دى مجموعة قصص من كتب القمص تادرس يعقوب ملطى
مأساة في عسل النحل!
سألني شاب:
"لماذا لا يسمح اللَّه لنا بالأفكار التي تبعث لذة جسدية؟
إنها لا تضر أحدًا!
إنني لا أستطيع أن أنام ما لم تمر بي الأفكار، ولو إلى بضع دقائق؟
ما هي مضار الأفكار الجسدية إن كانت لا تتحول إلى ممارسة خاطئة؟"
إلى مثل هذا الشاب أروي القصة التالية التي استوحيتها من إحدى عبارات القديس أغسطينوس :
في فصل الربيع إذ أزهرت الأشجار، وفاحت الروائح الجميلة وسط الحقول، انطلقت نحلة إلى الحقل المجاور؛ كانت تبسط جناحيها لتطير في كمال الحرية من زهرة إلى زهرة.
كان المنظر جميلاً للغاية، والرائحة جذابة، أما هي فكانت تجمع الرحيق باجتهادٍ وتحمله إلى الخلايا، لتعود فتنقل غيره...
قضت أيامًا كثيرة تجمع الرحيق بفرحٍ حتى صارت كمية العسل ليست قليلة.
في أحد الأيام وجدت النحلة كمية عسل في وعاء فوقفت تتأمله:
ما أعذب هذا العسل الذي جمعته،
ولكن لماذا أطير بعد لأجمع غيره؟!
لأتمتع بالعسل وأعيش فيه.
ألقت النحلة بنفسها وسط العسل، فغاصت فيه... ولم تعد قادرة على الخروج منه، ولا الطيران بين الزهور، بل سرعان ما ماتت في وسط العسل!
هذه ليست قصة خيالية، بل هي قصة الكثيرين، عوض أن يحملوا الفكر الحرَّ الذي يطير بالروح ليجمع الرحيق العذب، يسقط تحت لذة الشهوات فيفقد الفكر حريته واتزانه وسموه ليغوص في شهوات قاتلة للنفس!
وهبك اللَّه الفكر لكي يسمو بك ويرفعك إلى لذة السماويات، لا لكي تغوص في عسل الشهوات فيتحطم ويحطم الحياة التي في داخلك!
أشكرك يا من وهبتني عطية الفكر،
وقدمت لي روحك جناحين تطير بها أفكاري.
ارتفع إليك، وارتمي في أحضانك.
هب لي أن أجمع بالفكر رحيقًا عذبًا!
لا تسمح لي أن أغوص كنحلة في العسل!
إلهي هب لي أن أمتلك أفكاري،
لا أن تمتلكني أفكاري.
قدس إرادتي فيك،
فتوجه أفكاري نحوك بنعمتك،
فلا تحطم الأفكار إرادتي،
وتجعلني أسير لذات مفسدة!
لا تنزع عن ذاكرتي صورة النحلة التي أهلكها عسلها!
في خدمة الشعب
قيل إنه في إحدى المدن الأمريكية حاول راعي كنيسة أن يجد موضعًا ليترك فيه سيارته فلم يستطع. كان الراعي على موعدٍ هامٍ، فاضطر إلى ترك السيارة في مكان ممنوع فيه الانتظار. وكتب رسالة لرجل الشرطة تركها على زجاج السيارة الأمامي تحت "الممسحة". جاء في هذه الرسالة:
عزيزي رجل الشرطة. إني راعي كنيسة...، أخضع للقانون، ولا أحب كسره. لكنني على موعدٍ هامٍ، وقد سرت حول هذا المبني عشرات المرات ولم أجد عدادًا شاغرًا للانتظار أترك بجواره سيارتي حيث الأماكن كلها مشغولة. لقد خشيت لئلا أفقد الموعد المحدد وقد أزف بي الوقت جدًا... اغفر لنا خطايانا (Forgive us our trespasses).
عبر رجل الشرطة وقرأ الرسالة. أدرك أن الراعي حريص على حفظ القانون، لكنه كان في مأزقٍ شديدٍ، وأنه كرجل شرطة يليق به أن يكون في خدمة الشعب... بدأ يصارع في داخله، هل يقبل العذر أم يؤدي واجبه ويحرر له مخالفة Parking-ticket .
أخيرً حرر المخالفة، وأرفق بها رسالة للراعي، جاء فيها:
عزيزي جناب الراعي... قرأت رسالتك، وأنا في خدمة الشعب. كنت أود أنا لا أحرر لك مخالفة، لكنني خشيت أن أفقد وظيفتي... لا تدخلنا في تجربة lead us not in temptation.
هكذا اقتبس الراعي جزءًا من الصلاة الربانية لعلها تسنده في تقديم عذره لرجل الشرطة، وقدم الأخير العبارة التالية من نفس الصلاة استخدمها في تقديم عذره في تحرير المخالفة له.
بالأمس قرأت هذه القصة التي كتبها Green باختصار، فأثارت في داخلي مشاعر عميقة.
لقد كان الراعي في مأزق وطلب من رجل الشرطة أن يشاركه مشاعره عمليًا، لكن الأخير إذ خشي على وظيفته اضطر ألا يقبل عذر الراعي... ونحن مع كل صباح وظهر ومساء نصرخ إلى اللَّه لنقدم له أعذارنا التي لا تنتهي... وبحبه العجيب يميل بأذنيه ليعلن شوقه أن يغفر لنا خطايانا ولا يعود يذكرها.
من يقدر أن يتحملني في ضعفاتي اليومية إلا ذاك الذي يفتح لي قلبه المتسع حبًا ولطفًا؟!
يسمع أقربائي وأحبائي وأصدقائي كلماتي،
ويراقبون ملامح وجهي وكل تحركاتي،
ويحاولون مشاركتي أفراحي وأحزاني.
أما أنت فوحدك تسمع أنات قلبي الخفية،
وتدرك لغة مشاعري وأحاسيسي،
تشاركني أعماقي لا بالكلام فحسب،
بل تدخل إليها، وتسكن فيها، وتملأ فراغنا.
مع ابتداء تضرعي يصدر أمرك الإلهي:
مغفورة لك خطاياك!
عجيب أنت في حبك وطول أناتك!
تغفر أخطائي مادام قلبي بالحق يتحدث.
لا تعود تذكر معاصيَّ مادمت إليك أتوب!
من يحبني مثلك؟!
العزلة
في عام 1953 بعد قيام الثورة نُقل مدرس لغة عربية إلى مدينة إسنا بصعيد مصر مغضوبًا عليه، فشعر بضيقٍ شديدٍ إذ لم يكن قد زار صعيد مصر من قبل.
في شيء من التهكم كتب إلى أحد أصدقائه بالقاهرة يصف له حال المدينة في ذلك الحين:
"هنا نعيش في عزلة عن الأحداث الجارية.
يوجد هنا من يتحدث بولاء شديد للملك فؤاد ظانًا أنه لا يزال يحكم مصر، ولم يُدرك أنه مات وتولى ابنه فاروق الملك، وأنه قد قامت الثورة لتزيل نظام الملكية عن مصر".
ما رواه لنا هذا المدرس الذي اتسم بالفُكاهة، حيث كنت في ذلك الحين بالتوجيهية (الثانوية العامة)، في أحاديثه الودية معنا، يحدث فعلاً في بعض البلاد.
قيل إنه في أواخر القرن الثامن عشر ترك كثير من المستعمرين فيرجينيا بأمريكا وانطلقوا إلى الجبال ويعبروا إلى الوديان التي في الغرب خوفًا من الهنود. ولكن بسبب موت بعض الجياد وانكسار بعض العربات اضطر كثيرون إلى البقاء على الجبال. عاشوا هناك حوالي 20 عامًا لم يروا خلالها وجه رجل أبيض نهائيًا حتى عبر بهم بعض المسافرين. دهشوا إذ التقوا بهم، خاصة الذين كانوا في حوالي الثلاثينات، فإنهم للمرة الأولى يحتكون بالعالم الخارجي ويتحدثون معهم في أمورٍ كثيرة. سأل المسافرون سكان الجبال ماذا يظنون عن الجمهوريين وكونجرس القارة. قال سكان الجبال: "لم نسمع قط عن كونجرس للقارة أو عن الجمهوريين، فإنهم خاضعون لملك بريطانيا". لم يسمعوا قط عن جورج واشنطن، ولا عن الحرب الثورية. بدأ المسافرون يشرحون لهم بالتدريج ما حدث خلال العشرين عامًا السابقة، وخلال المعرفة استطاعوا أن يمارسوا الجنسية الأمريكية...
هذا ما حدث أيضًا مع بعض اليهود الذين جاءوا من البراري وبعض البلاد المنعزلة إلى أورشليم والتقوا بالقديس يوحنا المعمدان وسمعوا له وتجاوبوا مع رسالته. اعترفوا بخطاياهم واعتمدوا في نهر الأردن ثم عادوا إلى مواقعهم المنعزلة. بدأ السيد المسيح خدمته وبقي سنوات خدمته حتى صلبه وقيامته وصعوده وأرسل روحه القدوس على تلاميذه وتابعيه أما هؤلاء الذين عاشوا في عزلة فلم يسمعوا شيئًا عن هذا كله. التقى بهم الرسول بولس وإذ حدثهم عن الروح القدس قالوا: "لم نسمع عنه!" بدأ الرسول يحدثهم ليقبلوه فينضموا خلاله إلى العضوية الكنسية والحياة الجديدة كأعضاء في جسد المسيح.
أشكرك يا مخلصي إذ لم تتركني في عزلة.
نزلت إليّ وشاركتني حياتي،
وقدمت لي روحك القدوس،
لم أعد في عزلة عنك وعن السمائيين.
تعرفني الحب لغة السماء،
وتكشف لي أسرارك الفائقة!
لأعمل كعضو حيّ في جسدك أيها الرأس الإلهي!
نبوغ فريد
انطلق الصبي ماثيو مع والده إلى معرضٍ دولي.
إذ دخل قسم الموسيقى بينما كان الاثنان يتنقلان بين أدوات الموسيقى كان ماثيو منسجمًا جدًا مع صوت الموسيقى الهادئ.
- يا لها من موسيقى رائعة!
- نعم إنها موسيقى الفنان المشهور بيتهوفن الذي حُرم من عطية السمع.
- هل لو اشتريت أدوات موسيقى من هنا أصير مثل بيتهوفن، أخترع موسيقى جميلة هكذا؟
- تساعد الأدوات الإنسان، لكن ما قدمه بيتهوفن هو ثمرة نبوغه مع جهاده بمثابرة.
صمت الصبي وعاد يستمتع بموسيقى بيتهوفن، كما اشترى بعض الاسطوانات الموسيقية لهذا الفنان.
دخل الاثنان معًا قسم الفن... وقد وقف الصبي أمام بعض التماثيل الرائعة واللوحات العالمية، وكان مشدودًا لهذا الفن.
وفي حوار لطيف مع والده اشتاق الصبي أن يهبه اللّه نبوغًا لتقديم عمل فني رائع...
هكذا مع كل قسم من أقسام المعرض كان قلب الصبي يلتهب بالشوق أن يكون يومًا ما نابغًا.
في المساء جلس ماثيو مع والده وتباحثا معًا في موضوع النبوغ في المواهب، وكان الأب يحاول أن يمسك بيد ابنه ليكتشف مواهبه الخاصة وينميها.
قال الأب: "كم أنا سعيد يا ماثيو من أجل شوقك الحقيقي أن تكتشف مواهبك لتنميتها وتصير يومًا ما نابغًا... لكنني أود أيضًا أن أحدثك عن نبوغٍ أبدي وفريد".
- ما هو يا أبي؟
- لا يستطيع الإنسان أن يكون نابغًا في كل شيء، إنما يلزمه أن يكتشف مواهبه. لكنه يوجد نبوغ فريد وفي متناول يدنا ونلتزم به جميعًا.
- ما هو؟
- أن نحمل في داخلنا السيد المسيح، حكمة اللَّه والبرّ! نحمله فننعم بحياته فينا. نعيش مقدسين، نمارس الحياة الفائقة العجيبة. لذا دُعي اسمه عجيبًا، ويجعل من مؤمنيه عجبًا.
قلوبنا بعواطفها، وأجسادنا بحواسها، وفكرنا وكل طاقاتنا تعمل بقوة فائقة سماوية!
إلهي، من يقدر أن يُروِّض لساني؟
من يضبط أفكاري ويقدسها؟!
من يُقدس حواسي؟
من يُبارك أحلامي؟
لأقتنيك يا قدوس فأقتني حياتك فيّ!
مربية خائنة!
قيل أن مسيحيًا سمع أن المربية التي كانت تعمل لديه وقد تركته فجأة دون إنذار مريضة جدًا. ذهب الرجل إلى المربية، وإذ عرفت أنه قادم بدأت تتساءل في أعماقها:
"تُرى هل هو قادم ليعاتبني؟
هل هو شامت فيَّ لأني قابلت معاملته اللطيفة بالجحود؟
أم هل هو قادم لأنه بالحق تقي ويحبني؟"
التقي الرجل بالمربية فسألها: "ما هو حالك؟"
أجابته في خجل: "سامحني فقد سلمت نفسي للشيطان".
صمت الرجل قليلاً ثم قال لها:
"اللَّه يسامحنا جميعًا... لكنني أود أن أسألك..."
خشيت المربية أن يسألها عن سبب تركها بيته فجأة فارتبكت، أما هو فبابتسامة قال لها:
"ماذا تظنين لو أنكِ أخذتِ أحد أولادي وهربتِ به لتبيعيه في سوق العبيد؟"
أجابته: "يستحيل! كيف أفعل ذلك؟ إنه ابنك، ليس من حقي هذا".
قال الرجل: "ألا تعلمين أن نفسك هي ابنة اللَّه، كيف تسلبين إياه، وتقدمينها لعدوه إبليس وبلا ثمن؟!"
في غباوة كم مرة أقول لنفسي:
إنني حُرَّ أفعل ما أشاء!
نفسي هي ابنتك!
لم تقتنها بذهبٍ أو فضة،
بل بدمك الثمين!
وهبتني أن أكون ابنًا للآب،
لي حق شركة المجد معك إلى الأبد.
أخطأت لأنني سلبتك نفسي التي هي ابنتك!
هب لي أن أردها بالتوبة إليك يا مخلص نفسي!
عطية فقد البصر
في زيارة القديس أنبا أنطونيوس للقديس ديديموس الضرير مدير مدرسة الإسكندرية الذي فقد بصره وهو في الرابعة من عمره، وقد اخترع فكرة نحت الحروف على قطع خشب ليقرأ بأصابعه لا بعينيه، وهكذا سبق الفرنسي برايل بأكثر من 15 قرنًا في اختراع الكتابة البارزة لفاقدي البصر.
سأل القديس أنبا أنطونيوس: "هل أنت حزين لأنك فقدت بصرك؟"
صمت القديس ديديموس فكرر القديس أنبا أنطونيوس السؤال مرة ثانية فثالثة، وأخيرًا أجاب القديس ديديموس: "إني أشكر اللَّه على كل حالٍ، لكنني بلاشك حزين لأني فقدت عطية البصر وحُرمت من رؤية أمور كثيرة، خاصة قراءة الكتب..."
علَّق القديس أنبا أنطونيوس على هذه الإجابة بقوله:
"كيف تحزن يا ديديموس على فقدان البصر الذي يشترك فيه الإنسان مع الحيوانات بل ومع الحشرات الصغيرة، ولا تفرح بالحري أن اللَّه وهبك البصيرة الداخلية التي تشترك فيها مع السمائيين، فتتعرف على الأسرار الإلهية الفائقة!"
حقًا نحن نشكر اللَّه على عطية البصر، وإن سحبها لننال حدة بصر روحية داخلية فنشكره على عطية فقدان البصر الجسدي مع تمتع ببصيرة أعظم وأبقى إلى الأبد.
تُذكرني هذه القصة التي ترجع إلى القرن الرابع الميلادي بما حدث في القرن العشرين حين فقد ضابط شاب بصره في الحرب . اهتمت به ممرضة تقية في مستشفى عسكري فتزوجها.
سمع يومًا ما إنسانًا يتحدث عنه وعن زوجته قائلاً:
"إنها سعيدة الحظ! إنه أعمى!
تزوجها دون أن يرى ملامح وجهها...
لو كان أبصر لما كان قد تزوجها!"
تحرك الضابط نحو الصوت والتقى بالمتحدثين عنه وهو يقول: "لقد سمعت ما تتحدثون به عني، وأنا أشكر اللَّه من أعماق قلبي لأجل عمى عيني ليهبني بصيرة داخلية أرى بها جمال نفس هذه السيدة الفائق. إنها شخصية رائعة، أجمل شخصية التقيت بها كل حياتي. فلو أن ملامح وجهها كان يطابق جمالها الداخلي لا يكون ذلك إلا قناعًا يخفي جمال نفسها... لقد ربحت الكثير بفقدان بصري!
رفع الرجل عيني قلبه ليصرخ:
أشكرك يا إلهي لأنك نزعت عني بصيرة الجسد،
ووهبتني بصيرة القلب الداخلي.
وهبتني عينيك لأرى بهما جمال النفس لا الجسد.
حقًا كنت قبل أنظر ما هو بالخارج،
الآن أعطيتني أن أرى بك ما في القلب!
يتببببببببببببببببببببببع