اللاهوت الطقسي

هوت_طقسى_1_طقوس_العهد_القديم_الأعياد_06[1].html



الفصل السادس

يوم الكفارة Day of Atonement

(فى العبرانية “يوم ها – كبّور” أى يوم الكفارة)

كان بنو إسرائيل
يحتفلون بهذا العيد فى اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم المقدسة
الدينية.

وكان لأهمية هذا اليوم
وشهرته عند اليهود أن علماء التلمود دعوه

اليوم
“، لعله كما جاء فى (عبرانيين 7: 27) “الذى ليس له اضطرار كل
يوم مثل رؤساء الكهنة أن يقدم ذبائح أولاً عن خطايا نفسه ثم عن خطايا الشعب، لأنه
فعل هذا مرة واحدة إذ قدم نفسه “، كان هو الصوم الوحيد المطلوب منهم حسب
الناموس، يحفظونه من غروب الشمس إلى غروبها فى اليوم التالى (لاويين16: 29و31و
23: 27و 32، عدد 29: 7)،
ويشار إليه فى سفر الأعمال بكلمة ” الصوم
(أعمال الرسل 27: 9).

وتظهر أهميته أيضاً فى
دعوته سبت عطلة “ (لاويين 23: 32) أو
سبت راحة وكأن فيه تتحقق الراحة التامة بكونه “عيد
الأعياد
“.

يظهر ذلك بإرتباطه بعيد
المظال الذى يُحسب خاتمة السنة اليهودية الدينية حيث يقيمون فيه فرحهم بالحصاد
وشكرهم لله فى الخامس عشر من الشهر السبتى أو السابع آخر شهورهم، يسبقه “يوم
الكفارة العظيم “
فى اليوم العاشر حيث كمال المصالحة بين الله وشعبه،
وتقديس كل الجماعة لكى تتهيأ للفرح الكامل وتقدر أن تقدم ذبيحة شكر لله فى عيد
المظال، وإذا عرفنا أن عيد المظال قد صار فيما بعد رمزاً لضم الأمم للعضوية فى
الكنيسة المقدسة، يكون يوم الكفارة (الصليب) هو الطريق الذى فيه تم هذا العمل
العظيم. هذا ويليق بنا أن نذكر أن السنة اليوبيلية، سنة التحرر الكامل كانت تُعلن
دائماً فى يوم الكفارة (لاويين 25: 9).

يوم الكفارة هو اليوم
الوحيد على مدار السنة، الذى يدخل فيه رئيس الكهنة إلى قدس الأقداس، الذى يرمز
للسماء – للتكفير عن خطاياه وخطايا الشعب أيضاً.. بعد ممارسة طقس طويل ودقيق
واستعدادات ضخمة حتى لا يُحسب مقتحماً للموضع الإلهى ويموت. هذا العجز سره ليس
احتجاب الله عن شعبه أو كهنته، إنما هو ثمر طبيعى لفسادنا البشرى الذى أعاقنا عن
اللقاء مع القدوس. وكما يقول الرسول بولس: “معلناً الروح القدس بهذا أن طريق
الأقداس لم يظهر بعد ” (عبرانيين 9: 8).

كان الأمر يحتاج إلى تغيير
جذرى فى طبيعتنا الفاسدة حتى تقدر خلال الدم الثمين أن تخترق الحجاب الذى إنشق
بالصليب وتدخل إلى الأقداس الإلهية تنعم بمعاينة المجد الإلهى والإتحاد مع الله.
هذا ما تحقق بالمسيح يسوع ربنا رئيس الكهنة الأعظم الذى دخل بنا إلى مقدسه السماوى،
قدس الأقداس الحقيقي. فطقس يوم الكفارة بكل دقائقه هو ظل لعمل السيد المسيح الذى
شق حجاب الهيكل ونزع العداوة بين السماء والأرض، وصالحنا مع أبيه القدوس. (انظر
عبرانيين 9: 1-12و 24-28).

لم يكن ممكناً لرئيس
الكهنة أن يدخل إلا من خلال الذبيحة (لاويين 16: 3)، يلزمه أن يكفَّر عن
نفسه كما عن الشعب. كان رئيس الكهنة محتاجاً إلى دم آخر يشفع فيه وفى اخوته الكهنة
وبنيه حتى يقدر أن يدخل قدس الأقداس، أما ربنا يسوع المسيح فقدم دمه هو عنا إذ لم
يكن محتاجاً إلى تكفير.

كان يوم الكفارة بالغ
الأهمية عند اليهود حتى إنهم ظلوا يحتفلون به حتى بعد تدمير الهيكل فى عام 70م
وإنتهاء نظام الذبائح.

V غايته:

كفارة فى العبرية
Kapporeth ” تعنى “تغطية ” أو “ستر
إذ فى هذا اليوم تُغفر الخطايا ويُستر على الإنسان بالدم الثمين، فيكفَّر رئيس
الكهنة عن نفسه وعن الكهنة وعن كل الجماعة بل وعن الخيمة وكل محتوياتها تكفيراً
عاماً وجماعياً عن كل ما سقطت فيه الجماعة ككل أو كأعضاء طوال العام.

غير أن التقليد اليهودى
لم يعتبر يوماً أن الشعب سيحصل على هذا الغفران بصورة آلية. لا يكفى أن تُقدم
الذبيحة لتنقى الجماعة. وعلى هذا تقول “الميشنا “: (إذا قال أحد
سأخطأ، ويوم الغفران العظيم سيكفَّر عن خطيئتى، فيوم الغفران لن يكفَّر عن هذه
الخطيئة. إن يوم الغفران العظيم يغفر الذنوب التى بين الإنسان والله. أما الذنوب
التى بين الإنسان والإنسان، فيوم الغفران العظيم لن يكفَّر عنها، ما لم يتصالح
الإنسان مع أخيه).

تختم شريعة هذا اليوم
بالقول: “ويكفَّر الكاهن الذى يمسحه.. ويكفَّر عن مقدس القدس، وعن خيمة
الاجتماع والمذبح يكفَّر، وعن الكهنة وكل شعب الجماعة يكفَّر، وتكون هذه لكم فريضة
دهرية للتكفير عن بنى إسرائيل من جميع خطاياهم مرة فى السنة ” (لاويين 16: 32-34).

V الاستعداد ليوم الكفارة:

(1) من جهة الشعب:

كان على كل بنى إسرائيل
– عدا المرضى والشيوخ والأولاد – أن يصوموا ذلك اليوم من المساء إلى المساء أى من
الغروب إلى

الغروب.. كان عليهم أن يمتنعوا عن الطعام والشراب والإغتسال ودهن الرأس ولبس
الأحذية والعلاقات الزوجية..
وكل نفس لا تنقطع فيه للعبادة والتذلل والصوم
تُقطع من الشعب وكل نفس تعمل عملاً تُباد تلك النفس (لاويين 23: 29و30)..
كل من أكل أو شرب سهواً يقدم عن نفسه ذبيحة خطية. أما من فعل ذلك عمداً فإنه يُقطع
من الشعب.. إن يوم الكفارة يرمز ليوم الجمعة العظيمة عندنا، الذى نقيم فيه ذكرى
آلام المسيح وصلبه.
وهكذا فرضت الكنيسة على أبنائها الصوم والتقشف الشديدين
يوم جمعة الصلبوت، لأنه يوم الكفارة الحقيقية.

(2) من جهة رئيس الكهنة:

كان رئيس الكهنة
وحده
يقوم بخدمة ذلك اليوم فى طقس طويل.. كان على رئيس الكهنة الذى يقوم بخدمة
يوم الكفارة، أن يترك بيته ويعتزل زوجته سبعة أيام قبل يوم الكفارة. ويُقيم تلك
المدة بمخدع فى الهيكل، لئلا يمس شيئاً دنساً، أو ما يمنعه عن القيام بالخدمة.

كان يعّين له بديل، يحل
محله فى حالة وفاته المفاجئة، أو إذا أصابه شىء يجعله غير قادر على تأدية واجباته
الدينية. كان خلال هذا الأسبوع يُرش مرتين برماد العجلة الحمراء، فى اليوم
الثالث واليوم السابع، إذ ربما يكون قد تنجس سهواً بواسطة شىء ميت
([1]).. وفى
خلال هذا الأسبوع الذى يقيمه فى الهيكل، كان عليه أن يمارس بنفسه كل الطقوس
الكهنوتية كرش دم الذبائح وحرق البخور وإيقاد السرج، وتقديم الذبيحة اليومية.. إلخ.

كان مجلس السنهدريم
الأعلى
يكلف بعض أعضائه الشيوخ ليتأكدوا أن رئيس الكهنة الذى سيقوم بالخدمة
على علم ودراية بكل دقائق الخدمة، وإلا فإنهم كانوا يعلمونه إياها.

فى عشية يوم الكفارة، كانت
تُحضر أمامه جميع الذبائح الخاصة باليوم التالى، ليتأكد من سلامتها حسب الطقس..
وبعد كل ذلك كانوا يقيدونه بقسم مقدس يتعهد به ألا يغّير شيئاً من طقوس ذلك اليوم،
حيث أنه وحده هو الذى سيقوم بها، كما أنه وحده سيكون فى قدس الأقداس.

كان طعامه فى عشية يوم
الكفارة ضئيلاً.. كان يقضى تلك الليلة ساهراً لا ينام، منشغلاً فى قراءة الأسفار
المقدسة (كانت هذه الأسفار هى أسفار أيوب ودانيال وأخبار الأيام الأول والثانى).
وإذا لم يستطع لشيخوخته مثلاً – قرأها له الشيوخ الجالسون معه.. وكان الكهنة
ينبهونه إذا رأوه مائلاً للنوم.

يذكر التقليد اليهودى
أن رئيس الكهنة فى ذلك اليوم يغسل كل جسمه (يستحم) خمس مرات، ويديه ورجليه عشر
مرات، وإنه لا يغتسل فى الحمام العادى وإنما فى إناء ذهبى مخصص لهذا الغرض([2])
هذا وإن كان شيخاً يحتاج إلى مياه دافئة، يسكبون فى الإناء ماءً ساخناً للتدفئة أو
يضعون فى المياه حديداً ساخناً لذات الغرض.

(3) من جهه ذبائح ذلك اليوم:

يقوم رئيس الكهنة بأربع
خدمات:

ا – خدمة
الصباح اليومية أو الدائمة على مدار السنة، وهى خاصة بالكهنة، لكنه فى هذا اليوم
يقوم بها رئيس الكهنة بنفسه.

ب ذبائح العيد الخاصة بهذا اليوم، وتتألف من: كبش لمحرقة وثور ابن
بقر كذبيحة خطية عن رئيس الكهنة وبيته وأولاد هارون وكان يُقدم عن الشعب كبش
لمحرقة وذبيحة خطية عبارة عن تيسين أحدهما يُذبح ويرش دمه حسب الطقس، بينما يُرسل
الآخر للبرية حاملاً خطايا بنى إسرائيل وآثامهم..

ج – خدمة تقديم
الذبائح الإضافية المقررة لهذا اليوم (عدد 29: 7-11) حيث يقدم رئيس الكهنة
محرقات إضافية وهى ثور وكبش وسبع خراف حولية وتقدماتها ثلاثة أعشار دقيق ملتوت
بالزيت عن الثور، وعُشران عن الكبش وعُشر عن كل خروف، وسكائبهما من الخمر نصف
الهين عن الثور وثلث الهين عن الكبش، وربع الهين عن الخروف الواحد. كما يقدم ذبيحة
خطية تيس من الماعز.

د – خدمة
المساء اليومية أو الدائمة تماثل خدمة الصباح، يقوم بها رئيس الكهنة بملابسة
الفاخرة.

هذه الذبائح جميعها
يبلغ عددها خمس عشرة ذبيحة.

كان رئيس الكهنة
ملتزماً بشراء الذبائح التى يقدمها عن نفسه وبيته والكهنة، من ماله الخاص ويشترك
معه فى ثمنها الكهنة بإعتبارهم شركاء فى الذبيحة. أما الذبائح التى كانت تقدم عن
الشعب فكان ثمنها يُؤخذ من خزانة الهيكل.

V طقوس يوم الكفارة:

جميع خدمات هذا اليوم
كما ذكرنا يقوم بها رئيس الكهنة وحده وبنفسه، لكن هذا لا يمنع أنه كان هناك من
يساعده من الكهنة. وقيل – حسب ما جاء فى الميشنا – أن عدد الكهنة الذين كانوا
يساعدون رئيس الكهنة فى خدمات وطقوس يوم الكفارة، بلغ خمسمائة([3])!!

عند منتصف الليل تُلقى
قرعة ليقوم الكهنة برفع الرماد عن المذبح حتى لا تُقدم ذبائح يوم الكفارة على رماد
قديم، ولتمييز هذا اليوم عن الأيام العادية.

عند الفجر مع أول شعاع
للنور كان رئيس الكهنة يخلع ثيابه العادية ويستحم ثم يلبس ثيابه الذهبية – ثياب
المجد والبهاء – وبعد أن يغسل يديه ورجليه، يدخل القدس ويُصلح السرج ويرفع البخور،
ثم يقدم المحرقة الدائمة خروفاً حولياً مع تقدمة عُشر من الدقيق الملتوت بربع
الهين من الزيت المرضوض وسكيبه ربع الهين من الخمر (خروج29: 38 – 42)،
وكانت هذه تُضاعف إن كان اليوم سبتاً (عدد28: 9و10).

وعقب الإنتهاء من خدمة
الصباح كانت تبدأ طقوس ذلك اليوم. كان يستحم أولاً ثم يرتدى قميصاً وسروالاً
ويتمنطق بمنطقة، ويضع على رأسه العمامة، وكلها مصنوعة من الكتان الأبيض النقى (لاويين
16: 4)
وهى ملابس كهنة عادية (خروج 28: 40-42). إن رئيس الكهنة فى ذلك
اليوم كان لا يظهر كعروس يهوه، بل كإنسان يحمل ما يرمز إلى النقاوة الكاملة من أجل
الخدمة العظيمة التى هو عتيد أن يتممها وهى الكفارة..

أما عن اللون الأبيض
فنحن نقرأ عن كل الواقفين على مقربة من الله أنهم كانوا فى ثياب بيض (حزقيال 9:
2، دانيال 10: 5و12: 6).
ولأنها كانت الثياب المقدسة، فقد كان يتعين على رئيس
الكهنة أن يغسل كل جسمه بالماء أولاً ثم يلبسها (لاويين 16: 4). أى أنه كان
لا يكتفى بغسل يديه ورجليه كما فى الخدمات العادية، بل جسمه كله.

كان الثور الخاص بذبيحة
الخطية عن رئيس الكهنة يقف بجوار مذبح المحرقة متجهاً نحو الجنوب.. كان رئيس
الكهنة يقف متجهاً نحو الشرق (نحو الشعب). يُدير رأس الذبيحة نحو الغرب أى نحو قدس
الأقداس. ثم يضع كلتا يديه على رأس الذبيحة ويعترف رئيس الكهنة بخطاياه وخطايا
الكهنة قائلاً:

“يارب (يهوه) لقد
أثمت واخطأت – أنا وبيتى. أتضرع إليك يارب أن تكفَّر (تستر) عن الآثام والتعديات
والخطايا التى فعلتها أمامك أنا وبيتى، حتى كما هو مكتوب فى ناموس موسى خادمك لأنه
فى ذلك اليوم سيكفَّر عنك وتطهر من خطاياك أمام يهوه ستطهر. “([4]).

ويلاحظ أنه فى هذا
الإعتراف يذكر اسم “يهوه ” ثلاث مرات. ويكرر الاسم “يهوه ”
ثلاث مرات أخرى حين يعترف على نفس الثور باسْمِ الكهنة، مرة سابعة يذكر اسم يهوه
عندما يعمل قرعة على التيسين ليكون أحدهما من نصيب يهوه. ثم يعترف ذاكراً الاسم
ثلاث مرات أخرى حين يعترف وهو يضع يده على رأس التيس الذى يحمل خطايا الشعب. إن
اسم يهوه يرد عشر مرات.. وعندما يذكر اسم يهوه، يطرق جميع الواقفين إلى جواره
بوجوههم نحو الأرض
. بينما يقول الشعب ([5])
“مبارك الاسم. مملكته إلى أبد الآباد “ (تثنية 32: 3).

بعد ذلك “يأخذ
التيسين ويوقفهما أمام الرب لدى باب خيمة الاجتماع ويُلقى هارون على التيسين
قرعتين: قرعة للرب وقرعة لعزازيل “ (لاويين 16: 7و8). كان يجب أن
يكونا متشابهين تماماً فى الشكل والحجم والقيمة وإن أمكن يشتريا فى وقت واحد،
فالفكرة أن الاثنين يُؤلفان نفس الذبيحة الواحدة
، واحد يُذبح عن خطايا الشعب
والآخر يُطلق فى البرية لإعلان حمل الخطية ورفعها.

كانت القرعة تتم هكذا
بأن يُوقفهما رئيس الكهنة أمام باب خيمة الاجتماع ووجهيهما إلى الغرب، ويقف كاهنان
واحد عن يمين رئيس الكهنة والآخر عن يساره، وكذلك يُوقف التيسان. ويهز رئيس الكهنة
صندوقاً صغيراً به قطعتان رقيقتان صغيرتان من الأبنوس (صارتا بعد ذلك من
الذهب) كُتب على الواحدة “ليهوه “، وعلى الأخرى “لعزازيل “،
ويهز رئيس الكهنة الصندوق عدة مرات ويمد يديه ليأخذ القطعتين المكتوب عليهما. ويضع
الواحدة على أحد التيسين والآخرى على الآخر وهو يقول “للرب ذبيحة خطية ”
وتُقرأ الكتابة على كل قطعة، فإن كانت التى على يمينه “ليهوه” يقول
الكاهن الذى على يمين رئيس الكهنة: “ارفع يمينك للعلى “، وإن كانت التى
على يساره يقول الكاهن الآخر: “ارفع يسراك “، ويميز التيس الذى ليهوه عن
الآخر، بوضع خيط أحمر من الصوف حول رأس التيس الذى للرب أو على قرنيه، بينما الذى
لعزازيل بقطعة من قماش قرمزى اللون على شكل لسان – وكان الإتجاه العام إلى التفاؤل
إن جاء التيس الذى على اليمين ليهوه والآخر لعزازيل.

يغّير وضع تيس عزازيل
الذى سيُرسل للبرية، بحيث يواجه الشعب الحاضر فى الهيكل منتظراً خطاياهم توضع عليه
ليحملها إلى القفر([6])..
إنه فى إتجاهه نحو الشعب إنما يمثل المسيح الذى أحضره بيلاطس وأوقفه أمام الشعب،
منتظراً حمل خطاياهم.. وإذا كان رئيس الكهنة قد ربط قطعة من قماش قرمزى حول قرن
تيس عزازيل، فلا ننسى أن المسيح ألبسوه رداءً قرمزياً (متى 27: 28).

يرى العلامة أوريجانوس
فى عمل القرعة على التيسين ليكون أحدهما للرب والآخر لعزازيل إشارة إلى وجود أبرار
وأشرار فى وسط الجماعة، الأبرار من نصيب الرب والأشرار من نصيب عزازيل، إذ يقول: [لو
كان كل الشعب قديسين ومطوبين لما كانت تصنع قرعة على التيسين، ويُرسل أحدهما إلى
البرية بينما يقدم الآخر للرب، إذ يكون الكل نصيباً واحداً للرب الواحد. بالحقيقة
يوجد فى الجماعة التى تقترب من الرب من هم منتسبون للرب بينما يلزم إرسال آخرين
إلى البرية، إذ يستحقون الطرد والعزل عن تقدمة الرب. لهذا السبب يقدم نصيب من التقدمة
أى تيس للرب، أما الآخر فيطلق خارجاً، يُرسل إلى البرية، ويُسمى التيس المطلق]([7])

أما كلمة “عزازيل
” ففى أصلها اللغوى تعنى عزل أو أبعد (مزمور103: 12) وهى فى اللغة العبرية (
AZAZAL) ومكونة من مقطعين المقطع الأول أز (az) ومعناها “تيس ” والمقطع الثانى أزال (azal) ومعناها مثل العربى أزال أو أبعد ومعناها بالكامل التيس المعزول
أو المبعد “كبش العزل ” (
Goat of removal).

يقول التقليد اليهودى
أنه بعد تقديم التيس الذبيحة وقبولها لدى الرب، إن قطعة القماش القرمزية التى فوق
قرن تيس عزازيل كان يبّيض لونها.. . إنها تشير إلى الوعد الإلهى “هلم نتحاجج
يقول الرب. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج. إن كانت حمراء كالدودى تصير
كالصوف ” (إشعياء 1: 18).. ويقول التقليد أيضاً إن هذه المعجزة توقفت
قبل خراب هيكل أورشليم بنحو أربعين سنة([8])
(إذا كان الأمر كذلك، فيكون قد توقف حدوث هذه المعجزة بعد أن قدم المسيح ذاته
ذبيحة – لقد خرب الهيكل سنة 70 م وقبلها بأربعين سنة أى سنة 30م منذ أن بدأ المسيح
خدمته الكرازية).

بعد ذلك يضع رئيس
الكهنة كلتا يديه على الثور ويعترف عليه. وفى هذه لا يعترف بخطاياه وخطايا بنيه
فقط بل بخطايا الكهنة أيضاً
.. يذبح الثور ويُؤخذ دمه فى وعاء، ويسلمه إلى
أحد اتباعه ليحرك الدم بإستمرار حتى لا يتجلط..

V تقديم البخور:

يملأ رئيس الكهنة
المجمرة الذهبية الخاصة به من جمر النار من مذبح المحرقة، وهى النار من لدن الرب (لاويين
9: 24)،
ثم يضع ملء حفنتيه من البخور العطر الدقيق “الناعم ” (خروج
30: 34-37)
فى إناء صغير ذهبى، وإذا كانت العادة أن يمسك البخور بيمينه
والمجمرة بيساره، ففى هذه المناسبة لضخامة حجم المجمرة يُصرح له بالعكس أن يمسك
المجمرة بيمينه والبخور بيساره([9])
ليدخل للمرة الأولى إلى قدس الأقداس بجنبه كى لا يتطلع بعينه إلى تابوت
العهد.

فى داخل قدس الأقداس
كان رئيس الكهنة بمفرده.. الظلام يخّيم على المكان. لا يوجد فيه بصيص من النور
اللهم إلا ما ينبعث من الوقود المشتعل فى المجمرة التى يحملها..

يضع المجمرة على الأرض
على حجر ضخم ويملأها بخوراً فيمتلىء قدس الأقداس بسحابة البخور لتحجب تابوت العهد
عن عينيه “فلا يموت ” (لاويين 16: 13).

يترك المجمرة داخل قدس
الأقداس، ويخرج ووجهه متجه إليه (يخرج بظهره إكراماً لقدس أقداس العلى) ويقف
أمام الحجاب الذى
يفصل بين القدس وقدس الأقداس ويصلى الصلاة التالية:

[لتكن مسرتك أيها الرب
إلهنا وإله جميع آبائنا، إنه لا يحل بنا أى أسر، لا فى هذا اليوم ولا خلال السنة.
وإذا حدث لنا أسر اليوم أو فى هذه السنة، فليكن إلى مكان فيه ناموسك. ولتكن مسرتك
أيها الرب إلهنا أن الفاقة لا تأتى علينا هذا اليوم أو هذه السنة. وإذا أتت علينا
الفاقة هذا اليوم أو هذه السنة، ليتها تكون بسبب سخائنا فى أعمال الإحسان. ليت
مسرتك أيها الرب إلهنا وإله كل آبائنا أن تكون هذه السنة سنة رخاء وفيض ومعاملات
وتجارة، سنة مطر وفير وشمس مشرقة وندى. فيها لا يحتاج شعبك إسرائيل عوناً من آخر.
لا تسمع لصلوات الذين على وشك السفر (يقصد طلبات المسافرين لكى لا تسقط الأمطار
التى تعطلهم فى سفرهم). ولا يرتفع عدو على شعبك إسرائيل. لتكن مسرتك أيها الرب
إلهنا وإله جميع آبائنا].

كان لا يجب على رئيس
الكهنة إطالة هذه الصلاة لأن غيابه عن أنظار الشعب وهو بمفرده فى الداخل، كان
يملأهم بالمخاوف على سلامته.. وأثناء وجود رئيس الكهنة فى داخل المسكن كان
الشعب ينشغل بالصلاة فى صمت ([10]).

نستطيع أن نرى فى النار
التى حملها رئيس الكهنة فى المجمرة إشارة إلى تجسد الكلمة، إذ حل بملء لاهوته فى
أحشاء البتول، المجمرة الذهب. وفى وضع ملء يديه من البخور الدقيق إشارة إلى حمله
أعماله المقدسة التى قدمها السيد المسيح بيديه المبسوطتين على الصليب لتفيح رائحته
الذكية فينا. وكأن السموات تشتم رائحة المسيح الذكية فينا فيتمجد الآب بنا نحن
أعضاء جسد ابنه وحيد الجنس. فإن ما يقدمه رئيس الكهنة السماوى أى ربنا يسوع المسيح
من أعمال مقدسة تحمل رائحته، إنما يقدمها باسمنا، لحسابنا، واهباً إياناً نحن
أيضاً أن نحمل إلى قدس الأقداس أعماله ورائحته.

يقول العلامة
أوريجانوس
: [أتعتقد أن ربنا – الكاهن الحقيقي- يتنازل ويأخذ منى أيضاً نصيباً
من محتوى البخور الرقيق ليحمله معه إلى الآب؟! أتظن أنه يجد فىّ قليلاً من الشعلة
والمحرقة المنيرة فيتنازل ويأخذ هذا الفحم المملوء بخوراً ويقدمه للآب رائحة
زكية؟! طوبى لمن وُجد عنده فحم المحرقة ملتهباً بالنار المنعشة فيحكم عليه أنه
مستحق أن يوضع على مذبح البخور! طوبى لمن كان قلبه رقيقاً وروحانياً لديه الفضائل
المزكاه فيتنازل الرب ويملأ يديه ليقدم للآب منه رائحة زكية! وبالعكس الويل للنفس
التى انطفأ فيها نار الإيمان وبردت فيها شعلة المحبة، إذ يأتى كاهننا الحقيقي
ليطلب منها الفحم الملتهب المضىء ليقدم بخوراً للآب فلا يجد إلا رماداً يابساً
ونار منطفئة!

هذا هو حال الذين
يبتعدون عن كلام الرب وينسحبون منه حتى لا يسمعون فيلتهبوا بالإيمان عند سماعهم
الكلمات الإلهية ويحترقوا بالحب. أتريد أن أظهر لك النار النابعة عن كلمات الروح
القدس التى تُشعل قلوب المؤمنين؟ اسمع داود النبى يقول فى المزمور: “كلام
الرب ألهب قلبى “. أيضاً مكتوب فى الإنجيل أن كليوباس بعدما تحدث معه الرب
قال: “ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا إذ كان يكلمنا فى الطريق ويوضح لنا الكتب؟
(لوقا 24: 32). وأنت أيضاً من أين تأتيك الحرارة؟ كيف تجد فحم النار
فى داخلك إن لم تحترق دوماً بكلام الرب وتلتهب بكلمات الروح القدس؟! اسمع داود
أيضاً يقول:
حمى قلبى فى
جوفى عند لهجى اشتعلت النار
(مزمور 39: 3)]. ([11])

أخيراً يخرج رئيس
الكهنة من القدس وتهدأ قلوب الناس، لأنهم يعلمون أن خدمته قد قُبلت. يأخذ رئيس
الكهنة من تابعه الدم الذى ظل يحركه حتى لا يتجلط. وبسرعة وللمرة الثانية
يدخل إلى قدس الأقداس، وينضح بإصبعه بالدم مرة واحدة على غطاء التابوت من ناحيته
الشرقية، أى المواجهة للخارج، لأن قدس الأقداس كان فى الجهة الغربية. ثم ينضح سبع
مرات على أرضية قدس الأقداس أمام التابوت

كان يعد المرات التى
ينضح فيها الدم بصوت مسموع. بعد هذا يخرج إلى القدس ويترك إناء الدم فى مكان معد
لذلك على قاعدة ذهبية([12])
ثم يخرج خارجاً.

V تقديم التيس الأول:

يذبح التيس الأول الذى
وقعت قرعته إنه ليهوه ويدخل إلى قدس الأقداس بدمه مرة ثالثة ويرش الدم
كالمرة السابقة، مرة إلى أعلا وسبع مرات إلى أسفل فى إتجاه تابوت العهد. ثم يخرج
إلى القدس ليضع الوعاء على قاعدة ذهبية أخرى غير الموضوع عليها الإناء الأول
“فيكفَّر عن القدس من نجاسات بنى إسرائيل ومن سيآتهم مع كل خطاياهم. وهكذا
يفعل لخيمة الاجتماع القائمة بينهم فى وسط نجاساتهم “ (لاويين 16: 16).

يكفَّر رئيس الكهنة
بالدم عن القدس لئلا يكون قد أساء إليه أحد من بنى إسرائيل – كهنة أو شعباً –
طالباً مراحم الله على البيت حتى لا يتركه الرب بسبب خطاياهم. فقد أسلم الرب تابوت
العهد لأيدى الفلسطينيون (صموئيل الأول 4: 11)، كما أسلم الهيكل وأوانيه
للبابليين (ملوك الثانى 25: 8-17) بسبب رجاسات بنى إسرائيل المتكررة.

ثم يأخذ الإناء الذى به
دم الثور ويرش مرة واحدة إلى أعلا وسبع مرات إلى أسفل تجاه الحجاب خارج قدس
الأقداس. ونفس الأمر يتممه بدم التيس.. ثم يصب دم الثور على دم التيس فى الإناء
ويحفظ الاثنين. ومزج دم الثور بدم التيس إشارة إلى أن التكفير عن خطايا الكهنة
والشعب معاً من كل ما يسبب عدم لياقه مقدساته فى نظر الرب.

يرش الدم على قرون مذبح
البخور الأربعة التى على زواياه الشمالية الشرقية، فالشمالية الغربية، فالجنوبية
الغربية، ثم الجنوبية الشرقية أى عكس عقارب الساعة. ثم ينضح سبع مرات على وسط
المذبح. وفى العملين إشارة إلى أن المذبح كله قد كُفر عنه. وكان رئيس الكهنة يحترس
جيداً من أن تقع نقطة من دماء ذبائح الخطية على ثيابه الكتانية..

وبعد ما بُنى الهيكل فى
أورشليم كان المتبقى من الدم يصبه رئيس الكهنة على قاعدة الجانب الغربى لمذبح
المحرقة حيث ينتقل إلى وادى قدرون فى قناة وبذلك يكون قد رش دم الكفارة 43مرة([13]).

ثم ينضح رئيس الكهنة
على القدس ومشتملاته ثم يخرج خارجاً لينضح على الدار الخارجية. وكأن رئيس الكهنة
يعترف أنه هو والكهنة والشعب يخطئون فى حق الله وبيته ويطلبون المغفرة فى
استحقاقات الذبيحة حتى يبقى الله حالاً فى وسطهم خلال بيته المقدس.

يتم ذلك فى الوقت الذى
فيه ينتظر الكهنة مع الشعب فى الدار الخارجية، بينما يقوم رئيس الكهنة بالعمل فى
قدس الأقداس والقدس بمفرده، إشارة إلى السيد المسيح الذى وحده دخل إلى الأقداس
السماوية بدمه لتقديسنا، وكما يقول الرسول: “لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل
هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات “
(عبرانيين 7: 26)

وفى قوله: “لا
يكن إنسان فى خيمة الاجتماع من دخوله للتكفير فى القدس إلى خروجه “
(لاويين
16: 17)
يعلن أنه لا يستطيع أحد من البشر أن يقوم بدور الكفارة إنما الحاجة إلى
رئيس الكهنة الفريد ربنا يسوع المسيح. يقول القديس أغسطينوس:

[إعتاد رئيس الكهنة أن
يدخل قدس الأقداس بمفرده لكى يطلب عن الشعب ولا يدخل معه أحد إلى المقدس هكذا يدخل
رئيس كهنتنا الأماكن السرية للسموات فى قدس الأقداس الحقيقي، أما نحن فلازلنا هنا
نصلى]. ([14])

 

V تقديم التيس الثانى (تيس عزازيل):

بعد تقديم التيس الأول
والتكفير بدمه، يأتى دور التيس الثانى الذى لعزازيل، الذى يوقف أمام باب خيمة
الاجتماع ليعرضه أمام الله ثم يضع رئيس الكهنة كلتا يديه على رأس التيس وكأنه
يُلقى بكل الخطايا عليه، ويعترف عن خطاياه وخطايا الشعب بنفس العبارات السابقة.

ثم يلتفت رئيس الكهنة
نحو الشعب المنحنى أمام يهوه، وينطق آخر الكلمات “ستطهروا ” كما لو كان
يعلن لهم الحلّ ومغفرة خطاياهم.. ([15])

يقول التقليد اليهودى
أن الكهنة كانوا يأخذوا التيس الحامل الخطايا، ويخرجوا به من الباب الشرقى إلى جبل
الزيتون، حيث يكون فى انتظاره إنسان سبق أن خُصص لهذا الغرض حتى ما يأخذ التيس
ويتجه إلى القفر وحسب التقليد أيضاً يجب أن يكون هذا الإنسان الذى يستلم التيس
غريباً([16])
– وليس إسرائيلياً.. وكان هذا رمزاً للمسيح الذى أسلمه بنو إسرائيل إلى أيدى
الأمم!!

إن الأسفار لا تمدنا
بمعلومات عن ذلك التيس الذى حمل خطايا بنى إسرائيل، سوى أنه يُرسل بيد من يلاقيه
إلى البرية. فيطلقه فى البرية (لاويين 16: 22).

كانت المسافة بين
أورشليم وبداية (القفر) كبيرة. لذا قُسمت إلى عشر مراحل، بين الواحدة والأخرى نصف
مسافة سبت. فى نهاية كل مرحلة كان هناك موقف فيه شخص أو أكثر خصيصاً لهذا الغرض.
كانوا يقدمون لمن معه التيس ما يحتاجه من سبل الراحة ويصحبونه إلى الموقف التالى..
كان المقصود بذلك هو التأكد من وصول التيس إلى القفر حسب الطقس بواسطة أشخاص
موثوق بهم
. يصحبون التيس فى كل الرحلة.. . أخيرا يصلون إلى حافة البرية.. .
هنا يتوقفون. ويمزق مستلم التيس نصف اللسان القماش القرمزى ويلصقه بجرف صخرى ناتىء
(بارز) ([17])
ويطلق التيس حاملاً كل ذنوبهم بعيداً فلا تعود تُرى (مزمور103:
12)
[وفى العصور المتأخرة كان يُلقى بالتيس الحى من فوق الصخور فيموت].

أما الرجل الذى قاد
التيس، فقد أصبح نجساً بإتصاله بالتيس حامل الخطية – لذا كان يعود رحلته مقتضياً
آثر خطواته حتى يصل إلى آخر المواقف العشرة، وهناك يستريح بقية يومه والليل كله.
ويغسل ثيابه ويرحض جسده بماء، وبعد ذلك يدخل المحلة.

ولأن الناس فى أورشليم
كانوا ينتظرون خبر وصول التيس حامل خطاياهم إلى البرية (القفر). فقد كان ذلك يعلن
لهم بتحريك الرايات من موقف إلى آخر. وهكذا فى خلال دقائق قليلة يصل الخبر إلى
الهيكل، وينتقل من إنسان إلى إنسان.. لقد وصل التيس إلى القفر.. فيشعر الشعب كله
براحة خاصة، كأن خطاياهم طوال العام قد طُردت عنهم.

هناك ملاحظات فى غاية
الأهمية بالنسبة لهذا التيس الذى أُرسل إلى البرية.. خطايا الشعب لم يعترف بها
رئيس الكهنة
على تيس الرب الذى ذُبح، بل على التيس الذى أُرسل إلى البرية تحت
اسم عزازيل.. . كان تيس البرية

وليس الآخر
هو الذى حمل كل خطايا الشعب وتعدياتهم. كان تيس البرية هو ذبيحة
الخطية الوحيدة والحقيقية بالنسبة لبنى إسرائيل.

عليه وضع رئيس الكهنة –
خطايا الشعب بعد أن يكون قد فرغ من التكفير عن القدس وخيمة الاجتماع والمذبح (لاويين
16: 20)..
إن الدم المرشوش كان له هذا التأثير، لكن ليس أكثر.. تلك الذبائح
كانت لا تستطيع أن تفعل أكثر لأنها “لا يمكن من جهة الضمير أن تكمل
الذى يخدم ” (عبرانيين 9: 9).

أما التيس الحى الذى
أُرسل محملاً بخطايا الشعب وحملها بعيداً إلى البرية، فكان هو الذى يرمز لهذا
التكميل فى ظلِّ العهد القديم.. هكذا كان يفهم بنو إسرائيل.

والمعنى الوحيد لذلك هو
أنه – ولو أن الذنوب المعترف بها انتقلت من الناس إلى رأس التيس، كالبديل الرمزى
لكن التيس لم يُذبح، بل أُرسل بعيداً إلى القفر.. هكذا فى ظل
العهد القديم، كانت الخطية لا تُمحى حقيقة، لكنها أُبعدت عن الناس، وحُفظت حتى جاء
المسيح
ليس فقط ليحمل التعديات
بل ليمحوها ويطهر منها بدمه..
إن ما فعله العهد القديم كان من قبيل الإعداد
المؤقت فى زمان الإصلاح، حينئذ تكون المغفرة نهائية، إن الكلمة المستخدمة للتعبير
عن التكفير تعنى التغطية أو الستر على شىء.

أن هذا التيس الذى
أُرسل إلى القفر والبرية هو رمز للمسيح الذى قال عنه إشعياء النبى بروح النبوة
“كلنا
كغنم ضللنا. ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا. ظُلم أما
هو فتذلل ولم يفتح فاه. كشاه تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح
فاه. من الضغطة ومن الدينونة أخذ. وفى جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء
أنه ضُرب من أجل ذنب شعبى ” (إشعياء 53: 6-8).

أما بالنسبة للحم ثور
الخطية وتيس الخطية وجلدهما مع فرثهما (بقايا الطعام الذى فى الأمعاء) فتخرج
خارجاً وتحرق بالنار (لاويين 16: 27) فى المكان الذى يُوضع فيه عادة رماد
الهيكل مع أن لحم ذبيحة الخطية العادية وجلدها من نصيب الكهنة.

وكون أن ذبيحتا الخطية
تُحرق حرقاً كاملاً خارج المحلة وليس على مذبح المحرقة فكان يرجع ذلك إلى أن:

V
الخطية مكروهة جداً لدى الله لذا لا تقدم على مذبح الله.

V
ليعلم الشعب أن جزاء الخطية هو الحرق بالنار. فالحيوان حُرق عوضاً عن الإنسان.

V
وحرقها بعيداً عن المحلة أو المدينة كان إشارة إلى إزالة الخطية بعيداً “كبعد
المشرق عن المغرب أبعد عنا معاصينا “
(مزمور 103: 12).

هذا جميعه تم فى المسيح
الذى قدم ذاته عنا ذبيحة خطية.. خارج أورشليم “فإن الحيوانات التى يُدخل
بدمها عن الخطية إلى الأقداس بيد رئيس الكهنة تُحرق أجسامها خارج المحلة. لذلك
يسوع أيضاً لكى يُقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب ” (عبرانيين 13: 11و
12).

وفى أيام هيكل أورشليم
كان يحملها أربعة كهنة شبان، يحمل كل اثنين واحدة منها على عصوين، وبعد إحراقهما
خارجاً يغسلون ثيابهم وأجسادهم ويعودون إلى الهيكل ليقرأوا على الشعب الفصول
الخاصة بيوم الكفارة من سفر اللاويين (23: 26-32)، ومن سفر العدد (29: 7-11)
والشعب واقفاً يسمع. ثم يباركون الشعب بالبركة الكهنوتية ويطلبون فى النهاية من
أجل الشريعة والخدمة والإعتراف ومغفرة الخطايا وأورشليم والهيكل وشعب إسرائيل
والكهنوت المقدس.

V تقديم المحرقات وذبيحة الخطية:

ثم يدخل رئيس الكهنة لرابع
مرة
داخل قدس الأقداس حيث يأخذ المجمرة ووعاء البخور ليضعهما فى مكانهما الخاص
ويخرج إلى القدس ويخلع الثياب الكتانية ويستعد للخدمة الثالثة (لاويين16: 23).

يغسل رئيس الكهنة جسده
ويلبس ثيابه التى للمجد (خروج 28) ويقدم محرقة العيد عن نفسه ومحرقة عن
الشعب وكل منهما كبش من الغنم.

لم يكن ممكناً لرئيس
الكهنة أن يقدم المحرقات التى هى موضع سرور الله إلا بعد التكفير عن نفسه والكهنة
وعن كل الشعب خلال ذبيحة الخطية. إذ لا يقدر المؤمن أن يقدم ذبيحة التسبيح والفرح
إلا بعد تقديم التوبة لنوال المغفرة فى استحقاقات الدم.

كان رئيس الكهنة أيضاً
يلتزم بتقديم محرقات إضافية للعيد وهو ثور وكبش وسبعة خراف حولية (عدد29: 7-11)
مع تقدماتها وسكائبها (عدد 28: 12-14). كما كان يقدم أيضاً ذبيحة خطية
إضافية هى تيس من الماعز (عدد 29: 10و11) ربما خشية أن تكون هناك أخطاء قد
ارتكبت سهواً أثناء خدمة اليوم سواء من جانب رئيس الكهنة أو الشعب.

أخيراً يقدم رئيس
الكهنة ذبيحة المساء اليومية أو الدائمة بنفسه.

V الكفارة فريضة دهرية:

كان يوم الكفارة يتكرر
سنوياً. وفى ذلك الدليل على أن مشكلة الخطية كانت لا تزال قائمة. أما السبب فيوضحه
بولس الرسول بقوله: “لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع الخطايا “
(عبرانيين 10: 4).. كانت تلك الذبائح ترمز إلى ذبيحة المسيح الواحدة التى
فيها الحل النهائى للمشكلة، وهى التكفير الكامل عن خطية الإنسان.. وفى ملء الزمان
جاء المسيح “ليبطل الخطية بذبيحة نفسه “ (عبرانيين 9: 26)،
ولكى يصبح المؤمنون “مقدسون بتقديم جسد يسوع المسيح مرة واحدة ”
(عبرانيين 10: 10)
أن المسيح “فبعد ما قدم عن الخطايا ذبيحة واحدة
جلس إلى الأبد عن يمين الله ” (عبرانيين10: 12). وإنه “بقربان
واحد
قد أكمل إلى الأبد المقدسين ” (عبرانيين10: 14). وإنه “بدم
نفسه
، دخل مرة واحدة إلى الأقداس، فوجد فداء أبدياً ” (عبرانيين 9: 12).

ونلاحظ فى الكفارة:

V أن الرب كان يتراءى بمجده فوق غطاء تابوت العهد الذى يسمى كرسى
الرحمة “لأنى فى السحاب أتراءى على الغطاء “ (لاويين 16: 2)..
كان الرب يتراءى بمجده فوق التابوت على أساس واحد هو دم الكفارة الذى دخل به رئيس
الكهنة ونضح منه على غطاء التابوت.

V كانت بركات يوم الكفارة لا تقتصر على اليهود وحدهم بل تشمل الغريب
أيضاً “.. وكل عمل لا تعملون الوطنى (اليهودى الأصل) والغريب النازل (المتهود
من الشعوب الأخرى الساكنة بينهم) فى وسطكم “ (لاويين 16: 29).. إن يوم
الكفارة كما رأينا يشير إلى ذبيحة المسيح وعمله الفدائى.. وبركات ذبيحة المسيح
إلى كل وعلى كل الذين يؤمنون. لأنه لا فرق.. متبررين مجاناً بنعمته
بالفداء الذى بيسوع المسيح، الذى قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه ” (رومية
3: 22-25)..
إن كفارة المسيح هى للخليقة كلها “يصالح به الكل لنفسه،
عاملاً الصلح بدم صليبه، بواسطته، سواء كان ما على الأرض أم ما فى السموات ”
(كولوسى 1: 20).

ولعله من المفيد أن
نذكر أن التقليد اليهودى يذكر أن يوم الكفارة هو اليوم الذى أخطأ فيه آدم وتاب.
وهو اليوم الذى إختتن فيه إبراهيم – كعلامة للعهد مع الله بالدم – وهو اليوم الذى
عاد فيه موسى من الجبل وكفَّر عن خطية الشعب الذين عبدوا العجل الذهبى.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى