علم المسيح

مجد المسيح



مجد المسيح

مجد
المسيح

جواباً
على السؤال: «على أي أساس يقوم ارتفاع السيد المسيح؟» يقول كتاب أصول الإِيمان:
«إن مجد السيد المسيح يقوم على أساس قيامته من الأموات في اليوم الثالث، وصعوده
إلى السماء، وجلوسه عن يمين اللّه الآب، وعودته لدينونة العالم في اليوم الأخير».

 

لا
يتعلّق ارتفاع السيد المسيح بطبيعته الإِلهية، التي هي الآن، والتي كانت دائماً
مباركة وممجدة، بل أن التمجيد يتعلّق بطبيعته البشرية، لأن طبيعته الإِلهية لا
تتغير، ولذلك فهي غير قابلة للزيادة أو النقصان. إن اتضاعه كان مؤقتاً، وقد ابتدأ
بولادته وتمّ بدفنه، ولا يمكن تكرار هذا على الإطلاق. أمّا إرتفاع السيد المسيح
فإنه مستمر، وقد ابتدأ بقيامته وصعوده، وما زال قائماً حتى الآن، وهو جالس عن يمين
اللّه الآب، ويدير أمور ملكوته بصورة مستمرة. إنّ هذا سيكشف عنه بصورة كاملة عند
نهاية العالم حين يأتي بمجد أبيه، مع الملائكة القديسين ليدين الأمم ويعيّن لكل
فرد مصيره الأبدي.

 

لم
تكن قيامة السيد المسيح مجرد خطوة أولية لتمجيده، بل إنها أيضاً واحدة من أعظم
حقائق الإنجيل. بهذا العمل انتصر السيد المسيح على الموت، وخرج حيّاً من القبر.
هذا هو البرهان على أنّ عمله الفدائي كان ناجحاً تماماً، وكان انتصارهُ انتصاراً
تاماً على الموت. وقد أظهرت أيضاً أنّ عمله هذا قد أنجز جميع مطاليب الشريعة
الإِلهية التي سنّها اللّه عند الخليقة الأصلية: بأن النفس التي تخطئ يجب أن تموت.
لذلك فإن الموت لم يعُدْ له أي حكم عليه، ولا على أيٍ من الذين مات عنهم وافتداهم.
لقد برهنت القيامة أيضاً على أنه كان كما قال تماماً، أي ابن اللّه، مساوٍ للّه
الآب، اللّه الذي ظهر في الجسد. وبما أنه تألم ومات ليس بسبب خطية ارتكبها، بل
كالقائد الذي ينوب عن شعبه، فإن قيامته هي الضمان على أنه في الوقت المعيّن سيقيم
أيضاً شعبه المنتسب إليه انتساباً حيّاً في قيامة مجيدة. ذلك يعني أنّ الإنجيل هو
حق، وأنّ الشيطان قد دُحر نهائياً. انتصرت الحياة على الموت والحق على الباطل
والخير على الشر والسعادة على البؤس. كل تلك الانتصارات هي أبدية دائمة كما أبرز
الرسول بولس أهمّيتها الحقيقية القصوى: «وَإِنْ لَمْ يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ
قَامَ، فَبَاطِلَةٌ كِرَازَتُنَا وَبَاطِلٌ أَيْضاً إِيمَانُكُمْ…. وَإِنْ لَمْ
يَكُنِ ٱلْمَسِيحُ قَدْ قَامَ فَبَاطِلٌ إِيمَانُكُمْ. أَنْتُمْ بَعْدُ فِي
خَطَايَاكُمْ! إِذاً ٱلَّذِينَ رَقَدُوا فِي ٱلْمَسِيحِ أَيْضاً
هَلَكُوا! إِنْ كَانَ لَنَا فِي هٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ فَقَطْ رَجَاءٌ فِي
ٱلْمَسِيحِ فَإِنَّنَا أَشْقَى جَمِيعِ ٱلنَّاسِ. وَلٰكِنِ
ٱلآنَ قَدْ قَامَ ٱلْمَسِيحُ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ وَصَارَ
بَاكُورَةَ ٱلرَّاقِدِينَ. فَإِنَّهُ إِذِ ٱلْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ،
بِإِنْسَانٍ أَيْضاً قِيَامَةُ ٱلأَمْوَاتِ. لأنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ
يَمُوتُ ٱلْجَمِيعُ هٰكَذَا فِي ٱلْمَسِيحِ سَيُحْيَا
ٱلْجَمِيعُ. وَلٰكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ فِي رُتْبَتِهِ. (المسيح هو
الباكورة، ثم يتبعه الذين له، والذين سيقيمهم عند مجيئه الثاني)» (1 كورنثوس 15:
14 – 23).

 

النتيجة
الأولى والأكثر تأثيراً للقيامة ظهرت في التغيير التام الذي حدث في عقول التلاميذ
وقلوبهم. فمع أنهم بعد الصلب كانوا مثَبطَّي العزم تماماً، ومع أنهم أوشكوا على
فقدان الإِيمان بالمسيح كالمسيّا الحقيقي المنتظر، فإنهم على ضوء القيامة أصبحوا
مقتنعين اقتناعاً كاملاً أن مسيحهم الذي قام من الأموات هو ابن اللّه، المسيّا
الموعود به، مخلّص العالم. ومنذ ذلك الحين لم يزحزحهم شيء عن اعتقادهم هذا، فخرجوا
يبشرون في كل مكان، وأظهروا أنهم مستعدون لأن يتألموا وحتى أن يموتوا إذا دعت
الضرورة لأجل الإنجيل. ونحن نعلم أن بعضهم استشهدوا في سبيل خدمتهم له، والتاريخ
يخبرنا أن أكثر تلاميذ السيد المسيح انتهت حياتهم الأرضية بالاستشهاد لأجل مسيحهم.

 

والنتيجة
الثانية لارتفاع السيد المسيح كانت صعوده. يذكر البشير مرقس بشكل موجز أنه بعد أن
تكلّم المسيح مع التلاميذ «ٱرْتَفَعَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ، وَجَلَسَ عَنْ
يَمِينِ ٱللّٰهِ» (مرقس 16: 19)، ويمين اللّه هو بالطبع مركز الإكرام
والتأثير والقوة والجلال. يقول البشير لوقا إن المسيح أَخْرَجَ التلاميذ «إِلَى
بَيْتِ عَنْيَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَبَارَكَهُمْ. وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ
ٱنْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ» (24: 50، 51). أمّا
سرد حادثة الارتفاع سرداً وافياً فقد قام به لوقا في سفر الأعمال. فبعد تدوين
كلمات يسوع الأخيرة للتلاميذ يصف الوحي الإِلهي: «وَلَمَّا قَالَ هٰذَا
ٱرْتَفَعَ وَهُمْ يَنْظُرُونَ، وَأَخَذَتْهُ سَحَابَةٌ عَنْ أَعْيُنِهِمْ.
وَفِيمَا كَانُوا يَشْخَصُونَ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ، إِذَا
رَجُلانِ قَدْ وَقَفَا بِهِمْ بِلِبَاسٍ أَبْيَضَ وَقَالا: أَيُّهَا
ٱلرِّجَالُ ٱلْجَلِيلِيُّونَ، مَا بَالُكُمْ وَاقِفِينَ تَنْظُرُونَ
إِلَى ٱلسَّمَاءِ؟ إِنَّ يَسُوعَ هٰذَا ٱلَّذِي ٱرْتَفَعَ
عَنْكُمْ إِلَى ٱلسَّمَاءِ سَيَأْتِي هٰكَذَا كَمَا رَأَيْتُمُوهُ
مُنْطَلِقاً إِلَى ٱلسَّمَاء» (أعمال الرسل 1: 9 – 11).

 

بهذا
الخصوص قال أحد مشاهير اللاهوتيين:

كان
صعود المسيح بكل أقنومه، كالإله المتجسد. ابن اللّه المتسربل بطبيعتنا ذات الجسد
الحقيقي والنفس الناطقة، هو الذي صعد. كان صعود المسيح منظوراً. فالتلاميذ شاهدوا
كل هذه العملية، ورأوا المسيح يرتفع تدريجياً عن الأرض
و«يصعد» حتى
حجبته سحابة عن مرآهم. كان الصعود انتقالاً محلياً لشخصه من مكان إلى آخر، من
الأرض إلى السماء، فالسماء هي إذن «مكان». أمّا مكان وجود السماء بالنسبة للأرض
فلم يكشف عنه الوحي الإلهي، ولكن حسب عقيدة الكتاب المقدس، السماء هي مكان محدد أو
معيّن من الوجود، حيث يظهر حضور اللّه بطريقة خاصة، وهو محاط بملائكته الأبرار..
وبأرواح قدّيسيه الأبرار الذين ماتوا على رجاء قيامته.

السماء
هي موطن السيد المسيح، وهي عرشه وهيكله. فالصعود أو الارتفاع شكَّلا الوجه المقابل
لنزوله إلى الأرض. في فصل سابق كنا قد بحثنا في موضوع وجوده السابق ورأينا أنه قد
«أتى» أو «أُرسل» في مهمة خاصة للفداء. وإذ أتمّ ذلك العمل بنجاح تام، عاد إلى
موطنه السماوي لاسترداد مكانته الأصلية العليا. هذا وعالمنا الحاضر بما فيه من
معالم الشرّ ليس المكان الملائم لوجود الفادي في حالة مجده الكامل، ولا يمكن أن
يصلح عالمنا لإِقامة المسيح الدائمة إلاّ بعد أن يكون قد تعرّض لعملية تطهير
وإعادة خلق تجعل من العالم الحاضر هذا سماء جديدة وأرضاً جديدة. ثم بما أنّ السيد
المسيح قد جهّز كفّارة فعلية، وأوفى كل المتطلبات القانونية المترتبة على شعبه،
فإنه كان من الضروري أن يضع حياته في من خصّتهم تلك الكفّارة، وذلك بواسطة عمل
الروح القدس. فالروح القدس هو الذي يجدد نفوس البشر، ويعدّهم إعداداً كاملاً للوطن
السماوي. ولكي ينجز ذلك فإنه يقوم بإنارة ألبابهم الروحية، وحثّهم وتوجيههم إلى
الإِيمان والتوبة، ومِنْ ثمَّ يدفع بهم في مسيرة مطَّردة نحو التقديس. هذا وإنه
بدون قوة الروح القدس المجددة والخلاّقة يبقى البشر تحت عبء خطاياهم دون انتفاع
بعمل المسيح الخلاصي. ولكن مباشرة الروح القدس لعمله الجليل هذا تفترض أن تسبقها
عودة المسيح المخلّص لمجده الأصلي مع الآب. لقد قال المسيح لتلاميذه: «خَيْرٌ
لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لأنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لا يَأْتِيكُمُ
ٱلْمُعَزِّي، وَلٰكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ» (يوحنا
16: 7). فالبركة العظيمة الخاصة التي تنبأ عنها الأنبياء وقالوا إنها من ميزات عصر
المسيّا، هي بركة الروح القدس. أما منح الكنيسة تلك البركة فكان مرتبطاً بصعود
الفادي. لقد تمجّد لكي يمنح التوبة ومغفرة الخطايا، ولكي يجمع شعبه من كل الأمم
وفي كل العصور ليصبح عمله الخلاصي فخراً في حياة المؤمنين. وكان عرشه السماوي أنسب
مكان للكشف عن كمال عمله الكفّاري.

 

ومعاملات
اللّه مع البشر في هذا العالم تشتمل على ثلاثة أشكال متميزة، لكل أقنوم من أقانيم
الثالوث الأقدس صلة خاصة بأحدها. في تدبير اللّه الأبدي كان يوجد ما يمكننا أن
ندعوه تقسيم العمل بين أقانيم اللاهوت، واتِّباع ترتيب معيّن للحوادث. كان عمل
الآب في الخلق والعناية الضابطة لكل شيء. وقد امتدّ عبر حقبة العهد القديم وحتى
ولادة يسوع المسيح في بيت لحم. أما عمل الابن فقد اختصَّ بعملية الفداء وقد ابتدأ
بولادته في بيت لحم واستمر حتى يوم الخمسين. ففي أثناء ذلك الوقت قام بتجهيز كفارة
عملية، وأنجز كل المطاليب الشرعية عن شعبه، بحيث يمكن أن يُنقلوا من حالتهم في
الخطية والشقاء إلى حالة الخلاص. إنّ عمل الروح القدس يختص بتطبيق عملية الخلاص
الكفارية التي حضّرها الابن، وترسيخها في حياة المؤمنين، وقد بدأ عمل الروح القدس
هذا بشكله الكامل والواضح في يوم الخمسين عندما تأسست كنيسة العهد الجديد. ويمتد
هذا العمل الخاص للروح القدس حتى النهاية وحتى اكتمال عملية الخلاص وتجميع
الكنيسة.

 

والنتيجة
الثالثة لارتفاع المسيح هي جلوسه عن يمين اللّه. من هناك يوجّه أمور ملكوته ويحافظ
على نظامه الكامل. ولكي يكون حُكم وساطته ناجحاً تماماً، كان من الضروري أن يُعطَى
حكماً مطلقاً حيث قال: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي ٱلسَّمَاءِ
وَعَلَى ٱلأَرْضِ» (متى 28: 18). هذا ما قاله عندما عهد إلى تلاميذه بتبشير
العالم أجمع، ولقد سجّل الوحي الإلهي على لسان بولس قوله: «لأنَّهُ يَجِبُ أَنْ
يَمْلِكَ حَتَّى يَضَعَ جَمِيعَ ٱلأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ». ثم قال:
«آخِرُ عَدُّوٍ يُبْطَلُ هُوَ ٱلْمَوْتُ» (كورنثوس الأولى 15: 25، 26). وقد
أمر المسيح تلاميذه أن يذهبوا «وَيُتَلْمِذُوا جَمِيعَ ٱلأُمَمِ» (متى 28:
19). ويؤكد انتماء تلك الشعوب للإله الحقيقي بواسطة المعمودية «وَعَمِّدُوهُمْ
بِٱسْمِ ٱلآبِ وَٱلابْنِ وَٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ»،
والرسالة التي يجب أن يتضمنها ذلك التبشير العام هي بالطبع اللّب الحيوي للإنجيل
«وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ» (متى 28: 20).
هذا وسنبحث في الموضوع مليّاً عندما ندرس موضوع «المسيح كملك».

 

والنتيجة
الرابعة والأخيرة لرتفاع المسيح ستكون مجيئه الثاني بقوة ومجد عظيم، ليكون الديّان
للعالم أجمع. فسيظهر حينئذ في جسد قيامته محاطاً بالملائكة، وسيجلس على عرش مجده.
(متى 25: 31). «سَتَنْظُرُهُ كُلُّ عَيْنٍ» (سفر الرؤيا 1: 7). هذا هو يسوع ذاته
الذي حينما كان على الأرض رفضه شعبه، وحوكم كمجرم أمام محكمة بيلاطس، ودين بظلم
وجلس مع الأثمة. وسينال الناس من شفتي السيد خبر ثوابهم أو عقابهم النهائي.
وحينئذ، إذ يكون عهد وساطته قد تم، وتُوّج بالنجاح الكامل، فإنه يسلّم الملكوت
للآب، ويستعيد علاقته الأصلية بأقنومي الثالوث الآخرين. ويشترك تماماً بالمجد الذي
كان له مع الآب قبل إنشاء العالم. وسيملك مع الآب والروح القدس إلى الأبد على
المفديين، «وَمَتَى أُخْضِعَ لَهُ ٱلْكُلُّ، فَحِينَئِذٍ ٱلابْنُ
نَفْسُهُ أَيْضاً سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ ٱلْكُلَّ، كَيْ يَكُونَ
ٱللّٰهُ ٱلْكُلَّ فِي ٱلْكُلِّ» (1 كونثوس 15: 28).

 

هذا
إذن ما نعنيه بارتفاع المسيح، ويجب أن نعيد إلى ذاكرتنا أنه لم تكن طبيعة يسوع
الإلهية هي التي ارتفعت بل طبيعته البشرية هي التي ارتفعت، أي أن الإِنسان يسوع
المسيح هو الذي أخذ جسد القيامة وصعد إلى السماء، والذي يشترك في حكم الوساطة،
والذي ستراه كل الشعوب حينما يأتي ثانية إلى العالم في اليوم الأخير.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى