علم

قيامة المسيح وقيامتنا



قيامة المسيح وقيامتنا

قيامة
المسيح وقيامتنا

يوحنا
ذهبي الفم

1
قيامة المسيح

اليوم
تبتهج كل الملائكة وتفرح كل القوات السمائية لأجل خلاص كل الجنس البشرى. فإن كان
هناك فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب، فبالأولى كثيرًا يكون هذا الفرح بخلاص كل
البشرية.

 

اليوم
تحرر الجنس البشرى من قبضة الشيطان وأُعيد الإنسان لي رتبته الأولى، إذ أن المسيح
انتصر على الموت. إنني لا أخاف بعد ولا أرتعب من الحروب الشيطانية. ولا أنظر لي
ضعفى، لكنني أتطلع لي قوة ذاك الذي صار لي سندًا وعونًا، أتطلع لي ذلك الذي هزم
الموت ونزع طغيانه. اليوم يسود الفرح والابتهاج الروحي كل المسكونة.

 

إذن،
تأمل أيها الحبيب في مقدار هذا الفرح العظيم، حيث القوات السمائية تحتفل معنا
اليوم مبتهجين لأجل الخيرات التي تنتظرنا، لهذا فهم لا يخجلون أن يحتفلوا معنا..
ولماذا أقول هذا الكلام؟ لأن الرب نفسه يشتهى أن يحتفل معنا. وكيف عرفنا ذلك؟ أسمع
ما يقوله الرب ” شهوة اشتهيت أن آكل الفصح معكم ” (لو15: 22). فلو كان
قد اشتهى أن يأكل الفصح، فمن الواضح أنه يشتهى أن يحتفل معنا اليوم.

 

إذن
عندما ترى أن الملائكة وكل القوات السمائية، بل وملك الملوك نفسه يحتفل معنا اليوم،
إذن فماذا ينقصك لكى تفرح فرحًا عظيمًا؟

 

اليوم
يجب ألاّ يحزن أحد بسبب فقره، لأن الاحتفال اليوم هو احتفال روحي، وألاّ يفتخر
الغنى بغناه لأنه ليس له أى فضل في هذا الاحتفال.

 

هناك
احتفالات عالمية تُقام خارج الكنيسة مليئة بمظاهر الأبهة والموائد الغنية بالأطعمة،
وهى تُعثر الفقير الذي لا يستطيع أن يصنع مثل هذه الأمور. ومن الطبيعي أن يتضايق
ويحزن. فلماذا يرتدى الغنى ملابس زاهية ويقيم موائد مليئة بصنوف الطعام المختلفة،
بينما لا يستطيع الفقير أن يصنع هذا بسبب فقره؟

 

هذا
ما يحدث بالخارج، بينما هنا داخل الكنيسة لا يحدث شيء من هذا كله، ولا يوجد هذا
التمييز، بل توجد مائدة واحدة للغنى والفقير، للعبد والحر.

 

هل
أنت غنى؟ حتى وإن كنت؛ فليس لك أفضلية على الفقير. هل أنت فقير؟ إنك لست أدنى من
الغنى. فالفقر لن ينتقص من أفراح المائدة الروحية. لأن النعمة هي من الله وهى لا
تميز بين الأشخاص. هذه هي العطايا الروحية، التي لا تقسم المجتمع بحسب المناصب، بل
بحسب المستوى الروحي وبحسب استقامة أفكار كل أحد. ولهذا فإن الملك والفقير يتقدمان
معًا نحو الأسرار الإلهية بنفس الثقة وبنفس الكرامة، لكى يتمتعا بالتناول منها.
لأن لباس الخلاص هنا هو واحد للجميع أغنياء وفقراء، والرسول بولس يقول ” لأن
كلكم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح ” (غل27: 3).

 

أرجو
أن لا تستهينوا بهذا الاحتفال، ولتكن لنا رؤية لائقة بتلك العطايا التي منحتنا
إياها نعمة المسيح، وألاّ نسلّم أنفسنا للسكر والبطر. ما دمنا قد أدركنا المحبة
الإلهية وسخاء إلهنا مع الجميع للفقراء والأغنياء، للعبيد والأحرار إذ أعطى للجميع
نفس النعمة، فلنقدم المقابل لي ذاك الذي أظهر تلك المحبة نحونا، والمقابل اللائق
به هو السلوك المُرضى لله من نحونا، وأيضًا النفس الساهرة المتيقظة.

 

لنحتفل
إذن بهذا العيد عيد قيامة المسيح لأنه قام وأقام كل البشرية معه. لقد قام وكسر كل
قيود الموت ومحا كل خطايانا.

 

أخطأ
آدم ومات، والمسيح لم يخطئ ولكنه مات. أمرٌ غريب وعجيب لماذا مات المسيح وهو لم
يخطئ؟ حدث هذا لكى يستطيع الذي اخطأ ومات أن يتحرر من قيود الموت بمعونة ذاك الذي
مات، رغم أنه لم يخطئ[*].

 

فمثلاً
يحدث مرات كثيرة أن يكون أحد مديونًا بمبلغ من المال لشخص آخر ثم يعجز عن السداد،
فيأتى شخص ثالث لديه القدرة علي تسديد هذا الدين، وعندما يدفعه فإنه يحرر هذا
المدين. هذا ما حدث لآدم إذ كان محكوماً عليه بالموت، فآتي المسيح و حرره من قيود
الموت مع أن المسيح لم يكن مداناً بأي شيء. أرأيت مفاخر القيامة؟ أرأيت محبة الله
للبشر؟ أرأيت مقدار العناية العظيمة؟.

 

اليوم
يجب أن ننشد مع داود النبي ” من يتكلم بجبروت الرب. من يخبر بكل
تسابيحه؟” (مز2: 106).

 

لقد
بَلغَنا الاحتفال الخلاص الذي كنا نشتهيه. إنه يوم قيامة السيد المسيح، يوم السلام
و المصالحة، اليوم الذي فيه بطل الموت و أنهزم الشيطان. في هذا اليوم انضم البشر
لي الملائكة. اليوم يقدم البشر تسابيحهم مع القوات الروحية. اليوم أبطلت أسلحة
الشيطان وأنفكت قيود الموت وأُبيد جبروت الجحيم

 

اليوم
سحق ربنا يسوع المسيح الأبواب النحاسية وأزال شوكة الموت. اليوم نستطيع أن نقول مع
النبي ” أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية”(1كو55: 15).

 

لقد
غيّر حتى اسم الموت، فلا يدعى بعد موتًا، بل نومًا ورقادًا. كان اسم الموت مُخيفًا
قبل ميلاد المسيح وصلبه، لأن الإنسان الأول عندما خُلق سمع ” يوم تأكل من هذه
الشجرة موتًا تموت” (تك17: 2). وداود النبي يقول ” الشر يميت
الإنسان” (مز21: 34). كما كان انفصال النفس عن الجسد يُدعى موتًا وهاوية،
ويقول يعقوب أبو الآباء ” تنزلوا شيبتي بحزن لي الهاوية” (تك38: 42).
وإشعياء يقول ” وسعت الهاوية نفسها و فغرت فاها بلا حدود” (إش14: 5).
وأيضًا ” لأن رحمتك عظيمة نحوي وقد نجيت نفسي من الهاوية السفلي” (مز13:
85). هذا المفهوم عن الموت نجده في مواضع أخرى كثيرة من العهد القديم، غير انه منذ
أن قدم المسيح ذاته ذبيحة من أجل كل البشرية، وقام من الموت ألغي كل هذه الأسماء
وقدم للبشرية حياة جديدة لم تعرفها من قبل، فلا يُسمى بعد، الخروج من هذا العالم،
موتًا بل نومًا أو انتقالاً.

 

من
أين يتضح هذا؟ اسمع المسيح يقول: ” لعازر حبيبنا قد نام لكني أذهب لأوقظه
” (يو11: 11).

 

فكما
هو سهل بالنسبة لنا أن نوقظ نائمًا، فإنه سهل بالنسبة للمسيح أن يُقيم ميتًا. ولأن
كلامه هذا كان غريبًا وجديدًا فإن التلاميذ أنفسهم لم يفهموه.

 

ومعلم
المسكونة القديس بولس يكتب لي أهل تسالونيكى ” ثم لا أريد أن تجهلوا أيها
الاخوة من جهة الراقدين لكى لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم ” (1تس13: 4).
ويقول أيضًا: ” إننا نحن الأحياء الباقين لي مجيء الرب لا نسبق الراقدين
” (1تس15: 4)، وأيضًا ” لأنه إن كنا نؤمن أن يسوع مات وقام فكذلك
الراقدون بيسوع سيحضرهم الله أيضًا معه ” (1تس14: 4).

 

أرأيت
أن الموت يُسمى رقادًا أو نومًا؟!. إن الموت الذي كان له اسمًا مخيفًا صار الآن
محتقرًا بعد القيامة. أرأيت بهاء مجد القيامة؟!

 

بالقيامة
اكتسبنا خيرات غير محدودة. بالقيامة أُبيدت حيل الشياطين وخداعهم. بالقيامة انتزعت
شوكة الموت. لذلك، فالقيامة تجعلنا لا نتمسك بالحياة الحاضرة ونشتهى بكل قلوبنا
خيرات الدهر التي.

 

القيامة
جعلتنا في مستوى لا يقل عن القوات الروحية مع إننا موجودون في الجسد. إذن فلنفرح
كلنا ولنبتهج، لأن هذه النصرة، نصرة المسيح على الموت، هي نصرة لنا، لأنه صنع كل
هذا لأجل خلاصنا.

 

2
قيامة الأجساد

إن
موضوع القيامة هو موضوع متعدد الجوانب، إذ يختص بتحديد ما يجب أن نؤمن به، وما
ننظم به أمور حياتنا الحاضرة. فحينما لا نؤمن بالقيامة تنقلب حياتنا رأسًا على عقب،
وتمتلئ بمتاعب كثيرة جدًا وتصير لي فوضى. بينما الإيمان بالقيامة يدفعنا لي الأمام
لأنها دليل عناية الله، وهى تجعلنا قادرين على أن نهتم باقتناء الفضيلة، وأن نجاهد
لكى نتجنب الشر وأن يسود الهدوء والسلام في كل أمور حياتنا.

 

ومن
لا ينتظر القيامة العتيدة في يوم الدينونة وهناك سيعطى حسابًا عن أعماله التي
صنعها على الأرض، متصورًا أن الإنسان محصور في الحدود الزمنية للحياة الحاضرة فقط،
وأنه لا يوجد شيء بعد في هذه الحياة الحاضرة، هذا الإنسان، لن يُبد اهتمامًا
بالفضيلة. إذ كيف يُبدى هذا الاهتمام طالما أنه لا ينتظر أن يُعاقب عن شروره التي
صنعها؟، وهو بهذا الاعتقاد سيُلقى بنفسه في شهواته غير اللائقة، ويصير ذهنه ملوثًا
بالخطية.

 

لكن
من يؤمن بالدينونة الأخيرة وقضاء الله العادل، فإنه يضع نصب عينيه ما يجب عليه أن
يفعله، حكم الله المُنزه عن الخطأ. وسيحاول أن يسلك بوداعة واستقامة حياة، ساعيًا
نحو كل فضيلة، متجنبًا الفساد وعدم اللياقة وكل أشكال الخطية الأخرى. أما هؤلاء
الذين يحتجون بشدة موجهين اللوم لعناية الله، فإن الله منذ الآن قادر أن يسد
أفواههم. بينما يرى بعضهم أن الحكماء والأبرار المكرمين، هم الذين عانوا محتملين
وهُددوا ووُشى بهم حتى جفت أجسادهم، ومرارًا تعرضوا لأمراض مخيفة دون أن يتمتعوا
بأية حماية (من قِبل الله). من ناحية أخرى، يروا أن أناس ذوى نفوس سوداء، ملوثين
ومملوئين من كل شر، غارقين في الغنى وفى متع الحياة لابسين ملابس زاهية يتبعهم خدم
كثيرون، فخورين بإعجاب الناس مستمتعين بما لديهم من سلطة، وبما لهم من دالة كبيرة
عند الملك. من يرى هذا، ينكر عناية الله، ويتساءل أهل هذه عناية الله؟ أهل هذه
دينونة عادلة أن يحيا العاقل الأمين وسط المتاعب، بينما يحيا الفاسق وسط الخيرات؟.
وهل يكون الواحد محطًا للإعجاب به والآخر يُحتقر؟ الواحد يستمتع بمباهج كثيرة
والآخر يعانى المتاعب والمشقات؟.

 

إن
من لا يؤمن بالقيامة لن يستطيع أن يعطى إجابة على هذه التساؤلات. بل يبقى صامتًا
لا تعليق لديه. وعلى العكس من ذلك. من يتناول موضوع القيامة بحكمة واهتمام، سيكون
من السهل عليه أن يواجه التجديف، ويقول لكل من ثبطت عزيمتهم من نحو هذه الأمور: كفوا
عن توجيه الاتهامات لله الذي خلقكم، لأن أمور الإنسان لا تنحصر فقط في الحدود
الزمنية للحياة الحاضرة، بل تمتد لي حياة أخرى لا نهاية لها. ففي الدهر التي سينال
من احتمل وسلك بتقوى جزاءه عن كل ما عاناه في هذه الحياة، بينما سيُعاقب الفاسق
والبائس على خطيئته ومتعه المحرمة التي اقترفها.

 

ولهذا
يجب ألا نبدي آراءنا في عناية الله مكتفين بالنظر فقط للأمور الحاضرة، بل يجب أن
ننظر أيضًا للمستقبل. لأن الأمور الحاضرة هي جهاد وسباق واختبار، أما الأمور
المستقبلة فهي مِنَح وأكاليل وجوائز. وكما أنه يجب على لاعب القفز أن يبذل جهدًا
وعرقًا ومشقة ليكون جديرًا للمنافسة، هكذا أيضًا الإنسان التقي يجب عليه أن يتحلى
بالصبر في مواجهة أمور كثيرة في هذا العالم وأن يتحمل كل شيء بشجاعة، لأنه ينتظر أن
يُتوج ببهاء في الدهر التي. ونحن نرى أن اللصوص ونُباش القبور والقتلة والقراصنة
في البحار، يستمتعون بمباهج كثيرة على حساب الآخرين، بما يقتنوه من غنى محرم.

 

غير
أنهم يدفعون ثمن هذا غاليًا عندما يخضعون لحكم القضاء. هكذا فإن كل الذين يشترون
نساءً ساقطات يقيمون موائد سافيرية[†] ويتفاخرون ويتباهون نابذين الفقراء، فعندما
يأتي أبن الله الوحيد مع ملائكته ويجلس على العرش، وأمامه تنكشف الأعمال، سيؤتي
بهم دون أن يكون لهم من يدافع عنهم. لهذا لا نعتبرهم محظوظين بسبب حياتهم المترفة
في هذا الدهر, ولكن فلنبكِ عليهم لأجل العقاب الذي ينتظرهم, ولا نحزن علي الإنسان
النقي لاحتماله مشقات هذا العالم, بل يجب أن نطوبه لما ينتظره من خيرات الدهر
الآتي.

 

عمّق
في داخلك موضوع القيامة، فبهذا يمكنك أن تختبر حتى ولو كنت إنسانًا صالحًا أن تصير
أكثر عطاء, مكتسبًا استعدادًا أكبر بالرجاء, أيضًا أختبر لو كنت إنسانًا شريرًا أن
تتجنب الخطية وأن تجعل نفسك أكثر تعقلاً بالخوف من العقاب المنتظر.

 

فبالرغم
من أن بولس يحدثنا باستمرار عن القيامة قائلاً: ” لأننا نعلم أنه أن نُقض بيت
خيمتنا الأرضي فلنا في السموات بناء من الله. بيت غير مصنوع بيدٍ أبدى. فإننا في
هذه أيضًا نئن مشتاقين إلي أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء ” (2كو1: 52),
إلا أنه من الأفضل لنا أن نرجع لما كتبه قبل هذه الآيات لنرى كيف انتهي لي موضوع
القيامة. فهو لا يتناول موضوع القيامة حقًا بدون هدف, لكنه يسند المجاهدين من أجل
التقوى.

 

نحن
الآن نتمتع بسلام عظيم لأن الملوك أيضًا يحبون التقوى والرؤساء يعرفون الحقيقة
جيدًا والشعوب وسكان المدن والأمم تخلصوا من الضلال والجميع عرفوا المسيح. أما في
بداية الكرازة فبمجرد أن أُستعلن سر التقوى, اشتدت الحروب وكثرت النزاعات وتنوعت،
لأن الرؤساء والملوك وأرباب البيوت جميعهم حاربوا المؤمنين, حتى الأقارب بالجسد
شاركوا في اضطهادهم لأنه كان يحدث أن يُسلّم الأب ابنه والأم ابنتها والعبد يسلم
سيده. لم تكن المدن والأقاليم فقط في المنازعات الداخلية لكن البيوت أيضًا, وكان
القلاقل التي تسود في أعقاب الحروب الأهلية أمرًا مُخيفًا.

 

فقد
سُلبت الأموال واُنتهكت الحريات, بل كانت حياة البشر نفسها مهددة بالأخطار, لا من
خلال هجمات وشرور البربر فقط ولكن بسبب الذين كانوا يحكمون ويقودون الشعب, لأنهم
تعاملوا مع رعاياهم معاملة أسوأ من معاملة الأعداء. وهذا ما أعلنه بولس قائلاً
” ولكن تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أنرتم صبرتم على مجاهدة آلام
كثيرة من جهة مشهورين بتعييرات وضيقات ومن جهة صائرين شركاء الذين تصرف فيهم هكذا
لأنكم رثيتم لقيودى أيضًا وقبلتم سلب أموالكم بفرح عالمين في أنفسكم أن لكم مالاً
أفضل في السموات باقيًا ” (عب32: 1034). وللغلاطيين يقول: ” أبهذا
المقدار احتملتم عبثًا إن كان عبثًا ” (غل4: 3)، وأيضًا لي أهل تسالونيكى
وإلى أهل فيلبى وبشكلٍ عام لي كل من تلقوا رسائله يشهد فيها عن أمور كثيرة مثل هذه.

 

إن
حربًا شديدة بلا توقف قد بدأت تتحرك من خارج لم تكن فقط هي الأمر المخيف، لكن حدث
أن صارت عثرات ونزاعات ومشاحنات وغيرة حاقدة ضد المؤمنين. وهذا بالضبط ما أعلنه
بولس قائلاً: ” من خارج خصومات من داخل مخاوف ” (2كو5: 7). هذه الحرب
كانت أكثر رعبًا من أى حرب أخرى ضد الرعية والرعاة. إذن فبولس لم يخف من سهام
الأعداء بل أن مصدر خوفه كان السقوط في العثرات التي من داخل والتي تأتى من
الأقارب. على سبيل المثال عند سقوط واحد من أهل كورنثوس في خطية الزنا فإن بولس قد
قضى وقتًا حزينًا وأحشاءه ممزقة بسبب هذا الأمر. لأن هذه الأمور الروحية بطبيعتها
تتطلب مشقة وجهادات كثيرة. لأن الطريق الذي سار فيه الرسل لم يكن طريقًا سهلاً
وهينًا، لكنه كان غير مستوٍ وغير ممهد يتطلب نفسًا ساهرة متيقظة من كل الجوانب.
لهذا دعا المسيح هذا الطريق ضيق وكرب. وكان المؤمنون يحيون خاضعين لصوت ضميرهم
وليس كما كان يحدث مع الوثنيين الذين كانوا يعيشون في زنا وسكر ونهم ومُتع وغنى فاحش.
أيضًا كان عليهم أن يقمعوا الغضب وأن يسيطروا على شهواتهم الرديئة وأن يحتقروا
المال وأن يدوسوا المجد الباطل. ونحن نعلم كم من الجهد والتعب تتطلبه هذه الأمور.
وهذا يعرفه كل من يجاهد يوميًا. وهل هناك ما هو أكثر رعبًا من الشهوة الرديئة، فهي
مثل حيوان مسعور يهاجمنا باستمرار ولا يتركنا في هدوء ويحتاج على الدوام لي نفسٍ
يقظة.

 

لأنه
وإن كان أمرًا مقبولاً أن يدافع الإنسان عن نفسه ضد كل من ظلمه، إلاّ أن هذا لم
يكن سهلاً حينذاك وهذا ما يدعوني أن أتساءل هل لا يُسمح لإنسان أن يدافع عن نفسه
ضد كل من ظلمه؟.

 

كان
يجب على الإنسان أن يفعل الخير تجاه كل من أحزنه وأن يبارك كل من يسئ إليه وألاّ
يُخرج كلمة مُرة من فمه ولا يجرح أحد البتة. وكان عليه أيضًا أن يُظهر وداعة ليس
فقط من جهة الأعمال لكن أيضًا يُظهر نقاوة الفكر. لأنه يجب على الإنسان أن يبتعد
عن عمل الفجور مثل ما يبتعد عن مجرد رؤية هذه الأمور، وألاّ ينشغل بالنظر لي
النساء الحسناوات. لأنه بهذا يُعرض نفسه للعقاب في الدينونة الأخيرة.

 

ونظرًا
لأن الحرب كانت شديدة من الخارج والمخاوف شديدة من الداخل، كان على الإنسان أن
يبذل جهدًا كبيرًا لأجل الفضيلة. إلاّ أن ما يجب الالتفات إليه، هو عدم خبرة هؤلاء
الذين قرروا أن يجاهدوا هذا الجهاد العظيم، لأن الرسل لم يكرزوا لأناس وارثين
التقوى من أجدادهم، لكن انتشلوهم من الخمول والضعف والسكر والزنا والفجور مهذبين
إياهم. لذلك لم تكن جهاداتهم بالأمر الهين، لأنهم لم يشبوا مهذبين من قبل آبائهم
على هذا المنهج الجديد للحياة، ولهذا فإنهم يجوزون صعوبة هذه الجهادات لأول مرة.
ونظرًا لأن الصعوبات كانت كثيرة فإن موضوع القيامة كان هو العزاء الدائم لقبول هذه
الآلام. لهذا لم يكتفِ القديس بولس بالحديث عن القيامة وقوتها لكنه كان أيضًا
يكلمهم عن آلامه الخاصة. ولهذا السبب قبل أن ينتهي لي الكلام المتعلق بموضوع
القيامة (الذي أشرنا إليه في 2كو1: 52) نجده أيضًا يتحدث عن آلامه الخاصة قائلاً: “مكتئبين
في كل شيء لكن غير متضايقين، متحيرين لكن غير يائسين، مُضطهدين لكن غير متروكين،
مطروحين لكن غير هالكين ” (2كو8: 49). بهذه الأمور أعلن أننا كأموات نُسلم
للموت كل يوم. ولم يكتفِ القديس بولس بالحديث عن هذا فقط بل عندما كانت تأتى
مناسبة للحديث عن آلامه كان يعود مرة أخرى لموضوع القيامة ” عالمين أن الذي
أقام الرب يسوع سيقيمنا نحن أيضًا بيسوع ويحضرنا معكم لأن جميع الأشياء هي من أجلكم
لكى تكون النعمة وهى قد كثرت بالأكثرين تزيد الشكر لمجد الله لذلك لا نفشل بل وإن
كان إنسانا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” (2كو14: 416). ولهذا لم
يقل لهم لا تخضعوا للشر ولكن ماذا قال؟ لذلك لا نفشل، مبينًا أنه هو نفسه كان في
جهادات مستمرة.

 

وعلى
سبيل المثال نجد أنه في الألعاب الأوليمبية بينما يقوم الرياضى بمنافسة خصمه داخل
الملعب، يجلس المدرب خارجًا ليوجهه بإرشاداته وعلى قدر التوجيه تعظم المساندة. أما
أن يساعده عن قرب من داخل الملعب فهذا ما لا يسمح به أى قانون. لكن فيما يختص
بجهادات التقوى فالأمر مختلف، فالقديس بولس هو نفسه المدرب واللاعب معًا وهكذا لا
يجلس خارج الملعب لكنه يشارك في نفس المباريات ويعد من يجاهدون معه قائلاً: ”
لذلك لا نفشل ” ولم يقل لا أفشل. وهو يريد بهذا أن يقوّم اعوجاجهم ” بل
وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا”. لاحظ كيف يصيغ
الرسول بولس حديثه: يعظهم من نحو كل ما عانوه قائلاً: ” مكتئبين في كل شيء
لكن غير متضايقين “، ويعظهم من نحو قيامة المسيح بقوله: ” الذي أقام
الرب يسوع سيقيمنا نحن أيضًا “، ثم بعد ذلك يبدأ في الحديث عن أسلوب آخر
للعزاء. فنحن نجد أن أغلب الناس هم من صغار النفوس واهنين وضعفاء، وعلى الرغم من
أنهم مؤمنون بالقيامة فإنهم يفقدون رجاءهم بسبب طول الزمن الحاضر، ولذلك يتشتت
ذهنهم فيتراجعون عن ثقتهم في القيامة. لهؤلاء يعطى الرسول بولس أجر ومكافأة أخرى
ما هى؟ ” إن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا ”
إنسان الخارج يُسمى الجسد وإنسان الداخل يُسمى النفس. وهذا يعنى إنه من الآن وقبل
القيامة وقبل التمتع بخيرات الدهر الآتي، فإن مكافأة هذه الأتعاب ليست بالمتع
القليلة حيث تتجدد النفس في وسط الضيق وتكتسب صبرًا أكثر وتصير أكثر قوة وأكثر
إشراقًا.

 

إن
من يحققون أرقامًا قياسية في الرياضة الجسدية نجد أنهم قبل التتويج وقبل الجوائز
يحصلون على رضا وقناعة داخلية، وبهذا تكون أجسادهم بواسطة التريض والمنافسة أكثر
صحة وأكثر قوة ومتجنبين كل مرض. هكذا أيضًا في الجهادات من أجل الفضيلة فقبل أن
تنفتح السماء وقبل أن يُستعلن ابن الله وقبل أن ننال الأكاليل، ستكون المكافأة من
الآن كبيرة بأن تصير نفوسنا أكثر يقظة وأكثر حكمة.

 

وهؤلاء
الذين يشقون البحار مرات كثيرة ويواجهون أمواجًا عاتية ووحوش ضارية ويعانون مرات
كثيرة من سوء الأحوال المناخية، فإنهم وحتى قبل الفوز المادي يحصلون على متعة تلك
الرحلة البعيدة والتي هي ليست بقليلة. أى أنهم لا يبالون بالأمواج دون أى خوف بل
بسعادة غامرة يشقون عرض البحر ذاهبين لي أقصى حد لتحقيق مقصدهم. هكذا يحدث أيضًا
في هذه الحياة الحاضرة أن كل من عانى ضيقات كثيرة من أجل المسيح، كل من لاقى
عذابات متنوعة سينال مكافأة كبيرة حتى قبل التمتع بخيرات الدهر الآتي. لأنه اكتسب
من الآن دالة أمام الله وجعل نفسه ترتفع لي أعلا وتتحدى المشقات. ولكي يكون ما
أقوله أكثر وضوحًا فإني أجعله جليًا من خلال المثل الآتي؛ القديس بولس نفسه عانى
آلامًا كثيرة جدًا وأخذ مكافآت عديدة وهو في الجسد مستهزئًا بالمشقات مواجهًا
بثبات هوس الرعاع مستهينًا بكل آلام، أمام وحوش وسلاسل وأمواج وأحزان وهجمات وسهام
في كل هذه المتاعب، لم يكن يخاف من أى شيء. من يستطيع أن يتساوى معه؟

 

إن
الإنسان غير المدرب الذي لم يتعرض لمصاعب، من الطبيعى أن يرتبك من قِبَل الصعوبات
العادية ليس فقط مما هو حادث، لكن أيضًا لما هو متوقع أو كما يُقال: ” إنه
يخاف من ظله “. لكن كل من دخل في أعمال صعبة وفى منافسات وتعرض لمتاعب فإنه
من الطبيعي أن يرتفع فوق كل الصعوبات ويسخر من كل ما يهدده مثل طائر يطير ويصيح
صيحة النصرة. ولأنه يجاهد للحصول على هذا الإكليل العظيم لذلك فإن أى ألم يتعرض له
أثناء جهاده لن يكون عبئًا عليه لهذا فإن هذا الألم لا يستطيع أن يحزنه. هذه
الأمور عندما تحدث للآخرين فهي تزعجهم، أما بالنسبة له فهي لا تعنى شيئًا. وإن
كانت هذه الآلام سبب توتر وارتباك لهم، فهي له موضع استهانة واستهزاء. فهو يرتفع
بنفسه بقوة الصبر الكثير لي تلك الرؤية المستنيرة التي للقوات الملائكية. فلو أننا
نطوب الجسد الذي يتحمل بلا تذمر البرد والحر الشديدين والجوع والعوز ومشقة الطريق
ومتاعب أخرى، فبالأولى كثيرًا يجب أن نطوب النفس التي تستطيع بصبر واحتمال وأمانة
أن تواجه كل المشقات والمتاعب.

 

ومن
خلال هذا تستطيع هذه النفس أن تحفظ فكرها حرًا نقيًا. ومن يفعل هذا هو ملك أكثر من
الملوك أنفسهم. لأنه بالنسبة للملك يمكن أن يُصاب بضرر سواء من الحرس الخاص أو من
الأصدقاء أو من الأعداء سرًا كان أم علانًا. أما من يملك نفسًا حرة ونقية، فلا ملك
ولا حرس خاص ولا خادم ولا صديق ولا عدو ولا حتى الشيطان نفسه يستطيع أن يصنع به
شرًا. كيف لا يكون في مأمن من كل الضربات وهو الذي اعتاد ألاّ يبالى بشيء من
المصاعب التي اعتاد غيره أن يعدها أسوأ البلايا واشدها هولاً؟.

 

كان
المُطوب بولس من هذا النوع من الناس ولهذا قال: ” من سيفصلنا عن محبة المسيح
أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عرى أم خطر أم سيف كما هو مكتوب إننا من أجلك
نُمات كل النهار قد حسبنا مثل غنم للذبح ولأننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي
أحبنا ” (رو35: 837). وهذا ما يعنيه هنا بالضبط ” إن كان إنساننا الخارج
يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا”. أما الجسد فضعيف وأما الروح فقوى وأكثر
قوة وأكثر حرية. فالجندي المُصاب بمرض ثقيل جدًا حتى ولو كان جسورًا وقادرًا في
الحرب لا يمثل لأعدائه أى انزعاج لأن ثقل المرض سيشكل عائق في حرية حركته. هكذا
فكل من يجعل جسده أكثر خفة بالأصوام والصلوات والصبر الكثير على الضيقات، يكون مثل
طائر يحلق من أعلى وباندفاعة قوية يسقط على صفوف الشياطين وينتصر بسهولة على كل
القوات المضادة ويخضعها. نفس الأمر حدث لبولس تلقى ضربات كثيرة أُلقى في السجن
رُبط في آلة من خشب[‡]، جسده كان ضعيفًا جدًا مُنهكًا من المتاعب الكثيرة، لكن
نفسه كانت قوية ومُشرقة. هذا المُقيد كان قويًا جدًا وبصوته فقط كان يزعزع أساسات
السجن، ويُحضر أمام قدميه حارس السجن المرتعب والأبواب المغلقة تُفتح. إذن فالرسول
بولس يعطينا بهذا تعزية غير قليلة قبل القيامة، إننا نستطيع أن نصير أفضل وبفكر
أكثر استنارة حتى داخل التجارب ولهذا يقول: ” الضيق ينشئ صبرًا والصبر تزكية
والتزكية رجاء والرجاء لا يخزى” (رو4: 55)، ويقول قديس آخر: [ إنسان لم يمر
بتجربة هو غير مختبر وغير المختبر غير مستحق أبدًا للكلمة ].

 

فمن
الضيقة نثمر الكثير ويكون لدينا نفسًا مختبرة وأكثر حكمة وأعمق فهمًا، وبهذا نتخلص
من كل حيرة. لهذا يقول: ” إن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا
فيومًا” أخبرنى كيف يتجدد؟ يُطرح الخوف خارجًا، تُخمد الشهوة الرديئة وتتلاشى
محبة المال والمجد الباطل وكل الأفكار الأخرى الفاسدة. أما النفس التي لا تثمر ولا
تعمل، فتسيطر عليها الشهوات بسهولة. هكذا فإن النفس التي تنشغل بالجهاد من أجل
الفضيلة بلا انقطاع ليس لديها وقت للتفكير في هذه الشهوات، حيث إن الاهتمام
بالجهادات المستمرة يُبعد النفس عن كل هذه الشهوات. ولهذا قال ” تتجدد يومًا
فيومًا”. ثم بعد ذلك يعزى أيضًا النفوس التي تتألم بسبب المتاعب المنتظرة ولا
تعرف أن تتقبل هذه المتاعب بحكمة، فهو يوجه نظرهم للرجاء نحو الأبدية قائلاً: ”
لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدى ونحن ناظرين للأشياء
التي لا تُرى، لأن الأشياء التي تُرى وقتية وأما التي لا تُرى فأبدية” (2كو17:
418). وحديثه هذا يحمل المعنى الآتي: أن الضيقة تفيد أنفسنا جدًا وتجعلها أكثر
حكمة وأشد وعيًا ثم تكون سببًا لنصيب عظيم من الصلاح في الدهر التي ليس كمقابل
للأتعاب، لكن بالأكثر كمكافأة للجهاد الروحي الكثير والذي من كل القلب.

 

إن
هذين الأمرين يظهرهما بولس ويُقارن بين كثرة الأخطار وبين امتياز المكافأة. ويقابل
بين الوقتي والأبدي، بين الهين والثقيل، بين الضيقة والمجد. لأنه كما يقول من
ناحية، هناك الضيقة وهى وقتية وخفيفة، ومن ناحية أخرى هناك المجد وهو أكبر بكثير
من مجرد الراحة بل هو أبدى ومستمر وعظيم. وهو لا يعنى بالثقل هنا شيء يثقل حمله
ولكن يعنى شيئًا عظيمًا وعالي القيمة جدًا. ووفق عادة الكثيرين فإنهم يدعون كل ما
هو ثقيل بالشيء القيم الفخم. إذن بقول ثقل مجد فهو يعنى مجد فائق.

 

هكذا
يقول لا تحتسب لهذا فقط، أنك تُضطهد وتُجلد، لكن أنظر لي الأكاليل والمكافآت لأنها
أفضل بكثير وأكثر إشراقًا من الأمور الحاضرة، فأمور الدهر التي ليس لها نهاية.

 

لكن
ربما تقول إن أمور العالم الحاضر نراها، وأمور الدهر التي نترجاها، وأن أمور
العالم الحاضر هي واضحة وأما أمور الدهر التي هي غير ظاهرة. لكن على الرغم من أنها
غير ظاهرة فهي أكثر وضوحًا من الأمور الظاهرة، ماذا أعنى بقولي أكثر وضوحًا؟ أمور
الدهر التي نستطيع أن نراها أكثر من أمور هذا العالم، لأن أمور هذا العالم هي
وقتية أما أمور الدهر التي فهي أبدية. ” ونحن ناظرين لي الأشياء التي لا تُرى،
لأن التي تُرى وقتية أما التي لا تُرى فأبدية “. لو قلت كيف أستطيع أن أرى
الأشياء التي لا تُرى؟ سأحاول أن أتى بك لي هذا الإيمان بواسطة أمور هذه الحياة.
لأنه ولا حتى أمور هذا العالم الفاني يستطيع الإنسان أن يتلامس معها بسهولة إن لم
يستطع أن يرى غير المنظور قبل أن يرى المنظور. على سبيل المثال فإن قبطان السفينة
يتحمل عواصف كثيرة وأمواج تأتى عليه ومصاعب أخرى كثيرة جدًا، لكن عندما يصل لي
الميناء ويتصرف في هذه الأحمال ويبيعها، فإنه يتمتع بالربح المادي. الأمر الواضح
كانت العواصف والأمر غير الواضح كان الربح المادي. فإن لم ينظر أولاً لي ما هو غير
واضح والذي ينتظره بالرجاء، لم يكن يستطيع أن يتمتع بهذا الربح، لو لم يحتمل هذه
الأمور الحاضرة والظاهرة.

 

هكذا
أيضًا فإن الفلاح يشقى ويحرث الأرض ويقلبها ويلقى البذور وينفق كل ما يملك ويصبر
على البرد والصقيع والأمطار وعلى متاعب أخرى كثيرة، لكن بعد كل هذا التعب ينتظر أن
يرى ظهور السنابل وأن يملأ أجرانه بالقمح. أرأيت إذن كيف يكون التعب أولاً ثم بعد
ذلك المكافأة؟ من ناحية، فإن المكافأة هي أمر غير واضح، بينما التعب هو أمر واضح،
المكافأة توجد داخل الرجاء (في المستقبل) بينما التعب يوجد في الحاضر.

 

هكذا
فإن الفلاح إن لم يتطلع لي الأمور غير المنظورة، فإنه ليس فقط سيترك حرث الأرض
وإلقاء البذور بل إنه لن يغادر منزله بالمرة لكى يعمل هذه الأمور.

 

كيف
لا يكون إذن أمر غير معقول، أنه بينما في أمور هذه الحياة يستطيع الإنسان أن ينظر
لي الأمور المحتجبة قبل أن يرى الأمور الظاهرة. فإنه يصبر على المتاعب ويتحمل كل
المصاعب السابقة، ثم ينتظر الخيرات ويتلامس مع الأمور الظاهرة ناظرًا بالرجاء
للأمور غير الظاهرة. بينما فيما يتعلق بالأمور المختصة بالله يتردد ويشك ويطلب
المكافأة قبل أن يتعب ويظهر صغير النفس ويتضح أنه أقل من البحارة والفلاحين؟!

 

ليس
في هذا فقط، لكن في أمر آخر ستظهر أنك أسوأ من أولئك الذين يحزنون لأجل المستقبل.
ما هو؟ إن أولئك الذين ليس لديهم إيمان يقيني بالآخرة لا يقبلون على التعب. أما
أنت الذي لديك ضمان أكيد للأكاليل فكيف لا تتمثل بصبر هؤلاء البحارة والفلاحين
واحتمالهم؟!

 

فعلى
الرغم من أنه في مرات كثيرة عندما يبذر الفلاح أرضه ويزرعها وهو ينتظر أن يرى
سنابل وفيرة يحدث العكس، بأن تصيب حقله مثلاً أمطار ثلجية أو يتعرض لجراد ويخسر كل
شيء وبعد كل هذا الجهد يعود لبيته بأيدي فارغة. أيضًا القبطان عندما يشق البحار
بسفينة مُحملة عن آخرها، يحدث مرات كثيرة أن تهاجمه الرياح في مدخل الميناء ويرى
السفينة تصطدم بصخرة وتنكسر ويُنقذ هو وحده مجردًا من كل شيء.

 

بشكل
عام في أمور هذه الحياة، فمن المعتاد أن تحدث كوارث ويتعطل الهدف. لكن في الجهاد
الروحي ليس الأمر هكذا لأن من جاهد وبذر التقوى وجاز متاعب كثيرة سينجح في هدفه
مهما يكن الأمر. لأن الله لا يعلق مكافآته على تقلبات المناخ وضربات الرياح، لأن
هذه المكافآت تنتظرنا في أماكن الخيرات العتيدة التي لا تضمحل.

 

لذلك
فإن الرسول بولس يقول: ” الضيق ينشئ صبرًا والصبر تزكية والتزكية رجاء
والرجاء لا يُخزى “. إذن لا تقل إن أمور الدهر التي غير ظاهرة لأنك لو قصدت
أن تنظرها فهي أكثر وضوحًا من الأمور الملموسة باليد. وهذا بالضبط ما يوضحه لنا
الرسول بولس، فهناك أمور يسميها أبدية، وأخرى يسميها وقتية، ويعنى بالوقتية الأمور
الباطلة لأن هذه الأمور غير ثابتة وتحولاتها فجائية واكتسابها أمرٌ غير مؤكد.
ونعنى بها الغنى والمجد والسلطة الأرضية والجمال الجسدي والقوة المادية، وبشكل عام
كل أمور الحياة التي نظن أن لها قيمة. ولهذا فإن عاموس النبى يسخر من الذين يعيشون
في المتع ويشتهون الأموال وكل بريق عالمي آخر إذ يقول: ” إنهم يحسبون لبقائهم
ولا يحسبون لرحيلهم ” (عا5: 6س). وكما أنك لا تستطيع أن تتحكم في الظل هكذا
أمور الحياة الحاضرة. وهذه الأمور تُفقد بالموت وتُفقد أيضًا قبل الموت، وتذهب بسرعة
أكثر من سرعة تيار جارف. بينما في أمور الأبدية ليس الأمر هكذا، لأن الأمور
الأبدية لا تعرف تغيرًا ولا تتعرض لفقدان ولا لشيخوخة ولا تفسد لكن تظل دائمًا في
ازدهار وإشراق وسمو.

 

فإن
كان من الواجب أن نتحدث عن بعض الأمور غير الواضحة وغير المؤكدة فإننا نعنى بها
الأمور الحاضرة التي لا تبقى على حالها، لكنها تتغير من حين لي آخر وتنتقل كل يوم
من شخص لي شخص. هذه الأمور أوضحها لنا الرسول بولس ولهذا، فأمور العالم الحاضر
سماها بالوقتية وأمور الدهر التي بالأبدية.

 

ويتكلم
عن قيامة الأموات فيقول: ” لأننا نعلم إنه إن نُقض بيت خيمتنا الأرضي فلنا في
السموات بناءً من الله بيت غير مصنوع بيدٍ، أبدى ” (2كو1: 5). ولاحظ كيفية
استخدامه للكلمات بدقة وكشفه لقوة معانيها. لأنه لا يكتفي بأن يدعو الجسد بالخيمة،
لكنه أوضح لنا أن الحياة الحاضرة هي حياة وقتية ثم بعد ذلك تأتى الحياة الأفضل. فكأنه
يقول: لماذا تبكى وتئن أيها المحبوب، لأنك ضُربت واضطهدت وأُلقيت في السجن؟ لماذا
تتوجع بسبب بعض الإساءات بينما من الواجب أن تقبل انحلال الجسد؟ أو بالأحرى تلاشى
الفساد الموجود في الجسد. وهو يبين لنا أن هذه الإساءات البسيطة هي أبعد من أن
تحزننا، بل على العكس يجب أن تفرحنا، وأن الانحلال الكامل والأخير هو غاية أملنا.

 

ويقول:
” فإننا في هذه أيضًا نئن مشتاقين لي أن نلبس فوقها مسكننا الذي من
السماء” (2كو2: 5). وقبل كلامه هذا، عندما كان يتكلم عن الجسد قال: ” إن
نُقض بيت خيمتنا الأرضي “. بيت خيمتنا أى البيوت التي نسكن فيها والمدن التي
نعيش بها أى شكل الحياة الحاضرة. وهو لم يقل فقط: لأنني أعلم، ولكن ” لأننا
نعلم”، لأنه يشعر بوحدته مع كل المؤمنين. وكأنه يقول لا أتكلم عن الأمور
المشكوك فيها ولا عن أمور مجهولة ولكن عن الأمور التي تعلمتموها وآمنتم بها، إذ
آمنتم بقيامة الرب. لذلك يسمى أجساد الذين ماتوا خيمة. لاحظوا مقدار الدقة في
استخدام الكلمة، لم يقل قُتل أو أُهلك ولكن نُقض، مبينًا أنه نُقض لكى يقوم بفرح
أكثر وإشراق أكثر، كما قارن فيما بعد بين المتاعب والمكافآت، لاحظ الزمان والكيفية
والمكان. فالجسد الذي ينحل يسميه خيمة والجسد الذي يقوم يسميه مسكن، ليس فقط مسكن
بل أبدى، وليس فقط أبدى بل سماوي، مبينًا امتياز الجسد من جهة الزمن ومن جهة
المكان في القيامة. الواحد أرضى والآخر سماوي، الواحد وقتي والآخر أبدى. نحن الآن
نحتاج لي جسد وبيوت بسبب الضعف الجسمي، أما في الأبدية سيكون نفس الشيء الجسد
والمسكن لكن بدون احتياج لي بيت ولا حتى لي أغطية، حيث الخلود يغطى كل شيء.

 

ثم
بعد ذلك يبين الخيرات العتيدة التي تنتظرنا فيقول: ” فإننا في هذه نئن
مشتاقين لي أن نلبس فوقها مسكننا”، ولم يقل: أئن، لكنه جعل الموقف مشتركًا
لأنه يريد بذلك أن يجذبهم لي فكره المستنير وأن يجعلهم شركاء في رؤيته. لم يقل فقط:
نلبس، ولكن: نلبس فوقها، وينتهي لي ” إن كنا لابسين لا نوجد عراة “.
ربما يبدو أن ما قاله فيه شيء من عدم الوضوح، لكنه صار أكثر وضوحًا فيما بعد عندما
أضاف ” فإننا نحن الذين في الخيمة نئن مثقلين إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن
نلبس فوقها لكى يُبتلع المائت من الحياة ” (2كو4: 5). أرأيت كيف انه لا يسمى
هذا الجسد مسكن بل خيمة؟ ولا يقول نلبس مرة أخرى بل نلبس فوقها. وهنا استطاع أن
يوجه ضربة قاضية لأولئك الذين يتكلمون بالسوء على الجسد، فقد قال ” نئن لي أن
نلبس فوقها “، لكى لا يعتقد أحد أنه ينظر للجسد كشيء سيئ. أو أنه يعتبر الجسد
شيء شائن أو عدو صريح. اسمع كيف يصحح هذه الشكوك. فهو يفعل ذلك أولاً بعبارة
” نئن مشتاقين أن نلبس فوقها مسكننا الذي من السماء”. وبالحقيقة من يكسو
شيئًا فإنه يضع فوقه شيئًا آخر، لذلك يضيف ” نئن مثقلين إذ لسنا نريد أن
نخلعها بل أن نلبس فوقها”.

 

وهو
بذلك يريد أن يقول إننا لا نرفض الجسد بل نرفض الفساد الذي فيه، لا نرفض الجسد بل
نرفض الموت. الجسد شيء والموت شيء آخر، الجسد شيء والفساد شيء آخر. فلا الجسد هو
فساد ولا الفساد هو جسد. ومن المؤكد أن الجسد فانٍ، لكن الفناء ليس هو الجسد، ومن
المؤكد أيضًا فإن الجسد مائت، لكن الموت ليس هو الجسد. الجسد خلقه الله، أما الموت
والفساد ليسا من الله بل دخلا بسبب الخطية.

 

إذن
فهو يريد أن يقول: إني أخلع ما هو غريب عنى، والغريب ليس هو الجسد ولكن الفساد،
ولهذا يقول: لسنا نريد أن نخلعها (أى خيمة الجسد) ولكن أن نلبس فوقها أى نلبس عدم
الفساد. إذن نخلع الفساد ونلبس عدم الفساد. فهو يريد أن ينبذ ما جاء نتيجة للخطية،
وفى الوقت نفسه يكتسب كل ما أعطته النعمة الإلهية. ولكي نعلم أن الخلع لا يقوله من
جهة الجسد بل يقوله من جهة الفساد والموت. اسمع ما يقوله بعد ذلك مباشرة: ”
إذ لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها”، ولم يقل: لكى يُبتلع الجسدي من
اللاجسدي، لكن ماذا يقول؟ ” لكى يُبتلع المائت من الحياة “. لهذا فهو لا
يتحدث عن خلع الجسد بل عن خلع الموت والفساد. فالحياة التي تأتى لي الجسد (بالقيامة)
لن تبيد الجسد، بل الفساد والموت اللذين في الجسد. إذن فالأنين ليس بسبب الجسد بل
بسبب الفساد الموجود في الجسد. فالجسد هو عبء ثقيل لا بسبب طبيعته ولكن بسبب
الفساد الذي دخله فيما بعد. والجسد بحد ذاته لم يُجعل للفساد بل لعدم الفساد[§].
وهو يحمل تلك الخاصية حتى حين صار قابلاً للفساد. ولذلك فإن ظل الرسل كان يطرد
القوات غير الجسدية، والملابس التي كانت تستر أجسادهم كانت تشفى المرضى وتعيدهم
أصحاء. لا تحدثوني عن أمراض الجسد والأمور الأخرى التي يذكرها الذين يتكلمون ضد
الجسد، لأن كل هذه الأمور لم تكن من طبيعة الجسد بل هي بسبب الفساد الذي دخل الجسد
فيما بعد.

 

لو
أردتم أن تعرفوا حقيقة الجسد وقيمته، دققوا النظر في خلق أعضاء الجسد وشكل هذه
الأعضاء ودقائق أعمالها بتوافق وتناسق وانسجام، فإنك عندئذ ستتأكد أن أداء هذه
الأعضاء والتوافق فيما بينها هو أمر أكثر مثالية وأكمل من مدينة تحترم قوانينها
ومواطنيها جميعًا من الحكماء.

 

فإن
كنت أنت تتغافل عن كل هذه الأمور وترى فقط فساد الجسد وفنائه، فنحن نستطيع أن
نستخرج منها دليل الدفاع عنه. فالبشر لم يخسروا شيئًا من فساد الجسد، بل كان هناك
ربح كثير للجنس البشرى، وهذا يتضح من أن كل القديسين قد عاشوا في الجسد، وتمكنوا
أن يعيشوا كملائكة ولم يعطلهم هذا العبء الثقيل عن التقدم في حياة الفضيلة. أما
هؤلاء الذين اندفعوا نحو الطغيان والجحود، فإن فساد الجسد لا يمنعهم من السير
خطوات أخرى في طريق مخالفتهم. الخلاصة أن بعض الناس المعرضين للموت مع أنهم لابسون
جسدًا قابلاً للآلام والفساد، يتوهمون أنهم معادلون لله. كم من أناس بسطاء كان
يمكن أن يُخدعوا بأحاديثهم لو لم يفطنوا لي أنهم يلبسون هذا الجسد الضعيف والفاني؟.
فإذا كان ذلك الجسد القابل للفساد يعطى الفرصة للقديسين لكى يظهروا شجاعة وشهامة
النفس، في مغفرة تكون لأولئك الذين يتكلمون ضد الجسد؟

 

نستطيع
القول من جهة حقيقة الجسد وقيمته، إنه قد صار لنا سببًا لمعرفة الله، لأن الكتاب
يقول: ” لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العلم مُدركة بالمصنوعات قدرته
السرمدية ولاهوته ” (رو20: 1).

 

واضح
إذن إن النفس اُقتيدت لمعرفة الله الذي خلقها بواسطة الأعين والآذان، ولهذا فإن
بولس كرّم الجسد وهو يقول: ” لسنا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها ”
(2كو4: 5).

 

لا
تقل لي كيف يقوم الجسد مرة أخرى ويصير غير قابل للفساد؟ لأنه حين تعمل قوة الله،
فكل شيء يصير ممكنًا. أنت نفسك قد خلقك الله قادرًا أن تصير مبدعًا، وأنتم تختبرون
كل يوم أعمال قيامة، إما في مزروعاتكم أو في فنونكم، أو في الصناعات المعدنية.
فالبذور لا تُخرج السنابل إن لم تمت في البداية وتتعفن وتفسد. إذن لديك دليل واضح،
فكما ترى البذرة تتعفن وتتحلل ثم بعد ذلك تنمو، فلا تشك في القيامة، لأن نفس الشيء
يجب أن تفكر فيه من جهة جسدك. فحينما ترى الفساد قد دخل فيه، فهذا يجب أن يجعلك
تفكر في القيامة. لأن الموت ليس إلاّ إبطالاً للفساد، فالموت لا يُبطل الجسد، بل
الفساد الذي في الجسد. نفس الشيء يراه الإنسان في المعادن. يأخذ الخبراء التراب
المخلوط بالذهب ويسلمونه للمعمل لاستخراج الذهب منه. أيضًا يخلطون الرمل مع مواد
أخرى لكى يصنعون زجاجًا نقيًا.

 

أخبرني
إذن إن كانت النار تصنع هذا، أفلاّ تستطيع نعمة الله أن تصنعه؟ فكر في كيفية خلقك
منذ البداية ولا تشك بالأولى في القيامة؟. أليس بقليل من التراب قد خلق الله
أجسادكم؟. أيهما أصعب أن يخلق من الطين لحم وأوردة وجلد وعظام وأعصاب وشرايين، وأن
يضع أعضاء الحواس كالعيون والآذان والأنوف والأرجل والأيدي، وأن يعطى كل عضو قوة
خاصة به كما يعطيه أيضًا قوة تربطه بغيره من الأعضاء. أو أن يجعل القابل للموت غير
مائت؟

 

ألاّ
ترون أن الطين هو مادة متساوية الأجزاء، بينما الجسد متنوع في أعماله وألوانه
وشكله وجوهره وفى كل شيء. لا تسأل كيف صنع الله الكواكب السماوية التي لا تُحصى،
والملائكة ورؤساء الملائكة والطغمات الأعلى منهم؟ أنا لا أعرف كيف، أقول فقط إنه
أراد أن يخلقها.

 

إذن
فالذي خلق كل هذه الكائنات الروحية ألاّ يستطيع أن يجدد جسد الإنسان مرة أخرى، وأن
يجعل القابل للفساد غير قابل للفساد ويرفعه لي أعلا مرتبة؟

 

من
يفكر بأن الجسد لا يقوم هو عديم الفهم. فعدم قيامة الجسد تعنى عدم قيامة الإنسان.
لأن الإنسان ليس نفس فقط بل نفس وجسد معًا. فلو أن النفس هي التي تقوم فقط فهذا
معناه أن نصف الإنسان فقط هو الذي يقوم وليس كله. ومن ناحية أخرى فإن القيامة
بالنسبة للنفس ليس لها معنى واضح. فالقيامة هي للذى سقط وتحلل، النفس لا تتحلل
ولكن الجسد هو الذي يتحلل.

 

لكن
ماذا تعنى هذه الكلمات ” إن كنا لابسين لا نوجد عراة “؟ هنا يطرح علينا
سر خفي وعظيم. ما هو هذا السر؟ لقد أعلنه في رسالته الأولى لي أهل كورنثوس حينما
قال: ” هوذا سرٌ أقوله لكم لا نرقد كلنا ولكننا كلنا نتغير في لحظة في طرفة
عين عند البوق الأخير ” (1كو51: 1552). وما معنى هذا الكلام؟ يعنى اليهود
والأمم وعبدة الأوثان والهراطقة وكل إنسان عاش في هذا العالم سيقوم في اليوم
الأخير. فالقيامة هي عامة للجميع، للأتقياء وغير الأتقياء، للأشرار والأبرار، لكى
لا تعتقد أن هناك دينونة ظالمة وتقول في نفسك، ماذا إذن؟ أنا الذي جاهدت كل هذه
الجهادات أقوم، وعابد الأوثان الذي طغى وسجد للأوثان ولم يؤمن بالمسيح هو أيضًا
سيقوم ويستحق نفس الكرامة؟ اسمع ماذا يقول الكتاب: ” وإن كنا لا بسين لا نوجد
عراة”، ويتساءل المرء كيف يحدث هذا؟ طالما يلبس الإنسان الخلود وعدم الفساد
كيف يُوجد عاريًا؟ هذا يحدث عندما نكون مجردين من المجد ومحرومين من الدالة أمام
الله. إن أجساد الخطاة تقوم وتكون خالدة ولكن هذه الكرامة تتحول بالنسبة لهم لي
وسيلة للعقاب والعذاب. وحيث إن هذه النار المُعدة لا تُطفأ، هكذا أجساد هؤلاء لا
تفنى أبدًا. ولهذا قال ” إن كنا لا بسين لا نُوجد عراة “.

 

لأنه
أن نقوم ونلبس عدم الموت (الخلود) ليس هو الهدف، الهدف هو ألاّ نوجد عراة من المجد
الإلهي حتى لا نُسلم للنار. ثم بعد ذلك يجعل حديثه من جهة القيامة أكثر تأكيدًا
وكمالاً عندما قال ” يُبتلع المائت من الحياة ” ثم يضيف ” ولكن
الذي صنعنا لهذا عينه هو الله ” وهو يعنى بهذا أنه منذ البداية قد خلق
الإنسان لهذا الهدف، لا لكى يفنى ولكن لكى يحيا لي الأبد أى خُلق للخلود.

 

حتى
حينما سمح أن تكونوا عرضة للموت، سمح بذلك لكى تنصلحوا بهذا العقاب، حتى حينما
تحيون بالفضيلة تستطيعوا أن تصِلوا مرة أخرى للخلود. هذا كان قصد الله منذ البدء
وإرادته في خلق الإنسان الأول. فلو لم تكن هذه هي إرادته منذ البدء، بأن يفتح لنا
أبواب الخلود، لما ترك هابيل يعانى هذه المعاناة وهو الذي أظهر كل فضيلة وصار
صديقًا لله.

 

والآن
فإن الله يُظهر لنا أننا نسير نحو حياة أخرى، وأن هناك حياة أفضل للأبرار ينالون
فيها المكافآت والأكاليل، وهابيل البار الأول الذي تبرهن على أنه بار، لم يُكافأ
هنا عن أتعابه ورحل دون أن ينال مكافأة. لكن بعد هذه الحياة هناك يكون الأجر وتكون
المكافأة. لهذا فإن أخنوخ وإيليا اختُطفا معلنين لنا حقيقة القيامة فهما مثالان
لقيامة الموتى.

 

إذن
يكفينا فقط أن نؤمن بقوة ذاك الذي يستطيع أن يصنع هذا. ولو وُجد إنسان ضعيف ويريد
دليلاً آخر وتأكيدًا للقيامة الآتية فإن الله يعطيه نعمة الروح القدس بوفرة وسخاء
ويعلن له هذه الحقيقة.

 

لهذا
فإن الرسول بولس في معرض حديثه عن القيامة، أكد على علاقة قيامتنا بقيامة المسيح،
وبقدرة الخالق الذي خلقنا، وباستخدامه عبارة ” أعطانا عربون الروح ”
يشدد أكثر على تلك الحقيقة. والعربون الذي تشير إليه الآية هو الذي يُدفع مقدمًا،
أو في البداية كجزء من الكل. بالنسبة للكل (أى قيامة المجد) فإن الوعد أكيد. مثلما
يحدث عند إجراء العقود، فإن الذي يأخذ العربون لا يكون قلقًا على بقية الثمن.
وأنتم أيضًا أخذتم العربون بمعنى مواهب الروح، فلا تشكوا ولا ترتابوا أبدًا من نحو
الخيرات التي تنتظركم. فأنتم أيضًا تقيمون أمواتًا، وتشفون عميانًا، وتطردون
شياطين، وتطهرون برص وتشفون مرضى وتبطلون شوكة الموت. فإن كنتم تستطيعون أن تصنعوا
كل هذا وأنتم في هذا الجسد الفاني، في عذر لكم إن شككتم بعد ذلك في قيامة الأموات؟.

 

فإن
كان الله قد اختصنا ونحن بعد في زمن الشدائد والجهادات فوهب لنا في هذه الحياة
الحاضرة مثل هذه الأكاليل، وذلك قبل أن تأتى المكافآت المقبلة، فكم بالحري تكون
الخيرات التي سننالها عندما يحين موعد المكافآت؟.

 

ولو
قال أحد، نحن الآن لا نرى مثل هذه المعجزات وليس لدينا مثل هذه القوة لنصنع
المعجزات، سأجيبه: إن الرسل كان لهم السلطان على صنع هذا، كما تشهد عليه الكنيسة
الجامعة في كل مكان، فالشعوب والأمم في كل المدن انجذبوا بقوة نحو صيادي السمك.
لأنه لم يكن لهؤلاء عديمي العلم والفقراء والمزدرى بهم أن يسودوا العالم، لو لم
يكن لديهم معونة تلك المعجزات. أنتم أيضًا لستم مجردين من نعمة الروح القدس. يوجد
الآن أمور كثيرة تشير لي هذه النعمة وهذه العطية، وهى تفوق عمل المعجزات.

 

فإقامة
جسد من الموت هي أقل شأنًا من تخليص نفسٍ مائتة من الخطايا، وهذا ما يحدث
بالمعمودية. وإزالة الأمراض الجسدية هي أدنى قيمة بكثير من رفع ثقل الخطية. وإعادة
البصر لي الأعمى هي أيسر جدًا من إنارة النفس المظلمة.

 

فلو
لم يكن لنا عربون الروح، لما كان لنا غفرانًا للخطايا ولا تبرير ولا تقديس، ولا
كنا تمتعنا بالتبني ولا اشتركنا في الأسرار المقدسة. لأن الروح القدس هو الذي يقدس
الجسد، والدم في سر الإفخارستيا، ولما كان لدينا كهنوت مقدس، فالرسامات لا يمكن أن
تتم بدون حلول الروح القدس.

 

أمور
أخرى كثيرة يستطيع الإنسان أن يذكرها، كإشارات لبيان نعمة الروح القدس. بالتالي
فأنتم تأخذون عربون الروح القدس لتقيموا النفوس المائتة وتصححون الأفكار المريضة.
وبما أننا قد نلنا تلك الضمانات، فيجب ألاّ يكون لدينا شك في المستقبل (القيامة).

 

لقد
جمعنا كل الحجج والبراهين الخاصة بالقيامة، فلنُظهر إذن حياة مستحقة لهذا الإيمان،
لكى نحصل على الخيرات الوفيرة الثابتة، والتي تتجاوز كل فكر إنساني بالنعمة ومحبة
البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي له المجد مع أبيه الصالح والروح القدس لي
دهر الدهور. آمين.

————————

[*]
هذا المفهوم هو ما يعبّر عنه نص اللحن الكنسى ” المسيح قام ” إذ تردد
الكنيسة بإيمان: ” المسيح قام من بين الأموات، بالموت داس الموت وأعطى الذين
في القبور الحياة الأبدية.

[†]
سيفاري كانت مستعمرة يونانية في شمال إيطاليا. وسكان هذه المستعمرة عاشوا حياة
مترفة وقد صارت حياتهم أمثولة.

[‡]
أداة خشبية كانت تُربط بها أرجل المتهمين فلا يستطيعوا أن يحركوها أبدًا.

[§]
أنظر صلاة الصلح في القداس الباسيلى: “يا الله العظيم الأبدى الذي جبل
الإنسان على غير فساد”.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى