علم المسيح

الفصل الثاني عشر



الفصل الثاني عشر

الفصل
الثاني عشر

ترك
كفرناحوم والسفر نحو أُورشليم عن طريق السامرة

بعد
إقامة قصيرة في كفرناحوم فكَّر المسيح أن يترك المكان نهائياً كمركز لخدمته، واتجه
نحو أُورشليم في عيد التجديد الذي يجيء في شهر ديسمبر. فكثير من الشعب في أُورشليم
آمن وتعلَّق به في زيارته الأخيرة هناك. والذي اضطره إلى مغادرة أُورشليم الأخيرة
هي مؤامرة رؤساء الكهنة. ولكن لزم الآن أن يقوِّي إيمان الناس هناك بظهوره الشخصي
مرَّة أخرى، ورأى أن يعبر في الطريق الأقصر خلال السامرة حتى يستطيع أن يلقي
البذار في السامرة قدر ما يستطيع بانتظار خدمة الكنيسة ورعايتها هناك، وكان هذا
يحتاج إلى وقت أطول من العادة، لذلك أسرع في ترك كفرناحوم لينطلق إلى أُورشليم.

84- اختيار
السبعين رسولاً

والآن
والوقت قد أزف، والإعداد للخدمة بعد “خروجه” قد وجب، حيث يتطلَّب عدداً
أوفر من التلاميذ ليبدأوا الخدمة في طول البلاد وعرضها والسامرة أيضاً وإلى أقصى
الأرض، وهو سيترك كفرناحوم على أن لا يعود إليها مرَّة أخرى. وقد رفع عينيه وأشار
لتلاميذه برؤيا المستقبل القريب وقال: الحصاد كثير والفعلة قليلون، فاطلبوا من رب
الحصاد أن يُرسل فعلة إلى حصاده. بعدها بدأ فوراً في اختيار سبعين آخرين ليكونوا
له تلاميذ من بين الذين تبعوه وآمنوا به ليكونوا خاصته الذين ينادون بالملكوت،
وأرسلهم أمامه ليعلنوا قدومه. فكما اختار الاثني عشر بعدد أسباط إسرائيل الجديد،
هكذا اختار السبعين بعدد شيوخ إسرائيل الحكماء، وعلى نمط السبعين عضواً للسنهدرين
المأخوذ أيضاً من السبعين شيخاً الذين عيَّنهم موسى بأمر الرب وقتئذ ليعلِّموا
الشعب ويرعوا قطيعه الكبير. ويقول لاهوتيو اليهود المتنصرين أن ذلك كان وفقاً لعدد
الشعوب آنئذ وكان عددهم سبعين أُمة على الأرض، وهذا إن صح يكون الأكثر لياقةً
للواقع والمستقبل أيضاً، لأن في هذا الرأي مطابقة لفكر المسيح لمَّا قال لهم
اذهبوا واكرزوا للعالم أجمع.

تعليمات
للسبعين:

كان من أهم الأمور الواجبة في الخدمة وحدة الرأي والعمل
والروح بين السبعين رسولاً الجدد، يشدِّدون بعضهم بعضاً. كذلك عضدهم بوعده الإلهي:
“حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم” (مت 20: 18).
هذا كان رائدهم في التقارب والتلاحم في الخدمة والرأي والروح. وهكذا وبناءً على
هذا الوعد أرسلهم اثنين اثنين، ليكون المسيح معهم دائماً يشدِّد الصلح، والمحبة
تؤازرهم.

ويُلاحظ
القارئ الباحث أن ق. لوقا ينفرد بذكر السبعين رسولاً وتعيينهم لخدمة الأُمم، وأن
التعليمات التي قالها لهم في موضعها هنا تبدو غريبة نوعاً ما عمَّا ذكره ق. متى مع
الاثني عشر (مت 9: 37و38، 10 كله). والفارق بين التعليمات التي أُعطيت للاثني عشر
والتي أُعطيت للسبعين، أن في تعليمات الاثني عشر ذكر المقاومات والمصاعب التي ستقابلهم،
لأن خدمتهم كانت بين اليهود والمقاومين وعلى مرأى من السنهدرين ورفضه؛ أمَّا خدمة
السبعين فتخصَّصت للأُمم حيث لا مقاومة ولا اضطهاد. كذلك نجد أن الويلات التي
أعطاها المسيح لمدينتي كورَزين وبيت صيدا توافق بدء ترك المسيح لهاتين المدينتين
في بداية خدمة السبعين وليس الاثني عشر. وواضح أن السبعين قد ظهر عملهم فور صعود
الرب عندما اجتمعوا جميعاً، وهذا يظهر في أول كلمة ألقاها ق. بطرس الرسول حينما
أرادوا اختيار تلميذ بدلاً من يهوذا: “وفي تلك الأيام قام بطرس في وسط
التلاميذ، وكان عدة أسماء معاً نحو مائة وعشرين..
” (أع 15: 1). ويذكرهم
ق. بولس في رسالته الأُولى إلى أهل كورنثوس (6: 15): ” نحو خمسمائة
أخ”،
هؤلاء كلهم اختارهم المسيح حلقات حلقات، من الأضيق (12) إلى الأوسع
(70) إلى الأوسع (500)(
[1]).

وقد
كان مجمل التعليمات هي بعينها التي أعطاها للاثني عشر، إلاَّ أنه لم يتكلَّم معهم
عن منعهم من الخدمة في بلاد السامرة أو في الأُمم.

85- عودة
السبعين بفرح

بعد
أن أدُّوا المهمة عادوا بفرح ولهم روح الطفولة مبتهجين، حتى الأرواح الشريرة خضعت
لهم. وقد أعاد المسيح ذكر الصلة بين إخراج الشياطين عنوة ودخول ملكوت السموات.
فكما قال إنه بأصبع الله يُخرج الشياطين، فكانت هذه علامة على أنه قد أقبل عليهم
ملكوت الله؛ هكذا كان رد المسيح أنه رأى الشيطان ساقطاً من السماء مثل البرق،
بمعنى سقوطه من مركز السيادة والقوة على الإنسان. وهي رؤية تشمل ما بعد الصليب
بصورة أساسية، بمعنى نصرة ملكوت الله فوق مملكة الشر الروحية. وهو لم يقل إني أرى،
بل رأيت كعمل ختامي. ثم عاد وسلَّمهم قوة إلهية لإخضاع العدو بكل مؤذياته الأرضية
دون أن يصيبهم منها سوء. ولكن حذَّرهم من أن تكون هذه الآيات والمعجزات مصدر الفرح عندهم: “بل افرحوا بالحري
أن أسماءكم كتبت في
السموات” (لو
20: 10)، كدعوة اختيار تمموها بالطاعة والوداعة ومؤازرة الروح.

86- علامات
التلميذ الأمين للمسيح

إنكار
الذات، حمل الصليب، اتِّباع الرب

[إن
سرِّي لي ولأهل بيتي]
([2])

الشروط
الحاسمة جاءت هكذا: عدم التعلُّق بالأسرة أو تدليل الذات: “إن كان أحد يأتي
إليَّ ولا يبغض أباه وأُمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، حتى نفسه أيضاً، فلا
يقدر أن يكون لي تلميذاً” (لو 26: 14). هنا لا يزال فكر المسيح يعلِّق على
القوى الباهرة التي فرح لها التلاميذ لمَّا أخرجوا الشياطين باسم المسيح. فليس
العمل العظيم هو الذي يُفرِّح قلب التلميذ، بل إنكار الذات هو الأعظم. بمعنى
إنكاره لذاته ولأهله ولأقاربه ولكل ما للإنسان، فهذا هو الذي يكشف أول علامة ناجحة
لاتِّباع المسيح والصيرورة تلميذاً للملكوت. ومن علامات إنكار الذات الناجحة جداً
محبة الآخرين بدون عائد، بل بروح العطاء وبذل الذات مجَّاناً. فكل الأعمال العظيمة
مهما كانت قوية وناجحة إذا خلت من المحبة الباذلة صارت نحاساً يطن أو صنجاً يرن،
أي تكون بلا قيمة. فإنكار الذات الملهم بقوة المحبة هو الأساس لكل عمل عظيم مقبول
في ملكوت السموات.

وحينما
تأثَّر أحد السامعين من كلام المسيح انفعل وأخذ يعطي وعوداً أكثر من قامته في
اتباع المسيح: “يا معلِّم، أتبعك أينما تمضي” (مت 19: 8)، “فقال له
يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار” وأمَّا المعلِّم الذي يريد أن
يتبعه، فليس له أين يسند رأسه. وآخر طلب منه المسيح أن يتبعه لكنه وضع شرطاً:
“ائذن لي أن أمضي أولاً وأدفن أبي” (مت 21: 8)، “فقال له يسوع: دع
الموتى يدفنون موتاهم، وأمَّا أنت فاذهب ونادِ بملكوت الله” (لو 60: 9)،
بمعنى أن التلميذ قد كرَّس حياته لخدمة الأحياء وليس لخدمة الموتى. وآخر أيضاً
قال: “أتبعك يا سيد، ولكن ائذن لي أولاً أن أودِّع الذين في بيتي. فقال له
يسوع ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله” (لو 9:
61و62)، أي ليس أحد يضع يده على المحراث

أي يسير متجهاً على خط مستقيم إلى الأمام
وينظر إلى الوراء فيتلف العمل منه، يصلح
لملكوت الله.

وفي هذه الأمثلة المصوّرة يتضح أن المسيح يفترض في التلميذ
أن يترك كل شيء تركاً كاملاً

شاملاً من حياته ومن قلبه ويتفرَّغ لخدمة
الملكوت، ولا يستقيم للتلميذ أن يخدم العالم ويخدم المسيح بآن
واحد.

حمل
الصليب واتِّباع الرب:

حمل
الصليب له معنى واحد: الرضا بالنصيب الذي أعطاه الله بشكر وهدوء وسكوت، واحتمال
الآلام والضيقات والمهانة والظلم بلا تململ. فالآية لا تقول: يحتمل الصليب،
بل يحمل الصليب، أي يضعه على نفسه كشرط للمسير خلف الرب بمعنى اقتفاء أثره،
حيث تكون كل ضيقة ومعها آلامها مفروضة ومنتظرة سابقاً بل ومقبولة بلا زعزعة أو
شكوى أو طلب الإعفاء منها، وأن يكون في
الاعتبار إزاء أي ضيقة عظمى أنها قد تؤدي إلى الموت. لذلك فالموت ينبغي أن يكون

مقبولاً باستعداد تسليم النفس والروح منذ
البدء بالمسير وراء الرب واتباع المسيح حتى الصليب
والموت.

والمسيح
في هذا الشرط ليس قاسياً؛ بل هو يسلِّم الإنسان إلى يد الله كما سلَّم هو نفسه ليد
الآب حتى إلى الموت، لأن في الموت يُستعلن الجزاء والخلاص، وتُستعلن الحياة
وبنوَّة الله ومجدها. فالدعوة لحمل الصليب واتباع المسيح دعوة لشركة المجد وميراث
الحياة الأبدية.

87- مَنْ
أقامني قاضياً عليكما، والمرأة الممسوكة بذات الفعل

+
“مَنْ أقامني عليكما قاضياً أو مقسِّماً؟” (لو 14: 12)

+ “موسى في الناموس أوصانا أن مثل هذه تُرجم فماذا
تقول أنت” في أمر الزانية (يو 8: 2-
11).

القضية
الأُولى جاءت في إنجيل ق. لوقا، والقضية الثانية جاءت في إنجيل ق. يوحنا، ولكن
العنصر الذي يربطهما هو نوع القضاء. ففي القضية الأُولى رفض المسيح القضية، وهو
الإجراء الذي يسمونه في المحكمة “الشطب” لعدم الاختصاص الشخصي:
مَنْ أقامني قاضياً؟” أمَّا القضية الثانية، فبالرغم من أنها
استوفت شروط الحكم لقيام البيِّنة والشهود، ولكنه رفضها أيضاً وأسقطها، ولكن لعدم اختصاص المحكمة: “لأنه لم يُرسل
الله ابنه إلى العالم ليدين العالم، بل ليَخْلُص به العالم” (يو
17:
3)، وهذا العنصر بديع حقا ولكنه مختفٍ نوعاً ما في القصة.

فالقضية الأُولى قُدِّمت على أساس قيام واحد من الجمع يطلب
مباشرة من المسيح: “قل لأخي

أن يقاسمني الميراث” (لو 13: 12)، فكان رد المسيح أن هذا ليس من اختصاص عملي،
ولو إني قاضي المسكونة بالعدل، فالسبب في قيام هذا النزاع هو الذي يخصّني وليس نوع
النزاع. أمَّا بخصوص السبب، فأنا أقول
كقاضي الأمور الروحية، إن سبب هذا النزاع هو الطمع، فكل واحد
منهما يريد أن
يأخذ النصيب الأفضل، وهذا لا يستقيم مع مبادئ الملكوت والحياة الأبدية، لأن
الميراث الكثير لا يوفِّر لهما الحياة المقبولة والسعيدة مع الله. ثم ضرب لهم
المسيح مثلاً تعليمياً يكشف جهالة الطمع وما ينتهي إليه من الموت بعيداً عن الله،
خلاصته أن رجلاً غنياً طمَّاعاً في الأمور المادية يختزن كل شيء ليسعد نفسه في
الحياة بأمواله ومخزوناته، تذمَّر على القليل الذي يخزنه، فهدم المخازن وبنى مخازن
كبرى واختزن فيها من المال والماديات ما يكفي لكثير من السنين، وإذا بالرب الناظر بالمرصاد أرسل ملاكه ليأخذ روحه:
“فهذه التي أعددتها لمَنْ تكون؟” (لو
20: 12)

أمَّا
القضية الأخرى فتحتاج إلى مزيد من الذكاء، فالمرأة التي قدَّمها الكتبة
والفرِّيسيون امرأة مستوفاة الحكم بالرجم بحسب الناموس، قدَّموها ودخلوا معها
كشهود عيان لذات فعل الزنا، وذلك لإحراج المسيح بسبب إحساسهم أنه يرحم الخطاة
ويحبهم ويعطف عليهم ويجالسهم ويأكل معهم، فحتماً ظنوا أنه سيتساهل معها، وهنا يكون
الاستهتار بالناموس والأخلاق ويكون لهم مأخذ مُحكم للشكاية عليه. كل هذا كان يعلمه
المسيح. فصحيح أنه محبٌّ للعشَّارين والخطاة، ولكن حكم القانون بالرجم ضرورة، خاصة
وأن هناك أكثر من شاهدَيْن. فانتظر قليلاً وجلس وكأنه يكتب على الأرض، ولكنه كان
يتحادث سرًّا مع ضمائرهم. ثم انتصب فجأة وقال لهم: بما أنكم أنتم شاهدتم الخطية
فأصبح عليكم أنتم أن ترجموها. فمَنْ كان فيكم بلا خطية فليرمها بأول حجر. وهكذا
لمَّا أوقفهم أمام ضمائرهم ما استطاعوا أن يقفوا أمامه، فتركوا المرأة وخرجوا
واحداً واحداً مبتدئين من الشيوخ. ثم سأل المسيح المرأة أين الذين يشتكون عليكِ؟
أما دانك أحدٌ؟ فقالت: لا أحد؛ فما كان من المسيح إلاَّ أن قال لها: ولا أنا أدينك
أيضاً فاذهبي ولا تخطئي ثانية!

ويُلاحِظ
القارئ الذكي أن المسيح إنما يتكلَّم ويحكم ويدين من رصيد حياته ودمه!

فالصليب القادم كان يسند ظهره ودمه يتساقط على هذه المرأة
أثناء حكمه.
هذا
هو الديَّان: “لم آتِ لأدين العالم، بل لأخلِّص العالم.” (يو 47: 12)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى