في حديثنا السابق عن خطية الموت : التجديف على الروح القدس ؛ أظهرنا بوضوح أن هذا لا يعني على الإطلاق السقوط في أي خطية أو ضعف إنساني حتى لو كان ارتداد طالما عن خوف أو تحت أي ضعف ، فهو قابل للتوبة ...
وهناك من قالوا مثل العلامة أوريجانوس : [ أن سبب دينونة هؤلاء ... : الله الآب يحل في كل شيء ويضبط كل الكائنات الحية وغير الحية أي التي لها نعمة العقل والتي ليس لها نعمة العقل . أما الابن فهو يشمل بقوته الذين لهم نعمة العقل فقط مثل الموعوظين والوثنيين الذين لم يأتوا بعد إلى الإيمان . أما الروح القدس فهو يسكن فقط في الذين قبلوه في المعمودية . ولذلك حينما يُخطئ الموعوظون أو الوثنيون فأن خطيئتهم هي ضد الابن فقط ، لأنه هو فيهم ولذلك يمكنهم الحصول على المغفرة عندما يكرمون بنعمة الميلاد الثاني . ولكن حينما يُخطئ المعمد فإن الخطية بعد المعمودية موجهة ضد الروح القدس الذي يسكن في الذين عُمَّدوا ، ولذلك لا مناص من العقاب ]
ويقول القديس أثناسيوس الرسولي معلقاً على كلمات العلامة أوريجانوس :
[ أما عن نفسي فحسب ما تعلمت ، أعتقد أن رأي كل منهما ( أي العلامة أوريجانوس وثيئوغنوستس من يتفق مع أوريجانوس في نفس الشرح ) يتطلب فحصاً ومراجعة دقيقة لأن كلمات الإنجيل الخاصة بالتجديف عميقة .
في الحقيقة واضح أن الابن في الآب وبالتالي فهو في الذين فيهم الآب أيضاً ، . والروح القدس ليس غائباً عن الآب والابن لأن الثالوث القدوس المبارك غير منقسم .
وزيادة على ذلك إذا كان كل شيء قد خُلق بالابن ( يو1: 3) وفيه كل الأشياء توجد (كو1: 17) . فهو ليس كائناً خارج الأشياء التي جاءت إلى الوجود بواسطته . فكل المخلوقات ليست غريبة عنه . هو بالطبيعة في كل شيء وبالتالي كل من يُخطئ ويجدف على الابن ، يُخطئ ويُجدف على الآب والروح القدس . ولو كان حميم الميلاد الثاني ( المعمودية ) قد أُعطى باسم الروح القدس فقط لكان من المعقول أن نقول إن الذي عمد إذا أخطأ بعد المعمودية يُخطئ ضد الروح القدس وحده .
ولكن لأن المعمودية تُعطى باسم الآب والابن والروح القدس ، فكل مُعمد يقبل المعمودية باسم الثالوث وبذلك يُصبح واضحاً أن كل من يُجدف بعد المعمودية ق جدف على الثالوث القدوس ، وهذا هو التعليم الحقيقي الذي يجب أن نقبله .
ولو كان هؤلاء الذين تحدث معهم الرب ، أعني الفريسيين قد قبلوا حميم الميلاد الثاني وحصلوا على نعمة الروح القدس ، لكان التفسير السابق لكل من أوريجانوس وثيئوغنوستس مقبولاً . لأن الرب لم يكن يتكلم مع أُناس ارتدوا وجدفوا على الروح القدس ، لأننا إذا تذكرنا ، فإن هؤلاء الناس – أي الفريسيين – لم يكونوا مُعمَّدين ، بل حتى معمودية يوحنا احتقروها ورفضوها ( مت 21 : 15 – 27 ) . فكيف يُمكن اتهامهم بالتجديف على الروح القدس وهم لم يحصلوا عليه بعد ؟
ولذلك لم ينطق الرب بهذه الكلمات لكي يعلَّم عن الخطية بعد المعمودية ، كما أنه لم يكن كذلك يهدد بعقوبة أولئك الذين سيخطئون في المستقبل بعد المعمودية ، بل قال هذه الكلمات بطريقة مباشرة وصريحة ضد الفريسيين لأنهم أذنبوا فعلاً وسقطوا في هذا التجديف الفظيع .
لقد اتهمهم الرب بطريقة واضحة بالتجديف وهم لم يقبلوا المعمودية . إذن فهذه الكلمات ليست موجهة ضد الذين يخطئون بعد المعمودية ، خصوصاً وأن الرب لم يكن يشتكيهم بخطايا عامة ولكن بالتجديف بالذات ، وهناك فرق بين الذي يُخطئ ويتعدى الناموس وبين الذي بسبب كفره يجدف على الله نفسه .
وقبل ذلك أتهم الرب الفريسيين بخطايا أخرى مثل محبة المال التي من أجلها أبطلوا وصية الخاصة بالوالدين ، ورفضوا كلمات الأنبياء وجعلوا بيت الله بيت تجارة ، وفي كل هذا أنتهرهم المخلَّص لكي يتوبوا . أما عندما قالوا أنه ببعل زبول يُخرج الشياطين ، لم يقل لهم ببساطة أنهم يُخطئون بل أنهم يجدفون بصورة شنيعة تستوجب العقاب وتجعل المغفرة مستحيلة لأنهم تمادوا إلى حيث لا حدود لخطيئتهم . ]
( الرسالة الرابعة للقديس أثناسيوس الرسولي إلى الأسقف سرابيون 10 ، 11 ، 12 ، 13 ؛ أنظر كتاب الروح القدس للقديس أثناسيوس الرسولي – الرسائل عن الروح القدس إلى الأسقف سرابيون ؛ ترجمها عن اليونانية وأعد المقدمة والملاحظات الدكتور موريس تاوضروس + الدكتور نصحي عبد الشهيد – طبعة ثانية منقحة ، أنظر من صفحة 130 - 134 ؛ الناشر مؤسسة القديس أنطونيوس – المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية – نصوص آبائية 95)
((( سوف نستمر في الشرح للقديس أثناسيوس الرسولي )))