علم المسيح

الفصل الحادي عشر



الفصل الحادي عشر

الفصل
الحادي عشر

الرحلة إلى
أُورشليم لحضور عيد المظال

[كان
الخريف، وكل الجليل يستعد للرحلة السنوية لأحد الأعياد الثلاثة الكبار: عيد
المظال. وهذا العيد هو عيد الحصاد، وكان يقصد به ذكرى ارتحال الإسرائيليين في
البرية، وكان يُقام بفرح عظيم حتى أن يوسيفوس وفيلو يلقِّبانه بالعيد “الأقدس
والأعظم”. وكان اليهود يخصُّونه بلقب “العيد”، وكان يُحتفل به سبعة
أيام متتالية من الخامس عشر إلى الحادي والعشرين من شهر تشرين (أكتوبر) ويختتم في
اليوم الثامن بخدمة دينية. ولكي يتذكروا أيام ارتحالهم في البرية في العراء، كانوا
يعيشون هذا العيد في “سكوث” أي مظال صغيرة تُقام من أغصان الزيتون
والنخيل والصنوبر والريحان الشامي، ويحمل كل شخص سعفة مجدولة من سعف النخل فيها
فروع الزيتون وزيزفون وفروع مشمش وليمون. وفي هذا الأسبوع كانت تتناوب الخدمة جميع
فرق الكهنة، ويقدِّمون سبعين من الثيران ذبيحة عن سبعين أُمة من أُمم الأرض، وكان
الناموس يُقرأ في كل يوم وكانت تُقرع طبول الهيكل يومياً مثيرة الحماس وفرح
الانتصار. وهذا العيد يأتي بعد أربعة أيام فقط من عيد الكفَّارة الرهيب المبهج
الذي كانت تُقام فيه كفَّارة مقدّسة__ من أجل خطايا كل الشعب.]([1])

الآن للمسيح ثمانية عشر شهراً وهو يبذر بذار الملكوت في كل
أرجاء الجليل، ويقوم بتدريب التلاميذ للدعوة له. وعلى هذه المدة بطولها أحجم
المسيح عن زيارة أُورشليم في الأعياد الثلاثة كعادته. وعيد المظال يحين زمانه في
شهر أكتوبر، وقد نوى هذه المرة أن يحضره في أُورشليم، ليكمِّل العمل الذي كان قد
بدأه في أُورشليم مع الكتبة والفرِّيسيين والكهنة والحجيج من الشعب القادم من
الشتات، ولكي يُبعد عنه المظنَّة أنه يهاب الخدمة وسط الشعب في حضور السنهدرين
والإعلان عن دعوته الإلهية جهاراً. غير أنه عن حكمة وتدبير إلهي كان يتحاشى مثل هذه
الصدامات لحساب تتميم زمن الخدمة حتى كمالها. لهذا صمَّم أن يظهر فجأة في وسط
أُورشليم بعد أن يكون قد تكامل حضور الآتين من الشتات والبلاد، حيث يخشى السنهدرين
أن يعمل أعماله المتهوِّرة تجاهه خوفاً من الشعب.

ولكن
كان إخوته
من يوسف متغرِّبين عنه في الفهم والفكر
والتقدير، إذ لمَّا عزموا على الذهاب إلى العيد وجدوه غير راغب في الذهاب معهم،
فبدأوا بالظن أنه يود أن تكون خدمته في الخفاء وهو دبَّر أن تكون في عمق العلن
الكامل! فكان سؤال إخوته: أين أعماله الكبيرة في المعجزات والآيات؟ هل يخفيها عن الناس؟ “إن كنت تعمل هذه الأشياء
فأظهر نفسك للعالم” (يو
4: 7). ولكن ق. يوحنا يرد على هذا الحوار
المتدنِّي بقوله: “لأن إخوته أيضاً لم يكونوا يؤمنون به”! (يو 5: 7).
أمَّا المسيح فردّ عليهم: أنتم تطلبون الإسراع بالنهاية، والنهاية لابد أن تأتي في
ميعادها. أنتم نهايتكم حاضرة في كل لحظة، أمَّا نهايتي فتحسب حسابها السموات
العُلا حيث مكاني فوق ينتظر قدومي. أنتم ليست لكم مع العالم ملحمة، أمَّا معركتي
معه فجاهزة لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة. اصعدوا أنتم إلى العيد وعيِّدوا لأن
وقتكم حاضر لكم، أمَّا صعودي فأنا أُحدِّد وقته.

فلما
صعد إخوته صعد هو أيضاً ولكن دون أن يلحظه أحد “كأنه في الخفاء.” (يو
10: 7)

أمَّا
غياب المسيح هذه المرَّة اليسيرة فجعلت الكل يتهافت عليه والكل يطلبونه ويفتشون
عليه، فقد اعتادوا وجوده في الأعياد وباتوا ينتظرونها بفارغ الصبر ليستمعوا إليه
ويسألونه وترتاح قلوبهم.

 

تعاليم في
الهيكل

75- تعليم
المسيح: طبيعته ومصدره

+”
تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني” (يو 16: 7)

ومرَّة
أخرى تفرض تعاليم المسيح نفسها على مسامع الناس وقلوبهم، حتى الذين كانوا
متحيِّزين ضده استعجبوا كيف أنه لم يتعلَّم وله هذا العلم؟ كيف وهو لم يتعلَّم على
يد كاتب تصدر منه تفاسير للتوراة لم يفسِّرها غيره؟ وبالرغم من ذلك لم يقووا على
الاعتراف بأن مصدر هذه التعاليم سماوي وذلك بسبب تحيُّزهم الذي كبَّل حرية القرار.
وانتهوا إلى نهاية عاجزة عرجاء، أن التعاليم مهما كانت عظيمة إذا لم تخرج من مصدر
معترف به فهي غير صحيحة! فأغلقوا باب الإلهام وسدوا على الله منافذ اتصاله
بالإنسان. وجلسوا يجترُّون علمهم الذي خرج عن المضمون. ولهؤلاء رفع المسيح صوته:
“تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني” بمعنى لا تربطوا بيني وبين تعليمي، ولكن
ابحثوا في الصلة والمناسبة واللياقة بين تعليمي وبين الحق فيه ولا تحرموا الحق من
صلته بالله. لا تتعجَّبوا أني غير متعلِّم بعلمكم، فهو ليس من وضعي أو اختياري
كإنسان، ولكن التعليم نفسه يشهد ويُعلن عن أن الله مصدره، بل والله هو الذي أعلنه
ويستعلنه. إن علَّة عدم اهتدائكم إلى مصدر تعليمي هو أنكم ربطتم مشيئتكم بغير
مشيئة الله، حرِّروا مشيئتكم من الانحياز الضيق لتعليمكم لترتفع إلى مشيئة الله
والحق. فإن أردتم أن تعرفوا وتعملوا مشيئة الله، يتحتَّم أن يكون قراركم حرًّا حتى
تستطيعوا أن تعرفوا أن تفرِّقوا بين ما هو لله وما هو للإنسان. انظروا وافحصوا
فأنا ليس لي قصد فيما أقول، وما أقوله ليس له بواعث بشرية في ذاتي، ولكنه كله يهدف
إلى تمجيد الله الذي أرسلني. إن كنت أتكلَّم من نفسي فمعناه أني أُمجِّد نفسي، وإن
كنت أطلب تمجيد الله يصبح كلامي ليس من نفسي ولا لنفسي بل لله. أنا لا أظلم
الحقيقة حينما أقول إن الله أرسلني، فكلامي وأعمالي تشهد لذلك. هذا العمل الذي
تعملونه الآن برفض تعليمي ورفض مصدره يكشف أنكم لستم أمناء على تعليم موسى، وأنكم
لا تعملون بحسب الناموس، وإلاَّ لماذا تريدون أن تقتلوني وأنا أقول الحق وأُمجِّد
الله الذي أرسلني؟ وهل قول الحق، وهل تمجيد الله يخالف ناموس موسى؟

كان
الجمع يسمع هذا الحوار بين المسيح والكتبة والفرِّيسيين، فاندهشوا وتعجَّبوا جداً
من وضوحه وصراحته، وأنهم عجزوا عن أن يردُّوا عليه، بل عجزوا عن تتميم تهديدهم أن
يقبضوا عليه! فهل قد استقر المجمع أن يسوع هذا هو مسيَّا؟ “ها هو يتكلَّم
جهاراً ولا يقولون له شيئاً! ألعل الرؤساء عرفوا يقيناً أن هذا هو المسيح
حقاً؟” (يو 26: 7)

ولكن
كان الجمع قد تأثَّر من نقد الرؤساء ومقاومة الكتبة ووضعوا في عقولهم أن مجيء
المسيَّا لا يعرف أحد من أين يأتي، وهذا نعرف
جميعنا أنه نجَّار الناصرة ونعرف أباه وأُمه فكيف يستقيم هذا
الأمر؟

فرد
عليهم المسيح مباشرة:

تعرفونني وتعرفون من أين
أنا” ولكن أنا من نفسي لم آتِ، بل الذي أرسلني وهو الحق الذي أتكلَّم باسمه
وأتكلم به. فإن كنتم لم تعرفوني فذلك لأنكم لم تعرفوا الحق بعد. أمَّا أنا فلابد
أن أتكلَّم بالحق لأني أعرفه وهو الذي أرسلني. الذين يعرفون الحق ويعرفون الله
ويريدون أن يعملوا مشيئته هم الذين يعرفونني. لأني بالحق الذي أقوله أستعلن لكم
الله الذي لم تروه ولم تعرفوه. ولكن الذين استُعبدت إرادتهم لمشيئات قلوبهم يظنون
أنهم يعرفون الله وهم في الحقيقة لا يعرفونه.

76- محاولة
القبض عليه

+”
فطلبوا أن يمسكوه” (يو 30: 7)

كان
كلما علَّم المسيح كلما زاد تأثيره على الشعب. وكان هذا بحد ذاته يثير الغيرة
والحقد معاً عند الفرِّيسيين، لأن سلطانهم كان يهتز وكانت تعاليمهم تواجه خطورة
حقيقية من ازدياد القوة الروحية للمسيح التي أصبحت في مضادة واقعية لا يمكن
إنكارها أو السكوت عليها، خاصة في أُورشليم وفي الجليل، مع نجاحه الواضح في تكذيب
ادعاءاتهم كلما أذاعوها أنه ضد الناموس وأنه مجدِّف، واختفوا وراء السبت حتى افتضح
ادعاؤهم، لأنه يكرم السبت بعمل الخير أكثر منهم. فكلماته سهام مبرية أصابتهم أينما
حاولوا التعرُّض له. وأخيراً لم يَعُدْ أمامهم إلاَّ التخلُّص منه، لأنه أصبح قوة
لا تُطاق. ففكَّروا أن يقبضوا عليه. فأصدر كلمات أرعبتهم وشلَّت أيديهم:
“فأرسل الفرِّيسيون ورؤساء الكهنة خداماً
ليمسكوه، فقال لهم يسوع: أنا معكم زماناً يسيراً بعد، ثم أمضي
إلى الذي أرسلني. ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون
أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا” (يو 7: 3234). وبالرغم من هذا
الوضوح بين: “تعليمي ليس لي بل للذي أرسلني” وبين: “أنا أمضي

إلى الذي أرسلني” فلم يفهموا شيئاً، لأن عقولهم كانت تعمل على مستوى المشيئة
الأرضية والأفكار الذاتية.

ولكن
قولهم الضمني: “ألعلَّه مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين ويعلِّم
اليونانيين” (يو 35: 7)، يكشف عن فكرهم بخصوص مستوى تعليم المسيح أنه اتسع
وصار على مستوى العلماء والأُمم، ومن هنا جاءت فكرة الهرطقة والتجديف، لأن
الارتفاع الروحي بالتعليم لم يستطيعوا أن يرتفعوا إليه ليروا التوراة على مستوى
الحق العام والعالم.

77-”
أنا هو الماء الحي”

المسيح
هنا أراد أن يُهيئ لعقول الشعب والعلماء فهم التعليم الفائق المستوى بتصويره على
مستوى فهمهم وإحساسهم، وانتهز فرصة استخدام الطقس في العبادة ليستعلن من خلاله
المقابل المنظور للأمور الفائقة للطبيعة، خصوصاً وأن المسيح لن يراهم مرَّة أخرى،
فهذه آخر فرصة يأتي فيها إلى أُورشليم معلِّماً في العيد. فأراد أن يترك في
أذهانهم صورة منطبقة على أعيادهم وطقوسهم لن ينسوها أبداً. فانتهز فرصة مسيرة رهط
من الكهنة ليستقوا ماءً من بركة سلوام في القِدْر الفضية كطقس عيد المظال
برسم الصخرة التي أخرجت لآبائهم الماء
وشربوا وماتوا في القفر
ثم يذهبون بها إلى المذبح في
الهيكل ويدقونها بشدة، كما ضرب موسى الصخرة بالعصا مرتين، فتنكسر القِدْر ويخرج
منها الماء ليفيض على المذبح وما حوله. في هذه اللحظة رفع المسيح صوته من وسط
الجمع قائلاً: “إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب. مَنْ آمن بي، كما قال الكتاب،
تجري من بطنه أنهار ماء حي” (يو 7: 37و38). إذن، ما كانت الصخرة إلاَّ نبوَّة
عن المسيح: “والصخرة كانت المسيح” (1كو 4: 10)، وانكسارها كان انكسار
الجسد وخروج الدم وفيه الحياة! “قال هذا عن الروح (القدس) الذي كان المؤمنون
به
مزمعين أن يقبلوه، لأن الروح القدس لم يكن قد أُعطِيَ بعد، لأن يسوع لم يكن
قد مُجِّد (مات وارتفع) بعد.” (يو 39: 7)

هنا
رَبْطٌ بين الإيمان والروح والماء الحيّ، وهذا هو سر العهد الجديد المختفي
في المعمودية والإفخارستيا معاً، الذي مثَّلهما طقس عيد المظال بالصخرة وضَرْبها
فوق المذبح. إنها روعة في التعبير المستيكي، فحينما يقول المسيح: “إن عطش أحد
فليقبل إليَّ ويشرب” فهو يصوِّر سر الحياة الجديدة التي انبثقت من موته
وقيامته.

78-”
أنا هو نور العالم”

المسيح
بصدد حديثه عن تعليمه الذي له من الآب والذي هو الحق، فلم يجد تشبيهاً للتعليم
الفائق النازل إليهم من عند الآب إلاَّ بالنور. فأَمْيز صفات النور الطبيعي في
العالم، الآتي من الشمس، هو أن فيه ومن خلاله تتم رؤية ومعرفة الأشياء وفحصها
والتدقيق في معرفتها، كما أن النور قرين الحرارة، حيث حرارة الشمس فيها سر الإنبات
والنمو والحياة والإثمار، فإنه قد قيل لولا الشمس لانعمت الناس ومات كل حي. هكذا
رأى المسيح أن يصوِّر الحق الإلهي الذي يُعلِّم به والذي يقود الناس إلى الحياة
الأبدية في طريق المعرفة الإلهية الفائقة. فإن كان في الماء يكمن سر الحياة على الأرض، فالنور أيضاً بالدرجة الأُولى. فإن أشار
الماء في المسيح إلى الروح، فالنور يشير إلى معرفة
الحق.

والنبوَّات
اتجهت نحو النور لترى فيه استعلان مسيَّا الآتي. فبلعام رآه “كوكباً”
يبرز من يعقوب (عد 17: 24)، وملاخي يراه كالشمس: “ولكم أيها المتقون اسمي
تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها.” (مل 2: 4)

ونور الله هو الشاكيناه باللغة العبرية الذي يعبِّر عن
حضرته. والشاكيناه من السكنى حيث كان يسكن الله بحضرته في قدس الأقداس فوق
التابوت، وكان نور الله (مجده) يسير مع الشعب في البرية بهيئة سحابة مضيئة بالليل،
وهو الذي ظهر لموسى في العُلَّيقة المشتعلة بالنار الإلهية ونورها ولم تحترق، مما
جعل الموضع مقدَّساً فاضطر موسى أن يخلع نعليه بأمر الله. وفي داخل الحضرة الإلهية
تقبل موسى أول دعوة للخروج الفصحى. ونور الله هو المعبَّر عنه بالذُّكصا الكبرى أي
التمجيد في المجد الأسنى. وكلما هتفت الكنيسة بالذكصاباتري وبقية التسبحة للآب
والابن والروح القدس، فمعناه أن الشعب متواجد في نور الحضرة الإلهية يسبِّحه، وهو
ذات النور ذو البهاء الفائق جداً الذي رآه شاول في السماء وأبرق حوله، فهو الحضرة
الإلهية التي للمسيح حيث تكلَّم معه. والنور الإلهي هو نور الاستعلان فهو يختص
بالمعرفة الإلهية، وهو نفَّاذ يخترق العقول والقلوب والضمائر ويكشف خفياتها.
وحينما قال المسيح: إن “المجد (النور الإلهي) الذي لي (أي الخاص بالابن) أنا
أعطيتهم” فمعناه أنه سلَّمنا الاستعلان الذي للابن للمعرفة الإلهية، لندرك
حقيقة الآب والابن وأمور الله التي للخلاص والمجد.

وقد
أُعطِيَ لنا أن نتطلَّع إلى مجد الرب أي نور حضرته بالصلاة وعمل الإيمان: “إن
آمنتِ ترين مجد الله” (يو 40: 11)، فنتغيَّر نحن أيضاً من مجد إلى مجد، أي من
استنارة إلى استنارة: “ونحن جميعنا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف (بدون برقع
الناموس أي بدالة البنين)، كما في مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى
مجد، كما من الرب الروح” (2كو 18: 3). ولكن لا نبلغ النهاية أو الكمال إلاَّ
بعد أن نكمِّل لبس الجسد الجديد الذي سيغيِّره المسيح ليكون على صورة (جسد) مجده
بحسب عمل استطاعته أن يُخْضِعَ لنفسه كل شيء (في 21: 3).

فالمسيح حينما يقول: “أنا هو نور العالم” فهو
يقصد إشراق نور المعرفة والاستعلان المستمد من الله، حيث معرفة الله هي صميم وقوة
النور، بل منبعه وسرّه ودوامه. غياب الله عن العالم كان هو سر الظلمة، والظلام هو
الجهالة والموت؛ وبإشراق نور الله في المسيح يسوع، استُعلن الله في العالم فصار
نوره كواقع حي: “أنا هو نور العالم” فالحياة الأرضية بدون معرفة الله هي
الظلمة بعينها، لأن غياب الله هو غياب الحياة الحقيقية وتملُّك الموت عن طريق
الخطية. لذلك أكملها المسيح: “مَنْ يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور
الحياة” (يو 12: 8). نور الحياة هو الله والحق والتحرر من الخطية والخوف
والجهالة. مَنْ يتبع المسيح يضيء له الحق ولا تستطيع الظلمة أن تسود عليه.
ونور الله في ذاته هو المعرفة الكلية أو المطلقة، وهي التي في جوهرها الحق
الكامل أو المطلق. ومعرفة الله وحق الله هي بكاملها في المسيح يسوع. فالمسيح هو
النور وهو الحق، ولمَّا أرسله الله متجسِّداً، أرسله ليوصِّل معرفة الله وحق الله
للإنسان. لذلك أصبح أن يعرف الإنسان المسيح هو أن يعرف الله، والذي يقبل الحق في
المسيح يقبل الحق في الله: “لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً” (يو
7: 14)، “ومن يقبلني يقبل الذي
أرسلني”
(مت 40: 10). “تعرفون الحق والحق يحرِّركم” (يو 32: 8)؛ حيث معرفة الحق
هي معرفة الله وهي تُحرِّر الإنسان من كل ما هو ليس حقا، وأخطره الجهل بالله الذي
يؤدِّي إلى كل المعاصي والخطايا.

والظلمة
في حقيقتها هي الجهالة بالله، لذلك قال المسيح لتلاميذه: “لا أعود أُسمِّيكم
عبيداً، لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده، لكني قد سمَّيتكم أحبَّاء لأني أعلمتكم
بكل ما سمعته من أبي” (يو 15: 15). والذي عند الآب هو الحق وهو العلاقة الجوهرية
بين الآب والابن. فمعرفة الله تُحرِّر وتُصيِّر الذي كان عبداً للخطية والظلمة معلِّماً للنور والحق: “أنتم نور
العالم.” (مت
14: 5)

كذلك
فنور المسيح يحتوي سر المحبة الإلهية. لأن سر الله كآب وابن الذي هو سر الحق ومنبع
النور يقوم أساساً على المحبة التي بين الآب والابن. فسرّ الوحدة الإلهية هو سر
الحق وهو أيضاً سر الحب وأصله ومنبعه؛ يحوِّل العبيد إلى أحبّاء. وهذه هي مجمل
رسالة المسيح كُلِّها: “عرَّفتهم اسمك وسأُعرِّفهم، ليكون فيهم الحب الذي
أحببتني به، وأكون أنا فيهم” (يو 26: 17). فالمسيح هو نور العالم لأنه كشف سر
حب الله للعالم: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل
مَنْ يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 16: 3). والمسيح نفسه هو سر حب
الله للعالم الذي ارتضى الله أن يبذله لكي يُوَصِّل الحياة الأبدية إلى العالم.

فإذا أردنا أن ننزل بهذه المطلقات إلى الواقع الإنساني نجد
“الحق” هو الصدق وهو الحب وهو الإيمان بالله. لذلك يميِّز الله الإنسان
بالعقل العارف القادر أن يميِّز الحق، لأن الإنسان أصلاً مخلوق على صورة الله
ومطلوب منه بعد السقوط أن يعود مرَّة أخرى إلى صورة الله. والعقل الواعي بالحق هو
في الإنسان الطاقة المفتوحة على الله. لذلك لمَّا جاء المسيح كان همُّه الأعظم أن
يوصِّل الإنسان إلى الله ليعود إلى صورته الأُولى بمعرفة الحق عن طريق نور المعرفة
المتحرِّرة من كل ما هو ليس حقا وما هو ليس من النور.

فإن
كان الله هو النور وهو الحق، والمسيح أيضاً كذلك، كان الذي هو ليس نوراً وبالتالي
ليس حقا، بمعنى غياب الله والمسيح كُلِّيةً، يكون هو الضد لله والمسيح، والضد
لمعرفة الله والمسيح، والضد للحق في الله والمسيح. وهذا الضد هو الشيطان القوة
العقلية السالبة المقاومة والمعاكسة لله والمسيح، وهو بالتالي خالٍ كُلِّيةً من
نور الله والمسيح ومن حق الله والمسيح. لذلك نُعت الشيطان بسلطان الظلمة (لو 53:
22 وكو 13: 1)، “كذاب وأبو الكذَّاب” (يو 44: 8). وهكذا، فالظلمة تعني
غياب الله من نور وحق. والشيطان لأنه قوة عقلية (سالبة)، فطريقه الوحيد للدخول إلى
الإنسان ليوحي إليه بكل ما هو ليس نوراً أو حقا هو عقل الإنسان، ولكن أُعطي
الإنسان قوة التمييز بين المعرفة الحقيقية والمعرفة الكاذبة، والحق والكذب.

بهذه المقدِّمة يكون من السهل معرفة حقيقة النقاش الذي دار
بين المسيح والفرِّيسيين.

فالفرِّيسيون
احتجوا عليه: “أنت تشهد لنفسك. شهادتك ليست حقا” (يو 13: 8)، وذلك حينما
قال: “أنا هو نور العالم. مَنْ يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور
الحياة” (يو 12: 8). لقد أخطأ الفرِّيسيون بالحكم على المسيح لأنهم حكموا
عليه حسب الظاهر وظاهر الكلام، ولكن المسيح لم يعبأ بالظاهر لأنه يعرف من أين أتى
وإلى أين هو ذاهب، لذلك رد عليهم: “وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق، لأني أعلم
من أين أتيت وإلى أين أذهب” (يو 14: 8). فالنور الذي يحكي عنه أنه هو نور
العالم يعلم من أين جاء، فهو نور الآب، فإن شهد لنفسه فهو يشهد بآن واحد للآب،
لذلك فهو يؤمن أن شهادته حق. أمَّا الفرِّيسيون فيحكمون على الظاهر ولا يعلمون من
أين أتى ولا إلى أين يذهب، فظنوا أن المسيح جاء من نفسه. هذه خطيتهم، لأنه أثبت
بالأعمال والمعجزات أنه يعمل أعمال الآب، فإن لم يريدوا أن يؤمنوا به أنه جاء من
الله، كان عليهم أن يؤمنوا به بسبب الأعمال التي لم يعملها أحدٌ غَيْرَه قَطُّ.

إذن، فلمَّا قال المسيح: “أنا هو نور العالم” فهي
شهادة له وللآب الذي أرسله كنور من نور
وحق من حق، وبدونه لا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب. لذلك
قال: “أنا هو الطريق والحق والحياة”
(يو
6: 14)؛ لأنه النور الموصِّل إلى مصدر النور، والحق الموصِّل إلى مصدر
الحق، والحياة الموصِّلة إلى الحياة. لذلك مَنْ يعرف
الآب يعرف الابن، فإذا عَثَروا في الابن فمعناه أن معرفة الآب غائبة
عنهم.

هذه
هي حقيقتهم، فإذا أرادوا أن يعرفوا الآب عليهم أن يعرفو المسيح ويؤمنوا به، وبحسب
واقعهم المرّ هذا: “لستم تعرفونني أنا ولا أبي، لو عرفتموني لعرفتم أبي
أيضاً” (يو 19: 8). ولكنهم عثروا في اتضاعه إذ حسبوه إنساناً مجدِّفاً، وهم
الذين يجدِّفون على لاهوته.

+”
أنا أمضي وستطلبونني وتموتون في خطيتكم” (يو 21: 8)

واضح
أنه يحدِّد فرصة وجوده معهم أنها لرفع خطاياهم، فبمجرَّد أن يذهب تذهب فرصة غفران
خطاياهم وتبقى كحجر رحى في عُنُقهم. ثم أضاف: إنه إن مضى، تعذَّر عليهم أن يجدوه
بعد ذلك. فلمَّا لم يفهموا، أوضح لهم أنه سيذهب إلى فوق حيث موطنه الذي نزل منه من
عند الآب، ولأنهم من أسفل استحال عليهم العبور. فإن آمنوا به صار لهم نصيب معه
فوق، وإن لم يؤمنوا به بقوا أسفل ليموتوا في خطاياهم.

79- الحرية
والعبودية: المعنى والجوهر

[الذين
عرفوه أظهر لهم ذاته فآمنوا به وهؤلاء هم المختارون منذ البدء].

نحن
لا زلنا في التعليم، فالمسيح كما فهمنا هو الحق الذي يعلِّم الحقيقة، والحق
والحقيقة هي معرفة الله واستعلان أبوَّته والإيمان به.

+”
تعرفون الحق والحق يحرِّركم” (يو 32: 8)

+”
إن حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً” (يو 36: 8)

يبتدئ
الحوار هنا على أساس حديث مطوَّل انتهى بأن” آمن به كثيرون” (يو
30: 8)، فأراد أن يرتفع بمفهوم الإيمان حتى ينالوا قوته فقال لهم: “إن ثبتم
في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي” (يو 31: 8). لأن مجرَّد الإيمان يحتمل
النكوص، ولكن الثبوت في الإيمان يعني أن الإنسان قد تتلمذ أي أعطى حياته للإيمان
أو جعل الإيمان حياته. وهذا يؤدِّي بالإنسان إلى كشف الحق الذي في الإيمان. والحق
لمَّا يُعرف يسكن، لأن معرفة الحق في أساسها هي انفتاح وعي الإنسان لقبول الله.
وحلول وقبول الله معناه أن الإنسان لم يعد من العالم، بل يكون قد تحرر من العالم
والخطية التي في العالم. الابن وحده هو الذي يعرف الآب، وهو وحده الذي خبَّر
وأعلنه: “الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو
خبَّر” (يو 18: 1). فبدون الابن

كما اتفقنا
استحال على الإنسان أن يعرف الله الآب، أو أن يعرف
“الحق”. لهذا فكل مَنْ يؤمن بالابن يعرف الحق. والحق
وهو الله
يحرِّر الإنسان من العالم والخطية والموت. لذلك قالها باختصار: “تعرفون الحق
والحق
يحرِّركم”

فلمَّا
عثروا في كلمة “الحرية” وقالوا: “إننا ذرية إبراهيم ولم نُستعبد
لأحد قط” (يو 33: 8)، ابتدأ يعرِّفهم بالحرية في مفهومها الجوهري أن الإنسان الذي يقترف الخطية هو عبد للخطية، وهو يخطئ لأنه
ابتعد عن الله مصدر
الحق.

الله
أرسل ابنه إلى العالم ليرفع الخطية من طبيعة الإنسان، أي جاء ليحرِّر الإنسان من
الخطية ويقرِّبه إلى الله الآب، بل ويصالحه مع الله الآب وينقله من حالة عبد
للخطية إلى حالة ابن حر لله. فإن حرَّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً، بل
وبنين مصالحين مع الله أيضاً. هذا قاله المسيح ليوعِّيهم بمعنى الإيمان به لمَّا
وجد أن كثيرين قد آمنوا به. وقد أدرك المسيح أن إيمانهم به كان على أساس أنه هو
الذي سيحرِّرهم من الرومان، فأوضح لهم أن عمله الوحيد معهم هو أن يحرِّرهم من
الخطية ويعرِّفهم بالحق والله، ليصيروا أحراراً حقيقيين وليس أحرار وطن وأرض،
ويجعلهم أبناءً حقيقيين لله وليس عبيد خطية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى