته مع أبوينا بسترهما بهذا العمل: سترهما بجلد الذبيحة، فإن قضاء
الله أيضاً عبَّر عن نفسه، فطرد الله الإنسان من الجنة. ثم على باب الجنة وضع الله
الكروبيم وسيف لهيب نار متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة. وكان على من يريد الاقتراب
إلى الله أن يذهب إلى هذا المكان بذبيحة يقدمها عن نفسه، كما نفهم من الفصل
التالي، أعني به الأصحاح الرابع من سفر التكوين، حيث نقرأ عن قصة أول ابنين وُلدا
في العالم هما: قايين وهابيل.

 

يقدم
لنا سفر التكوين الأصحاح الرابع أول شيء يحدث خارج الجنة، بعد سقوط الإنسان وطرده
منها. وفيه نجد أول الإعلانات الإلهية للإنسان الساقط، عن أهم موضوعات الكتاب
المقدس، ألا وهو: كيفية اقتراب الإنسان الخاطئ إلى الله. فهذا الفصل إذاً لا يقدم
لنا فقط أول حادثة تاريخياً، بل أيضاً أولاها موضوعياً. ولأن هذا العمل تم بواسطة
أخوين، كليهما وُلدا من نفس الأب ونفس الأم، ولأنهما يمثلان أول من اقترب إلى الله
في التاريخ، وتقدماتهما تمثل أولى التقدمات التي قُدِّمت إلى الله، ولأن الله قبل
قربان أحد الأخوين ورفض قربان الآخر، ورفع وجه أحد الأخوين ولم يرفع وجه الآخر،
لهذا كله أصبحت لهذا الأصحاح أهمية كبرى عند كل شخص يريد أن يعرف كيفية الاقتراب
إلى الله.

 

ومن
المهم أن نلاحظ أن قايين لم يكن ملحداً أو كافراً لا يؤمن بوجود الله ولا يبالي
بالاقتراب إليه، بل إنه، بحسب الكتاب المقدس، كان أول من اقترب إلى الله خارج
الجنة. مشكلة قايين أنه رغم إيمانه بوجود الله فإنه لم يعرف الله ولا عرف طبيعته،
لذلك فبينما اقترب هابيل إلى الله بالذبيحة، فقد اقترب قايين إلى الله بقربان من
أثمار الأرض.

 

يقول
لنا كاتب العبرانيين إن هابيل بالإيمان قدّم لله ذبيحة أفضل من قايين (عبرانيين11:
4). وعندما يقول إن هابيل قدّم ذبيحته بالإيمان، فهذا يدل على أنه كان هناك إعلان
من الله، تلقَّاه هابيل، عن الطريق المقبول عند الله. أما قايين فعلى العكس من ذلك
اتبع طريق التفكير لا طريق الإعلان، الطريق البشري لا الطريق الإلهي. وواضح أنه
كما علت السماء عن الأرض هكذا علت طرق الرب عن طرقنا، وأفكار الرب عن أفكارنا
(إشعياء55: 8،9). وقايين، بقربانه الذي قدّمه للرب، كأنه قال: ها أنا عملت أفضل ما
بوسعي. ومع أن الثمار التي أتيت بها هي نتاج أرض ملعونة، لكن اللعنة لم آت أنا
بها، بل جلبها الله عقاباً على خطية أبي، أما أنا فبعرقي قدّمت إلى الله أفضل ما
لديَّ، وفي هذا كل الكفاية.

 

فماذا
كانت النتيجة؟ لقد نظر الله إلى هابيل وقربانه، وأما إلى قايين وقربانه فلم ينظر.
لقد تجاهل قايين اللعنة والسقوط، كما احتقر النعمة التي أظهرها الله عندما وعد
بالخلاص، ورمز له، ورسم الطريق لإعادة العلاقة بينه وبين الإنسان الخاطئ. لقد
اقترب قايين إلى الله على مبدأ الأعمال، بعكس هابيل الذي أقر بخطيته وبحاجته إلى
الكفارة، فأتى محتمياً في الذبيحة، فقبله الله بينما رفض قايين، كما نصحه أن
يُحْسن الطريق (أي أن يقترب إليه بالذبيحة) كي ما يقبله.

 

وكما
ذكرنا قبلاً عن محاولة آدم وحواء تغطية عريهما بأوراق التين في تكوين3، ثم محاولة
قايين هنا الاقتراب إلى الله بأثمار الأرض في تكوين4، كانتا هما أولى محاولات
البشر لعلاج الخطية بالأعمال. وكل ممارسات الإنسان الدينية فيما بعد من طقوس
متنوعة وفرائض مختلفة، وكل محاولات إرضاء الله بالأعمال، إنما هي إعادة المحاولة
لستر العورة بورق التين، والاقتراب إلى الله بأثمار الأرض الملعونة، فمن الجانب
الواحد لن تنفع صاحبها، ومن الجانب الآخر لن ترضي الله. وبالتالي فلا قيمة لها ولا
جدوى منها على الإطلاق

التكفير
عن الخطايا بالاعمال

مما
سبق، فهمنا أن الله لا يقبل طريق قايين مطلقاً، أعني طريق الاقتراب إلى الله
بالأعمال. وهذا يقودنا للسؤال التالي: ترى لماذا لا تصلح أعمالنا (الصالحة)
للتكفير عن ذنوبنا؟

 

الواقع
أن هناك أربعة أسباب رئيسية لذلك:

1-
إن الأعمال الصالحة التي نقوم بها، مهما عظمت، قيمتها محدودة لأنها صادرة من
الإنسان المحدود. بينما حق الله، الذي أُسيء إليه بسبب الخطية، لا حد له.

 

لتوضيح
ذلك: هب أن موظفاً صغيراً في وزارة اعتدى على زميل له، فإنه ما لم يبادر بالاعتذار
لزميله، فسينال الجزاء حتماً. أما إذا اعتدى نفس هذا الموظف الصغير على الوزير فإن
الأمر لن ينتهي بالاعتذار، ولا بتوقيع جزاء عادي، بل ستزداد درجة وشكل العقوبة لأن
المُعتَدَى عليه أكبر.

 

والآن
ماذا لو حاول هذا الموظف البسيط علاج المشكلة بطريقته، فقدم في اليوم التالي هدية
– في حدود إمكانياته الضعيفة – للوزير لينهي المشكلة؟ إنه بهذا التصرف يكون قد
عقَّد مشكلته أكثر.

 

لكن
تذكر أيها القارئ العزيز أن الخطية ليست موجهة ضد شخص عظيم، بل إنها موجهة ضد الله
نفسه. ولأن الخطية ضد الله غير المحدود، فإن عقوبتها غير محدودة. فهل نرتكب غلطة
ذلك الموظف الساذج؟ هل نقدِّم بعض أعمالنا (التي نظن أنها صالحة)، تلك الأعمال
المحدودة والقاصرة جداً لاسترضاء الله على خطايانا ذات الأثر غير المحدود؟ أ يمكن
للمحدود أن يغطي غير المحدود؟

 

2-
إن هذه الأعمال الصالحة (إذا كان بوسعنا حقاً أن نعملها) ليست تفضلاً منا على
الله، بحيث نستحق الجزاء عليها. بل هي واجب علينا، والتقصير فيه يستوجب العقاب.
فمن الكتاب المقدس نعرف أن الله سيدين البشر، ليس فقط على الرديء الذي فعلوه، بل
أيضاً على الصالح الذي لم يفعلوه. فيقول مثلاً «من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل
فذلك خطية له» (يعقوب4: 17، انظر أيضاً متى25: 41-43). فإذا كان العمل الصالح أمر
مفروض على الإنسان أن يعمله، فإنه لا يكون لهذا الإنسان أي فضل إذا هو عمله
(لوقا17: 9)، وبالتالي لا يمكن أن يكون وسيلة للتكفير عن الشر الذي عمله.

 

3-
يقول الكتاب: «لأن أجرة الخطية هي موت» (رومية6: 23)، وليست أعمالاً صالحة. فكيف
نستبدل عقوبة الموت ببعض الأعمال الصالحة؟! أ يصلح مثلاً أن يتعهد القاتل أمام
المحكمة بأنه تاب ولن يعود إلى القتل مرة أخرى، وأنه يتعهد أمام المحكمة ببناء
ملجأ للأيتام، مقابل أن تسامحه المحكمة؟ بكل يقين هذا غير جائز ولا مقبول. هكذا
أيضاً لا تصلح الأعمال أن تكون مقابل أجرة الخطية وهي الموت. وفي هذا يقول الوحي:
«الأخ لن يفدي الإنسان فداء، ولا يعطي الله كفارة عنه، وكريمة (أي ثمينة وغالية)
هي فدية نفوسهم، فغلقت إلى الدهر» (مزمور49: 7،8).

 

4-
لأن الأعمال التي نقول نحن عنها إنها صالحة، ليست هي كذلك في نظر الله، بل إنها
ملطخة بنقائص وعيوب الطبيعة البشرية الساقطة، كقول إشعياء النبي: «صرنا كلنا كنجس
وكثوبِ عِدةٍ (أي خرق نجسه) كل أعمال برنا» (إشعياء64: 6). هذه هي أعمال برنا في
ضوء قداسة الله: خرق نجسة. أ تصلح تلك الخرق القذرة أن يَمْثُل فيها الإنسان أمام
الله القدوس؟!

 

وبالأسف
الشديد يوجد اليوم الملايين، في كل العالم، الذين يتبعون قايين في طريقه، أعني
محاولة إرضاء الله ودرء غضبه، ببعض الأعمال التي يتوهمون أنها أعمال صالحة، والتي
يظنون أنها كافية للتكفير عن خطاياهم، وعنهم تقول كلمة الله «ويل لهم لأنهم سلكوا
طريق قايين» (يهوذا 11).

 

لا
مفر إذاً من الطريق الذي رسمه الله، فالأعمال لا تصلح للتكفير، فهذه طريق قايين
المرفوض. والعلاج – أو بتعبير أدق: الكفارة – بالذبيحة.

 

لكن
أي ذبيحة؟ هل تصلح الذبيحة الحيوانية أن تفدي أيّ إنسان؟ الإجابة المؤكدة من كلمة
الله هي أن هذا محال، «لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا» (عبرانيين10:
4). وإذا كانت الأعمال الصالحة لا تصلح للتكفير عن الإنسان، فلا يمكن أن تصلح تلك
الذبائح الحيوانية للكفارة، فهي من زاوية معينة تعتبر نوعاً من الأعمال التي يمكن
للإنسان أن يقوم بها (انظر مزمور50: 7-15؛ 51: 16،17).

 

لكن
هذا يقودنا إلى السؤال التالي الذي قد يطرأ على فكر البعض:

 

إذا
كانت الذبائح الحيوانية لا يمكن أن تفدي البشر، فلماذا رسمها الله في العهد
القديم؟ ولماذا كان يقبلها ويرفع وجه مقدميها؟

الناموس
و ظل الخيرات العديدة

لم
يستطع الناموس – ولا كان القصد منه – أن يبين لنا من هو الله، بل كان القصد منه
تعريفنا بمن هو الإنسان، أو بكلمات أكثر تحديداً، كان القصد منه تعريفنا بالخطية
التي في الإنسان (رومية3: 20)، فنلجأ إلى المخلص الوحيد الذي كان عتيداً أن يظهر
في ملء الزمان. لكن بعد أن كشف لنا الناموس شرنا وخطيتنا، فقد أتى المسيح ليعلن
لنا الله ويقدم لنا خلاصه العجيب. وفي هذا يقول الرسول بولس لمؤمني غلاطية «قبلما
جاء الإيمان (والمقصود هنا الإيمان المسيحي)، كنا محروسين تحت الناموس (ناموس
موسى)، مغلقاً علينا إلى الإيمان العتيد أن يعلن (المسيحية)، إذاً قد كان الناموس
مؤدبنا إلى المسيح لكي نتبرر بالإيمان» (غلاطية3: 23،24).

 

في
كل فترة عهد الناموس، ما الذي كان يفعله اليهودي التقي بمجرد أن تحدث منه خطية؟
لقد كان يأتي بذبيحة إلى خيمة الاجتماع، حيث مقادس الله، ثم يضع يده على رأس
الذبيحة التي أحضرها، وكأنه بهذا العمل يُتحد نفسه بتلك الذبيحة، فتنتقل الخطية من
على الشخص المخطئ إلى الذبيحة. من ثم كانت الذبيحة تُذبح فوراً أمام عينيه
(لاويين4: 4،24،29،33).

 

وكما
ذكرنا، كان الله – طوال العهد القديم – يعلِّم شعبه مبادئ ودروساً أولية، إذ كان
يتعامل مع شعبه كما لو كانوا أطفالاً لا زالوا يتعلمون الأبجدية الإلهية. وبهذا
الرمز (تقديم الذبيحة وذبحها عوضاً عن المذنب)، كان الله يعلِّم شعبه أربعة مبادئ
أولية هامة: –

 

أولاً:
كان الله، بهذا الأمر، يستحضر الخطية إلى ذهن وضمير شعبه، ليدركوا كراهية الرب
لها. فكانوا بذلك يتعلمون شيئاً عن قداسة الله.

 

ثانياً:
كان الله يعلِّم شعبه أن قضاء الله على الخطية هو الموت، وليس أقل من ذلك. فكانوا
بذلك يتعلمون شيئاً عن بِّر الله.

 

ثالثاً:
كان الله يعرِّفهم أن عنده طريقة بالرحمة لرفع الخطية، وأنه سيمكن العفو عن
المذنب، بهذه الطريقة الوحيدة. فكانوا بذلك يتعلمون شيئاً عن رحمة الله.

 

رابعاً:
كان الله يعطي شعبه بعض الإدراك لجوانب هذا العمل العظيم: الكفارة، وعن عظمة
وكمالات الشخص المجيد صانع الكفارة. حيث لم تكن هذه الذبائح المتنوعة، في كل
تفاصيلها الدقيقة، إلا رمزاً لذبيحة المسيح الواحدة والكاملة. وبذلك يمكنهم أن
يعرفوا شيئاً عن حكمة الله.

 

لكن
ليس هذا هو كل ما في الناموس ولا هو أهم ما فيه بخصوص الكفارة. فسفر اللاويين، وهو
السفر الذي يرد الحديث فيه عن الكفارة أكثر مما يرد في أي مكان آخر في الكتاب
المقدس، إذا تُذكر الكلمة فيه 49 مرة (7×7)، يرد في قلبه (أصحاح16) حديث مطوّل عن
يوم الكفارة العظيم. ولقد كان هذا اليوم هو أهم أيام السنة العبرية، إذ كان رئيس
الكهنة يدخل فيه إلى قدس الأقداس ليكفِّر عن خطايا كل الشعب، بينما يكونون هم
متذللين وممتنعين عن كل صور العمل. وبدخول رئيس الكهنة، كل سنة، إلى قدس الأقداس،
بدم الثيران والتيوس، كان يجد للشعب فداءً لمدة عام كامل.

 

صحيح
لم يكن لهذه الذبائح أية قيمة تكفيرية في ذاتها. لأنه إذا كانت الأعمال الصالحة –
كما أشرنا سابقاً – لا تصلح للتكفير عن الإنسان، لأنها مهما عظمت فهي محدودة،
فهكذا أيضاً كانت الذبائح الحيوانية. إذ كيف يمكن للبهائم التي تُباد، والتي ليس
لها أرواح خالدة، أن تفدي الإنسان الخالد من الموت الأبدي؟ لهذا ترد كلمات الرسول
بولس القاطعة في عبرانيين10: 4 «لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا».

 

لكن
إذا لم يكن لتلك الذبائح الحيوانية – في ذاتها – أية قيمة تكفيرية عن مقدميها،
فليس معنى ذلك أنه لم يكن لها أية قيمة على الإطلاق. فهي بررت من قدّمها بالإيمان
(عبرانيين11: 4)، وذلك لقيمتها الرمزية، إذ كانت تشير إلى ذبيحة المسيح المعروف
سابقاً قبل تأسيس العالم (1بطرس1: 18). ومن هذه الزاوية فإنها كانت تشبه إلى حد ما
بطاقات الائتمان التي نتعامل بها اليوم. إن القيمة الحقيقية لهذه البطاقات ليس في
قطعة البلاستيك المصنوعة منها، بل لما لها من رصيد نقدي في البنك الذي أصدر تلك
البطاقة. هكذا كانت تلك الذبائح مقبولة عند الله لأن لها رصيداً في دم المسيح،
الذي وإن لم يكن قد مات بعد، لكن الله ليس عنده ماضٍ وحاضر ومستقبل نظير البشر،
فهو يرى ما لم يحدث كأنه حدث، بل يرى النهاية من البداية.

 

هذا
يأتي بنا إلى السؤال الجوهري التالي:

 

بعد
أن عرفنا حاجتنا الماسة للتكفير عنا، وعرفنا عجز الحيوانات عن أن تكفر عن البشر،
فما هي الكفارة إذاً؟

 

شروط
الفادى

إننا
من كل ما قلناه سابقاً يمكننا أن نتلمس الإجابة على هذا السؤال الخطير: من هو
الفادي الذي يصلح ليقوم بفداء الإنسان؟

 

1-
هل تنفع ذبيحة حيوانية؟ إذا كانت الكفارة تعني الستر والغطاء، فلا يصلح أن تكون
الذبيحة أقل في قيمتها من قيمة الإنسان ليمكنها أن تكفِّر عنه، أي تغطيه وتستره.
وعليه فلا تنفع ذبيحة حيوانية (عبرانيين10: 3).

 

2-
هل ينفع إنسان عادي؟ يجب أن يكون الفادي خالياً من الخطية. فلو كان خاطئاً، لاحتاج
هو نفسه لمن يكفِّر عنه وما صَلُح لكي يفدي غيره. ولهذا ففي العهد القديم، عهد
الرموز، كان يلزم أن تكون الذبيحة بلا عيب. وعليه فإن الإنسان العادي، نظراً لأنه
مليء بالعيوب، لا يصلح لكي يكفِّر عن البشر.

 

3-
هل ينفع إنسان بار؟ مع أن كل البشر خطاة، وليس بار ولا واحد (رومية3: 10). لكن هب
أننا وجدنا شخصاً بلا خطية، فهل يصلح ليفدي؟ الواقع إنه نظراً لأن هذا الفادي
مطلوب منه أن يفدي لا إنساناً واحداً بل كثيرين، فإنه حتى لو وجدنا الشخص البار،
فإنه لن يصلح أن يقوم بفداء الكثيرين، إذ يجب أن تكون قيمته أكبر من هؤلاء جميعهم
معاً. وعليه فلا ينفع أن يكون إنساناً على الإطلاق.

 

4-
هل ينفع أن يكون ملاكاً أو مخلوقاً سماوياً عظيماً؟ لنتخلص من المشكلة السابقة، هب
أننا وجدنا مخلوقاً سماوياً عظيماً، قيمته أكبر بكثير من قيمة الناس، فهل يصلح هذا
المخلوق أن يفدي البشر؟ الواقع إن الفادي لو كان مخلوقاً لا تكون نفسه ملكه هو بل
ملك الله خالقها، وبالتالي فلا يحق له أن يقدِّم نفسه لله، إذ أنها هي أساساً ملك
الله. وعليه فإن الملائكة ورؤساء الملائكة لا يصلحون أن يفدوا البشر، لأنهم
مخلوقون من الله.

 

5-
من هو الفادي إذاً؟ إن هذا الشخص – بالإضافة إلى كل ما سبق – ينبغي ويتحتم أن يكون
إنساناً لكي يمكنه أن يُمثِّل الإنسان أمام الله، وبهذا وحده يمكن أن يكون نائباً
عنه، وأن يمثله أمام الله.

 

فيالها
من معضلة!

 

من
أين لنا بمثل هذا الشخص العجيب الذي يجمع كل هذه المواصفات معاً؟! إنسان، خالٍ من
الخطية، غير مخلوق، وقيمته أكبر من كل البشر مجتمعين!!

 

لكن
إن لم يكن عندنا نحن البشر حل لتلك المعضلة، أفلا يوجد عند الله حل؟ وإذا كانت قد
غلقت على البشر إلى الدهر (مزمور49: 8)، فهل استغلقت أيضاً على الله (راجع مزمور68:
20). لما تساءل القديسون الأقدمون: كيف يتبرر الإنسان عند الله، وكيف يزكو مولود
المرأة؟ (أيوب9: 2،3؛ 25: 4)، ولما لم يعرفوا حلاً لهذه الأحجية، تقدم أليهو – وهو
واحد من أصحاب أيوب – بهذا الإعلان العجيب: «إن وُجد عنده (عند الله) مرسل، وسيط،
واحد من ألف ليعلن للإنسان استقامته (أي استقامة الله أو بر الله)، يتراءف عليه
ويقول: أُطلقه عن الهبوط إلى الحفرة. قد وجدتُ فدية» (أيوب33: 23،24)، وكأن أليهو
يريد أن يقول: لو قصد الله أن يرتب للبشر من يفديهم، وأرسله من عنده، عندئذ فقط
يمكن حل الأحجية.

 

فهل
وُجد مثل هذا الشخص عند الله؟ نعم، يقول الرسول: «عالمين أنكم أفتديتم»، ثم يذكر
لنا من هو الفادي: «المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم» (1بطرس1: 19،20).

 

إذاً
فهذه المعضلة، معضلة “من هو الفادي؟” لم يكن حلها عند الناس، بل عند الله. نعم،
فمن عنده أتى المرسل، الوسيط، الذي سبق أن تمناه أيوب عندما صرخ قائلاً «ليس بيننا
مصالح يضع يده على كلينا» (أيوب9: 33)!

 

وإذا
كان هذا المُصالِح، يمكنه أن يضع يده على الله والناس في آن واحد، فهذا معناه أنه
معادل لله ومعادل أيضاً للناس. فمن يا تُرى يكون هذا الشخص؟

 

إنه
شخص فريد ليس له في كل الكون نظير (رؤيا5: 2-5)، إنه الرجل رفيق رب الجنود
(زكريا13: 7). إنه ابن الله الأزلي الذي صار ابن الإنسان!!

 

لو
لم يكن هو الإنسان لما أمكنه أن يكون نائباً عن البشر، يحمل خطاياهم ويحتمل
دينونتها بالنيابة عنهم. ولو لم يكن هو الله، أو كان هو أقل، ولو قيد شعرة من الآب،
لما أمكنه قط أن يوفي الله كل حقوقه.

 

نعم
المسيح هو الفادي، وليس غيره فادياً. لكن هل المسيح بحياته وتعاليمه ومعجزاته
أمكنه أن يفدينا، أم كان يلزم شيء آخر؟ هذا يقودنا إلى نقطة هامة جداً

موت
المسيح

لقد
أتى المسيح من السماء، لا ليُخدَم، «بل ليَخدُم، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين»
(مرقس10: 45). وقَبِلَ المسيح الموت نيابة عنا، أو بكلمات أخرى: قَبِلَ أن يموت
موتاً كفارياً. وفي هذا قال المسيح، من بداية خدمته على الأرض: «ينبغي أن يُرفع
ابن الإنسان» (يوحنا3: 14).

 

إن
كان الله في البداية قد طرد آدم من الجنة نتيجة لخطيته التي أخطأ بها ضد الله، وإن
كان كل نسله قد وُلدوا خارج الجنة في مكان البعد عن الله، فكيف يمكن لله أن يعيد
الإنسان ثانية إلى حماه؟ فإنه لو كان الله مستعداً للتنازل عن حقوقه، ما الذي جعله
من البداية يطرد آدم، إذا كان سيعود فيقبله ويقبل نسله مرة ثانية إليه، دون
الكفارة اللازمة؟

 

لكن
الوحي الإلهي يقدم لنا الإجابة السديدة عندما يقول: «إن المسيح تألم مرة واحدة من
أجل الخطايا، البار من أجل الأثمة، لكي يقربنا إلى الله» (1بطرس3: 18). فبالخطية
تم طرد الإنسان من محضر الله، وبالكفارة تتم إعادته من جديد.

 

وفكرة
الموت النيابي، أو موت كائن بديلاً عن كائن آخر، هي فكرة محفورة في أعماق التاريخ.
ومع أن هذه الكلمة “الموت النيابي” لم ترد بحصر اللفظ على صفحات الوحي المقدس، لكن
المعنى واضح فيه كل الوضوح، ولعل أوضح إشارة إليها هي ما ورد في سفر التكوين 22،
عندما طلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه الذي يحبه، فنحن نعرف كيف أن ابن إبراهيم
لم يمُت، إذ افتداه الله من الموت، وكانت الفدية بذبح عظيم!

 

ليس
أن الكبش في ذاته كان عظيماً، فالعظمة هي صفة من صفات الجلالة دون سواه، بل أعتقد
أن الكبش كان عظيماً في المدلول الرائع الذي له، وعظيماً فيمن كان يشير إليه.
وحقاً ما أعظم هذا الدرس الذي يتخلل كل صفحات الوحي الإلهي! فالكتاب المقدس دائماً
يؤكد أنني إنسان مذنب وخاطئ، واستحق الموت عدلاً، لكن الله كان عنده الحل ليفديني.
وما أعظم السؤال الذي سأله إسحاق في هذا الفصل (تكوين22)، موجِّهاً إياه إلى أبيه:
«أين الخروف؟». وما أعظم إجابة إبراهيم على هذا السؤال: «الله يرى له الخروف».
ولقد ظلت إجابة إبراهيم أبي المؤمنين هذه، محفورة في وجدان الأتقياء عبر عصور
العهد القديم، حتى أتى يوحنا المعمدان وأشار إلى المسيح بالقول: «هوذا حمل الله
الذي يرفع خطية العالم» (يوحنا1: 29).

 

إن
تعبير «حمل الله» الذي نطق به يوحنا، يمكن أن نعتبره الترجمة الإلهية لذلك “الذبح
العظيم” الذي كان يتوقعه إبراهيم. ذلك لأن تعبير «حمل الله» يعني – ضمن ما يعني –
الحمل الذي يناسب الله، كما يعني أيضاً، الحمل الذي جهزه الله وأعده بما يتناسب مع
متطلبات قداسته المطلقة، ومع فيض محبته المتدفقة نحو الإنسان الخاطئ، نحوي أنا
ونحوك أنت أيها القارئ العزيز.

 

عن
هذا الموت الفدائي والنيابي تأتي كلمات الوحي الصريحة والمباشرة عن المسيح، إذ
يقول الرسول بولس في رومية4: 25 «الذي أُسلم من أجل خطايانا، وأُقيم لأجل تبريرنا».
بل حتى في العهد القديم تأتي كلمات إشعياء النبي عن ذلك الحمل المذبوح «وهو مجروح
لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا» (إشعياء53: 5).
لك المجد يا ربنا، فمن جانبنا كانت المعاصي والآثام، ومن جانبك كانت الجروح والسحق
بسببها؛ من جانبنا كانت الخطية، ومن جانبك كان الموت بسببها. ومن خلال السحق
والأحزان، أمكننا أن نعرف شيئاً عن محبة الرحمان، تجاه بني الإنسان.

 

يدعي
بعض الهراطقة أن المسيح من فوق الصليب لم يمت، بل كل ما حدث له هو إغماءة فقط،
سرعان ما أفاق منها بعد وضعه في القبر الرطب. لكننا نعلم تماماً أن إغماءة المسيح
ما كانت لتكفِّر عنا، لأن أجرة الخطية، ليست إغماءة، بل موتاً (رومية6: 23). لقد
كان ينبغي أن يموت المسيح لأجلنا. فإن الإنجيل الذي قبلناه والذي به نخلص هو: «أن
المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب» (1كورنثوس15: 1-3). ويفتكر البعض الآخر أن
أحد تلاميذ المسيح مات مكان المسيح، لكن الكتاب المقدس يقرر بكل وضوح أن المسيح هو
الذي مات نيابة عن التلاميذ، بل ونيابة عن الملايين من المؤمنين به. وليس فقط لم
يمت أحد التلاميذ مكان المسيح، بل إن أحداً منهم لم يكن معه في ساعة الصليب، إذ
تركه الجميع وهربوا (متي26: 56). لقد قال المسيح لبطرس: «حيث أذهب، لا تقدر الآن
أن تتبعني، ولكنك ستتبعني أخيراً» (يوحنا13: 36). وإذا افترضنا جدلاً أن البشر
كانوا عرضة لأن يختلط الأمر عليهم، ولا يميزوا بين المسيح وتلاميذه، فإنه يقيناً
ما كان ممكناً أن يختلط الأمر على الله. اسمع كلمات النبي إشعياء عنه «أما الرب
فسُرّ بأن يسحقه بالحزن، إن جعل نفسه ذبيحة إثم… من أجل أنه سكب للموت نفسه»
(إشعياء53: 10-12).

 

نعم
عزيزي القارئ، لقد مات المسيح، هذه حقيقة تاريخية مؤكدة. لكني أضيف أنه مات من
أجلك، وهذا جوهر الإنجيل: الخبر السار، الذي أقدّمه لك

الدم

لكلمة
“الدم” في الكتاب المقدس – سواء في العهد القديم أو العهد الجديد – مكان بارز.
وتتفق شهادة الكتاب كله، بعهديه القديم والجديد، في أنه لا كفارة بدون الدم. ليس
الدم الجاري في الشرايين، بل الدم مسفوكاً «لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة»
(عبرانيين9: 22).

 

إذا
ذهبنا إلى العهد القديم، عهد الرموز والظلال، فأين كان مكان التقاء الله مع
الإنسان؟ الإجابة من سفر الخروج25: 22 «وأنا أجتمع بك هناك، وأتكلم معك من على
الغطاء من بين الكروبيم اللذين على تابوت الشهادة». ولماذا اختار الله هذا المكان
كنقطة التقاء الإنسان الخاطئ مع الله القدوس؟ الإجابة التي نفهمها من سفر
اللاويين16 أنه إلى هذا المكان كان يدخل رئيس الكهنة كل سنة، كممثل لكل الشعب، في
يوم الكفارة العظيم، ومعه الدم الذي يرشه على وجه الغطاء. فعلى أساس الدم أصبح
للإنسان الخاطئ إمكانية الاقتراب إلى الله من جديد.

 

ونفس
الأمر نجده أيضاً في العهد الجديد. ففي رسالة رومية3: 25 نقرأ أيضاً عن كرسي
الرحمة المرشوش بالدم. في هذا المكان يتقابل الآن الله البار مع الإنسان الخاطئ.
فعلى أساس الدم أمكن لنا الاقتراب من الله، وإلا لكان هذا الكرسي لا كرسي رحمة، بل
عرش قضاء ودينونة، وما أرهب المصير! (مزمور143: 2).

 

ومن
أهم الفصول التي تتحدث عن أهمية الدم كأساس العلاقة مع الله، هو سفر الخروج
أصحاح12 الذي يتحدث عن الليلة التي فيها خرج شعب الله من بيت العبودية في أرض مصر،
بعد ذبح خروف الفصح. ماذا طلب الرب منهم في تلك الليلة كي ينجو الأبكار من ضربة
المهلك؟ لقد قال: «يأخذون لهم كل واحد شاة.. صحيحة.. يذبحه كل جمهور الجماعة،
ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا. ويكون لكم الدم علامة على
البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم».

 

إذاً
الذي كان يحميهم في تلك الليلة من ضربة الهلاك هو «الدم». الله لم يطلب منهم أن
يثبتوا على أبواب بيوتهم تسلسلهم من إبراهيم، فليس هذا أساس نجاتهم من الدينونة.
ولا طلب الله منهم أن يعملوا حصراً بأعمالهم الصالحة، وبممارساتهم الدينية، وبأيام
أصوامهم، وبكمية صدقاتهم، ويعلقوها على أبواب بيوتهم، فالخلاص أيضاً ليس في هذه
الأشياء. بل إن كلام الرب الصريح والواضح هو «أرى الدم وأعبر عنكم».

 

في
العهد القديم أكد المرنم أن فدية نفوسنا كريمة، وبالتالي فقد غلقت إلى الدهر
(مزمور49: 8)، لكن حمداً لله، فإننا في العهد الجديد وجدنا من قام بالفداء، رغم
فداحة الثمن المدفوع. إذ قام المسيح، الحمل المعروف سابقاً قبل تأسيس العالم
بفدائنا: «عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو بذهب… بل بدم كريم». نعم
لقد تحققت الفدية الكريمة بدم كريم! وهذا الدم كريم في عيني الآب، لأنه دم وحيده
(راجع أعمال20: 28). وكريم في عيني المسيح لأنه يمثل حياته الغالية التي بذلها
لأجلنا، و«ليس لأحد حب أعظم من هذا، أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه» (يوحنا15: 13).
ثم إنه كريم في نظر المفديين، فهو الثمن الكريم الذي قدَّرنا المسيح به
(1كورنثوس6: 25؛ وكم نخجل عندما نقارن ذلك الثمن، بالثمن الذي قدرنا نحن المسيح
به! راجع زكريا11: 13 مع متى27: 9). وأخيراً هو كريم في ذاته، كما أنه كريم في
نتائجه الأبدية التي حصَّلها لنا.

 

فهو
وسيلة الفداء (أفسس1: 7؛ عبرانيين9: 12؛ 1بطرس1: 18)،

وبه
تمت الكفارة (رومية3: 25)،

وبه
غفرت خطايانا (متى26: 28؛ أفسس1: 7 ؛ عبرانيين9: 22)،

وتطهرنا
من خطايانا، وغُسلنا منها (1يوحنا1: 7؛ رؤيا1: 5)،

وتطهرت
ضمائرنا من أعمال ميتة (عبرانيين9: 14)،

وبيضنا
ثيابنا (رؤيا7: 14)،

وبه
تقدسنا (عبرانيين13: 12؛ 10: 29)،

وبه
تبررنا (رومية5: 9)،

وبه
حصلنا على الحياة (يوحنا6: 54)،

وبه
تتم المصالحة (كولوسي1: 20)،

وبه
لنا الاقتراب إلى الله (أفسس2: 13)،

وبه
لنا الشركة المسيحية (1كورنثوس10: 16)،

وبه
لنا ثقة الدخول للأقداس (عبرانيين10: 19).

وبه
نغلب الشيطان (رؤيا12: 11).

 

ولهذا
فإن الدم سيظل إلى أبد الآبدين موضوع سبح المفديين في المجد، إذ سيترنمون «ترنيمة
جديدة قائلين: مستحق أنت أن تأخذ السِفر وتفتح ختومه، لأنك ذُبحت واشتريتنا لله
بدمك من كل قبيلة ولسان وشعب وأمة، وجعلتنا لإلهنا ملوكاً وكهنة» (رؤيا5: 9،10).

ماذا
تم فى الفداء و الكفارة؟

لقد
فهمنا، ونحن نتحدث عن قداسة الله وغضبه، أن أخطر ما في الخطية ليس نتيجتها على
المخطئ ولا المخطأ في حقه، بل إن أخطر ما في الخطية حقاً أنك تفعلها في عيني الله
البار القدوس. هذا ما فهمه يوسف الصدّيق فقال لامرأة فوطيفار: «كيف أصنع هذا الشر
العظيم وأخطئ إلى الله» (تكوين39: 9). نعم ما أخطر أن تفعل الخطية أمام عينيّ ذاك
الذي عيناه «أطهر من أن تنظرا الشر ولا تستطيع النظر إلى الجور» (حبقوق1: 13)! وإن
كانت الخطية بشعة في ما عملته معنا وفينا، فإنها أبشع بما لا يقاس في عينيّ الله
وفي نور قداسته. ولهذا فقد كان يلزم تغطيتها من أمام عيني الله القدوس، وتقديم
الترضية لله البار بسبب نتائجها.

 

لقد
وردت كلمة الكفارة في كل من العهدين القديم والجديد. وردت مرات عديدة في العهد
القديم (119 مرة)، كما وردت في العهد الجديد نحو 5 مرات. الكلمة العبرية التي وردت
في العهد القديم والتي تُرجمت كفارة، تعني “تغطية”، وأما الكلمة اليونانية التي
وردت في العهد الجديد والتي تُرجمت أيضاً كفارة تعني حرفياً “ترضية”. ولهذا المعنى
المزدوج مدلول جميل في الموضوع الذي نحن بصدده. إن قداسة الله تعتبر الخطية نجاسة
يجب تغطيتها من أمام عيني الله. كما أن بر الله يعتبر الخطية تعدياً، وكل تعد يجب
أن ينال مجازاة عادلة (عبرانيين2: 2)، وبهذا يجب أن تتم ترضية عن التعدي الذي حدث.
وهذا هو المدلول المزدوج للكفارة كما ذكرنا: “تغطية وترضية”؛ تغطية من أمام عيني
الله نظراً لقداسة طبيعته، وترضية لغضبه العادل نظراً لبره.

 

أو
يمكن القول إن التغطية تمت للأشياء المطلوب سترها أو إبعادها عن نظر الله، أعني
بها الخطية. وأما الترضية فإنها متجهة للشخص المطلوب إزالة غضبه والحصول على رضاه،
أعني الله.

 

ولعله
من المتوقع أن يسأل أحدهم: لماذا ترد كلمة الكفارة في العهد القديم أكثر مما ترد
في العهد الجديد، مع أننا كنا نتوقع العكس؟ ثم لماذا وردت في العهد القديم كلمة
مختلفة عن تلك التي وردت في العهد الجديد؟

 

وأبدأ
بإجابة السؤال الثاني فأقول: إن العهد القديم كان مشغولاً بالإنسان، من هو؛
وبالناموس كانت معرفة الخطية. ولذلك فقد حدثنا العهد القديم عن التغطية التي – كما
فهمنا الآن – متجهة لا إلى الشخص المُساء في حقه، بل إلى الخطية بقصد إبعادها عن
النظر.

 

ومن
الجانب الآخر فإن الذبائح الحيوانية في العهد القديم، ما كانت لتستطيع البتة أن
ترضي الله: «بذبيحة وتقدمة لم تسر»، «بمحرقة لا ترضى» (مزمور40: 6؛ 51: 16). لكن
كل ما استطاعت تلك الذبائح الرمزية أن تفعله هو أن تغطي تلك الخطايا (مؤقتاً) عن
عيني الله. لكن لما قدّم المسيح نفسه على الصليب، فقد أمكنه أن يُسكت عجيج عدل
الله إلى الأبد. فجاءت كلمة الترضية في العهد الجديد.

 

أما
لماذا وردت كلمة الكفارة في العهد القديم أكثر منها في العهد الجديد، فذلك لأن
كلمة الكفارة هي كلمة عامة، تتضمن العديد من البركات التي جاءت نتيجة ذلك العمل
الكريم: مثل غفران الخطايا، والتبرير، والمصالحة، والقرب إلى الله، …، وهذه
الكلمات كلها وردت كثيراً في العهد الجديد وليس في العهد القديم. وكأن الفكرة
المركزة وردت في العهد القديم، ولكن شرح البركات بالتفصيل اختص به العهد الجديد.

 

في
كلمات موجزة نقول إنه نتيجة سقوط الإنسان وشره كان الإنسان متجنباً عن الله بسبب
الخطية، والله متجنباً عن الإنسان بسبب الغضب. وموت المسيح الكفاري والنيابي رفع
الخطايا وسكَّن الغضب، فأصبح يمكن أن لله ينظر إلى الإنسان بدون غضب، وأن الإنسان
ينظر إلى الله بدون خوف. أي أن الخطية تغطت، والله ترضى. أيوجد خبر أروع من هذا،
أيها القارئ العزيز؟

 

وأخيراً
نقول إن العهد الجديد يوضح أن كفارة المسيح غير محدودة البتة في نتائجها، وذلك لأن
شخص المسيح – كما ذكرنا – هو شخص غير محدود، وبالتالي فإن قيمة عمله بلا حدود. ولو
أن كل البشر أتوا للاستفادة من كفارة المسيح، فلن يبلغوا مداها، فإنها أعظم من كل
البشر مجتمعين معاً. عن هذا يقول الرسول يوحنا إن المسيح «كفارة لخطايانا، ليس
لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً» (1يوحنا2: 2)، وهذا يؤكد عدم محدودية كفارة
المسيح واتساعها العجيب لتشمل العالم أجمع.

 

وهي
حقيقة مؤكدة، أنك أنت أيضاً أيها القارئ العزيز جزء من هذا العالم. وبالتالي فإنك
لن تكون مُحقاً إذا خدعك قلبك بأن الرب مات لأجل الرسول بطرس، أو لأجل الرسول
بولس، ولكن ليس لأجلك أنت. كلا، فإن الرسول بولس أيضاً يقول «وهو مات لأجل الجميع»
(2كورنثوس5: 14،15). والرسول بطرس يؤكد أنه حتى المعلمين الكذبة الأردياء الذين
ينكرون الرب فإنهم «ينكرون الرب الذي اشتراهم» (2بطرس2: 1). وهذا كله يؤكد أنه
لأجلك أنت قد مات المسيح أيها الصديق العزيز، فهلا أخذت من الرحمة حصة؟

 

في
كلمات قليلة نلخص موضوع الكفارة الكبير في هذه الأسئلة الخماسية: لماذا؟ وكيف؟
ولمن؟ وبم؟ وماذا؟

 

ونجاوب
على هذه الأسئلة بالقول:

الحاجة
للكفارة: غضب الله.

أساس
الكفارة: ذبيحة المسيح.

اتساع
الكفارة: العالم كله.

شرط
الكفارة: الإيمان

 

نتيجة
الكفارة: الغفران، والتبرير، والصلح، والفداء، وكل البركات التي يُسرّ الله أن
يغدقها على أولاده.

 

اعتراضات

(1)
يظن البعض أن الكفارة في المسيحية لها جذور وثنية، لأن العديد من الديانات الوثنية
في العالم تتضمنها. لكن علينا أن نفهم جيداً أن فكرة الكفارة في المسيحية ليست
مستمَدة إطلاقاً من الفكر الوثني، بل هناك فارق كبير وجوهري بين الكفارة في
الوثنية، والكفارة في المسيحية. هناك اختلاف في السبب، والمصدر، والطبيعة.

 

أولاً:
سبب الكفارة: في الوثنية تُقدَّم الكفارة للإله، لأنه حاد الطبع متقلب المزاج،
فتحاول الكفارة استرضاءه، أما في المسيحية فسبب الكفارة هو بر الله وقداسته.
فنظراً لقداسة الله، فإن الخطية أثارت غضب الله. ليس لأنه متقلب المزاج، يغضب لغير
سبب واضح، أو أنه يمكر ويغيّر أقواله، حاشا؛ بل إنه يحذر وينذر مرات عديدة قبل
توقيع القضاء. في مزمور22 عندما سأل المسيح من عمق الظلمة وهو فوق الصليب في
الجلجثة هذ السؤال: «إلهي إلهي لماذا تركتني؟» ولم يجبه الله، لأنه كان فعلاً
متروكاً منه بسبب خطايانا التي وُضعت عليه، فإنه هو نفسه أجاب بالقول: «أنت
القدوس» (ع3).

 

ثانياً:
طبيعة الكفارة: الوثنيون يقدمون أي شيء للتكفير عن نفوسهم، أية هدية تصلح لأن تقدَّم
للإله، لتكون كفارة. قد يكون ثمر الأرض مثل قايين، أو قد يكون أي حيوان كيفما كان.
بل إن من لا يملك شيئاً فإنه بوسعه أن يعذب جسده! أما في المسيحية فإن الكفارة
تقضي بموت بديل بريء، لأن «أجرة الخطية هي موت»، «وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة»
(رومية6: 23؛ عبرانيين9: 22). فكان يلزم ذبيحة طاهرة بلا عيب ولا دنس. وما كانت
تصلح الذبائح الحيوانية، بل كان يلزم أن يكون الفادي إنساناً (1تيموثاوس2: 5). وهو
ما سبق أن ذكرناه من قبل، تحت عنوان: شروط الفادي.

 

ثالثاً:
مصدر الكفارة: في الوثنية فإن مصدر الكفارة هو الإنسان وأعماله، أما في المسيحية
فالله هو مصدر الكفارة. الله الذي «أرسل ابنه كفارة» (1يوحنا4: 10)، والذي «قدمه..
كفارة» (رومية3: 25). فإن كان بر الله وقداسته استلزما الكفارة، فإن محبة الله
ونعمته جهزتاها. وكما أن قداسة الله جعلت الصليب حتمياً، فإن محبة الله هي التي جعلته
ممكناً. لقد رأى الله في الأزل الحمل الذي يصلح له، «حمل الله» (1بطرس1: 18،
يوحنا1: 29،35)، وفي ملء الزمان أرسله (غلاطية4: 4)، وهو بذل نفسه فدية عندما مات
لأجلنا فوق الصليب (1تيموثاوس2: 5،6؛ تيطس2: 13).

 

(2)
ويعترض البعض الآخر على فكرة الكفارة بالقول: هل من العدل أن البريء يُضرَب من أجل
الأثمة؟ والإجابة طبعاً ليس هذا عدلاً لو كان البريء أُجبر عليه، أما عندما يُظهر
المسيح استعداده الكامل طوعاً واختياراً بأن يدفع هذه الفدية نيابة عني (كما سنوضح
بعد قليل تحت عنوان: الصليب وإظهار بر الله)، فهذا لا يتعارض مع العدل في شيء. قال
المسيح «أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف» (يوحنا10:
11). لقد قبل المسيح ذلك بسرور(عبرانيين12: 2)، ولم يجبره أحد عليه (يوحنا10:
17،18)، إذ كان يعلم أن موته وحده فيه تمجيد الله وفيه خلاص الإنسان.

الصليب
و اظهار محبة الله

إذا
كان الرسول بولس، مفكر المسيحية، قد أوضح أن الصليب بيَّن بر الله، فإن الرسول
يوحنا، رسول المحبة، أوضح أن الصليب أظهر حب الله (1يوحنا4: 9، 10).

 

عندما
كنا نتحدث عن الخطية الأولى (تكوين3) ذكرنا الافتراء الذي ذكرته الحية في الكلمات
السامة التي قالتها للمرأة:

الله
غير صادق: فلقد قال لكما يوم تأكلان منه (ثمر شجرة المعرفة) تموتان، والحقيقة
أنكما «لن تموتا».

الله
غير عادل: إذ منعكما من التسلط على هذه الشجرة مع أنكما رأسا الخليقة.

الله
غير محب: لو كان يحبكما لما حرمكما من التمتع بشيء، ولسمح لكما أن تصيرا مثله.

 

وعندما
أكلت المرأة من الشجرة، وأعطت رجلها فأكل، كان معنى ذلك أنها صدّقت كل هذه
الافتراءات. وكانت هذه إهانة بالغة لله أمام كل الخليقة. والله أجّل الرد على تلك
الافتراءات الشيطانية نحو أربعة آلاف سنة، حتى جاء المسيح ومات فوق صليب الجلجثة.

 

هناك
في الصليب أثبت المسيح أن الشيطان كاذب. لقد قال الشيطان في الجنة «لن تموتا» لكن
عندما مات المسيح على الصليب أثبت صدق كلمة الله «أن أجرة الخطية هي موت» (رومية6:
23). وعلى الصليب أعلن المسيح بر الله وعدله، فمع أن ابنه الحبيب القدوس هو الذي
كان يحمل الخطايا، لكنه تحمل عنها الدينونة كاملة. لكن الشيء الآخر العظيم الذي
أثبته الصليب، والذي ما كان يمكن أن يظهر بدون الصليب، هو أن الله محبة. فهل من
إعلان عن محبة الله نظير صليب المسيح؟! ليس أنه – كما افترى الشيطان كذباً – حرمنا
من ثمرة شجرة، بل لقد بذل ابنه الوحيد لأجلنا.

 

يقول
الرسول يوحنا عن المسيح: «لأجل هذا أُظهر ابن الله لكي ينقُض أعمال إبليس»
(1يوحنا3: 8).

 

في
الصليب نحن لا نرى فقط كراهية الإنسان نحو الله، الأمر الذي تمثل في صلبهم لابنه،
معلقين إياه على خشبة، بل إننا نرى شيئاً آخر أعجب، نرى محبة الله للإنسان، إذ قبل
أن يبذل ابنه وحيده عنا.

 

ومن
المهم أن نعرف أنه ليس موت المسيح على الصليب هو الذي غيّر قلب الله من نحونا
وجعله يحبنا، العكس هو الصحيح، فإن الله في محبته، قَبِلَ هذه التكلفة الكبيرة: أن
يبذل ابنه الوحيد لأجل خلاصنا. ليس الابن المحب قدّم نفسه للآب الغاضب، حاشا، بل إن
الآب المحب بذل ابنه الوحيد نيابة عنا.

 

إن
الارتباط بين محبة الله والكفارة التي قُدمت في الجلجثة، ارتباط وثيق. فيمكن القول
إن الكفارة هي إسكات غضب الله، بواسطة محبة الله، عن طريق ما قدمه وبذله الله. وإن
كانت خطايانا قد أغضبت الله القدوس البار، الذي ضده أخطأنا، والذي كان ينبغي تهدئة
غضبه البار المقدس، فإنه – تبارك اسمه إلى الأبد – في نعمة فاقت التصور – أرسل
الله ابنه وقدمه كفارة!

 

«الله
بيَّن محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رومية5: 8).

 

«بهذا
أُظهرت محبة الله فينا (أو تجاهنا) أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي
نحيا به. في هذا هي المحبة: ليس أننا نحن أحببنا الله، بل أنه هو أحبنا وأرسل ابنه
كفارة لخطايانا» (1يوحنا4: 9،10).

 

«لأنه
هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له
الحياة الأبدية» (يوحنا3: 16).

الخاتمة

والآن
أختم تأملاتي هذه بكلمات قرأتها لواحد كان يتعجب فيها من أمر المسيحيين، الذين
بحسب تعبيره يصرون على موضوع الصليب، وهو لا يفهم معنى لهذا. ويقول إن الصليب أمر
يذكِّر بالهوان الذي احتمله المسيح، فما هو وجه الإصرار عليه والاعتزاز به؟ ونجيب:
إننا فعلاً نفتخر بالمسيح، ونفتخر بالصليب، كما أننا نؤمن يقيناً أن صلبه لم يكن
عجزاً منه أو ضعفاً، بل حباً وإيثاراً.

 

ولكل
مخلص، في حيرة من أمر الصليب، أقص هذه القصة الواقعية:

 

كانت
هناك امرأة على جانب كبير من الجمال، بينما يداها كانتا قبيحتين للغاية ومشوهتين بشدة.
وكان لهذا المرأة بنت صغيرة تحب أمها جداً. لكن البنت كانت متعجبة من أمر يدي أمها
المشوهتين، وما كانت البنت تقوى على مجرد النظر إلى هاتين اليدين دون أن تمتلئ
بالرعب والتقزز. وذات يوم قررت البنت أن تسأل أمها عن سر هاتين اليدين المشوهتين.
قالت البنت: أماه، إني أحب وجهك الجميل، وأحب عينيك الصافيتين، وشعرك الذهبي
المسترسل. لكن يا أمي يداك! إنني لا أقدر أن أنظر إليهما. لماذا هما على هذه
الحالة من التشوه؟

 

أجابت
الأم: سأقص عليك يا عزيزتي ما حدث ليديَّ، وقد كنت أظن أنني لن أحكي لك ذلك أبداً.
لكن يبدو لي الآن أنه من الأفضل أن تعرفيه. من سنوات مضت، عندما كان عمرك ثلاثة
أشهر فقط، وفي ذات صباح مزدحم بالأعمال المنزلية، وبعد أن أرضعتك، أضجعتك في مهدك
الصغير لتكملي نومك. وانصرفت أنا لأكمل باقي أعمالي المنزلية. وطبعاً كانت أذناي
معك لأستمع إلى أول صرخة نداء منك، أو لأي حركة تحدثينها. وظللت في المطبخ وقتاً
ليس طويلاً، ولو أنه أطول مما توقعت.

 

وفجأة
سمعت صراخاً. ونظرت من النافذة فرأيت الجيران يهرعون نحو المنزل وعلى ألسنتهم
جميعاً صرخة واحدة: النار، النار. جريت من المطبخ إلى البهو الخارجي، فرأيت النار
وقد أتت على باب الحجرة التي كنت تنامين فيها، وألسنة اللهب تتصاعد منها. اقتحم
الجيران البيت ليقدموا العون لي، أما أنا فأصبت بصدمة شلتني عن التفكير، وعقدت
لساني فلم أقو على النطق بكلمة واحدة. رأيت أمامي في البهو غطاء كبيراً، التقطته
بسرعة، ولففت به رأسي وأكتافي، واندفعت وسط ألسنة اللهب إلى حجرتك، وخطفتك من مهدك
بكل الأغطية والملابس التي كانت تلفك، ثم ضممتك بقوة إلى صدري، وجريت بك كالسهم
خارج المنزل. وبفضل الغطاء الذي لففته على رأسي وصدري نجا رأسي وأكتافي، كما نجا
وجهي وعنقي. أما يداي وذراعاي فقد احترقت، حتى أن اللحم فيما بعد سقط تماماً،
وعرَّى العظام. هذه يا عزيزتي هي قصة يدي ولماذا هما قبيحتان.

 

سمعت
البنت القصة. وامتلأ وجهها بالتأثر الواضح. وكأي بنت تسمع كلاماً كهذا أمسكت بيدي
الأم المشوهتين وربتت عليهما بأصابعها الغضة بكل محبة، وقبلتهما بشفتيها
الصغيرتين. وبنظرة عرفان وامتنان إلى أمها قالت لها: “أماه إني أحب وجهك الجميل،
وعينيك، وعنقك، وشعرك. أما هاتان اليدان فإني أحبهما أكثر من الكل”.

 

هكذا
نحن أيضاً نحب صليب المسيح. فلولا الصليب ماذا كان مصيرنا، سوى بحيرة النار إلى
أبد الآبدين؟

 هذه
المحبة الإلهية العجيبة هي لك أنت أيها القارئ العزيز، فهل تقبلها؟

اقبلها
وانجُ من الهلاك. اقبلها واستمتع بالحياة الأبدية. اقبلها الآن قبل فوات الأوان

«
فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاصاً هذا مقداره؟ » (عبرانيين2: 3)

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى