علم المسيح

المسيح هدف للخلاف



المسيح هدف للخلاف

المسيح هدف للخلاف

الإنجيل
والوثنية

. لقد
كان المسيح ” هدفاً للخلاف “. بيد أن سبب ذاك الخلاف، إنما هو – آخر
الأمر – التعليم الذي نادي به، والموقف الذي اتخذه، والفكرة التي عرضها عن ذاته.
” فإن من ليس معه – في هذه – فهو عليه! “. ولكن ما هو “الجديد
” الذي تميزت به الدعوة الإنجيلية، بالنظر إلي العالم الذي وجهت إليه؟..
تختلف المسألة تماماً باختلاف نظرتنا إلي تفاعل تلك الدعوة مع الوثنية أو مع
اليهودية. وعلي كل فسوف يظهر تباين الموقفين ظهوراً باهراً، بعد موت المسيح، في
الحقبة التي انتشرت فيها العقيدة المسيحية في جميع أرجاء الإمبراطورية. فبينما نري
اليهود – في سوادهم الأعظم – يمعنون في التصدي لها، نري الوثنيين – أو الأمم –
يدخلون في طاعة المسيح أفواجاً. ولسوف يكون ” تنصير ” الوثني أيسر من
تنصير اليهودي، وذلك ما أدركه الرسول بولس في إحدى بوادهه العبقرية

 

مقالات ذات صلة

.
فالإنجيل قد بشر بإله هو خالق الكائنات، والمبدأ الأول، والكلمة، وعقل الكون،
والنظام الكامل، والخير الصراح، في الوقت نفسه، كائن جدير بالحب، لأنه أحب الناس،
وأجمع علي خلاصهم. وهكذا، بات بإمكان الإنسان أن يكتشف اتجاه مصيره!.. ” لقد
كانت النفس الوثنية مفتقرة إلي ذاك النور وتلك القوة التي وفقت إلي العثور عليها
في الإنجيل. ولكنها كانت عاجزة عن الإفصاح عن ذاك الافتقار! “. ومن ثم، فقد
كان الإنجيل استجابة دعاء وشفاء قلق! أجل، لقد وجد من بين الوثنين من لم يفقهوا
فحوى الدعوة التي نادي المسيح بها، (منهم، مثلاً، بيلاطس البنطي، وقد استغلقت عليه
المسيحية استغلاقاً محكماً!) ولكن بعضهم الآخر (و منهم قائد المائة، في كفر
ناحوم)، قد أصدى لها إصداءً فورياً.علي كل فقد ندر فيهم من أنعم النظر في العقيدة
المسيحية ثم جاهرها بالعداء – كما فعل يوليانس الجاحد، وقد صرح قائلاً: ”
طالعت، وفهمت، وأبيت! ” – فقد كان تصدي الوثنية للمسيحية علي صعيد السياسة
أكثر منه علي صعيد العقيدة أو الأخلاق. ولأن هذه المقاومة لم تكن، في التصميم، سوي
ضرب من الجهل، فقد انهارت الوثنية انهياراً سريعاً أمام هذا الإنجيل

 

الإنجيل
واليهودية: الأواصر الظاهرة

.
وأما مع إسرائيل، فقد جرت الأمور مجري أخر. فنحن لا نكره كرهاً صميماً آلا من
تربطنا بهم أواصر المعرفة أو غيرها من الروابط الإنسانية. فالخصومات البيتية هي
التي تولد ” عقد الأفاعي “، ولا يعرف ما هو البغض، مثل أهل المذهب
الواحد في منازعاتهم اللاهوتية

 

.
ولنعمد إلي يهودي، من مستمعي المسيح، نسبر شعوره، وموقفه من تعليم المسيح.. إن هذا
الرجل الذي يتكلم الآرامية، مثله، ويجيد تفسير الشريعة المقدسة، في نصها العبراني،
لا بد أن يؤانس فيه واحد من بني قومه. ولم يكن ليستغرب أسلوبه الخطابي، ولا نهجه
الشعري، ولا تلك الألوان المعقدة من الإيقاع والجناس والتكرار، فهي من الأنماط
التي تلقن في المدارس، والتي عمد إليها جميع الكتاب الملهمين، وحتى في يونانية
الأناجيل، يظهر طابع الأدب السامي ظهوراً ساطعاً. فعندما يعمد يسوع، مثلاً في
” عظة الجبل “، إلي الموازنة بين تطويبات الفقراء والمساكين، ولعنات الأغنياء
والمشبعين (لوقا6)، لا بد لكل يهودي مثقف أن يستذكر نصوصاً كثيرة من أشباه تلك
المقارنات. أو لم يرد علي لسان نوح، في سفر التكوين: ” ملعون كنعان! عبداً
يكون لعبيد أخوته! وتبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبداً له، ليرحب الله ليافث
” (تكوين 25: 9-26)

 

ثم
ألم يعلن ارميا قائلاً: ” ملعون الرجل الذي يتوكل علي البشر، ويجعل اللحم
ذراعاً له، وقلبه ينصرف عن الرب! مبارك الرجل الذي يتوكل علي الرب، ويكون الرب
معتمدة! ” (ارميا 17: 5-6)

 

. لقد
كان كلام المسيح حافلاً بالشواهد الكتابة، حتى لنشعر انه قد تخرج، منذ الطفولة،
شأن جميع صبيان إسرائيل، في ألفة الكتاب المقدس.و قد كان من عمق التطلع منه بحيث
التحمت المحفوظات الكتابية بذهنه، وجرت علي لسانه جرياً عفوياً، للتعبير عن فكرته.
فهو يستخدمها للدفاع والحجاج، فيسوقها لتبرير قوله إنه ابن الله، أو لتبرئه
تلاميذه، يوم اقتطفوا سنبلاً في السبت. ففي مناسبات كثيرة كان يشفع في كلامه إلى
النصوص المقدسة، عملاً بسنن الخطابة عند اليهود

 

!
وأما الحقائق الدينية الكبرى، التي انطوت عليها الديانة اليهودية، فما وقف المسيح
يوماً منها موقف التنكر أو الامتهان. بل بالعكس! فقد كان، في كلامه، يناول
بالإعجاب والإجلال الشريعة المقدسة، وتلك التوراة التي كان يشغف بها اليهود شغف
المرء بخليله، والتي كانوا يقولون فيها: أنها ” بكر الله “، وإن الكون
بأسره يخضع لها، وإن الله نفسه يلتزم أحكامها لأنها من نطق الحكمة الأزلية.. وكان
يسوع يفسرها في المجامع، شأن كل يهودي دين: ” لا تظنوا آني جئت لانقض الناموس
والأنبياء. أني ما جئت لانقض بل لأكمل. الحق أقول لكم: إنه إلي أن تزول السماء
والأرض، لا يزول من الناموس ياء ولا نقطة حرف، حتى يتم الكل. أذن، كل من يتعدى
واحدة من هذه الوصايا – حتى من أصغرها – ويعلم الناس إن يفعلوا هكذا، فأنه يدعي
الأصغر في ملكوت السماوات. وأما من يعمل بها ويعلم، فهذا يدعي عظيماً في ملكوت
السماوات ” (متي 5: 17-19). مثل تلك الأقوال ما كان أشهاها إلي قلب كل واحد
من بني إسرائيل

 

. ولم
يكتف المسيح بالتنويه بسمو الشريعة، بل كان يتبع معظم أحكامها الأساسية. فكما فعل
ذووه، يوم ختنوه، ثمانية أيام بعد ميلاده، وقدموه للهيكل، ” وافتدوه “،
كما كان يفتدي كل بكر في إسرائيل، كذلك نراه – هو أيضاً – يوم الهيكل للصلاة،
ويندمج في جماهير الحجاج، ويحتفل بالفصح حباً وورعاً. قد روى أكليمنضس الأسكندري
حديثاً عن المسيح، جاء فيه: ” إذا لم تصوموا صيام الناس، فلن تدخلوا ملكوت
الله، وإذا لم تتقيدوا بالسبت فلن تشاهدوا الأب!”، بل هو يخضع للشريعة حتى في
تفاصيل حياته المسلكية، فيجهز – مثلاً – أطراف ردائه، بالأهداب المقررة، كما تثبت
ذلك حادثة المرأة النازفة الدم

 

. ثم
ألم تكن الوصية التي أعلنها المسيح ” أولي الوصايا كلها “، هي تلك التي
نصبها الشعب الإسرائيلي، فوق جبهة تاريخه: ” أحب الرب فوق كل شئ! “؟
والإله الذي بينه يسوع في تعاليمه إنما هو – في معظم صفاته الجوهرية – ذاك الذي
عبده شعب إسرائيل منذ إبراهيم: الإله، الأحد، الذي اتخذ له السماء عرشاً والأرض
موطئاً لقدميه، هو الملك، الديان، القدوس، المثال الأسمى. فلقد جاء قي الكتاب:
” كونوا قديسين، كما أنى أنا قدوس! ” (لاويين 11: 44، 19: 2، 20: 26،
21: 6) وقد أصدى المسيح لذلك، بقوله ” كونوا كاملين، كما أن أباكم السماوي هو
كامل! ” (متي 5: 48 ” ولئن فاق المسيح قدامي إسرائيل في التنويه بالأبوة
الإلهية، وأدخل علي العلاقات القائمة بين الله والإنسان، مزيداً من المودة والثقة
الوادعة فاليهود ما كانوا ليجهلوا تلك المشاعر

 

و لكن
هل كان التعليم الأخلاقي الذي نادى به المسيح يُريب المستمع اليهودي أو يصدمه؟
كلا، بل كان تعليمه التهذيبي، مثل تعليمه اللاهوتي، منسجماً مع روح الكتاب. فالكتب
عن الفرائض الشكلية، والعمل علي جعل السلوك أكثر نشوباً في الباطن، أعمق حياتاً
وخلوصاً، أفما كان ذلك كله مما امتدحه الأنبياء ونادوا به؟ ” أإذا حنى
(الإنسان) رأسه كالبردي، وأفترش المسح والرماد، تسمي ذلك صوماً ويوماً مرضياً
للرب؟ أليس هذا هو الصوم الذي آثرته: حل قيود النفاق، وفك ربط النير، وإطلاق
المضغوطين أحرارا، وكسر كل نير؟.. أليس هو أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل البائسين
المطرودين بيتك، إذا رأيت العريان، أن تكسوه، وأن لا تتوارى عن لحمك (أي أخيك)؟
(أشعياء 58: 6-7) ” مزقوا قلوبكم، لا ثيابكم، وتوبوا إلي الرب ” (يوئيل
2: 13)

 

و حتى
شريعة الحب – وهي لب الدعوة الإنجيلية – آلم يكن لها، في إسرائيل، جذور؟.. فذاك
النص الذي آتينا علي ذكره، من نبوءة أشعياء، أليس هو دعوة إلي التزام أرق
العواطف؟.. لقد قامت محاولات كثيرة لإبراز نواحي التعارض بين الإنجيل والدين
اليهودي، فاستشهد أصحابها بما انطوت عليه الشريعة القديمة من قسوة في تطبيق سنة
” المبادلة ” (” العين بالعين، والسن بالسن “) واحتجوا
بالوحشية المطمئنة التي عمد إليها الشعب المصطفي للإجهاز علي جميع الذين اعترضوا
عليه السبيل!..و إنما فاتهم أن هناك نزعة فكرية أخري، كانت قد تسربت إلي التقاليد
الإسرائيلية في غضون تطوراتها التاريخية الطويلة. فهناك من الرابيين من قاموا علي
سنة ” المبادلة “، وبينوا المظالم الفادحة التي إليها إذا حملت، – في
تطبيقها – علي معناها الحرفي. وأما القول: ” أحبب قريبك كنفسك “، فهو
يرقي إلي عهد موسى (لاويين 19: 17-18). وقد صرح المسيح، مرتين، بأن هذه الوصية، لا
تقل شأناً عن الوصية الأولى القاضية بمحبة الله. هذا وإن القاعدة الذهبية التي
ترتكز عليها كل مسلكية إنسانية – كما وردت في إنجيلي لوقا ومتي: ” كل ما
تريدون أن يفعل الناس بكم، فافعلوه أنتم بهم ” (لوقا 6: 31، 31، متي 7: 12).-
إنما هي تعبير، في صيغة إيجابية عما جاء بوجه سلبي، في وصية رابي هليل: ” ما
تكرهه، فإياك أن تلحقه بالآخرين! “.. أجل، إن هناك بوناً شاسعاً بين روح
الوصية السلبية، وشريعة المسيح الإيجابية (و في هذا الفرق، بتجلي سمو الترقية التي
بعثها المسيح في التعليم الأخلاقي) بيد أن العبارتين تنبعان، مع ذلك، من معين
واحد!..

 

.
وإذا تحرينا هذه الموازنة بين الدعوة الإنجيلية والدين اليهودي، في القضايا
الأخرى، أوفينا إلي ذات النتيجة. ففكرة ” الملكوت ” – مثلاً – تنبع،
وريب، من المصادر العبرانية الأولى. وفكرة الصراع القائم بين النور والظلمة هي من
أروع ما انتهت إليه التعاليم الأسينية. وأما القول بأن الله يؤثر بمحبته الفقراء
والمتواضعين، فما ذلك مما غاب عن الكتاب.. فالذي يلفت النظر، في الصلة القائمة بين
المسيحية واليهودية، ليس هو التعارض بل الانتساب فإسرائيل قد قام حق القيام
بالمهمة التي أسندتها إليه العناية الإلهية. وهي أن، يمهد السبيل لنزول الوحي
الأخير. وتلك هي عظمته الفريدة، ورمز المجد الذي تبلج فوق جبينه. فلقد وفق ذاك
الشعب الصغير أن يناهز خطوة بعد خطوة، وفي غصون ألفي سنة من التاريخ، المفاهيم
السامية التي كان علي الإنجيل أن ينادي بها المناداة الحاسمة. وأروع من ذلك، أنه
نصب، في كيانه تلك الصورة السنية، صورة المسيح الفادي. فمع أنه أساء فهم الماسوية،
وتوهمها ضرباً من ضروب السيطرة الدنيوية، فلقد كان له الشرف يتمثل الفكرة وتبنيها.
أجل إنه قد أبي، في اللحظة الحاسمة، أن يتوسم في يسوع، الصورة الحية التي تجمعت
فيها أماله.. ولكن ذلك لا يلغي أنه هو الذي نفح العالم بذاك الأمل

 

المسيحية
واليهودية: نواحي التعارض

.
ولكن ما كان، يا تري، رأي ذاك المستمع اليهودي الذي أتينا علي ذكره، في ما كان
يدعيه المسيح وأتباعه من أنهم هم الورثة الأصيلون والسدنة الحقيقيون لذاك الوحي
المتطور الذي لم يكن إسرائيل في تصميم العناية الإلهية سوي أداته الأولى؟.. ”
لقد قيل لكم.. وأما أنا فأقول..” فبأي حق يتفوه بمثل هذا الكلام؟.. ”
جميع الأنبياء والناموس تنبأوا إلي يوحنا..” أفلعله يبغي، بذلك أن التاريخ
حتى المعمدان، لم يكن سوي تاريخ الوحي القديم، والمعرفة الناقصة؟.. ” إني لم
آت لأنقض الناموس، بل لأكمل الناموس!..”: عبارة لعمري، مستهجنة في أذن كل
يهودي ورع!.. ذاك الناموس الذي أودعه الله جميع أسراره، أهو بحاجة إلي الاستبطان
والتكميل؟ كلا! ليس الناموس هو ذاك ” الزق العتيق ” الذي لا يطيق
استيعاب ” الخمر الجديدة ” كلا! ليس الناموس هو ذاك ” الثوب الخرق
” الذي لا يصمد ” للرقعة الجديدة”!.

 

! لقد
كان للدين اليهودي إذن، في تصديه لمبدأ الوحي المسيحي بالذات، دواع كثيرة: منها ما
هو روحي وجيه، ومنها ما هو بشري مغرق في البشرية: وأي إنسان يرضي بأن يعزف، بلا
ممانعة، عما آلفه دائماً من أنماط الفكر والحياة؟.. والواقع أن ما اشترطه يسوع علي
مواطنيه، إنما هو ” التوبة ” في أشد معانيها

 

و لقد
عارض المسيح مذهب الحرفية العقائدية، بفكرة التدين الروحي لم يأخذ علي الفريسيين
” فريسيتهم ” فقط (بمعناها الحالي)، ورئاءهم الذي لم يكن سوي نتيجة من
نتائج موقفهم الديني، بل ما هو أخطر من ذلك: تمسكهم بحرفية الناموس وشكلياته. فإن
تشبثهم بالفرائض الدقيقة كان. في الواقع، لوناً من ألوان التيسير والتهوين: فأنه،
ولا بدع أسهل علي المرء أن يحمل العصائب سحابة الناهر ويتورع عن السير أكثر من 50.
متر يوم السبت، من أن يتعهد القريب في جميع أحوال الحياة، بحلم لا ينضب! وكان
التحمل في أمور الدين قد أفضي بالفقهاء إلي تزييف المفاهيم الروحية، بدليل الأمثال
التي أتينا علي ذكرها. فالإكثار من الفرائض والطقوس، يجر إلي الاعتقاد بأن الحياة
الروحية مجرد طاعة شكلية وينتهي بالناس، أحياناً، إلي الوقوع في التبذل والإسفاف.
ومن ثم، فقد هب المسيح يعلنهم أن الدين الصحيح هو غير ما باتوا يتوهمون: ”
أنكم تؤدون العشر من النعناع والشبث والكمون، وقد أهملتم أثقل ما في الناموس:
العدل والرحمة والأمانة.. أنكم تطهرون خارج الكأس والصفحة، وهما من الداخل، مترعان
سلباً وجشعاً ” (متي 23: 23-26)

 

.
فإذا وقع تعارض بين فريضة مشتركة ومبدأ أعلي من مبادئ الإنسانية والمحبة، كان علي
النص – في نظر المسيح – أن يخضع للمبدأ. وهكذا رأيناه، مثلا يجري الأشفية ويصنع
العجائب يوم السبت. فبات ذلك في نظر الفقهاء والفريسيين – أو في نظر سوادهم الأعظم
– جريمة تكاد لا تغتفر! ومع ذلك فهو لم يجوز لذاته ولا لأتباعه، يوماً اختراق حرمه
السبت من غير أن يدعو إلى ذلك داعي مصلحة عليا..

 

إذا
أردنا إن نسبر الأغوار القائمة بين الدين الجديد الهادف إلي الاستئثار بداخله
النفس، ” والشكلية ” اليهودية حسبنا النظر في بعض ” الأمثال
الواردة في الأدب الربيني، مما له بعض الشبه بالقصص الإنجيلي. فقد أثر عن رابي
لعازر قوله ” من يستر الصدقة فهو أعظم من معلمنا موسى، ” وهو يذكر بقول
المسيح: ” إذا تصدقت فلا تعرف يمينك ما صنعت شمالك “بيد أن الرابين
كانوا يدعمون قولهم هذا بإحدى آيات سفر الأمثال ” العطية في الخفاء، تخمد
الغضب ” (أمثال 21: 14) وكانوا يفسرون الآية بقولهم ” كهذا يتحاشي
المتصدق عن أن يجرح كبرياء المستعطي. ولكن المسيح كان بعيداً جداً، في مراميه، عن
أن يجرح هذه الاعتبارات: فإذا وجب ستر الصدقة، فليس ذلك – في نظر المسيح – إشفاقاً
علي كبرياء المستجدي، بل حجباً لكبرياء المتصدق، وتبجحه الزاهي بميرآته

 

و في
المثل الذي ضربه عن عمال الحادية عشرة أراد المسيح أن يثبت تساوي الآخرين
بالأولين، فاستند فقط إلى ما لله من حق مطلق في استنقاذ كل نفس من الهاوية، وإثابة
الذين أنابوا إليه، حتى في الساعات الأخيرة وقد قال بولس الرسول: ” إن الله
يرحم من يرحم، ويرأف بمن يرأف!” (رومية 9: 15) ونقع في التلمود علي مثل يشبه
إلى حد بعيد – في خطوطه الكبرى – مثل الإنجيل هذا.. بيد أن رب العمل – في نص
التلمود – يرد علي احتجاجات عمال الساعة، واستنكارهم لما بدا لهم لوناً من الظلم
والتعسف، بقوله: ” إن العامل الأخير، قد أنجز، في ساعتين أكثر منكم، سحابة
النهار!” فهناك احتكام إلى قدرة الروح القدس وههنا استمساك بقانونية سخيفة.

 

لقد
كان إذن من المعتذر أن يؤانس اليهود في يسوع، ذاك المسيح المنتظر وذاك الرسول الذي
باتوا يترقبون وفوده بنفوس عامرة بالأمل وذلك لأنهم كانوا قد خلعوا علي الفكرة
الماسوية من الميزات ما جعلهم يتمثلونها من خلال صورة واحدة: صورة الملك العزيز،
والزعيم المنصور الذي كان لابد إن يرجع لبنى إسرائيل استقلالهم، ويمكنهم من أن
يثأروا لأنفسهم ثأراً باتوا يترقبونه منذ أمد بعيد.. وأما الصورة الأخرى الصحيحة
صورة المسيح المتألم والضحية الوديعة التي كان لا بد أن النصر الراهن بمصيرها
القرباني، فكانوا قد قذفوها في مطاوي النسيان. ولقد كان من الصعب أن يقف غير هذا
الموقف، شعب مذلل مغلوب، بات لا يحلم إلا بالحرية والثأر. ومن ذلك يتضح وجه من
أبرز وجوه المأساة المتحفزة. فبمقدار ما كان المسيح يتلبس المسكنة والتواضع والذل،
كان ادعاؤه للماسوية (أي أنه المسيح) يظهر بمظهر الافتراء علي تلك الصورة المغرية
التي كان مواطنوه، في معظمهم، قد تبنوها، ويوم صاح بيلاطس باليهود. قائلاً: ”
هو ذا الرجل..!” وظهر المسيح إلى جانبه، وقد شوهت جسمه الضربات وغشي وجهه
الدم والبصاق. كان يرجو من تلك الجموع، المصطخبة أن تميل إلى المتهم بشيء من
الشفقة والتعطف ولكن الشعب إزداد صياحاً: ” أصلبه! أصلبه!” جواب منكر
ولكنه منطقي!.. أفتكون هذه الرذالة الإنسانية هي المسيح!؟ يا للفضيحة!..

 

. أمر
يشبه القدر المحتوم. ذاك الذي دفع إسرائيل – أو معظمه – إلى الوقوف من المسيح موقف
التصدي. والدليل هو أن يسوع – الإله المتأنس – قد أدرك ذلك وصرح به تصريحاً ساطعاً
في كثير من أقواله: فلقد أعلن أنه ” هدف للمخالفة “. وسبب شك، ”
وحجر عثار، وأن ” قومه لم يقبلوه ” ثم أنه فضلاً عن ذلك وبجرأة مذهلة،
لم يتهيب التثريب علي الراغدين والمرائين والشكلين من أهل زمانه

 

. سر
مصير إسرائيل!.. فالمواقف التي ألجئ إلي الاعتصام بها، عبر القرون، للذود عن
الرسالة التي أسندت إليه، هي التي أملت علي ذاك الشعب أن يجاهر المسيح بذاك العداء
الفاجع. والعوامل التي نصبته، مدة آلفي سنة، شاهداً للوحي، هي التي حالت بينه وبين
البلوغ إلى قمته! فلقد كان متعذراً على تلك الآمة – أمة الكتاب – بعد أن عاشت
حقباً طويلة في ظل الحرف، إن تنتحل – علي الفور – ديانة القلب، وأن ترضي الاعتقاد
بأن ” الحرف يقتل، والروح يحيي!”. ولربما كان أشد تعذراً علي ذاك الشعب
الذي اتخذه له من العزة القومية أمضي سلاح، أن يدخل، فجأة، في مذهب التواضع
والمحبة الشاملة!.. ولكن ألا يسوغ القول، ههنا أيضا، بأن المهمة المؤسفة التي قام
بها الشعب اليهودي، تدخل في نطاق ما خططته العناية الإلهية؟.. فإنه ليس من تعليل
لذاك السر المستغلق إلا ما استوي علي ذاك الصعيد السامي.. فلولا عناد إسرائيل، لما
استوفت رسالة المسيح شوطها الأخير، ولتعذر تحقق ذاك السر الآخر الناجم عنه: سر
الفداء الدامي

 

أخر
” هدف للمخالفة

. تلك
البواعث الدفينة التي حملت اليهود علي التصدي لرسالته والتنكر لشخصه تنكراً لا يعرف
الهوادة، ومغزى الكارثة التي كان مشرفاً عليها، كل ذلك كان المسيح واقفاً علي
أمره. فمن طالع الإنجيل تبين له، بوضوح راغم، أن يسوع كان يتابع هدفاً معلوماً،
بينما كان الناس، من حوله، يدبرون علي هلاكه، يوماً بعد يوم، وينقادون لأهوائهم
انقيادا سخيفاً. ويتضح لنا، من ثم، بصورة أجلي، لماذا تميز تعليم المسيح بذاك
الأسلوب التدريجي، ولماذا استخدم طرائق الفطنة البشرية لتحيق مرامي الله. فهو قد
أبي أن يتجلى، دفعة واحدة، في سناء مجده.. وذلك ليس فقط دفعاً لإثارة الخواطر في
الأوساط الإدارية، أو إشفاقا علي المستمعين من الشطط في تأويل مهمته، بل انتظاراً
” للساعة “، وترقباً للوقت الذي تستفحل فيه المعارضة لتعليمه ولشخصه،
وتمسي من الشدة والعنف بحيث تفضي حتماً إلى الكارثة الدامية، وخاتمة المطاف. فلئن
انطوت حياه المسيح علي سر (لا بد من التثنية إلى إن لفظة ” السر ” هذه
لا يمكن فهمها إلا بمعناها التوسعي، وأنها لا تشير، ولا بوجه من الوجوه، إلى إحدى
تلك المذاهب الباطنية، التي أودعها بعض أصحاب الفرق تعاليم إيداعا مقفلا، والتي
زعم بعض الواهمين أنهم وجدوا لها آثاراً في الإنجيل. فالمسيحية ليست من الباطنية
في شئ، ولا هي فرقة من الفرق المنطوية علي ذاتها. ولم يكن لها يوماً أي شبه
بالجماعات الأسينية أو الفيثاغورية، ولا أصحاب تلك المذاهب ” السرية ”
التي راحت تتعبد لإيزيس وسيرابيس وأدونيس في جميع أنحاء الإمبراطورية. ولئن اتفق
ليسوع، أحيانا، أن يحصر في تلاميذه المقربين بعض عناصر تعليمه، فلقد أوضح أن ذلك
الحصر لم يكن سوي حيطة وقتية: ” ما أقول لكم في الظلمة، ققولوه أنتم في
النور، وما يسر به إليكم في الآذان نادوا به على السطوح ” (متي 10: 27))
ماسوي، فما كان ذاك السر لينجلي جلاء كاملاً إلا بموته وقيامته.. ويتبين للذهن –
في الوقت نفسه – ما نجده في المسيح من توافق تام بين تعليمه وكيانه. فالمسيح لم
يكن فقط مجرد إنسان سعي إلي التوفيق بين أعماله وأقواله، توفيقاً محكماً، فجاءت
حياته كلها شهادة وارتهاناً، بل هو ابن الله المجيد الذي قرب ذاته عن الناس كفارة.
ومهما استعرضنا من دواعي المعارضة التي انتهت بالمسيح إلى مأساة الجلجثة، ومهما
بدت تلك الدواعي أصيلة ووجيهة، فنحن لن نذكر شيئاً، فإن هناك سبباً أعمق، يفوق
مدارك الإنسان: ألا وهو سر الفداء

 

. حُم
القضاء، وأخذت الأحداث، مذ ذاك، تتدافع قاصفة حياة المسيح علي هذه الأرض، وذاهبة
برسالته شطر نهايتها المحتومة. ولكن هل كانت تلك النهاية من قوة البيان والإقناع
بحيث تحمل الناس علي تبني الدعوة التي خضبها بنجيعه؟ ليس ذلك بالآمر البديهي!
فلسوف توجد، علي توالي الأجيال، نفوس توأنس في المسيح المعذب صورة الأمل، وتنفتح
للنور بصيرتها من خلال مشهد استشهاده! بيد أن هناك نفوساً أخرى كثيرة، سوف تجد في
ذاك الاستشهاد قمه ما استهجنوا من تعليمه، واستنكروا من مصيره! ولسوف يقول الرسول
بولس في صلب الإله المتأنس، ” إنه عثرة لليهود. وجهالة للأمم!” (1
كورنثوس 1: 23-24). فأما في نظر اليونانيين فقد كانت فكرة إنسان متأله، من البطل،
بحيث لم يكن بإمكان العقل أن يستسيغها وأن يري فيها سوي حالة من حالات الغرور
والهوس والتعاظم. أما أن يرضى إله بأن يخضع للموت طوعاً، فكان – في نظرهم – من باب
التناقض والمحال. فالألوهية إنما جوهرها الخلود!..

 

.
وأما في نظر اليهود، فقد كانت فكرة ” التجسد ” مستهجنة، تناقض سمو
التوحيد وتتلبس بلون من ألوان التجسيمية. لكن فكرة الفداء كانت أدعي إلي الإستغراب
والاستهجان. فالذبيحة إنما هي ذبيحة حيوان يسفك دمه علي المذابح، رضوة وفداء وقد
يكون في النادر ذبيحة إنسان – كما وقع ذلك لإسحاق وبنت يفتاح – يتقرب بها إلي
” يهوي ” صاحب العزة والمهابة. وأما أن يمسي الله ذبيحة تقدم لله، فذلك
انتهاك لمفهوم الألوهية! وإذا كانت الذبيحة هي ” المسيا” بالذات، فأنها
جسارة لا تطاق، وتهجم علي محرر إسرائيل وملك المجد، أن يتصوره الناس يوماً راضياً
بأن الموت ميته الأرقاء. وأن يبذل جسده المعذب لخشبة الصليب والعار

 

ذاك
هو الخضوع الذي سوف تفرضه المسيحية علي العالم: خضوع العقل لما يحسبه الناس ”
جهالة ” و” معثرة “. ولما كان لا بد لجميع المقاييس والمفاهيم التي
ألفتها الطبيعة من أن تتبدل، فما كان في نظرها” جهالة ” فليصبح ”
حكمة “، وما كان ” معثرة ” فليصبح موضوع كرامة ومحبة. وهكذا سوف
يكون الصليب آخر شهادة جاءت بها رسالة المسيح، وفي الوقت نفسه، أخر ” هدف
للمخالفة..”

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى