أن الرب في معموديته لم يأخذ الروح القدس كأنه غريب عنه ، أو حل عليه مثلما حل على الأنبياء والقديسين ، لأن الروح القدس في الابن ليس كمن يشترك فيه من الخارج بل هو فيه جوهرياً وبالطبيعة ، فالروح القدس كما هو روح الآب ، هو بعينه روح الابن ذاته !!!
فلماذا اعتمد الرب وحل عليه الروح القدس !!!؟
هذا بالطبع لا يخص ألوهيته كابن وحيد كائن مع أبيه والروح القدس ، ثالوث قدوس لا ينفصل أو ينقسم أو يتجزأ قط ، بل يخص إنسانيتنا ، فهو اعتمد بجسم بشريته وغرس النعمة غير المغلوبة فينا نحن الإنسان ، وبمعموديته مد الروح القدس جذوره في إنسانيتنا !!! لأنه قبل الروح القدس كواحد منا [ حسب تعبير القديس كيرلس الكبير ]
يقول القديس كيرلس الكبير – الإسكندري – عامود الدين
[ من اللائق أن نقول بأي طريقة أُعيد خلق الطبيعة الإنسانية إلى حالتها الأولى ؟
الإنسان الأول ، ترابي من تراب الأرض ، وكان في إمكانه الاختيار بين الخير والشرّ ، لأن يملك الميل إلى الخير أو إلى الشرّ ، ولكنه سقط بمكر وخدعة أثيمة ، ومال إلى العصيان ، فسقط إلى الأرض ، الأم التي خرج منها ، وساد عليه الفساد والموت ، ونقل العقوبة إلى كل الجنس البشري . ونما الشرّ وكثر فينا وانحدر إدراكنا إلى الأسوأ ، وسادت الخطية ، وبالإجمال ظهر أن الطبيعة الإنسانية قد تعرَّت من الروح القدس الذي سكن فيها ؟ " لأن روح الحكمة يهرب من الخداع " وكما هو مكتوب [ ولا يسكن في الجسد الخاضع للخطية ] (حكمة 5: ، 1: 4 س) .
ولأن آدم الأول لم يحتفظ بالنعمة التي أعطاها الله له ، قرر الله الآب أن يُرسل لنا آدم الثاني من السماء . إذ أرسل ابنه الوحيد الذي أخذ شكلنا ، والذي هو بالطبيعة بلا تغيير أو اختلاف ، والذي لم يعرف الخطية مطلقاً ، حتى كما "بمعصية" الأول خضعنا للغضب الإلهي ، هكذا بطاعة الثاني (رو5: 19) نهرب من اللعنة وكل شرورها تنتهي . ولكن حينما صار كلمة الله إنساناً ، قَبِلَ الروح القدس من الآب كواحد منا( ولم يقبله لنفسه كأقنوم في ذاته ، لأنه هو الذي يُعطي الروح ) . وإنما الذي لم يعرف خطية ، عندما يقبل الروح كإنسان ، فأنه يحفظ الروح لطبيعتنا ، لكي تتأصل فينا النعمة التي كانت قد فارقتنا . لهذا السبب أعتقد أن المعمدان القديس أضاف قائلاً [ رأيت الروح نازلاً من السماء واستقر عليه ] .
لقد فارقنا الروح بسبب الخطية ، ولكن الذي لم يعرف خطية ، صار كواحد منا لكي ما يتعود الروح القدس على السكن فينا ، بدون سبب للمفارقة أو الانسحاب . لذلك فهو يقبل الروح القدس لأجلنا من خلال نفسه ، ويُجدد الصلاح الأول لطبيعتنا . لأنه هكذا قيل إنه : [ لأجلنا افتقر ] (2كورنثوس 8: 9) ، لأنه وهو الغني لأنه الله ولا ينقصه أي صلاح ، صار إنساناً يحتاج إلى كل شيء ، والذي يُقال له في موضع ما : [ وأي شيءٍ لَكَ لَم تأخذه ؟ ] (1كورنثوس 4: 7) .
وأيضاً إذ هو الحياة بالطبيعة ، مات بالجسد لأجلنا ، لكي يغلب الموت لأجلنا ويُقيم طبيعتنا كلها معه ، (لأن الكل كان فيه بصيرورته إنساناً) . وهكذا أيضاً ، قَبِلَ الروح القدس لأجلنا ، لكي ما يُقدس طبيعتنا كلها . لأنه لم يأتِ لكي ينفع نفسه ، بل لكي يُصبح لنا جميعاً ، الباب والبداية والطريق لكل الخيرات السمائية . ولو كان رفض أن يقبل (الروح) كإنسان ، أو أن يتألم أيضاً كواحد مثلنا ، فكيف يُمكن لأي إنسان أن يوضح أنه [ وضع نفسه ] (فيلبي 2" 8) ؟ أو ما الداعي لأن نحتفظ بصورة العبد عند الحديث عنه ، إذا لم يكن شيء خاص بصورة العبد قد كُتب عنه .
وعلينا أن لا نُمزق التدبير الحكيم إلى أجزاء ، لأن بولس يصرخ مندهشاً من التدبير قائلاً : [ لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماوات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة ، حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا ] (أفسس 3: 10 – 11) .
وحقاً عظيم هو سرّ التجسد فهو الحكمة بالحق وهو سرّ إلهي . هكذا يجب أن نفهم المُخلص ، نحن الذين اخترنا أن نعيش التقوى ، ونبتهج بالتعليم الأرثوذكسية . لأننا لن ننحدر إلى عدم التعقل ، حتى نفترض أن الروح القدس موجود في الابن بالمشاركة وليس موجوداً فيه بالحري جوهرياً . مثلما هو في الآب نفسه .
لأنه كما أن الروح القدس هو روح الآب ، كذلك أيضاً هو روح الابن . كما هو مكتوب [ فلما أتوا إلى ميسيا ، حاولوا أن يذهبوا إلى بثينية ، فلم يدعهم روح يسوع ] (أعمال 16: 7) .]
[ من شرح إنجيل يوحنا للقديس كيرلس الكبير – المجلد الأول من الإصحاح 1 – 10
ترجمة الدكتور / نصحي عبد الشهيد وآخرون – طبعة 2009
وقد تُرجم عن اليونانية من - Patrologia Migne Greaca Vol. 73
وعن – Commentary on St. John Gospel by P.E. Puesy Oxford 1832
إصدار مؤسسة القديس أنطونيوس ، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة