علم الكتاب المقدس

الفصل التاسع عشر



الفصل التاسع عشر

الفصل
التاسع عشر

كتابات
بلاد الرافدين

أ-
المقدّمة

لم
يتمّ بعد إحصاء تامّ للوثائق المسماريّة التي اكتُشفت، ومن المعقول أن تكون كل
محاولة صعبة في الوقت الحاضر لأنّنا لا نملك جردة عن غنى كلّ الأمكنة القديمة. ثمّ
إنّ التقنيات تزيد كل يوم عدد الوثائق. وإنّ اكتشاف إبلة مثلاً قد جعل اللويحات
المسمارية تزداد بالآلاف. يمكننا أن نعتبر أنّنا أمام عدّة مئات من آلاف النصوص
تمتد على أكثر من ثلاثة آلاف سنة وتتورع على كلّ الشرق الأوسط بمَا فيه مصر.

في
الألف الثالث، كانت الكتابة في جنوب العراق الذي عرف اللغتين السومرية والاكادية،
كما استعمل الحروف المسمارية. واستعملت مدينة إبلة (حوالي 2400 ق. م.) (في سورية
الشمالية. تبعد 40 كلم عن حلب) الكتابة على الطين. وانتشرت الكتابة في الشرق
الأوسط، ولا سيّمَا في بداية الألف الثاني يوم سيطرت اللغة الأكادية على السومرية.

دخلت
الكتابة المسمارية في ماري وإبلة وألالخ وأوغاريت. ودوّنت بهذه الكتابة النصوصُ
الحثّية والعيلامية منذ بداية الألف الثاني. ولكن حين يأتي الألف الأوّل، تُصبح
الكتابة المسمارية ظاهرة محلّية محصورة في بلاد الرافدين. وسيأتي وقت تزاحم فيه
اللغةُ الأرامية المكتوبة بالحبر، الكتابةَ التقليدية التي ستنكش بعد دمار أشورية
حتّى تموت في أوروك.

ما
هو مضمون هذا الأدب؟ إنّه أدب نفعي. تُستعمَل الكتابة لتُعطي معلومات بسيطة:
الاحتفاظ بأوراق إدارة أعمال، نقل توجيهات أو أخبار جديدة إلى الآخرين. فالأعمال
الإداريّة والرسائل تشكّل القسم الكبير من هذه الوثائق. فإذا اخذنا ما وجدناه في
ماري، فنحن لا نستطيع أن نتكلّم عن “مكتبة” ماري بلويحاتها العشرين
ألفًا. فهناك 30 لويحة تُعتبر أدبية، وما تبقّى هو رسائل (الثلثان) وأعمال إدارية
(الثلث).

رسائل
ماري هي بأكثريتها تقارير حربية ودبلوماسية، وقليل منها هو إداري. أمّا المواضيع
الدينية والخاصّة فقليلة جدًا. وما وُجد في كبادوكية (تركيا)، في كولتابي (قيصرية)
يتألّف من عدد قليل جذَا من النصوص الأدبيّة (لا يتعدّى العشرة) ومن 15000 رسالة
وتذكير وفاتورة وجردة، كلّها تتعلّق بتجارة القصدير والنسيج.

تُقسَم
حضارة بلاد الرافدين إلى حضارة سومرية وحضارة أكادية. إنّها قسمة لغوية لا تعطي
فكرة كاملة عن الواقع، ولكنّنا نستعملها، ونحن عالمون أنّ النصّ الأدبي كُتب
أوّلاً في السومرية ثمّ في الأكادية. هذا يعني أنّ لغةً حلّت محلّ لغة دون أن تخسر
السومرية أولويتها وألقها.

وقبل
أن نتحدّث عن العالم السومري والعالم الأكادي، نذكر بعض المكتبات. الأولى: مكتبة
أوردي نرجال في سلطان تيبي وفيها ملاحم (الخلق، حلجامش، أسطورة زو، آرا، نرجال
وارشكيجال) وكتب حكمة (يبدأ الأوّل: أريد أن أمتدح رب الحكمة، والثاني: الرجل
المسكين في نيفور) ونصوص شعرية ودينية. الثانية: مكتبة تجلت فلاسر الأوّل التي هي
بالأحرى نتيجة نشاط المكتبة. الثالثة: مكتبة اشور بانيبال. ولنا رسائل يأمر فيها
الملك بنقل النصوص من بابل إلى نينوى.

 

ب-
العالم السومري

1
– الأدب السومري.

إنّه
أغنى من الأدب الأكادي، ولكن لم يصل كتاب إلى جمال جلجامش، أو مؤلّف إلى أنوما
اليش الذي هو خلاصة لاهوتية حقيقية. ثمّ إنّ اللغة السومرية لم تثرك لنا نصوصًا
سحرية.

أفضل
ما نعرفه من هذا الأدب هو تقليد نيفور عاصمة السومريين الدينية الكبرى ومقام الإله
انليل ملك الآلهة. ولقد قدّمت لنا نيفور اللغة الكلاسيكية. وهناك تقليد كيش، في
شمالي العراق، وأريدو في جنوب أرض سومر وعلى حدود الخليج الفارسي. وقد كانت كيش
المركز الذي منه انطلقت الثقافة والكتابة السومرية نحو شمال بلاد الرافدين.

 

2-
الأساطير السومرية.

الأساطير
السومرية أكثر عددًا من الأساطير الأكادية وهي تشير إلى حدث محدّد في خبر بسيط
تتراوح أشعاره بين 500 و1000 بيت.

نذكر
أوّلاً أساطير البدايات وهي كثيرة: أسطورة انليل ونين ليل. أغوى انليل من ستكون
ملكة الآلهة العظمى، فأنجب منها الإله القمر، نانار، مسلمنيئا إله الجحيم، نين ازو
إله الأرض المزروعة، انبيلولو إله القنوات. وهناك أسطورة أخرى (انكي ونين حورساج)
تروي كيف أنّ الإله أغوى الإلاهة الأمّ العظمى، فتجامع مع ابنتها على التوالي إلى
أن وضعت نين حورساج حدًّا لهذا التصرّف. وفي انانة وانكي، روى النص كيفا أسكرت
الإلاهة الإله فسلّمها “مي ” وهي رموز الحضارة السومرية. أمّا هي فأخذتها
إلى اوروك رغم الاله الذي تخلّص من سكره وصارت أول الآلهة.

أعطي
لكل إله رئيسي دورة ميتولوجية: انليل، انانة الإهة الحبّ والحرب، انكي إله الحكمة
والمياه الاولانية التي تسبح عليها الأرض. أمّا أهمّ دورة فترتبط بالإلاهة انانة.
فأسطورة انكي وانانة تُنشد عظمة انانة، وقصيدة انانة وجبل ابيح تنشد مآثرها
المجيدة. وأشهر القصائد قصيدة نزولها إلى الجحيم المعروفة في ترجمة أكادية
والمؤلفة من أقل من 500 بيت: فشلت الالاهة في محاولتها تدمير نظام العالم، فحُكم
عليها بالموت. قامت بفضل حيلة الاله انكي وصعدت على الأرض وتبادلت الأدوار مع
زوجها دوموزي الذي حلّ محلّها في الجحيم.

ونذكر
أخيرًا نصوصًا تتكلّم عن دوموزي الذي يغازل زوجته العتيدة. وأسطورة “موت
دوموزي ” تذكر مطاردة الشياطين لدوموزي ليعودوا به إلى الجحيم فيحل محل زوجته
انانة. ولكنّ جشتين آنا، اخت انانة، عطفت عليه وضحت في سبيله فقبلت أن تحلّ محلّه
ستة أشهر كل سنة في عالم الموتى.

 

3-
الأناشيد السومرية

تتوجّه
إلى الآلهة وتتوجّه أيضاً إلى الملوك الذين أُلّهوا وهم أحياء.

أمّا
أشهر الأناشيد (أو التسابيح) الموجّهة إلى الآلهة فنشيد موجّه إلى انليل ملك
الآلهة القويّ القدير الذي لا يستحيل عليه شيء. أمّا الملك السامي فهو شولجي ثاني
ملك في سلالة أور الثالثة. في أيّامه عرفت أرض سومر ذروة مجدها قبل أن تزول على يد
العيلاميين. تُصوّر الأناشيد الملك شولجي كانسان متفوّق في عالم الثقافة كما في
الرياضة البدنيّة. إنّه يعرف ويمارس كل لغات العالم، ويفهم كل الفنون، ويتفوّق في
كل رياضة، ويقدر أن يقطع المسافة ذهابًا وإيابًا في يوم واحد بين عاصمته أور
وعاصمة ملك الآلهة.

وهناك
أناشيد تمتدح المدن الكبرى: نشيد نيفور، نشيد كيش (منذ حقبة ابو صلابيخ): وأهمّ ما
في المدينة هو هيكل الآلهة. كما نمتلك نشيدًا يورد أسماء هياكل بلاد سومر أمّا
أهمّ النصوص فتلك التي ألّفها جوديا حاكم (انسي) لجش إكرامًا لأنينو، الذي هو هيكل
الإله نين جرشو. يروي لنا حلمًا رآه الملك وفيه قَبِل بالمهمّة الالهية، ويروي لنا
بناء هذا الهيكل ويطيل الحديث عن جماله.

 

4-
المراثي السومرية

يشكّل
رثاء المدن والهياكل المدمرة قسمًا هامًّا في الأدب السومري والاكادي. نجد ما
يقابله في مراثي إرميا بعد دمار هيكل أورشليم. نحن نعرف حمس مراثي سومرية تتناول
مدن أور، نيفور، أوروك، أريدو، كما تتناول أرض سومر ومدينة أور.

تصوّر
هذه النصوص الدمار السريع الذي حلّ بهذه المدن. بهياكلها، بالأرض المزروعة التي
تحيط بها. ترك السكان العظماء مدينتهم، بعد أن هجرتها الآلهة التي تحامي عنها،
وأهملت العبادة التقليدية. يُنسب هذا الدمار إلى قرار اتّخذه الآلهة المجتمعون
ونفّذته عاصفة هائلة واجتياح العدو. وتُصوّر هذا المراثي كيف أعيد بناء تلك المدن
المدمّرة كيف عاد إليها آلهتها. وينتهي النص بصلاة توجّه إلى الالهة.

تلمح
هذه المراثي إلى أحداث تاريخيّة حقيقيّة: القلاقل التي وضعت حدًا لسلالة أور
الثالثة حوالي سنة 2000 ق. م. غير انّ التأليف جاء بعد الأحداث بقرن من الزمن،
لهذا لن نبحث عن تصوير دقيق للاضطرابات السياسية والعسكرية التي عرفتها أرض سومر
في ذلك الزمان.

لماذا
ألّفت هذه المراثي؟ ألّفت في إطار عبادي: حين يُنقل تمثال الإله أو حين يُبنى معبد
جديد، تُنشَد هذه المراثي.

وهناك
نوع آخر من المراثي يوضع في فم الاهة من الالاهات. ففي إحدى النصوص تبكي نينيسينا
دمار مدينتها وهيكلها واختفاء زوجها وابنتها. وفي نص آخر تبكي انانة، الإهة اوروك،
للأسباب عينها. ونمتلك أيضاً مراثي جشتين آنة التي تبكي اختفاء أخيها دوموزي الذي
جرته الجحيم إليها. وهناك تلميح في ملحمة جلجامش يجعلنا نفكر أنّه كان لهذه
المراثي دور ليتورجي: فشهر تموز كان مكرّسًا لإله الخصب الذي قُتل وظلّ أسيرًا في
الجحيم.

 

5-
حوارات وأمثال

*
الحوارات: هي قطع أدبية يتواجه فيها مفهومان أساسيّان في نظر السومريين: حوار بين
الصيف والشتاء، بين العصفورة والسمكة، بين الفضة والنحاس، بين المطرقة والصند..

الأمثال:
نجدها في لويحات، وقد رتّبت في مجموعات عديدة. تتطرّق إلى الحكمة التقليدية وقد
تقدّم قصيدة تُبرز حكمة وتعليمًا.

*
الحياة في المدرسة: تصوّر النصوصُ حياة التلميذ السومري ومعانته في إطار من الهزل
والجدّ، كما تُورد برنامج الدروس ولائحة بالأسئلة المطروحة على الطالب. وهناك قسم
من هذه النصوص وصل إلينا في اللغة السومرية واللغة الأكادية معًا.

 

ج-
العالم الأكادي

1
– الأدب الأكادي

نحن
هنا في أدب “حديث ” من جهة النظرة ومن جهة التأليف. فالقصائد الملحمية
مبنية بناءً محكمًا، ويدلّنا جلجامش على قصة شخص وعلى تطوّره. وهناك نصوص تركت
التكرار المملّ، ودعتنا إلى تفكير حقيقي.

انّ
أوّل المؤلّفات الأدبية في اللغة الأكادية تعود إلى الزمن البابلي القديم، أي في
القرن 17 ق. م. في هذا الوقت، إمتزج السكّان في الشرق الأوسط، وامتزجت لغاتهم
وعاداتهم. وستظهر الممالك الكبرى التي تعمّ بلاد الشرق كلّه. وقد لعبت بابلونية
دورًا سياسيًا رئيسيًا في تكوين أدب بلاد الرافدين. ونلاحظ انقطاعًا عن التقنيات
الأدبية والفنية لدى السومريين، وجهلاً وإهمالاً لكل ما أنتجته الحضارة السومرية.
بقيت أسماء بعض الأبطال، وعاشت ذكريات نُسبت إليهم. امّا المؤلّفات السومريّة
الكلاسيكيّة فقد زالت من الوجود. وما بقي وُجد في ترجمة أكادية. مثلاً: خبر الإله
نينورتا كما رواه نص “عودة نينورتا الى نيفور”، ولوجالي (هكذا يبدأ
النص) الذي هو مؤلّف ايتولوجي (يروي الأسباب) يروي حرب الإله مع الشيطان أساكو
الذي ساعدته الحجارة في حربه. وفي نهاية المؤلّف يُثبت الإلهُ المنتصر بالبركات أو
اللعنات موضعَ كل حجر وهناك نتف من نصوص في لغتين: لوجال بندا، انليل ونين ماح.

وإن
بقي نشيد مثل “النزول إلى الجحيم “، فهو ملخّص جاف لنصّ لا يرجع فيه
جامعه إلى النص السومري. وتمثّل ملحمة جلجامش نصًا جديدًا أعاد أحد الأشخاص صياغته
انطلاقًا من مؤلّفات قديمة. فإذا وضعنا هذا جانبًا، نلاحظ انّ هذا الأدب تخلّى عن
دورات نيفور البطوليّة. ولكن ظهرت فجأة مؤلّفات ما كنّا لنحسب لها حسابًا. أناشيد
اتراحسيس أو خلق العالم (انوما اليش) أو أناشيد نرجال وارشكيجال التي تروي خبرًا
تُخت فيه الإلاهة السفلى من ملوك الأرض.

وظهرت
كتب الروس التي لم يعرفها الأدب السومري، وحلّت النصوص التاريخيّة المشوّقة
والمعلّلة محل المدوّنات الرتيبة التي ورثتها بلاد الرافدين عن السومريين. وازدهر
أدب تقني: نصوص معجمية مع ترجمة بابلية. وتوسّعت أيضاً التسابيح والمزامير.

 

2-
الأساطير

لا
نستطيع أن نتطرّق إلى كل الأساطير، ونحن لا نعرف بعضها إلاّ من خلال تلميحات في
كتب الطقوس والتعزيم.

*
نشيد انوما اليش (لما في العلى..). خبر ينطلق من خلق الكون ويصل إلى ظهور الإنسان.
أمّا نشيد اتراحسيس، فينطق من خلق الإنسان ليصل إلى قرار يسمح بالحياة للجنس
البشري مع ضعفه وأخطائه. قد يبدو هذان النشيدان وكأنّ الواحد يكمّل الآخر، إلاّ
انّ الواقع يبيّن انّهما مستقلاّن وأنّهما يختلفان في منطلقهما وبعض أخبارهما.

كانت
انوما اليش مؤلّفًا هامًّا في نظر البابليين، ولهذا بقيت لنا منها المخطوطات
العديدة منذ الألف الثاني ق. م. تتألّف من سبع لويحات وتمتد على 1100 بيت من
الشعر. حفظت لنا كلّها تقريبًا، وهي تحاول أن تُظهر شرعية سلطان مردوك الشامل على
كل الآلهة وعلى كل الكون. كان مردوك في البداية إله مدينة بابل، فصار ملك الآلهة.
إنّه اتّخذ صور كل الآلهة في محاولة تلفيقية. ولكن لم يصل البابليون إلى مفهوم
الإله الواحد. انوما اليش هو أفضل تعبير عن اللاهوت البابلي، وقد اعتاد الكهنة أن
ينشدوه بأبّهة في عيد رأس السنة.

ماذا
يروي نشيد انوما اليش؟ في البدء، أراد تيامات (البحر) أن يسحق الخليقة أي الآلهة
أبناءه الذين تعاقبوا فصاروا أشخاصًا مميّزين وابتعدوا عن قوى السديم الأولى. وقد
أقام هؤلاء الآلهة المتأخّرون علائق مع الجيل الاولاني تشبه علائق البشر مع الالهة
الذين خلقوهم في أتراحسيس: وهكذا أتعبوا الزوجين الأوّلين. فانقلب هذا الصراع بين
الأجيال حربًا لا هوادة فيها خسر الآلهة المعركة الأولى، فانتخبوا مردوك رئيسًا
فقتل تيامات. ولكنّه لم ينتصر إلاّ لأنّ الآلهة وضعوا كل سلطاتهم في يده. إختبروا
قدرته الإلهية حين خلقوا في السماء مجموعة نجوم. استطاع مردوك أن يدمّرها ويعيد
خلقها، فدلّ على انّ سلطانه يوازي سلطان مجموعة الآلهة وانّ قدرة الآلهة لا تحدّ
من لم قدرته. ومن بقايا كائنات السديم خلق العالم. وتمّ الخلق حين ظهر الناس وظهرت
بابل. وأُعلن انتصار مردوك بتنظيم أسمائهم الخمسين حيث يلعب كل اسم دورًا جوهريًا
ويتحمّل مسؤولية وجه إلهي.

*
اتراحسيس. مؤلّف تقلّ أهميّته اللاهوتية عن أهمية انوما اليش. نمتلك نسختين لهذا
النشيد. الأولى تعود إلى منتصف القرن 17 ق. م. والثانية إلى النصف الأوّل للألف
الأوّل، وكلتاهما غير كاملتين. يروي الشاعر خلق الإنسان: مُزج دم الإله بالطين.
وحين تكاثر البشر بدأ الآلهة يحسّون بالضيق. فقام الآلهة بمحاولات ليسحقوا
خليقتهم، وكان الطوفان إحدى هذه المحاولات، ولكن عبثًا.

*
نشيد “آرا”. هو أقصر من النشيدين السابقين. يتألّف من 800 بيت شعر
تقريبًا. دوّن في الألف الأوّل وهو يكاد لا يتضمّن خبرًا. يتألّف من سلسلة من
الحوارات. نحن أمام مصائب بابل. توصل آرا إله الجحيم والوباء بمعونة “الآلهة
السبعة” أن يقنع مردوك بأن يترك معبده موقتًا. هذا موضوع أساسي في فكر بلاد
الرافدين، وهو أنّ ذهاب الإله يعني تدمير المدينة. ما إن ذهب مردوك، حتّى اجتاح
آرا وتبّاعه بابل والمدن المحيطة بها. ولكن توصّل اشوم، ضابط آرا، أن يهدّئ غضب
سيّده. فنجت بابل. بل إنّ كلّ من يقرأ النشيد الذي يذكر غضب آرا ينجو من الوباء.
بحث العلماء عن خلفيّة تاريخيّة لهذه القصيدة فوجدوا خلفيات عديدة ترتبط بقوّة
الرب والشر.

ونتوقّف
هنا عند موضوعين: خلق الإنسان، الطوفان.

 

أوّلاً:
خلق الإنسان

اتّفقت
النصوص السومرية والاكادية على القول إنّ الإنسان خُلق لكي يشتغل ويعمل، فيحرّر
الآلهة من هذا الهمّ. فهم قبل خلق البشر الأوّلين، كانوا مثل البشر كان عليهم أن
يحملوا سلة الطين كالبابليين من أجل بناء الهياكل، أن يحفروا القنوات للري. وإذ
تُصوّر لنا بداية أتراحسيس ثورة الآلهة الأدنياء المجبرين على العمل من أجل الآلهة
الرفيعين، فهي تشير إلى ثورات العمّال في كلّ الشرق الأوسط القديم. تبيّن لنا
اللوحة كيف أنّ العمّال يمسكون الوكيل بعد أن يحرقوا أدوات العمل ويعلنوا
مسؤوليّتهم الجماعيّة دون العودة إلى من يقودهم. أما أرفع عمل يقوم به البشر فهو
إتمام العبادة للالهة.

كيف
ظهر الإنسان؟ جُبل من عجين طيني. وهناك نصوص عديدة تقول لنا بأنّ الطين مُزج بدم
إله: وا إيلا في اتراحسيس، كنجو في انوما اليش.. وكانت نصوص أخرى تعود إلى العالم
السومري: خرج الإنسان من الأرض كما يخرج النبات.

كيف
تكاثر البشر من دون زنى بين الأقارب؟ لم يُخلق في البدء رجل وامرأة واحدة، بل
أزواج عديدة وصلوا إلى سبعة. كان الأوّلون من البرابرة المتوحّشين، كانوا عراة
وكانوا يرعون الحشيش كالحيوان. فعلّمهم الآلهة (أو من أرسلوهم) الحضارة وكيفيّة
بناء المدن.

 

ثانيًا:
الطوفان

نمتلك
اليوم نسخات عديدة عن الطوفان في السومرية وفي الأكادية، كلّها جاءت متأخّرة. لا
يبدو أنّ موضوع فيضان يدمّر البشرية يرتبط بالإرث السومري، وإن تكن صورة عاصفة
مدمّرة قد وُجدت لتعبّر عن قدرة إلهيّة لدى انليل وانانة.

حُفظ
النص السومري في لوحة مقطّعة في متحف فيلَدلفيا (الولايات المتّحدة). نحن أمام خبر
قصير: “إجتمعت الرياح السيئة، اجتمعت العواصف، وأغرق الفيضان.. بعد أن أغرق
الفيضان البلاد سبعة أيّام وسبع ليالٍ، وزعزعت الريح السيّئة السفينة الكبيرة التي
على المياه العُظمى، خرجت الشمس فجعلت النور في السماء وعلى الأرض. جعل زي أوسودرا
فتحة في السفينة الضخمة وترك الشمس تدخل مع نورها إلى السفينة الضخمة. ركع زي
أوسودرا الملك أمام الشمس، وهو الملك البقرَ وأكثرَ من الذبائح..

يأتي
الحدث بعد أحداث أخرى يبدو تسلسلها غامضًا بسبب الفجوات في الخبر (تلف النص). أمّا
النسخة الأكادية فتُبيّن لنا أنّ الطوفان هو المحاولة الرابعة التي قام بها الآلهة
ليدمّروا الإنسان. لجأوا في ما سبق إلى شرور أقل تطرّفا. فبيّن لنا نشيد اتراحسيس
الوباء يضرب الأرض، ثمّ الجفاف، ثمّ مصيبة أخرى تجعل الأرض بيضاء كالملح، وهذا ما
سبّب الأمراض الجلديّة والهزال العام.

مرّة
تدخّل أتراحسيس لدى الهه، ومرّة آيا (= انكي) الذي لم يكن يقاسم سائر الآلهة رأيهم
في تدمر البشر، وهكذا كانت الضربة لا تفعل فعلها. أمّا الطوفان، فبدا المحاولة
الحالة التي لن تفشل. غير أنّ آيا وجد وسيلة في بناء سفينة، فرسم تصميمها على
الأرض من أجل أتراحسيس الذي يجهل كل شيء. ويروي أتراحسيس (= نوح البابلي) لشيوخ
المدينة أنّه يريد أن يترك بلده. قال: إن إلهي لا يتفاهم مع إلهكم. ويذهب يعيش عند
أيا رب القمر ثمّ نقرأ عن الضربة التي تملأ قلوب الآلهة هلعًا. وبكت الإلاهة مامي
التي خلقت البشر وانتحبت، فرّق الآلهة وتركوا البقيّة الباقية تحيا ولا تموت.

يبدو
أنّ هذا الخبر يعود إلى الحقبة البابلية القديمة. وتبعه تصوير موسّع لظاهرة
الطوفان في ملحمة جلجامش (اللويحة 11). وُضع الخبر في فم أوتانفستيم (اسم آخر لنوح
في بلاد الرفدين). وهو يروي لجلجامش كيف صار خالدًا. حين تقرّر الطوفان، وجد ايا
وسيلة لكي بخلّص أوتا نفستيم الذي تعبّد له. وقال أوتا نفستيم لمُعاصريه ما قاله
اتراحسيس، فتركوه يبني الفلك (السفينة). بل بيّن لهم علاقته بالآلهة. أعلن
للمائتين أن ستأتيهم أمطار كثيرة. فرح أهل الفيافي الصحراوية، ولكنّهم لم يدروا
أنّ المطر لن يتوقّف فيحمل إليهم الموت لا الحياة.

جعل
اوتو نفستيم في سفينته الذهب والفضة وقطعانه وعائلته وعائلة حميّه، كما جعل
حيوانات مُفترسة وصنّاعًا ماهرين. هو لم يخلّص فقط عينيّة من كل حي، بل ما يساعده
على تنظيم الحياة في مدينة من مدن بلاد الرافدين مع ينبوع الغنى من مواد ثمينة ومن
قطعان. وخلّص أناسًا يستطيع أن يتزوّج بهم، ووحوشا يستطيع أن يصطادها، وصنّاعًا
يسيّرون العمل في مصانع الملك. ونحن نعلم أنّ زي أوسودرا ليس “بارًّا”
بل “ملكًا”. إذن نجا أوتا نفستيم ونجا معه كلّ ما يساعد على بناء مملكة
جديدة في بلاد الرافدين.

دُمّر
كل شيء، فارتعب الآلهة وتأسّفت عشتار على هلاك البشر الذين هم أولادها. وبعد سبعة
أيّام من الطوفان، توقّف المطر وأُرسلت العصافير (الحمامة، السنونو، الغراب)
لتتعرّف إلى الارض. وحين خرج أوتا نفستيم من السفينة، قدّم ذبيحة للالهة
“فتجمهروا حولها كالذباب “. غضب انليل لأنّه رأى انّ الدمار لم يكن
شاملاً فنبّهه أيا: لا بد من معاقبة الخاطئ وإرسال الضربة عليه، ولكن كيف نهاجم
مبدأ الحياة نفسه. كان على انليل أن يرسل الوباء أو الجفاف (كما يقول اتراحسيس) لا
الطوفان.

لماذا
تمّت محاولة الدمار هذه؟ لا تعطي النصوص الجواب عينه. فالسبب في النسخة السومرية
غير واضح. ويُعطينا نشيد اتراحسيس جوابًا بسيطًا نكتشفه في الردّة التي تنبئ بكل
محاولة من محاولات محق الجنس البشري، “لم تمرّ اثنتا عشرة سنة حتى امتدت
البلاد وتكاثر السكان. كانت البلاد تعج كالثور فانزعج الإله من عجيجها”.

إذًا،
اتّهم انليل البشر بأنّهم يمنعون عنه النوم. فهذه الضجّة الخارجية تقابل
“صراخ الإثم” في التوراة. أمّا في نسخة جلجامش فلا نجد السبب الذي لأجله
جاء الطوفان. فالنشيد يقول: “حين قرّر الآلهة الطوفان.. “. أمّا كلمات
أيا حين يوبّخ انليل، فتدلّ بوضوح على أنّه أرسل الطوفان ليعاقب الخطيئة، لا ليوقف
ضجّة تزعجه في نومه. وفي الرواية اللاهوتية الأخيرة سنعرف أنّ انليل هو
“الإله الذي لا ينام “.

نلاحظ
أسماء أبطال الطوفان. زي أودسورا أي ذلك الذي منح أيّامًا طويلة. هذا يعني أنّه
عاش بعد الطوفان. أوتونفستيم. نفستم أي الحياة الطويلة، إذا عدنا إلى السومري
أوتا. أتراحسيس يعني: الحكيم جدًّا.

 

3-
أخبار البطولات

ترك
لنا أدب بلاد الرافدين مقاطع مهمّة من النصوص الملحميّة. والأبطال هم ملوك من
الزمن القديم عرفوا شكلاً من أشكال التأليه. حدثت مغامراتهم في الماضي السحيق يوم
كان الآلهة على اتّصال بالبشر وأنشدت هذه النصوص أيضاً أعمالَ الملوك في الأزمنة
التاريخيّة بطريقة شعرية رفعت هؤلاء الملوك إلى مقام الأقدمين الذين كانوا لهم
مثالاً.

أمّا
البطل المثالي فهو جلجامش من خلال الملحمة التي تُنشد أعماله.

*
ملحمة جلجامش تتألّف من 12 لويحة وتتضمّن 3600 بيت شعر تقريبًا. انتشرت انتشارًا
واسعًا، فوصلت منها مقاطع إلى فلسطين والأناضول. وقد استُعملت أقلّه أربع لغات
لتنشد هذا البطل السومري في البدء. ثم جاء الأكادي الذي أعطى الملحمة وجهها الأدبي
الرفيع، ثمّ اللغة الحثيّة واللغة الحوريّة.

نحن
نمتلك في الأكادية نسختين تختلفان في الزمن. الأولى تعود إلى الحقبة البابليّة
القديمة. تشوّهت، فلم يبقَ لنا من الملحمة إلاّ بدايتها. والثانية دُوّنت في نهاية
الألف الثاني ق. م. بيد سين ليقي أونيني. انطلق الكاتب من قصائد سومريّة مُتنوّعة
ومُستقلّة بعضها عن بعض، فقدّم لنا أعمال ملك أوروك الأسطوريّة.

تنقسم
هذه القصيدة قسمين مُختلفين. فاللويحات الست الأولى تقدّم نشيدًا يُكرَّم فيه
الشاب المُحارب والمليء بالحياة. تُنشد أعمال جلجامش وصديقه أنكيدو. حين يبدأ
الكتاب، نجد جلجامش شابًا فخورًا بنفسه ومتسلّطًا على الآخرين. أرسل اليه الآلهة
مزاحمًا يستطيع أن يتغلّب عليه. كوَّنوا من الطين رجلاً وحشيًا يعيش حياة الطبيعة
البسيطة وسط الحيوانات المُفترسة، وأرسلوه ليقهر ملك المدينة الفاسدة. في ذلك
الوقت، كان مصير جلجامش يشبه مصير سائر البشر الأوّلين. ففي البشر شيء من الآلهة
بعد ذبيحة الإله وائيلة. وجلجامش أيضاً: ثلثاه إله وثلثه إنسان، لائه ابن الالاهة
نين سون. أمّا انكيدو فحاول أن يُدمّر جلجامش بمُحاولة تشبه الوباء والجوع اللذين
ضربا البشريّة في نشيد أتراحسيس. وعرف ملك أوروك مسبّقًا بمَا سيحصل بواسطة أحلام
أعلمته بمجيء مُزاحم له. وكان تدخّل خارجي أبعده عن الخطر.

وتعود
ملحمة جلجامش إلى النماذج البابلية عن البدايات، فتقدّم مُغامرة تلفت النظر. لم
يعد أنكيدو ذلك البطل الذي لا يُقهر، بسبب المعرفة الجنسيّة مع زانية جاءه بها أحد
الصيّادين. قال الصيّاد للمرأة: “اكشفي صدرك، اكشفي ساقيك وليأخذ منك كل لذّة
له، لا تهربي بل خذي منه نفسه والرمق”.

وفي
النسخة القديمة، نرى الأعمال الأولى التي يقوم بها أنكيدو ليدخل في عالم البشر:
يأكل الخبز، لا العشب، يشرب البيرة لا الماء. وحين مارس العمل الجنسي طُرد من نظام
الطبيعة: “حين شبع من اللذة التي أعطته إياها الطبيعة، أراد أن يعود إلى
سرابه. ورأت الغزلان أنكيدو فهربت. رأته الحيوانات المُفترسة فابتعدت عنه. وأراد
أنكيدو أن ينطلق في إثرها.. ولكنّه صار ضعيف البنية. صار عاجزًا فما عاد يستطيع أن
يركض كما في السابق “.

ولكنّه
تفتّح ووسعّ عقله، وصارت المواجهة بين جلجامش وأنكيدو مواجهة بين قوّتين
مُتساويتين. لن يستطيع الواحد أن يتغلّب على الآخر. إذًا، سيتعاونان ليحتلاّ
العالم. وسارا في رحلة على جبال الأرز فقتلا المارد هومبابا الذي يحميه إله الشمس.

فرح
جلجامش بانتصاراته وانتشى، فأبغض الآلهة وقرّر مهاجمتهم. أحبّت عشتار هذا البطل
وقدّمت له حبّها فرفضه بازدراء. أحسّت الإلاهة بالاهانة، فأجبرت أباها (إله
السماء) أن يرسل على مدينة أوروك ثورًا هائلاً. ولكنّ جلجامش قتل الثور (بمُساعدة
انكيدو)، فوصل إلى قمّة مجده، لأنّه استطلاع أن يتغلّب على الضربات التي ترسلها
الآلهة نفسها.

وواجه
الآلهة مشكلة الحد من قوّة جلجامش. أرادوا تدمير البشريّة، فأرسلوا الطوفان،
وأرادوا قتل الإنسان وتدمير كل حياة فلجأوا إلى المواجهة الحالة فذكّروا جلجامش
أنّ الموت موجود. إذًا، مات أنكيدو، ففهم صاحبه أنّ لكل حياة نهاية.

يحتل
مرض وموت انكيدو اللوحتين السابعة والثامنة. وإذ أراد جلجامش أن يتغلّب على الموت
لجأ إلى حيل ثلاث. بدأ فأنكر واقع الموت، رفض أن يدفن صديقه. ولكن أنتن الجسد وخرج
الدود من أنفه. والمُحاولة الثانية: صنع تمثالاً يذكّره بجسده (جسد صديقه) الذاهب
إلى الزوال. ولكن فهم جلجامش أنّه مهما علت قيمة المواد المُستعملة، ومها ندرت
مهارة الصنّاع، إلاّ أنّ التمثال جامد لا يتحرّك. حينئذ حاول جلجامش أن يفلت هو
نفسه من الموت. فبدأ سفرة طويلة يبحث فيها عن شجرة الحياة. التقى كائنات عجيبة:
الإنسان العقرب الذي يحفظ الطريق التي تمرّ فيها الشمس خلال الليل. وصاحبة المقهى
التي هي سيّدة الملذّات الجنسيّة. نبهّته أنّ الموت هو حصّة البشر فعلى طالب
الحياة أن يبحث عن اللذّة، ويجب أن تكون اللذّة متواصلة: “أنت، يا جلجامش،
ليكن بطنك مُمتلئًا”. وحين وصل جلجامش إلى أقاصي الأرض عبَر “مياه
الموت” فوصل إلى المكان الذي يعيش فيه الإنسان الوحيد الذي لم يمت لأنّه أفلت
من الطوفان: إنّه أوتانفستيم. وهو يروى له خبر الطوفان. ثمّ يُشفق عليه فيدلّه على
شجرة الحياة الموجودة في قعر البحر. ينزل جلجامش ويأخذها، ولكنّ الحيّة أكدت
الشجرة وهو عائد بها إلى الأرض. ويُبيّن النشيد أنّ الخلود الوحيد الذي يجب على
الإنسان أن يطمح اليه هو تواصل نسله ومدينته. “إصعد، يا اورشنابي، على سور
أوروك وتجوّل، تفحّص الأساسات، ودقّق في القواعد. أنظر: هل القواعد من اللبن
المطبوخ؟ وهل وضعَ الحكماء السبعة الأساس”؟

وتورد
اللويحة 12 حوارًا بين جلجامش وأنكيدو حول مصير البشر بعد موتهم في الجحيم. إنّها
قد أخذت عن التقليد السومري.

*
دورة “ملوك أجادي”. تشبه مآثرُهم الراويةَ التاريخيّة والسيرة التقوّية.
أمّا الملوك المذكورون فعاشوا في شمال بلاد الرافدين.

*
أعمال سرجون. تُبيّن كيف دخل الملك الشيخ إلى الأناضول الأوسط. نحن نملك قطعة
صغيرة من عمل أوسع. وقد حفظ لنا الحثيون في لغتهم خبرًا ملحميًا يتعلّق بملك
أجادي.

*
أسطورة ملك كوتا. تتطرّق إلى هزائم حربيّة مُني بها أحد خلفاء سرجون على العرش وهو
نرام سين. فالكون كلّه ثار عليه باجتياح غرباء نصفهم بشر ونصفهم حيوان.

*
أعمال توكلتي نينورتا. تألّفت من 700 بيت شعر وأنشدت أمجاد ملك أشور الذي سيطر على
بابل المجيدة.

وهناك
تآليف تروي حملة هدد نيراري على نازى ماروتا، وشلمنصّر على الأرمن. وقد وُجد في
أرشيف مارى ملحمة (100 بيت شعر) تُنشد الحملات التي انتصر فيها الملك زمري ليم،
كيف نُصّب ملكًا بطريقة احتفالية في معبد داجون الكبير في طرقة.

 

4-
تسابيح وصلوات

إنّ
بنية التسابيح الأكادية بسيطة: سلسلة من الأوصاف والمدائح تتوجّه إلى الإله.
يتحدّث التسبيح عن الإله أو يوجّه الحديث إليه. أو هو الإله يتكلّم فينسب إلى نفسه
كل قدرة كل مجد.

*
نشيد لشمش. يعود إلى النصف الثاني من الألف الثاني. شمش هو الإله الشعبي في مجمع
الآلة وله معابد في لارسا في أرض سومر، وسيبار في أرض أكاد، ولكنّه ليس الوجه
الأوّل. فوالده سين، إله القمر، يتقدّمه. كما أنّ آلهة الحرب دخلت في ميتولوجيا
واسعة. وكانت أيّام سيطر فيها انليل، مردوك، عشتار. شمش هو الإله الذي يحمل النور
إلى العالم، ولهذا فهو عدو الظلّ، وما هو خفي وما نريد أن نخفيه. شمش هو إله
العدالة وهو إله العرافة الذي يكشف مستقبلاً لا ندركه. يتضمّن التسبيح المقدّم له
200 بيت شعر ذات طابع لاهوتي. فالشاعر يعبّر عن سجوده لمن سمّي “راعي البشر”.

*
تسبيح لعشتار. وعشتار هي أيضاً موضوع أدب واسع. بقي لنا تسبيح جميل ني مخطوط يعود
إلى بداية القرن 17، فيساعدنا على تحديد العلاقة بين التسبيح وشعائر العبادة.
يُنشد النص عشتار “إلاهة الحب” ومعطية الفرح والخصب. هي الأولى بجانب
زوجها آنو، وهي تتشفّع لدى الإله العظيم منح الملك مجدًا وحياة طويلة. أمّا الملك
فهو: عمي ديتانا الذي يقدّم تقدماته للإلاهة فيقول لها: “يا عشتار أعطي عمّي
ديتانا، الملك الذي يحبّك، حياة طويلة ومديدة”.

*
نشيد لجولة. نشيد شعبي (مخطوطات عديدة) وُجّه إلى جولة، الإلاهة العطوفة التي تملك
على عالم الطب وتعتني بالمرضى. نَصّ مؤلّف من 200 بيت شعر وموضوع في فم جولة. يعود
هذا النشيد إلى حقبة الكاسيين. أي القسم الثاني من الألف الثاني. أمّا كاتبه فهو:
بولوسا رابي ومعناه: امكانيّتها عظيمة لتخلّص من الموت.

 

5-
كتب الطقوس

تدلّ
كيف يسير احتفال ديني. إنّها تصوّر بدقّة الحركات التي يقوم بها المُحتفل، وتردّد
الأقوال التي يتلفّظ بها. ويكتفي الكاتب مرارًا بإعطاء بداية النصّ.

تتعلّق
كتب الطقوس بالعبادة، بالأعياد، بالنشاطات الدينيّة المُتعدّدة ومنها الحاجة
الماسة إلى التطهير والتوضوء.

تعود
بنا العبادة إلى تمثال الإله: نكرّسه، ننظّفه، نقدّم له الطعام والذبائح اليوميّة.
إنّ النصوص السومريّة تُلمّح إلى هذه الاهتمامات، ولكنّنا لا نملك كتاب طقوس في
اللغة السومريّة. أمّا أقدم كتب النصوص، فنجده في الأكادية، وقد وُجد في أرشيف
ماري وتضمّن شعائر العبادة المُقدّمة للالاهة عشتار في هذه المدينة. ولكنّ أوروك
هي التي تعطينا أكبر مجموعة كتب الطقوس: تهيئة جلد البقرة الذي سيكون الطبل
المقدّس في الاحتفالات الدينيّة، الترتيبات الضرورية من أجل الأطعمة، الذبائح
المُقدّمة لتمثال الإله.

وأفضل
نموذج لعيد يتكرّر هو عيد رأس السنة (أكينو). يمتدّ العيد 12 يومًا. وكتاب الطقوس
يدلّ كيف يحتفل المؤمنون بالعيد. وهناك عبادة الملوك المتوفّين التي يذكرها كتاب
الطقوس (كسفوم) الذي وُجد في ماري. وهناك كتاب طقوس تتويج الملك الذي يعود إلى
الزمن الأشوري الوسيط: تجري الاحتفالات في الهيكل وفي القصر ويتصرّف الملك في
المرحلة الأولى كتقي من الأتقياء، وفي المرحلة الثانية كملك من الملوك. وهناك كتب
طقوس تجعلنا نستعوذ من الشر: مقلو أو الحريق، شورفو أو الترميد.

 

6-
الصلوات الفرديّة

تحوّلت
هذه الصلوات وتوسّعت منذ نهاية الألف الثاني، ولكنّنا لا نعرف كيف نحدّد تاريخ
تأليفها.

*
نصوص يحاور فيها المؤمن إلهه. صلاة الملك أشور نصير أبلي لعشتار. صلاة أشور بنيبال
للاله نبو.

*
صلوات ذات هدف عملي: الطلب إلى هذا الإله أو ذاك أن ينهي مصيبة المؤمن: طبيعة
الشر، طقوس تطهير لنتخلّص من هذا الشر وقد توضع مع شعائر مثل “غسل الفم”
أو التطهير بالحريق كطقوس “مقلو” و”شورفو”.

يدعو
المؤمن الإله ويمدحه، ويعرض عليه الشر الذي يحصل له، ويَعِدُه بأن يقدّم له شعائر
العبادة: لو أستطيع أن أمدحك دومًا. وهناك نصوص نجد فيها لائحة بخطايا قد يكون
المؤمن اقترفها. وإذا كان هناك من شك، فن الأفضل أن نقرّ بكل ما عملناه ضدّ الإله
وضدّ الإلاهة. يتكلّم المصلّي أو يتكلّم الكاهن بأنه. وفي أي حال، يكون الكاهن
موجودًا ليذكر المؤمن بواجباته: فأيّة خطيئة طقسيّة تعيد الأمور إلى ما كانت عليه
قبل المجيء إلى الهيكل.

 

7-
الأدب الحكمي

إذا
عرفنا أنّ الأنواع الأدبية في بلاد الرافدين تقتصر على الفن الإخباري أو الغنائي،
نفهم انّنا خارج أيّة نظرية فلسفية. فإذا كانت بعض القصائد (ملحمة جلجامش مثلاً)
تدعونا إلى التأمّل، فوجهتها الأولى هي إدخالنا في عالم من الأخبار والمغامرات.
غير أنّ اللويحات المسماريّة ستقدّم لنا بعض مؤلفات تعلّمنا كيف طرح الناس مسألة
الشر.

 

أولاً:
الربوبية البابلية

هي
قصيدة بشكل حوار تدلّ على رأي المؤلّف في عدالة الله. تتألّف القصيدة من 27 دوراً
(كل دور يتألّف من 11 بيتًا شعريًا). وتتوالى المقاطع الصوتية السبعة والعشرون
الأولى: “أنا سجّيل كينا موبيت المعزِّم وخادم الآلهة والملك”. الكاتب
هو “الحكيم العظيم ” الذي عاصر نبوكد نصّر الأوّل وهدد ابلا ادينام
(نهاية القرن”- نصف القرن 11 ق. م.).

أوّل
المُتكلّمين هو انسان مرمرته الحياة. لم تسر الأمور معه كما يُرام منذ طفولته.
فشكّ بالدين وارتاب بالأخلاق. فآبان له المتكلم الثاني قيمة ما يرتاب فيه: انّ
الذي يشكّ يقرّ أنّه لا يفهم مقاصد الآلهة. وسيقنعه في النهاية. نحن هنا أمام
مؤلّف من مستوى عال. وإليك مقطعًا منه: “إنّ الذين لا يطلبون الرب يسيرون في
طريق من السعادة، بينما يفتقر ويخسر خيراته العنيدون في حبهم للإلاهة”. أجابه
صاحبه: “أيّها الرجل الصالح والعاقل، لا معنى لكل ما تردّده هنا! فمقاصد الله
بعيدة عنّا بعد السماوات. فنحن لا نقدر أن نفهم ما يخرج من فم الإلاهة”.

 

ثانيًا:
البار المُتألّم

يبدأ
هذا النشيد بالكلمات التالية: “أريد أن أمدح رب الكلمة”. إنّ هذا النشيد
الذي يذكّرنا بأيّوب، يتألّف من مونولوج طويل مدوّن على أربح لويحات. كتبه في
نهاية الألف الثاني شوبشي مشري شكّان وهو عظيم عُزل من وظيفته. تشكّى من شقائه بعد
أن خسر ثقة معلّمه. إنّه لم يستحق هذا الشقاء الذي وصل إليه. رأى في حلمه ثلاثة
أحلام مُتعاقبة، أشخاصًا يتشفعون به. وحمل اليه مبعوث مردوك الغفرانَ الإلهي
والوعدَ بسعادة جديدة. طُرح سؤال: “لماذا يكون البارّ تعيسًا”؟ فجاء
الجواب. “لأنّ طرق الله لا تُدرَك “. ويبدو أنّ الجواب جاء ليمتحن
المؤمن.

 

ثالثا:
حوار التشائم

نحن
أمام 11 دورًا غير متساوية. يُعطي السيّد لعبده أوامر مُتناقضة، فيوافقه العبد.
ونستنتج أنّ النشيد يريد أن يبيّن أنّ الحياة عبث كلّ شيء يُساوي ضدّه. أمّا
الواقع الحقيقي فهو الموت. وفسّر شرّاح آخرون هذا النشيد على أنّه هجاء شخص عديم
الإرادة، فيهزأ به عبده ويقول له في كل وقت: أنت على حق.

حين
يطلب السيّد ماء ليقدم ذبيحة، يقول له العبد: “إفعل، يا سيّدي، افعل!
فالإنسان الذي يقدّم ذبيحة لإلهه يفرح قلبه وينال نعمة فوق نعمة”. وحين يغيّر
السيّد رأيه، يوافقه خادمه فيقول له: “لا تفعل، يا سيدي، لا تفعل. فإنّك
تعوّد إلهك على أن يتبعك كالكلب، أو أن يقول لك: “طقوسي” أو “الا
تسأل الهك “، أو “أشياء أخرى”.

 

8-
مجموعات الشرائع

أشهرها
مجموعة حمورابي ملك بابل (بداية القرن 18 ق. م.). تتألّف من 282 شريعة نحيط بها
مقدّمة وخاتمة. أمّا المقدّمة فنشيد يمتدح الملك فيه نفسه، والخاتمة فقصيدة غنائية
تحتفل بملك العدل الذي يؤمّن النظام ويُحارب الظلم. وهناك لعنات تهدّد من يدمّر
النُصب الذي حفرت عليه هذه الشرائع. أمّا هدف النُصب فهو أن يبيّن للأجيال اللاحقة
أنّ حمورابي كان “راعيًا صالحًا”. لم يحاول الملك أن يجمع كل الشرع
المعمول به في مملكته، بل أعلن سلسلة من القرارات حول مسائل متعدّدة مثل السرقة
واحتلال الأرض والإيجار والقروض والعائلة والأسعار. لم يكن العرض منظّمًا ولا
كاملاً. ثمّ تُقدَّم حالات يحكم فيها الملك، وهكذا نجد مسائل عديدة مطروحة في هذا
النصب.

انتشرت
شرعة حمورابي انتشارًا واسعًا ونسخت على لوحات طينية حتّى زمن متأخّر.

 

9-
النصوص التاريخية

عرف
النثر البابلي كماله مع الخبر التاريخي، فصوّر حملات ملوك أشورية العسكرية. نحن
أمام خطبة يلقيها الملك، فينسب إلى نفسه قيادة الحرب والحصول على النصر ظهرت
النصوص الأولى في بداية الألف الثاني، وتوسّع الفنّ كثيرًا انطلاقًا من الملك أشور
نصير أبلي وخاصة مع سرجون الثاني الأشوري وخلفائه.

تُحفر
النصوص على سطح صخرة أو على نصب تمّ عنده الحدث، ويصوَّر الملك مع الإله الأشوري
الذي أعانه. نذكر الحوليّات والكرونيكات ونظام الأسماء.

هناك
الحوليّات التي تجمع حملات عديدة، تمتدّ على سنوات. قد تُحفر على بلاط القمر أو
أنصاب الهياكل أو على أسطوانات وموشورات طينية توضع في أسس القصور أو الهياكل.
وتكون بنية نص الحوليّات الأشوري من ثلاثة أقسام: المُقدّمة التي يعلن فيها الملك
الوضع السياسي ويعدّد صفاته التي تدل على علاقاته المظفّرة مع البلدان التي
أخضعها، وعلى علاقات الخضوع التي لربطه بالآلهة التي نعم بحظوتها. ثمّ يبدأ الخبر
التاريخي بحصر المعنى. والقسم الثالث يخبر كيف بنى الملك، حين عودته من الحرب،
قصرًا لتمجيد الملك أو معبدًا لإظهار عرفان الجميل للآلهة.

وجُمعت
هذه النصوص كثرت، فاجبر “أصحاب المكتبة” على تلخيص الحوليّات الأولى.
وهدفت كلّها إلى تمجيد قدرة الملك والحديث عن سعادته. ووجهات الخبر معروفة: النصر
سهل، والهزيمة غير موجودة، والعدوّ يستحق كل بغض.. وتتكرّر الكلمات التي تورد
مسيرة الجيوش الأشوريّة المظفّرة: تركت المدينة الفلانية، ووصلت إلى مدينة أخرى،
أحرقتها، سلبتها.. حين نقرأ هذه النصوص نحسّ بقوّة الأشوريين المظفّرة ونفهم أن
يكون الشرق كلّه أحسّ بالرعب من ذاك الشعب. ونذكر هنا سلب شوش ومحاولة محق هذا
الشعب المتحرّر دومًا، وتصوير الجبال الأرمنيّة وحدائق أورارطو، كل هذه تحف من
النثر البابلي.

وعرف
ملوك بابل الكرونيكات التي تتضمّن عرضًا منظّمًا لأحداث كل ملك. لا مديح ولا
إطراء، بل إنّ الكتبة لا يتورّعون من الحديث عن شقاء بابل.

وهناك
فنّ أدبي ثالث انحصر في أشورية، هو نظام الأسماء. فهذه النصوص تورد لنا لائحة
بالحكّام والقضاة وبملخّص بأهمّ حدَثٍ حصَل خلال السنة.

 

10-
النصوص التقنية

تمثّل
“النصوص التقنية” مجموعة كبيرة جدًّا تنحصر فائدتها في الاختصاصي. فهي
خليط غريب ومزيج تعمّه الفوضى.

 

أولاً:
لويحات التنجيم

إنطقت
بلاد الرافدين من المبدأ القائل إنّ كل الأحداث التي تتمّ حول إنسان من الناس
(مهما كانت بسيطة) لها أهميّتها، لأنّها تكشف ذلك الإنسان قبل أن يكون لها قوّة
ضاغطة على مستقبله. قالت التقاليد إنّ هناك ملكًا جاء قبل الطوفان فأوحي اليه فنُّ
التنجيم. ولكنّنا ننتظر القرن 17 لنجد في اللغة الأكادية أولى مجموعات
“الإنباءات” السابقة.

ويتسّع
عالم التنجيم اتساع العالم، وهناك سلسلات مُتعدّدة:

الأولى:
“أنوما أنو انليل ” أي: حين انو، انليل.. هي السلسلة الافلاكية الكبيرة
التي تتضمّن أقلّه 70 لويحة، وفيها الإنباءات المأخوذة من النظر إلى الحياة
اليومية، من نشاط الحيوان والنبات، من السلوك البشري (تكرّس لويحة كاملة للنشاط
الجنسي). كل هذا كان مناسبة للتنبّؤ بالمستقبل.

الثانية:
شوما أتو” أي: “اذا مدينة.. ” تضمّنت 100 لويحة. نحن في عالم
الأحلام ونجد هنا “مفتاح الأحلام “.

الثالثة:
“شوما إزبو” أي: “اذا كان رجل مشوَّه “. يلاحظون التشويه عند
الطفل البشري أو عند صغار الحيوان.

كل
هذا ينطلق من ملاحظة أحداث خارجية حصلت صدفة. ولكن يمكن أن نخلق حدثًا ونتأمّل
فيه. وأشهر تقنية هي الحيوان وملاحظة أحشائه ولا سيّمَا الكبد منها. فالآلهة نفسها
دوّنت المستقبل هنا. وكانت كتب عديدة في هذا المجال: دراسة الاكباد، دراسات
الأيّام (أيّام النحس وأيّام السعد) والتنبّؤات البابلية المجرّدة عن كل واقع.

قد
يصيب التنبّؤ الملك فتتأثّر البلاد كلّها. وقد يصيب فردًا من الأفراد. ومهما يكن
من أمر، كانت هذه النصوص شعبيّة فكثرت نسخاتها.

 

ثانيًا:
نصوص حول الطب والرياضيات

*
الرياضيّات

نجد
نصوصًا منذ بداية الألف الثاني وهي تتألّف من ألواح عددية لعمليات الجمع والطرح..
كما نجد؟ مسائل عن حساب المساحة والحجم مع حلّ المسألة. فكأنّنا أمام كتاب حساب
يستعمله طلاّب ذلك الزمان.

 

*
الطب

جاء
مُتأخّرًا. هناك لويحة سومريّة قديمة، وما تبقى يعود إلى نهاية الألف الثاني وما
بعد. تعطينا هذه النصوص طريقة الفحص الطبّي ووسيلة الشفاء من المرض أكانت وسائل
سحرية أو حسب فنّ الصيدلة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى