مقالات شبابية

هكذا انتصر المسيح


هكذا انتصر المسيح

…منطقٌ جديد وغريب عن العهد القديم، حبّ لا محدود يقابل الشرّ بالخير، حبّ يتّخذ من الامتناع عن مقاومة العدوان وسيلة لإنهاء العدوان ذاته، حبّ لا حنق فيه على أحد، ولا يزدري أحدًا، ويمتنع عن الإدانة والحكم : «لا تدينوا كي لا تُدانوا»، و «أنا أيضًا لا أحكم عليكِ فاذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة». حبّ يطلب الحدّ الأقصى، ويتعذّب مع أولئك الذين أساؤوا إليه، ولا يُدافع عن نفسه، ولا يحملهم المسؤوليّة، بل يشعر بالعطف عليهم، لأنّه يحبّهم. حبّ بريء من كلّ مصلحة، بل حبّ على حساب الذات وخروج كامل من مركزيّتها باتّجاه العالم. حبّ يبدل عقيدة السعادة الذّاتيّة القائمة على حبّ التملّك والحيازة والتمايز عن الآخرين. حبّ غير مسبّب، ولا يتحدّد ببواعث. حبّ إبداعيّ خلاّق يخلق نفسه بنفسه، ولا تفسير له سوى أنّه لا يفسّر.
حبّ يرسل أشعّته على الأخيار والأشرار معًا، ويهب نفسه لمن هو غير جدير به، فيخلع عليه قيمة لم تكن له. حبّ لا يكون وسيلة للوصول إلى الجمال الخالد، بل هو ذاته الجمال كلّه. حبّ لا يوصل إلى الله، بل هو نفسه الحقيقة الكماليّة والعيش بحياة إلهيّة : «كونوا كاملين كما أنّ أباكم السّماوي كامل». حبّ يطرد إرادة السيطرة : «فمن أراد أن يصير فيكم عظيمًا يكون خادمًا، ومن أراد أن يصير فيكم أوّلاً يكون للجميع عبدًا». حبّ يستلزم التضحية بالذات : «من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقّني». بل هو حبّ يزدهر بالموت من أجل الآخرين، ويخلق من كلّ موت عودة حياة جديدة : «فمن حفظ حياته خسرها، ومن خسر حياته من أجلي حفظها».
«ومتى صلّيتم فلا تكونوا كالمرائين. وإذا صلّيت فادخل حجرتك وأوصد الباب وصلّ لأبيك الذي هناك في الخفية، واحترزوا أن تصنعوا برّكم قدّام الناس لكي ينظروا إليكم وإلاّ فلا أجر لكم، ومتى صمتم فلا تكونوا معبّسين كالمرائين، وأمّا أنت فإذا صمت فطيّب رأسك واغسل وجهك. لكي لا يظهر للناس أنّك صائم، بل لأبيك».
تعليمات لا تتّصل بالسلوك الخارجيّن بل تجعل من الواقع الباطنيّ وحده الحياة والحقيقة والنور، وتخلق الغبطة الرّوحيّة في الحياة اليوميّة التي لا تتطلّب برهانًا ولا معجزة ولا وعدًا ولا مكافأة، بل هي في ذاتها البرهان والمعجزة والمكافأة والوعد. إنّها رسالة : تتّصل بأعمق صميم الرّوح وبكيانها قبل اتّصالها بأيّ عمل، وتراهن على الإرادة الخيّرة التي متى وجدت لا يمكن للعالم بحال من الأحوال أن يعكّر صفو الكينونة الإنسانيّة : «ليس ما يدخل الفم ينجّس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا ينجّس الإنسان»، وتدعو إلى نقاء السريرة، فبذرة الشرّ تقبع في أعمق خفايا القلب، وليس العمل الأثيم سوى القشرة الرقيقة لهذا الشرّ : «سمعتم أنّه قيل لكم لا تزنِ، أمّا أنا فأقول لكم إنّ من نظر إلى امرأة في شهوة فقد زنى بها في قلبه».
لم يطرد المسيح أحدًا، لأنّ عنايته انصبّت على ما يوقد النور الباطنيّ، النور الذي به يرى المؤمن، ويحبّ. فذهب إلى أشخاص ذوي سلوك سيّئ، وسمح لامرأة بأنْ تبذر طيبًا في دهن قدميه، لأنّ إيمانها جعلها «تعمل بي عملاً حسنًا»، ودافع عن الخاطئة التي آمنت به وأحبّته، وقرّب إليه الفقراء والصّعاليك والخطأة وذوي العاهات، لأنّ روحهم ليّنة ومتأهّبة لقبول الاعتقاد الجديد : «إنّ العشّارين والزوانى يسبقونكم إلى ملكوت الله»، بل ابتعد يسوع عن الواثقين من اختيار الله لهم والمسلّمين بنجاتهم مهما كان سوء عملهم.
لم يدعُ المسيح إلى أخلاق جديدة، بل حذّر من فرّيسيّة (اليهوديّة المتشدِّدة) جميع المعايير التي بسببها يكاد عالم الإنسان ينهار، وأعاد تأويل الأخلاق التوراتيّة، وعمّقها وأخرجها من سطحيّتها وشكليّتها التي كانت تسمح لنوايا الرياء والشرّ أنْ تتستّر بها : «لا تظنّوا أنّي جئت لأنقض، الشريعة والأنبياء، إنّي ما جئت لأنقض بل أكمّل». ألغى المسيح خارجيّة الفضيلة عن الإنسان في داخله، وأخرج اغتراب القيمة عن الحياة الإنسانيّة، بل أصبح الإنسان، أيّ إنسان، هو القيمة المطلقة، وما الشرّ فيه إلاّ غشاء عابر، ولم يبقَ معيار الخير يقدّر بدرجة التماهي مع الناموس الكونيّ، بل أصبح يُقاس بمداه الإنسانيّ : «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه»، ولم تبقَ الشريعة تحكم الأخلاق، بل أصبح الإنسان معيار الشريعة ومرجعها : «إنّ السبت جعل للإنسان لا الإنسان للسبت».
لم يكن نهي المسيح عن مقاومة الشرير دعوة إلى الاستلاب النرڤانيّ، أو موقف انسلاخ عن العالم، بل قلب المسيح معايير هذا العالم، وجعل الباطن الإنسانيّ ساحة المعركة الحقيقيّة. أي نَقَل الصراع من مجال السلطة والقهر والإكراه إلى المنطقة الباطنيّة للإنسان التي تقف وراء القتل والعدوان، وأنتج أدوات احتجاج لا عنفيّة تدعو إلى إعطاء الشرّير كلّ ما يريدهن لتوقعه في فخّ الحبّ والإحسان والصلاة، حتّى يتبدّد شرّه، ويتناثر خبثه. فالشرّ لا يُقضى عليه بأسلحة الشرّ وأدواتهن لأنّ «جميع من يأخذون بالسيف يهلكون بالسيف»، بل يُقضى عليه بالخير الذي لا يعرف إلاّ أن يحبّ. ولعلّ زاوية المعركة هذه هي الأصعب، لأنّ عمقها يستدعي قلقًا وتوتّرًا وشقاقًا وارتجاجات قويّة في نظام المجتمع كلّه : «لا تظنّوا أنّي جئت لألقيَ على الأرض السلام… جئت لأفرّق بين المرء وأبيه بين البنت وأمّها… ويكون أعداء الإنسان أهل بيته».
جانب المسيح الدخول من الباب الواسع، وابتعد عن الطريق الرَّحب التي يرى فيها هلاك الكثيرين، وفضّل الطريق الحرج المليء بالمخاطر، وبحث عن الباب الضيّق والصّعب والمؤلم، لأنّه سيؤدي به إلى الحياة الحقّ : «ادخلوا من الباب الضيّقن فإنّه واسع الباب ورحبة الطريق هي المؤدية إلى الهلاك، وكثير هم الذين يسلكونها. ما أضيق الباب وأحرج الطريق المؤدية إلى الحياة، وقليل الذين يجدونها». أراد المسيح أن تكون الطريق إلى مملكة الله خطرة، وأثمان الوصول إليها باهظة : «بِعْ كل ما عندك واتبعني»، وجعل أوصاف الذين يسلكونها أوصاف النبلاء


منقول من مجلة النور “هكذا انتصر المسيح”، العدد الثالث، السنة الثانية والستون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

Please consider supporting us by disabling your ad blocker!