علم المسيح

31- المواقف التي وقفها المسيح



31- المواقف التي وقفها المسيح

31- المواقف التي وقفها المسيح

بسبب عطفه
على الخطاة وانتقاد الفرِّيسيين له

1 موقف المسيح من الفرِّيسيين الذين
راجعوا تلاميذه: ” لماذا يأكل معلِّمكم مع العشَّارين والخطاة”
(مت 11: 9)؟ في وليمة متى العشَّار كان النقد عن حقد ومقاومة، لذلك كانت هذه من
أشد المواقف التي دافع فيها المسيح عن منهج تعليمه واستعلن شخصيته من التوراة:
“فاذهبوا وتعلَّموا ما هو. إني أريد رحمة لا ذبيحة” (مت 13: 9). وهو نص
من هوشع النبي: “لذلك أقرضتهم بالأنبياء أقتلهم بأقوال فمي والقضاء عليكَ
كنورٍ قد خرج. إني أريد رحمة لا ذبيحة ومعرفة الله أكثر من محرقاتٍ” (هو 6:
5و6)، إنه جحد لتديّن الفرِّيسيين الظاهري.

ثم
عاد يؤنِّبهم: “لأني لم آتِ لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة” (مت 13:
9)، فهي رسالته الوحيدة، والخطاة هم عمله.

2 الأمثلة التي قالها مقابل انتقاد الكتبة
والفرِّيسيين على احتضان المسيح للعشَّارين والخطاة:

(أ)
مَثَل الخروف الضال ومَثَل الدرهم المفقود:

وكان جميع العشَّارين والخطاة
يدنون منه ليسمعوه، فتذمَّر الفرِّيسيون والكتبة قائلين: هذا يقبل خطاة ويأكل
معهم”

(لو 15: 1و2). ولكن النقد هنا يأتي عن جهالة وليس عن قصد المقاومة. لذلك نجد
المسيح يرد عليهم بإعطاء مَثَل الخروف الضال ويشرح لهم
 بمحبة دون تأنيب كيف أن صاحب الخروف الضال إذا وجده يفرح
به ويحمله على منكبيه، ثم يخرج من المَثَل المادي إلى الوضع الروحي العالي:
“أقول لكم: إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين
باراً لا يحتاجون إلى توبة” (لو 7: 15)، ثم كرَّر ذلك في مَثَل الدرهم
المفقود. ويقصد من هذين المثلين أن يمس مشاعر الفرِّيسيين والكتبة حتى يدركوا
مقدار محبته واهتمامه بالخطاة والعشَّارين.

(ب)
مَثَل الابن الضال:

وكان
القصد منه شرح موقف المسيح من الخاطئ باعتباره ابناً له ضلَّ الطريق. وكشف موقف
الفرِّيسيين عندما وازنهم بسلوك الابن الأكبر، والأب واحد للاثنين. وكان الأب
لمَّا عاد الابن الأصغر من ضلاله الطويل محيَّراً بين فرحه من أجل عودة الابن
الأصغر الذي كان ضالاً فوُجِدَ، وبين غضب الابن الأكبر ومكابرته على أبيه: “فغضب
ولم يُرِدْ أن يدخل” (لو 28: 15)، لأنه استكثر على الأب أن يفرح بابنه الأصغر
العائد من الضلالة واستكثر عليه أن يذبح له العجل المسمَّن. وبالنهاية أعطى المسيح
السبب القوي: لماذا يفرح بخاطئ واحد يتوب؟ ولماذا يحتضنه كخروف ضلَّ من القطيع؟ إذ
يقول: ” كان ينبغي أن نفرح ونُسرَّ لأن أخاك (الخاطئ) هذا كان ميتاً فعاش
وكان ضالاً فوُجِدَ”
(لو 32: 15). هنا المسيح استكثر على الكتبة
والفرِّيسيين أن يغضبوا لأن المسيح يحب الخطاة والعشَّارين ويأكل معهم، بل كان يحق
له أن يُزيد
بحسب مضمون القصة أن لا يأكل معهم فحسب، بل يصنع لهم
وليمة خاصة ويطعمهم بيديه طالما أنهم جاءوا إليه يطلبون العودة إلى الله والإيمان
به. كما اعتبر الخاطئ المنبوذ من المجتمع أنه ميت وموته خطيتنا نحن، وحياته نحن
مسئولون عنها وعودته عيد ووليمة.

وكان
همّ المسيح الأكبر في قصة الابن الضال أن يوضِّح بحسب التصوير البشري الذي قدَّمه
للأب وابنيه الأصغر والأكبر، مدى محبة الآب السماوي بأشد الخطاة حينما يعود إليه
تائباً، وفي هذه العاطفة الصادقة القوية التي صوَّرها المسيح للآب السماوي بالنسبة
للخطاة تكمن مغفرة الخطايا بل نسيانها دون أدنى توبيخ أو ملامة، وهذا هو الذي كان
يستمد منه المسيح عمله وشعوره وعاطفته التي أهَّلته أن يقوم بدور الكفَّارة العظمى
وتكميل خلاص الخطاة، كوسيط أعظم بين الآب السماوي والبشرية الملوَّثة بخطاياها.
فالمسيح وهو جالس وسط العشَّارين والخطاة يلاطفهم ويجاملهم ويعزِّيهم ويشجِّعهم،
كان في حقيقته ينوب عن الآب السماوي نفسه، بل ولهذا أرسل الآب ابنه متجسِّداً ليستطيع أن يعمل عمل الآب ظاهراً وبمشاعر
بشرية محسوسة يحسّها الخطاة فيمجِّدون
الآب!

32-
الفرِّيسي والعشَّار يصلِّيان

أقوى
وأوضح ما قدَّم المسيح لعمل المفارقة بين شعور الفرِّيسي عند نفسه وما يقابله من
شعور الآب السماوي نحوه، وفي نفس الوقت شعور العشَّار الخاطئ عند نفسه وما يقابله
من شعور الآب السماوي من نحوه أيضاً.

إذ
لمَّا قام الفرِّيسي ليصلِّي قال: “اللهم أنا أشكرك أني لست مثل باقي
الناس
الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشَّار. أصوم مرَّتين في
الأسبوع وأعشِّر كل ما أقتنيه.” (لو 18: 11و12)

وقام
أيضاً العشَّار ليصلِّي: ” وأمَّا العشَّار فوقف من بعيد لا يشاء أن يرفع
عينيه نحو السماء، بل قرع صدره قائلاً: اللهم ارحمني أنا الخاطئ”
(
[1]).

وهنا المسيح يعطينا ماذا قال الله عن كل منهما: ” أقول
لكم: إن هذا نزل إلى بيته مبرَّراً دون ذاك”.
ويعلِّق المسيح على ذلك:
لأن كل مَنْ يرفع نفسه يتضع ومَنْ يضع نفسه يرتفع” (لو 14: 18)

فإذا
وازناها بما هو حاصل الآن لدينا نحن المسيحيين تكون المقارنة بلا مبالغة بين إنسان
مسيحي يشعر ببره الشخصي ورتبته العالية من الناس أو من واقع أعماله الخيرية
وعطاياه فيتصدَّر الكنيسة في اجتماعاتها، وشحاذ أو زبال متواضع منسحق لا يكاد يرفع
رأسه ويجلس في آخر الصفوف في الكنيسة لا يرفع حسه. فهذا هو الذي يبرَّر في السماء
دون ذاك.

وهكذا
فالبر الذاتي والاعتماد علىالدرجات والوظائف أو الأعمال قادر أن يحرم الإنسان من
الخلاص المجاني الذي ورثه مجَّاناً، بل ويؤدِّي به إلى الهلاك. فالتمسُّك بالتواضع
وانسحاق النفس قادر أن يرفع الإنسان عند الله ويوقفه أمام الله مبرَّراً:
“طوبى للمساكين بالروح”

واضح
من هذا المثل قيمة الخاطئ عند الله عندما يذهب إليه مطاطئ الرأس!

فالمسيح
كان يبحث عن هؤلاء ليقدِّمهم لله أبيه: فهو محب للعشَّارين والخطاة لحساب الآب!



([1]) على
القارئ أن ينتبه أن لسان حال العشَّار هو إنسان يهودي يشعر بمخالفته للناموس. ولا
يصح أن يكون هذا لسان حال إنسان العهد الجديد- مهما كان- أمام المسيح، لأن المسيح دفع
من دمه ديون جميع الخطايا لجميع خطاة الأرض، قديمها وجديدها. فإصرار الإنسان
المسيحي (الذي فداه المسيح واعتمد) على أنه خاطئ يقرع صدره ويعفِّر وجهه بالتراب
بعد ما قدَّم المسيح جسده ذبيحة خطية عنه بالذات؛ فهذا يعتبر إنكاراً للصليب،
وتجديفاً على الكفَّارة، وافتراءً على محبة الله، ويُحسب عدم إيمان وازدراء بالدم؛
بل وحتى مجرَّد الشعور بالخطية في الضمير، بعد الاعتراف بها وبعد أن مسحها المسيح
بدمه، يحسب إنكاراً لعمل الدم. لذلك من الخطر جداً أن يؤخذ مَثَل العشَّار
والفرِّيسي كمَثَلٍ تعليميٍّ في المسيحية دون الإشارة إلى مغفرة الخطايا بدم
المسيح مجَّاناً. أمَّا كل ما يطلبه المسيح من الإنسان المسيحي، فهو الدوام على
الصلاة باتضاعٍ ودون تعالٍ أو كبرياء على الناس أو على الله.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى