ويمكننا تشبيه قدرة المراكز العليا في قشرة المخ على التحكم في المراكز السفلى بغرفة العمليات في القيادة العليا للقوات المسلحة التي تتحكم في توجيه الكتائب والألوية، كما يشبه العقل في تحكمه في الغرائز بفارس يركب حصاناً جامحاً ولكن الفارس يستطيع من خلال اللجام أن يكبح جماحه ويسير بجواده نحو هدفه في سلام إلا طرحه الجواد أرضاً. وإذا كان رجال علم النفس قالوا لنا إن الغرائز أو الدوافع البيولوجية لها ثلاث مقومات في الإنسان هي الإدراك والانفعال والنزوع بمعنى إن المخ يدرك فيحدث الانفعال ثم ينفذ الإنسان ما تتطلبه الغريزة أو قد يكبت الرغبة ولا ينفذها.. إذا كان هذا في الإنسان فيصبح مفتاح التحكم في الغريزة الجنسية عند الشاب هو العقل. فإذا كانت حواسه طاهرة كان فكره طاهراً وإن كان فكرة طاهراً فإن الانفعال لا يحدث إلا في المجرى الطبيعي الذي وضع من أجله وهكذا تكون الغريزة سائرة في وضعها السليم.
فالصفة الأولى في الدافع الجنسي عند الإنسان إنه ليس مجرد فعل منعكس وإنما يمكن ضبطها وتوجيهها يتحكم فيها العقل وتسيطر عليه الإرادة.. ويخطئ هنا الإباحيون الذين يقولون إن الجنس طاقة لا يمكن التحكم فيها وإن ضبطها والتسامي بها يضر الإنسان، على العكس سنرى إن الإباحية والكبت يؤذيان الإنسان في حياته ليست الجنسية فقط بل في كيانه ككل متكامل.
والصفة الثانية في الدافع الجنسي أنه ليس إزالة التوتر العضوي وإنما هو مفعم بالعواطف الراقية. كما يلذ للخطيب أن يجوب المحلات التجارية بحثاً عن هدية لطيفة تروق لعين خطيبته! وكم تلذ للزوجة وقفتها في المنزل تعد أكلة معينة يفضلها زوجها! هذه العواطف المتبادلة هي التي تلف الطرفين في غلالة رقيقة تضمهما معاً؛ فتقترب النفسيتان ويتحدان، ويصبح تلقائياً اقتراب الجسدين تعبيراً عن الحب والشركة والالتزام الذي جمع الاثنين وجعلهما واحداً.. لهذا يقول القديس مكسيموس المعترف إن الانفعال الروحي أولاً ثم الانفعال الجسدي. وإن كان تناول الطعام إنسانياً ليس مجرد استهلاك مواد لإطفاء انفعال الجوع، إنما هو وسيلة لمزيد من الشركة والحب والتعارف، فيجلس الأحباء حول المائدة ويأكلون بطريقة راقية، ويتبادلون الأحاديث التي تدعم محبتهم، ويكون الأكل هنا تعبيراً عن سر من أسرار الحب الإنساني الذي لا تقاس لأعماقه حدود، كم بالأحرى الجنس الذي هو أكثر عمقاً في حياة الإنسان والذي يحاط بالاحترام والوقار، والذي من اجل الارتباط الزيجي وتحقيق اللقاء بين الاثنين يؤسّس عش الزوجية الجميل.. ويجلس الخطيبان يتفاهمان حول المستقبل ومبادئ الحياة التي يعتزمان أن يشتركا سوياً في الالتزام بها.
حقاً إن الجنس إنسانياً ليس مجرد التصاق جسدي، وإنما هو مشاعر حب صادق في القلبين تجد في اللقاء الجسدي تدعيماً لها.. ولعل هذا هو أحد الفوارق الجذرية بين الزواج والزنا.
إن العلاقة الزيجية لها بُعد داخلي أما الزنا فهو إزالة التوتر الجنسي بإحساس اللذة السطحية الجنونية التي تنعكس بعدها إلي بغضة بين الطرفين بدلاً من تعميق الحب. وأمامنا مثال أمنون وثمار في العهد القديم (2صموئيل13). وهو الفارق أيضاً الذي يجعل الإنسان قادراً أن يقدم طاقته الحيوية على مذبح البذل والعطاء والحب والتكريس كتقدمة طاهرة.. الأمر الذي لا تستطيع أن تعمله الملائكة أو الخليقة غير الناطقة.
أن الدافع الجنسي في الإنسان يهدف إلي تحقيق الشركة والوحدة وانصهار الاثنين في شركة "نحن" واختفاء الأنا.
إن هذه الشركة هي الحل الحقيقي لمشكلة العزلة والفراغ الداخلي وهذا هو التفسير النفسي العميق لمعنى: أصنع له معيناً نظيره..
إن الغريزة الجنسية ليست بيولوجية (حيوية) يتحكم فيها المثير والاستجابة وإنما تديرها وتتحكم فيها المراكز العليا في المخ التي تعطي للإرادة قوتها الإنسانية.
إن الدافع الجنسي ليس بيولوجياً فحسب وإنما هو مفعم بأرقي العواطف في مفهومه الإنساني وقد تسمو العواطف هذه إلي مستوى التكريس والبتولية المقدسة.
إن الدافع الجنسي مرآة للشخصية وحصيلة لقواها المختلفة كما إن هذه القوى لها فاعليتها على هذه الغريزة الحيوية.