تذكرنــي
التسجيل التعليمـــات التقويم البحث مشاركات اليوم اجعل كافة الأقسام مقروءة
يمكنك البحث فى الموقع للوصول السريع لما تريد


  †† ارثوذكس †† > كل منتدايات الموقع > الكتاب المقدس > تفاسير الكتاب المقدس العهد الجديد

تفاسير الكتاب المقدس العهد الجديد كل ما يخص الكتاب المقدس من تفاسير فى العهد الجديد

مشاهدة صفحة طباعة الموضوع مشاهدة صفحة طباعة الموضوع أرسل هذا الموضوع إلى صديق أرسل هذا الموضوع إلى صديق


متى 26يوم الخميس من أحداث أسبوع الآلام: 2- خطب المسيح الوداعية

خطب المسيح الوداعية مت31:26-35 + مر27:14-31 + لو31:22-38 (مت31:26-35) آية (31): "حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون فيّ في هذه الليلة لأنه مكتوب أني اضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية." في

اضافة رد

 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع

رقم المشاركة : ( 1 )
Bible
ارثوذكسي مكافح
Bible غير متواجد حالياً
 
رقم العضوية : 132359
تاريخ التسجيل : Oct 2011
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 108
عدد النقاط : 10
قوة التقييم : Bible is on a distinguished road
افتراضي متى 26يوم الخميس من أحداث أسبوع الآلام: 2- خطب المسيح الوداعية

كُتب : [ 10-26-2011 - 04:49 PM ]


خطب المسيح الوداعية مت31:26-35 + مر27:14-31 + لو31:22-38

(مت31:26-35)
آية (31): "حينئذ قال لهم يسوع كلكم تشكون فيّ في هذه الليلة لأنه مكتوب أني اضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية."
في آية (30) رأينا السيد وقد أخذ تلاميذه وذهب إلى جبل الزيتون، رأيناه ذاهباً للموت بإرادته، وفي الطريق يحدثهم عن صلبه، ونرى في حديث السيد أن الشيطان أراد بضرب المسيح أن يضرب تلاميذه ويشتتهم، والسيد يخبرهم حتى لا ينهاروا ويفاجئوا بما سيحدث، ويشجعهم حتى لا يتبددوا. تشكون= لأنهم مازالوا يتصورونه ملكاً أرضياً ويشكون إذ يرونه مصلوباً.

آية (32): "ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل."
أسبقكم إلى الجليل= قضى السيد معظم وقت خدمته مع تلاميذه في الجليل، وعرفوه كمعلم مقتدر، صانع معجزات، عرفوه بحسب ما أبصرته عيونهم الجسدية، وكأن المسيح يريد أن يقول سنتقابل في الجليل مرة أخرى لتعرفونني كإله ظهر في الجسد وإنتصر على الموت فتكمل رؤيتكم (مت7:28) وهذا ما قاله الملاك.. هناك ترونه. أي هناك تعرفونه برؤية صحيحة تكمل فيها معلوماتكم عنه والتي سبق وعرفتموها في الجليل سابقاً.

آية (33): "فأجاب بطرس وقال له وإن شك فيك الجميع فأنا لا اشك أبداً."
من يثقون في ذواتهم هم أسرع ناس للسقوط، ولذلك نرى بطرس وقد أنكر المسيح بعد هذا القول بساعات قليلة. لقد كان بطرس واثقاً في ذاته بغير أساس. والعجيب أن بطرس يجادل المسيح، فهل بعد ما رأى من المسيح 3سنوات وأنه يعلم كل شئ، هل يتصور بطرس أنه يعلم أكثر من المسيح خالقه. ما أحوجنا أن نرتمي في حضن الله العارف بضعفنا فلا نثق بذواتنا بل في نعمة الله القادرة أن تقيمنا من الضعف.

(مر27:14-31)
آية (27): "وقال لهم يسوع أن كلكم تشكون فيّ في هذه الليلة لأنه مكتوب أني اضرب الراعي فتتبدد الخراف."
الشك سيكون بسبب نقص الشجاعة وهذه نالوها يوم الخمسين. والسيد حينما يقول مكتوب يذكرهم بنبوة زكريا (7:13). وكأنه يؤكد أن كل شيء بتدبير إلهي، خاضع لسيطرة الله إذ قد سبق وأخبر عنه قديماً.

آية (28): "ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل."
زكريا سبق وتنبأ عن ضرب المسيح، والمسيح هنا يتنبأ بأنه سيقوم ويذهب للجليل.

آية (29): "فقال له بطرس وان شك الجميع فأنا لا اشك."
لاشك في محبة بطرس وغيرته، ولكن ما لا يعرفه بطرس عن نفسه يعرفه الرب عنه، والرب يعرف أنه ضعيف إذ هو بشر، فكان كلام بطرس هذا فيه كبرياء وكان الأجدر به أن يعترف بضعفه أمام الرب ويصدقه ويطلب معونته.
آية (30): "فقال له يسوع الحق أقول لك انك اليوم في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات."
لم يذكر متى عدد مرات صياح الديك ولكن مرقس يذكر أنه يصيح مرتين ويقول كثير من الدارسين أن بطرس أنكر مرة ثم صاح الديك (هذه كانت كإنذار لتذكره ولم يتذكر) ثم أنكر بطرس مرتين ثم صاح الديك للمرة الثانية.

(لو31:22-38)
الآيات (31-33): "وقال الرب سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة. ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك وأنت متى رجعت ثبت اخوتك. فقال له يا رب أني مستعد أن امضي معك حتى إلى السجن وإلى الموت."
سمعان سمعان= المسيح يناديه بإسمه القديم (وليس بطرس الصخرة) ليظهر ضعفه بدون المسيح. إبليس ليس له سلطان أن يجرب أحد إلاّ بسماح من الله، وإبليس كانت إرادته أن يتفرقوا ويتبددوا كما حذرهم السيد المسيح بنبوة زكريا، ولكن الله سمح لإبليس بتجربتهم ليظهر الحنطة من الزوان، وفعلاً لقد إنفصل الزوان الذي كان يهوذا، وبقيت الحنطة. ولنلاحظ أن الله لم يجبر أحد على شئ، بل كان هناك فائدة لما حدث، وهي أن باقي التلاميذ أدركوا ضعفهم، مثل بطرس الذي أنكر وباقي التلاميذ الذين هربوا، ولمّا أدركوا ضعفهم صرخوا طالبين المعونة من الله، وما عادوا يثقوا في أنفسهم، وأدركوا أن سر قوتهم هو الله. وبهذا نرى أن الله حين يسمح بأن يجرب إبليس أولاده فيكون هذا لصالحهم. إبليس يقصد من تجاربه أن يجعلنا نترك يسوع والسيد يسمح بالتجارب إذ نكتشف بها ضعفاتنا فنلجأ إليه للمعونة. ولكن قوله يغربلكم، فمن الغربلة يسقط القش أي من كان غير ثابت. والسيد وجه حديثه لبطرس بالذات بسبب إندفاعه وشعوره بأنه قوي، والرب أراد أن يكشف فيه ضعف الطبيعة البشرية بوجه عام. فيرى كل منا فيه ضعفه الشخصي. فإن كان يهوذا يمثل الخيانة، لكن بطرس يمثل الضعف الذي يحتاج إلى عون إلهي فيقوم ليثبت ويثبت الآخرين معه خلال النعمة الفياضة التي ينالها. طلبت من أجلك= المسيح يتكلم كإنسان مع أنه الله، لنتعلم الصلاة لأجل الضعفاء. وليظهر إحتياجنا لعمله فينا أثناء التجارب حتى لا نضعف. لا يفنى إيمانك= تيأس من أن تقوم ثانية. ونفس هذه الخبرة إكتسبها داود النبي بعد سقطته الشهيرة إذ صلّى المزمور الخمسون قائلاً.. إرحمني يا الله كعظيم رحمتك.. فأعلم الأثمة طرقك (آية13 مز51). فالتائب يشعر بالخطاة الذين مثله فيحنو عليهم ويشجعهم.

الآيات (35-38): "ثم قال لهم حين أرسلتكم بلا كيس ولا مزود ولا أحذية هل أعوزكم شيء فقالوا لا. فقال لهم لكن الآن من له كيس فليأخذه ومزود كذلك ومن ليس له فليبع ثوبه ويشتر سيفاً. لأني أقول لكم انه ينبغي ان يتم في أيضاً هذا المكتوب وأحصي مع آثمة لأن ما هو من جهتي له انقضاء. فقالوا يا رب هوذا هنا سيفان فقال لهم يكفي."
حين كان المسيح معهم طيلة مدة خدمته كان يعزيهم ولم يدعهم معوزين لأي شئ. ولكن ستأتي ساعة حين يفارقهم، عليهم فيها أن يواجهوا بعض الشدائد وعليهم أن يتعلموا كيف يواجهونها. هنا السيد أشبه بمدرب السباحة الذي يضع يديه تحت جسم من يدربهم وهم في المياه فيشعروا بثقة وراحة، ثم يسحب يديه قليلاً قليلاً فيجاهدوا ويتعلموا، وسيصيرون كمن في عوز، لكي ينعموا بخبرات جديدة. ولكن في (مت20:28) قال لهم ها أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر. وكأن المسيح هنا يريد أن يقول حين تأتي أيام الضيق وهي ستأتي تذكروا أنني حينما كنت معكم لم يعوزكم شئ، وأنا مازلت معكم، ولكن ربما تنقضي فترة حتى أتدخل لرفع الضيق. ويقول الأنبا أنطونيوس أن الله غالباً ما يعطي للتائبين في بداية توبتهم تعزيات كثيرة ليرفعهم ويسندهم لكنه يسمح فينزع هذه التعزيات إلى حين لكي يجاهدوا وسط الآلام فيتزكون وينالون أعظم من الأولى.
الكيس والمزود= أي سيكونوا في إحتياج لتدبير أمورهم، وستمر عليهم ضيقات يحتاجون فيها للزاد الروحي والإستعداد الروحي. وهذا يحتاج للجهاد المستمر بصلوات وأصوام بينما كان المسيح فترة وجوده معهم على الأرض هو الذي يسندهم.
السيف= هو كلمة الله (عب12:4) التي نتسلح بها ضد مكائد إبليس (أف11:6) والآلام التي يسمح بها المسيح لتلاميذه بها يشتركون في صليبه وبالتالي في مجده. الكيس والمزود والسيف تفهم بمعانيها الروحية وليست المادية، للإمتلاء الروحي حتى يستطيعوا الحرب ضد إبليس.
هوذا هنا سيفان= غالباً هما سكينتان كبيرتان يستخدمان لذبح خروف الفصح.

يكفي= هي ترجمة للكلمة العبرية (دَيّير) التي كان معلمو اليهود يستخدمونها ليسكتوا بها جهالة بعض تلاميذهم. وكأن السيد المسيح أراد أن يسكت تلاميذه الذين إنصرفت أفكارهم إلى السيف المادي لا سيف الروح. ولا تعني يكفي بالمعنى المباشر فماذا يعمل سيفان في مقابل جماهير اليهود وجنود الرومان الآتين للقبض عليه. بل حينما إستخدم بطرس سكيناً منهم وقطع أذن عبد رئيس الكهنة شفاه المسيح بمعجزة وقال "لأن كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون" (مت51:26-52).
(آية 35): ما هو من جهتي له إنقضاء= أي سوف لا أبقى في وسطكم بعد، فسأتمم الفداء وأصعد للسماء.
(آية37): المكتوب= (أش12:53).

26يوم الخميس أحداث أسبوع الآلام: divider-3.jpg
فصول الباراقليط

وهي تتضمن الآيات الأخيرة من (ص13) وحتى نهاية (ص17) وتنقسم بحسب كتاب ترتيب وقراءات أسبوع الآلام إلى أربعة فصول:-
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع


(يو33:13)
(يو26:14)
(يو26:15)
(يو17) كله
- (يو25:14)
- (يو25:15)
- (يو33:16)
}
}
}
أحاديث الوداع، الخطاب الأخير العظيم.

صلاة الرب.
وهي تتضمن أحاديث ما بعد العشاء ثم الصلاة الشفاعية (يو17) وتسمى فصول الباراقليط لما فيها من كلام معزٍ ووعود بإرسال الروح القدس الباراقليط. وفي صلاة المسيح الشفاعية يسكب فيها تضرعاته الحارة للآب من أجل تلاميذه ومن أجل الكنيسة كلها. وكل هذا من حديث المسيح لأحبائه حديثاً خاصاً وداعياً. وصلاة للآب عنهم أرادهم أن يسمعوها، كانت بعد خروج يهوذا فهو لا يستحق أن يكون صديقاً للمسيح يسمع كل هذا. ومن هنا نفهم أن هذه التعزيات الخاصة هي لأولاد الله الأحباء فقط.
ونرى في هذه الإصحاحات أعمق العلاقات بين الآب والإبن وعلاقة الآب والإبن مع الروح القدس وعلاقة المسيح مع كنيسته. وعلاقة الكنيسة مع العالم. ونرى فيها فعاليات المحبة الفائضة من قلب الله نحو الإنسان وملخصها:
v أنا في الآب والآب فيَّ.
v أنا في المؤمنين. والمؤمنين يشاركونني أمجادي.
v جئت من الآب من السماء لأتمم مشيئة الآب على الأرض وسأعود للآب.
v أرسل الروح القدس ليحفظ ويقدس ويبني الكنيسة.
v نرى هنا القصد الأساسي من تَجسد الرب وموته عن الكنيسة.
26يوم الخميس أحداث أسبوع الآلام: divider-3.jpg
الإصحاح الثالث عشر:
آية (33): "يا أولادي أنا معكم زماناً قليلاً بعد ستطلبونني وكما قلت لليهود حيث اذهب أنا لا تقدرون انتم أن تأتوا أقول لكم انتم الآن."
في الآيات السابقة تكلم المسيح عن مجده العتيد، وهنا نجده ينتقل سريعاً إلى التفكير في تلاميذه بكل حنو وعطف قائلاً يا أولادي= أصلها أولادي الصغار أو المحبوبون وتشير لعنايته بهم ورعايته لهم ومعرفته بآلامهم. ولم نسمع المسيح يقول هذه الكلمة سوى هنا لأنه شعر أن التلاميذ سيكونون مثل اليتامى حين يفارقهم وهذه لم يسمعها يهوذا فهو لا يستحقها. أنا معكم زماناً قليلاً بعد= فبعد ساعات سيصلبه اليهود ويموت وكما قلت لليهود..= سبق المسيح وقال نفس الشئ لليهود (34:7 + 21:8) لأن المسيح حين يترك العالم لن يعود أحد يراه بالجسد سواء من اليهود أو من التلاميذ. ولكن هناك فارق فاليهود لن يروا المسيح بسبب عدم إيمانهم، أمّا التلاميذ فسوف يروه بالروح. وحين يذهب للصلب فسيذهب وحده فهذا عمله وحده لا يقدر عليه سواه (أش3:63) فالصليب معركة مع إبليس والخطية والموت لا يقدر عليها أحد سوى المسيح. وحين يصعد إلى مجده لن يستطيع الآن سواء اليهود أو التلاميذ أن يذهبوا. ستطلبونني= كان المسيح هو المحامي عنهم وكان كأب لهم. وبعد أن يصعد وتبدأ الإضطهادات والضيق سيطلبونه في آلامهم ولكنهم لن يستطيعوا الذهاب إليه في مجده، هم تعودوا أن يذهبوا إليه في ضيقاتهم وهو معهم في الجسد ولكن الوضع سيتغير بعد القيامة. ولكن المسيح لن يتركهم يتامى بل سيرسل لهم الروح المعزي بل سيكون معهم كل حين (مت20:28) يرونه بالإيمان وفي الإفخارستيا. ولكن بعد المجئ الثانى سنراه وجها لوجه.

الآيات (34-35): "وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا تحبون انتم أيضاً بعضكم بعضاً. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي إن كان لكم حب بعضاً لبعض."
سمعنا عن وصية المحبة في (لا18:19) فلماذا يسميها المسيح جديدة؟ هي جديدة لأنها على نفس نمط محبة المسيح، محبة باذلة حتى الموت. وكان اليهود يعلمون أن يحب الإنسان قريبه ولكن المسيح علمنا أن نحب أعداءنا، بل نحب الآخرين أكثر من ذواتنا، وهذا ما عمله المسيح على الصليب. وصية المحبة وصية قديمة، لكن الصليب قدمها لنا بأعماق جديدة.
وهي وصية جديدة لأن المسيح الذي فينا هو الذي يعطينا هذه المحبة حتى لأعدائنا فجوهر المسيح الذي فينا هو المحبة، فالله محبة ولذلك فالمحبة هي أول ثمار الروح القدس. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). صارت من نتائج الطبيعة الجديدة، ولكي نقتنيها علينا بالتغصب اولا، ثم تأتى كثمرة للخليقة الجديدة التي نأخذها. صارت وصية المحبة ليست فرضاً يفرض على الإنسان من خارج، بل هي حياة وهي قوة محبة باذلة تعمل فيه بإمكانيات المسيح الذي فيه. وصارت هذه المحبة دليل وجوده فينا. وصارت هذه المحبة التي فينا كرازة بها يستعلن المسيح نفسه للعالم فعلينا أن لا نندهش إذ لا نجد المحبة في الآخرين، فهم لا يسكن الروح القدس فيهم، والروح القدس يسكب فينا محبة الله (رو5:5). ومن ثمار الروح القدس، بل أولها، المحبة (غل22:5-23). لذلك ظل يوحنا الحبيب يكرز بهذه الوصية عمره كله، فهذه الكلمات ظلت ترن في أذنيه العمر كله. وبعد أن أصبح شيخاً كانوا يحملونه للكنيسة فيقول يا أولادي أحبوا بعضكم بعضاً، ولما سألوه لماذا تكرر هذا الكلام قال "أليست هذه تعاليم السيد المسيح وفيها كل الكفاية لو نفذتموها. تلاميذي= هي تسمية تشير للعلاقة الخاصة بين المسيح وتلاميذه، وهي علاقة سامية عاشروا المسيح فيها فترة طويلة. ومن عشرة المسيح صارت لهم نفس صفاته.
آية (36): "قال له سمعان بطرس يا سيد إلى أين تذهب أجابه يسوع حيث اذهب لا تقدر الآن أن تتبعني ولكنك ستتبعني أخيراً."
فهم بطرس من كلام الرب أنه سيغادرهم وأنه أي بطرس لا يقدر أن يتبعه ولماذا لا يستطيع بطرس أن يتبعه؟
1. لأن بطرس لم يتمم بعد عمله الذي إختاره له الله، فهو له رسالة عليه أن يتممها. نحن مخلوقين لنتمم أعمال صالحة سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها (أف10:2) ولن نموت قبل أن نتممها.
2. هو الآن غير مستعد للصليب والدليل أنه أنكر بعد دقائق بل إن الصليب والفداء هو عمل المسيح وحده.
3. كان الفداء لم يتم. لذلك فإن مكان بطرس في المجد غير معد، كما أن بطرس كان غير معد لهذا المجد. بل إن بطرس لم يدرك من كلام السيد أنه ذاهب للصلب والمسيح سبق وأنبأ تلاميذه بأنه سيسلم للموت ويهان ويموت ويقوم في اليوم الثالث إلاّ أنهم لم يفهموا هذا تماماً (راجع مت21:16-28 + 18:20-19 + مر31:8 + 31:9+ لو44:9 + 25:17 + 31:18-33) وربما كان سؤال بطرس هنا للرب كيف تذهب بعيداً وأنت سوف تملك على أورشليم.
آية (37): "قال له بطرس يا سيد لماذا لا اقدر أن اتبعك الآن أني أضع نفسي عنك."
نرى هنا بطرس في غرور يتصوًّر نفسه فادياً للفادي. ولكن ليس بالحماس وحده فقط نضع أنفسنا عن المسيح بل بالنضج الروحي ونمو المحبة.
آية (38): "أجابه يسوع أتضع نفسك عني الحق الحق أقول لك لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات."
عتاب مسبق من المسيح لبطرس. وبطرس وضع نفسه في هذا الموقف المحرج لأنه لم يقبل كلمات السيد المسيح "لا تقدر الآن أن تتبعني" إذاً الأليق بنا أن نقبل كلمات السيد المسيح ووصاياه دون مناقشة.
نرى في الإصحاح الثالث عشر غسل الأرجل الذي سبق التناول ثم نرى وصية المحبة الباذلة. وهكذا بعد كل قداس نتناول وتغفر خطايانا ونخرج من الكنيسة لنعيش وسط الناس نخدمهم بمحبة باذلة في حياة خدمة متواضعة.
ملحوظة:
كلام السيد المسيح للتلاميذ هنا مشابه لكلامه لليهود.
قارن آيات (33، 36) هنا مع (يو34:7) ولكن هناك فروق:-
1) "ستطلبونني ولا تجدونني" هذه قيلت لليهود فهم لن يروه بسبب عدم إيمانهم. أما للتلاميذ، "ستطلبونني ولا تقدرون أنتم أن تأتوا أقول لكم أنتم الآن" فهذا وضع مؤقت.
2) كان وضع مؤقت وسينتهي ويذهب التلاميذ للمجد " ولكنك ستتبعني أخيراً" وهذا لم يقوله الرب لليهود.
3) يعطي الرب وصية المحبة لتلاميذه بعد قوله "لا تقدرون أنتم أن تأتوا أقول لكم أنتم الآن" (آية33) مباشرة في (آية34) والسبب أنه بدون محبة لن يدخل أحد إلى المجد.

وخرج يهوذا وكان ليلاً.هذه الآية تجعلنا نتأمل في المقارنة بين خارج العلية وداخل العلية.
خارج العلية: كان ليل (ظلام الخطية واليأس والحرمان من رؤية نور المسيح ومحبته) هذه قيل عنها الظلمة الخارجية (مت30:25).
خارج العلية لا شركة في جسد المسيح، إذاً هناك موت فالمسيح هو الحياة، لذلك من يأكل جسده يحيا ويهوذا بإصراره على الإنفصال عن من في العلية إختار طريق الموت. ويهوذا دخل في حالة يأس دفعه للإنتحار.
خارج العلية كانت الخيانة والمؤامرات ضد المسيح في حلف مع الشيطان.
خارج العلية يأس من غفران الخطية، وثقل الخطية لا يُحتمل لذلك إنتحر يهوذا.
خارج العلية كان يهوذا طامعاً في مال أو مراكز دنيوية، ولا يُفكر في حياته الأبدية وهذا هو ظلام الليل خارجاً.
داخل العلية: نور، فالمسيح نور العالم، ورمز هذا كان النور مُضاء داخل العلية. والكنيسة تحرص على إضاءة الأنوار في أثناء القداس الإلهى رمزاً لوجود المسيح والملائكة (أع8:20). إذاً في العلية نور داخلى والتلاميذ يخطئون ويشتهون المراكز العالمية والجلوس عن اليمين واليسار، لكن هناك غسيل للأرجل وغفران للخطية.
فى الداخل شركة حُبْ صنعها المسيح بمحبته (يو1:13). وهذه المحبة جعلت المسيح يُدلِّل تلاميذه قائلاً: يا أولادى (يو33:13) ويُعزيهم ويَعِدْهُم بالمجد المُعَدْ لهم.
فى الداخل إفخارستيا أي شركة في جسد المسيح أي حياة. في الداخل شبع وسلام وفرح لوجود المسيح معهم. الشبع المادى (هم تعشوا) ثم الشبع الروحى (إفخارستيا).
فى الداخل نور، ومن له النور لا يضل في الطريق وتكون له العين المفتوحة لمعرفة المسيح وطريق المجد في السماء.
فى الداخل حياة سماوية فهم كانوا في علية (مر15:14). والعلية مُرتفعة عن المنزل كله رمزاً للسماء. فهى تُشير لأورشليم السماوية التي يُنيرها المسيح (رؤ5:22). وكعربون لهذا تحيا الكنيسة حياة سماوية على الأرض (فى20:3) والمسيح وسطها مجداً (زك5:2). ولكنه مجد سيُستعلن أخيراً ( رو18:8).
إذاً كيف نختار العالم تاركين المسيح؟! ففى المسيح الحياة والغفران والسلام والفرح والشبع.
الشبع = لا حظ انه مهما حصل الإنسان على المجد والمال... الخ، في العالم فلسوف يظل يشتهى ويطلب أكثر. ولا شيء يُشبعنا سوى شخص المسيح اللانهائى... ولكن المسيح تمجد بالصليب وكانت نهاية هذا الجلوس عن يمين الآب. والقصة بدأت برفض كل إغراءات الشيطان في التجربة على الجبل. فهل تقبل أن ترفض إغراءات الخطية التي فى العالم وتقبل الصليب حتى الموت والإستشهاد؟
هذا هو ما يُسمى الإيمان الحى (يع26:2) فالطاعة لله تؤدى للمجد (فى8:2 -9).وهذه إرادة الله أن يخلص الإنسان (1تى4:2) . فهل تُريد أن تبرأ (يو5:5).
هل تشعر بخطيتك؟، وهل شعرت بالغفران؟ إذا لم تكن قد شعرت فأطلب الإمتلاء (أف18:5)، والإمتلاء من الروح يُعطى العين المفتوحة التي تعرف المسيح وتدخل في معرفة مع الثالوث، وتطلب الشعور بالغفران والشعور بمحبة الله الآب (نش2:1).
26يوم الخميس أحداث أسبوع الآلام: divider-3.jpg
الإصحاح الرابع عشر:

آية (1): "لا تضطرب قلوبكم أنتم تؤمنون بالله فآمنوا بي."
لا تضطرب= الإضطراب ينشأ من الخوف من المجهول أو بسبب شدة الحزن. وهنا التلاميذ نجدهم فعلاً في حالة إضطراب بسبب ما سمعوه من أن أحد التلاميذ ينكره وآخر يسلمه وأنه سيفارقهم، بل سمعوا أنه سيموت، بل إحساسهم بخيبة أمل في مملكة توقعوا قيامها وها هي أمالهم تنهار. والمسيح هنا يطمئن تلاميذه بأنه هو القائد الذي سيحميهم وسط الضيقات الرهيبة القادمة المجهولة، فالضيقات ينبغي أن تأتي على كل مؤمن. والمسيح يطمئنهم حتى لا يتزعزع إيمانهم (راجع مت16:10-22). والمسيح يطلب أن يضعوا رجاءهم في الله وفيه. قلوبكم= القلب هو مصدر الشعور والعواطف، ومصدر الخوف هو فقدان الصلة بالله، والصلة تأتي بالتمسك بالله بالإيمان، فالإضطراب والخوف هو الداء والإيمان بالله هو الدواء. فإذا ركز الإنسان فكره في الواقع المفزع أمامه يغرق في الحال، وهذا ما حدث مع بطرس إذ رأى الريح شديدة ولم يضع ثقته في الرب بل ركز رؤيته في الريح. فآمنوا بي= ثقوا بي. هنا نرى أن علاج الإضطراب هو الإيمان بشخصه المبارك ومعنى الآية، أنتم تؤمنون بالله وهذا حسن، ولكنكم حتى الآن لا تفهمون أنني واحد مع الآب. ولكنكم ستفهمون فيما بعد. وأنا أفعل ما أفعله حتى إذا جاءكم الموت وهو حتماً سيجيء فأنا سآتي وآخذكم إلىّ، فلماذا الخوف آمنوا أنني لن أترككم. وآمنوا أن كل ما أفعله يفتح لكم طريق الخلاص. ونلاحظ أن الثقة في المسيح تلاشي من النفس أي إضطراب.
آية (2): "في بيت أبى منازل كثيرة وإلاّ فإني كنت قد قلت لكم أنا امضي لأعد لكم مكاناً."
منازل= تناظر أروقة وغرف الهيكل. وكلمة منازل تعني إقامة دائمة. ونحن سننال مكاناً في السماء بحسب وعده هذا. منازل كثيرة= إذاً الملكوت لن يضيق بمن هو أهل له. وكلمة منازل لا تشير لدرجات مجد.. لكن هناك درجات مجد (هي درجات إضاءة مت43:13) وهكذا قال بولس الرسول أن نجماً يمتاز عن نجم في المجد (1كو22:15-23، 41).
منازل= أصلها بيوت نسكن فيها بصفة دائمة، هي مساكن دائمة وإقامة مستمرة (في اليونانية)، أماكن راحة. ونحن نقيم في الأرض هنا في خيمة (إقامة مؤقتة) نخلعها بالموت، إستعداداً لكي نحصل على بناء (جسد ممجد) في السماء لنقيم فيه نهائياً بعد طول تغرب (2كو1:5). المسيح قال هنا على الأرض ضيق لكن هناك لنا مكان مجد في السماء. هذا هو الحق الذي ليس فيه خداع. هنا سيخرجوننا من المجامع (2:16) لكن هناك راحة للجميع وأبدية.
وإلاّ فإني قد قلت لكم= هذه تعني "إذا لم يكن في بيت أبي منازل كثيرة لكم جميعاً هل كنت قلت لكم إني أمضي لأعد لكم مكاناً= توطين الإنسان عند الله مرة أخرى، فبعد أن دخل المسيح بجسد بشريته للسماء صار الحضن الأبوي يسع الإنسان الجديد الذي تبناه الله. المسيح هنا يطمئنهم بأن لهم كلهم أماكن في السماء، وأنهم لن ينفصلوا عنه، فهذا الإنفصال هو ما كانوا يخشونه.
آية (3): "وإن مضيت وأعددت لكم مكانا آتى أيضاً وأخذكم إلىّ حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً."
المسيح هنا يلطف من صدمة الفراق بل يجعلها ضرورة حتمية لنرث الملكوت ولا نظل في غربة هذا العالم فهي فرقة وقتية الآن لحساب إتحاد أبدي آتٍ. الآية تشير للسحابة التي كانت تتقدم الشعب فهو يتقدمهم إلى السماء. وفي هذه الآية إشارة للمجيء الثاني فهو جزئياً عاد لهم بعد قيامته وظل معهم 40 يوماً وهو الآن وسط كنيسته (رؤ13:1،1:2) نراه بالإيمان. آخذكم إلىّ= المسيح هنا يستقبل أولاده ويضمهم إلى حضنه، وهو الذي يحدد ميعاد إنتقالهم ليستقروا عنده بل هو يجذبهم إليه بحسب شدة قوة حبه الفائق. لذلك كانت شهوة القديسين أن ينطلقوا ويتخلصوا من سجن الجسد (في23:1-24). أتى أيضاً= كل مرة نتقابل مع المسيح في صلاة أو قداس نتقابل معه ثم أخيراً يأتي ليجذبنا للسماء معه. والملكوت هو حيث يكون المسيح سنكون نحن، بعد مجيئه الثاني.

آية (4): "وتعلمون حيث أنا اذهب وتعلمون الطريق."
المسيح يفترض أن تلاميذه قد فهموا الطريق الذي سيسلك فيه من خلال تعاليمه السابقة أي أنه سيصلب ويموت ويقوم ويصعد للسماء ليفتح الطريق للإنسان.

آية (5): "قال له توما يا سيد لسنا نعلم أين تذهب فكيف نقدر أن نعرف الطريق."
هنا نرى العجز البشري عن الفهم. هم ربما تصوروا أنه يصعد للسماء كإيليا فلا يروه. فهم لم يفهموا موضوع الجسد المكسور والدم المسفوك الذي قدَّمه لهم منذ دقائق. ولم يفهموا قصة تسليمه بواسطة يهوذا. وحتى إن فهموا إن المسيح سيسلم ويموت فكيف يكون هذا الموت طريقاً لحياتهم هم ورجاءً في القيامة. ولم يفهموا أن بتمسكنا بالمسيح وبثباتنا فيه نسلك نفس الطريق. وليس من الخطأ أن نسأل. فالإعلان القادم أعلنه المسيح لمن تساءل بأمانة لأنه يريد أن يعرف.

آية (6): "قال له يسوع أنا هو الطريق والحق والحياة ليس أحد يأتي إلى الآب إلاّ بي."
أنا هو الطريق= هذا جواب المسيح على من يتساءل أين الطريق. فهو كإبن حمل جسد بشريتنا ثم صعد للآب من حيث جاء وذلك من خلال قوة قيامته وبواسطة روح الحياة الأبدية التي فيه ليرفع البشرية التي فيه للآب السماوي ويصير هو الطريق الوحيد (وليس سواه فهو لم يقل طرق) الموصِّل للآب بإستعلان شخص الآب في نفسه وبالوصول إلى الآب وهو حامل جسد بشريتنا وبذلك لا يستطيع أحد أن يأتي إلى الآب إلاّ به. هو طريقنا في حياتنا اليومية وآلامنا وبدونه نضل ونهلك، فهو سبق وإختبر نفس الآلام بل وأكثر منها بما لا يوصف وعَرِف كيف يواجهها، وإختبر الموت وقام وصعد للأقداس السماوية إلى الآب السماوي فمن يثبت فيه يقدر أن يواجه آلام العالم مهما كانت صعوبتها ويواجه الموت ويكون المسيح طريقه للأقداس السماوية.
مثال: إنسان تائه في جو مطير ورعد ورياح وظلمة وهو خائف. ظهرت له سيارة حملته لمكان آمن. هذا الإنسان هو أنا وسط آلام هذا العالم وتجاربه. والسيارة رمز للمسيح الذي يحملني فيه لأعبر آلام هذا العالم في سلام وإطمئنان إلى السماء.. إلى أحضان الآب، بعد أن كان الإنسان قد فقد علاقته بالآب بسبب الخطية. هو صالحنا مع الآب. إبن الله نزل لنا ليحملنا فيه ويرفعنا لله" "لا أحد يأتي للآب إلاّ بي". فكرد على توما لسنا نعلم أين تذهب= يرد السيد أنا ذاهب للآب لآخذكم فيّ للآب. فلا أحد يصل لله إلاّ بالمسيح. المسيح لم يعطنا طريقة ووصفة ووصايا نصل بها للآب. بل قدم نفسه طريقاً إلى الآب، ندخل به للآب دون أن نخرج من الإبن لأن الإبن في الآب. هكذا بإتحادنا به نتحد بالآب. لذلك يقول المسيح إثبتوا فيّ (يو4:15). إذاً كل ما على المؤمن أن يثبت في المسيح وبهذا يكون في طريقه للأقداس السماوية دائساً آلام هذا العالم. وما الذي يفصلنا عن الطريق أي المسيح؟ إنخداعنا بملذات العالم الباطل. لذلك يحدثنا المسيح عن أنه أيضاً هو الحق، ومن يعرفه يتحرر من العبودية للباطل (يو32:8).
والحق= الكلمة تعني الشئ الثابت، الذي لا يتغير، وتعني ذات الله. ورسالة المسيح كانت أنه يستعلن الآب (يو18:1) فالإنسان بسبب الخطية فقد معرفة الله أما المسيح فهو الوحيد الذي يعرفه ويدُركه ونحن لا ندركه (وإذ لم يدرك الإنسان الله عبد الشمس..الخ). [الآب كلمة سريانية تعني المصدر فَضَلّت اللغة العربية إستخدامها تمييزاً للآب عن أي أب آخر]. والمسيح لا يُعَلِّمْ الحق عن الله، بل هو الحق الإلهي نفسه، الحق الكامل المطلق ليس فيه ذرة بطلان ولاشك بل هو يبدد كل ما هو باطل وما هو خطأ. فالمسيح هو الذي أعلن الحق، أعلن الله وأدخله إلى العالم في شخصه فهو "بهاء مجده" إذ هو حامل لملء اللاهوت (كو9:2-10). هو الله الإبن وهو إستعلان الآب. هو الوحيد الذي يشهد للحق (يو37:18) وبه نعرف الحق (1يو20:5 + يو14:1). فالذي يدرك المسيح يدرك الله الآب. المسيح هو الحق لأنه كلمة الله، وهو يعلن لنا كل ما يلزمنا معرفته عن الله وعن أنفسنا. والمسيح هو الحق معلناً في قداسته ومحبته. المسيح هو الحق والعالم هو الباطل. المسيح هو الحق الذي ينبغي أن نؤمن به ونشهد له حتى الموت. هو أظهر الحق بأقواله وأعماله. المسيح هو الدائم للأبد والذي يعطي فرحاً حقيقياً لكن العالم غاش وخادع بلذاته وزائل (سراب) ويبلى وينتهي فهو ليس حق بل كذب. فالحق الوحيد الذي لا يتغير هو الله. ومن يكتشف الحق ويعرفه يثبت في الطريق فتكون له حياة.
والحياة= المسيح كانت فيه الحياة (يو4:1 +24:5 +57:6، 63 + 10:10+31:20). إذاً المسيح لا يمنح حياة غير حياته بل حياته هو ذاته. وهو مات ليفتدينا ويعطينا حياته فهو إشترى لنا الحياة بموته ووهبنا إياها بروحه بعد أن فقدناها بالخطية. "أنا إختطفت لي قضية الموت" لكن المسيح الحي المحيي، بل الحياة ذاتها أتى ليعطيني حياة فلا أظل ميتاً للأبد. الموت هو إنفصال عن الله. والمسيح أتى ليتحد بي فتعود لي الحياة "لي الحياة هي المسيح" (في23:1) وهو حياة أبدية "من يأكلني يحيا بي". إذاً المسيح هو الطريق الذي نثبت فيه لنصل به إلى الحياة ويكون معنا كحق نشهد له في جهادنا. كل طريق غيره ضلال وكل حق سواه باطل وكل حياة عداه موت. بدون الطريق لا تقدم ولا مسير وبدون الحق فلا معرفة وبدون الحياة فهناك موت. هو الطريق الذي علينا أن نتبعه والحق الذي علينا أن نؤمن به والحياة التي نسعى لنوالها. هو الطريق الوحيد للحياة الأبدية. هو حياة الله المعطاة للإنسان. وهو الطريق الذي به نشعر بأبوة الله لنا.
أنا هو= تشير للكيان الحي الإلهي. وأنا هو هي ترجمة يهوه العبرية.
ليس أحد يأتي للآب إلاّ بي= هدف التجسد هو وصول الله للإنسان ووصول الإنسان إلى الله الآب. وهذا تم بالتجسد (الطريق) ثم إستعلان الآب في الإبن (الحق) ثم موت المسيح لنقبل حياته المنسكبة بالموت (الحياة). ومن يثبت فيه يحمله إلى حضن الآب فهو في حضن الآب(يو1:18) واذى يثبتنا في الابن هو الروح القدس.
في الآيات السابقة نجد المسيح يعزي تلاميذه ويرسم لهم طريق السلام. [1] الإيمان والثقة به [2] هم لهم مكان في بيت أبيه وسيأتي ويأخذهم إليه [3] هو الطريق والحق والحياة.

آية (7): "لو كنتم قد عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه."
هنا مراجعة وعتاب فالمسيح معهم كل هذه السنين ولم يعرفوه. فهو قال لهم أنه "أنا هو" وأنه النور والخبز والقيامة.. ورأوا أعماله وإستمعوا أقواله. فالآب غير مدرك ولا منظور ولكن المسيح أعلنه في نفسه "هو خَبَر" (يو 1:18) وعًرَّف به العالم (لو22:10) [في (لو21:10-24) نرى أن فرحة الإبن هي بأن نعرف الآب. وما أخفى عن الحكماء هو معرفة الآب التي أعلنها للأطفال (المتضعين البسطاء) وما ينظرونه ولهم الطوبى عليه هو شخص الآب في صورة المسيح]. لذلك كل من رفض المسيح فهو قد رفض الله، فكيف يرفض المسيح الذي هو صورة الله (يو23:15-25). من الآن تعرفونه= من ساعة بدء المحنة التي ستأتي بعد دقائق والتي تُكَمَّلْ فيها مشيئة الآب وطاعة الإبن. ولكن التلاميذ لم يدركوا كل هذه الأسرار الخاصة بالإبن إلاّ بعد حلول الروح القدس الذي أعطاهم فهماً لسر الآب والإبن. ونلاحظ أن من ساعة الصليب سيبدأ الإعلان عن محبة الآب والإبن لنا. ونحن نبدأ نعرف الله ونتذوقه خلال قبولنا للألم وللصليب. ومن (1يو13:2، 15) نفهم أن الطريق لمعرفة الآب هو عدم محبة العالم وأن نغلب الشرير. وقد رأيتموه= رأوا المسيح الذي هو صورة الآب. فداء المسيح أدى لإرسال الروح القدس الذي يعطينا رؤية حقيقية بها نعرف الآب والإبن.
لو كنتم قد عرفتموني= هنا نفهم لماذا قال المسيح خيرٌ لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي (يو7:16) فالمسيح له معهم الآن بالجسد أكثر من 3 سنين ولم يعرفوه، أما حين حل عليهم الروح القدس عرفوه برؤية حقيقية.

آية (8): "قال له فيلبس يا سيد أرنا الآب وكفانا."
المشكلة هنا أن فيلبس يريد أن يرى شيئاً محسوساً بعينيه كما حدث أيام موسى ورأوا الله على الجبل، كان فيلبس يظن أن المسيح يريه ما هو أعظم. وكيف يرى اللامحدود بعينيه. هذه الطلبة تشبه طلبة موسى "أرني مجدك". هو تصوَّر أنه كما يرى المسيح بالجسد يمكنه أن يرى الآب. ولكنه لم يُدرك أن تجسد المسيح هو الذي مكنه من رؤية الجسد، أما اللاهوت فلا يُرى بالعين قط (يو18:1) ولكن داخل المسيح يسكن كل ملء اللاهوت. ومن يسمع كلام المسيح يدرك أبعاد لا يمكن إدراكها بالحواس الجسدية (يو43:8) فإذا تكلم الإبن أو عمل، يظهر فيه الله الآب غير المنظور، فالمسيح يستعلن الآب بأعماله وأقواله. وفيلبس أخفق في أن يرى الآب المتكلم في الإبن. هم لم يفهموا في ذلك الوقت أن الآب في الإبن والإبن في الآب. المسيح في تواضعه ومحبته.. أي صفاته أعلن صفات الآب. وفي أعماله (شفاء، إقامة أموات..) أعلن إرادة الآب من نحو البشر. وفي تعاليمه كان الآب يتكلم فيه (يو49:12-50 + عب2:1). لذلك فمن رأى الإبن فقد رأي الآب. (راجع أيضاً بنفس المعنى تث15:18-19).

آية (9): "قال له يسوع أنا معكم زماناً هذه مدته ولم تعرفني يا فيلبس الذي رآني فقد رأى الآب فكيف تقول أنت أرنا الآب."
المسيح هنا يعاتب فيلبس على إخفاقه هذا. وسبب هذا الإخفاق أن فيلبس كان مرتبطاً بالعالم ولا يفهم سوى الماديات والمحسوسات "لا يكفيهم خبز بمئتي دينار" (يو7:6) ويخاف الموت وهذا ما ظهر عند هروبه ساعة الصليب فمحبة العالم والماديات تطفئ بصيرة الإنسان الروحية (يع4:4). فكيف تقول أنت أرنا الآب= هنا المسيح يواجه فيلبس بحقيقة صعبة وهو أنه لم ير المسيح بعد، وهذا ثبت من أنه لم ير الآب، بينما أن المسيح كان يستعلن الآب. وأنا معكم= ولم يقل وأنت معي، لأن المسيح هو الذي أتى لفيلبس وللبشرية كلها وليس العكس. وكان هذا عمل الروح القدس أنه يعطينا رؤية صحيحة للمسيح (يو12:16-16).

آية (10): "ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحال فيَّ هو يعمل الأعمال."
أنا في الآب والآب فيّ= لذلك فأنا الطريق إلى الآب. وعليك أن تؤمن بذلك فالإيمان هو الوسيلة لتثبت في هذا الطريق. المسيح الإبن والآب هما كيان واحد بلا إنفصال (يو30:10). والجسد الذي أخذه الإبن لذاته ووحده بلاهوته قد دخل في هذا الكيان دخولاً أبدياً متميزاً (يو13:3). وهذه حقائق ندركها بالإيمان (يو36:3). والمسيح يقدم برهان وحدته مع الآب على مستويين [1] كلامه= الكلام الذي أكلمكم به.. هو يعلن الآب لنا بكلماته وأعماله. [2] أعماله= هو يعمل الأعمال فالإبن هو قوة الآب. وهذا هو مفهوم بولس الرسول في (عب1:1-2) فأعمال المسيح هي إستعلان الآب ومشيئته من نحو الإنسان وذلك بتجديد طبيعة الإنسان، الآب يعمل بالإبن فهو ذراع الآب (أش9:51-10 + 10:52) لذلك يقول "جئت لأصنع مشيئة الذي أرسلني". فالآب يريد والإبن ينفذ إرادة الآب. وكان المسيح يقدم نفسه دائماً كمثل أعلى للإنسان الجديد الذي يسمع للآب ويطيعه. فالمسيح كان يطبع فينا صورته فنطيع الآب. وكلام المسيح هنا نفهم منه أننا عدنا للحالة الفردوسية الأولى حين كان الله يكلم أبوينا آدم وحواء. ألست تؤمن= فهناك إرتباط الإيمان والرؤية، فلا رؤية إلاّ بالإيمان. لست أتكلم به من نفسي= أي ليس كلام إنسان عادي كما ترونني أمامكم الآن. بل هو كلام الله الآب يعلنه فيَّ.
ثم يأتي الكلام عن الروح القدس، فمن ثماره الإيمان (غل22:5). وهو يعطي رؤية صحيحة عن المسيح فنؤمن به. لذلك قال الرب "خيرٌ لكم أن أنطلق.." (يو7:16). فرؤية المسيح بالجسد لم يستفيدوا منها كثيراً في معرفة المسيح (2كو16:5).

آية (11): "صدقوني أني في الآب والآب فيَّ وإلاّ فصدقوني لسبب الأعمال نفسها."
المسيح هنا يطلب أن يصدقوه وإن لم يصدقوا فإن أعماله تشهد له. إني في الآب والآب فيّ= هذه تعني أن الآب والإبن هما واحد وتعلن التساوي المطلق. لكن التمايز بينهما يعني أن لكل أقنوم عمله فالآب يريد والإبن ينفذ هذه الإرادة ويعلنها وهذا معنى الآية السابقة. وهذه الحقيقة نستنتجها من كلام المسيح عن إرسال الروح القدس فمرة يشير لأن الآب سيرسل لهم الروح القدس ومرة أخرى يقول أنه هو الذي سيرسل الروح القدس (يو26:14 + يو26:15) والآن إن لم يصدقوا المسيح فليصدقوه بسبب أن الأعمال التي يعملها تشهد بأن الآب فيه وهو العامل فيه. إن هدف المسيح هو أن يظهر محبة الآب لهم وأن الآب يشتاق أن يُسعِد البشرية، وأن هذه هي مشيئته أن يعود البشر للحياة مع الله وأن سعادة المسيح تتركز في توصيلنا للآب لنشترك في نفس الحب الذي به يحب الآب الإبن (يو25:17-26) وأعمال المسيح تنطق بحب الآب فهو يشفي المقعد ليعلن أن مشيئة الآب هي تصحيح ما فسد في طبيعتنا العتيقة. ويفتح أعين الأعمى ليعلن أن مشيئة الآب هي أن النور الإلهي يعمل في الطبيعة العتيقة. وهو يقيم من الأموات ليعلن أن إرادة الآب هي أن يعطينا حياة أبدية. صدقوني إني في الآب والآب فيّ= هذه طبيعتي أنني غير منفصل عن الآب. ولذلك فأنا الطريق إلى الآب. وهذه تحتاج لإيمان. وإن لم تفهموا هذا فصدقوني بسبب الأعمال= وهذه تحتاج لتصديق بالعقل.

آية (12): "الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فالأعمال التي أنا اعملها يعملها هو أيضاً ويعمل اعظم منها لأني ماض إلى أبي."
في الآيات (8-11) كان المسيح يركز على العلاقة بينه وبين الآب والآن ينتقل ليوضح هذه العلاقة بالنسبة للتلاميذ. فمن يؤمن بالمسيح (ومن يؤمن بالمسيح يؤمن بالآب حتماً) سيستطيع أن يعمل نفس الأعمال التي عملها الآب بالإبن (أف17:3-20) وذلك لتكمل الخدمة وتستمر الكنيسة في مواجهة إضطهاد العالم.
الحق الحق= إذاً الرب سيعلن حقيقة جديدة. وهي أن مفارقته لتلاميذه ستكون سبب قوة عظيمة لهم. والسبب أنه سيكون فيهم. وهو سيكون في مجد الآب. فسبب القوة التي ستكون فيهم هو المجد الذي سيكون المسيح فيه. المسيح رفع البشرية فيه. ومن يعطينا حياة المسيح فينا هو الروح القدس. ماضٍ إلى أبي= رفع للبشرية للسماء وإكمال الفداء وإرسال الروح القدس الذي يجدد طبيعتكم ويثبت حياتى فيكم ( 2كو 1: 21، 22)، فتصير اعضاءكم الات بر (رو6 ) استعملها انا لعمل الاعمال. ويعمل أعظم منها= فنازفة الدم شفيت بلمسها للمسيح أمّا بطرس فكان ظله يشفي المرضى (أع15:5) وبولس كانوا يأخذون المآزر من على جسده فتشفي الأمراض وتخرج الأرواح الشريرة (أع12:19). وأيضاً نحن لنا فكر المسيح (1كو16:2) فنحن نعمل أعماله ويكون لنا فكره، فهو زرع حياته فينا. وما نعمله هو بإسمه ولكن كان التلاميذ يصنعون هذه المعجزات بإسم المسيح أي بقوته (أع6:3) (فهم كطفل يمسك أبوه بيده فيرسم لوحة رائعة) لذلك فكل عمل نعمله هو بإسم المسيح. حتى صومنا وصلاتنا. وكان الناس يؤمنون بالتلاميذ وبالتالي يؤمنون بالمسيح لأني ماضٍ إلى أبي= أي لن يستطيع التلاميذ أن يفعلوا شيئاً إلاّ بعد أن يتم الفداء ويذهب المسيح إلى الآب ويرسل الروح القدس يعمل فيهم ويتمم إتحاد المسيح بتلاميذه وثباته فيهم. ويشفع فيهم أمام الآب فيواصلون عمله الذي بدأه على الأرض (أع1:1 + يو39:7). فأغصان الكرمة لا تأتي بثمر إلاّ إذا إتحدت بالكرمة إتحاداً قوياً. وأهم معجزة سيقوم بها التلاميذ هي إقامة الموتي بالخطايا، فيأتون بهم إلى حياة أبدية ولذلك آمن بعظة بطرس 3000نفس. أعمال التلاميذ كانت أعظم لكن كان المسيح هو العامل فيهم. عموماً العمل هدفه مجد الله. والتلاميذ ليغيروا شعوب وثنية إحتاجوا لأعمال أعظم. فما تحتاجه الكرازة يعمله المسيح في رسله. فكانت أكبر معجزة تغيير الأمم الوثنيين إلى المسيحية. وبهذا نفهم معنى آخر لقول الرب لأني ماضٍ إلى أبي= فلن أكون موجوداً بالجسد، وأنتم ستكملون العمل ونشر الإيمان، لكنني سأعطيكم حياتي وأرسل لكم الروح القدس.

آية (13): "ومهما سألتم باسمي فذلك افعله ليتمجد الآب بالابن."
مهما سألتم= أي صليتم. وهنا نرى أننا نطلب من الآب بإسم المسيح، والمسيح يعمل والروح القدس يعلمنا ماذا نطلب (يو5:15+ أف18:2+ رو26:8). والروح يعلمنا أن نطلب بحسب مشيئة الله ليستجيب لنا الله (1يو14:5). وحينما يستجيب لنا الآب حينما يعمل الإبن يتمجد الآب بالإبن= لأننا سنمجد الآب وهذا هو هدف الإبن. بإسمي= ليتمجد الله وليس لإرضاء الذات وشهواتها. لذلك يمكن أن تعملوا أعمال أعظم من أعمالي إذا طلبتم بإسمي لمجد الآب. والإسم ليس هو إسم الشخص، لكن هو قدراته وقوته، والمسيح بفدائه صار لنا قبول عند الآب. ولهذا يستجيب الآب لصلواتنا بإمكانيات دم المسيح. والأعمال التي نعملها حينئذ هي بقوة وقدرة المسيح القدير= بإسمي= ومازال المسيح هدفه أن يتمجد الآب، فكما مجده هو (يو4:17) يريد أن تلاميذه يكون هدفهم مجد الآب= ليتمجد الآب بالإبن= فالإبن سيعطي قوته للتلاميذ ليعملوا وينشروا الكرازة فيتمجد الآب وهذا هو هدف المسيح دائماً، أن يتمجد الآب. ألم يقل لنا جميعاً "لكي يرى الناس أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت16:5)

آية (14): "إن سألتم شيئاً باسمي فإني افعله."
إن سألتم = اعلان عن ارادتنا. وهذه يبدو أنها تكرار للآية السابقة ولكن هناك فرق. ففي آية (13) يشرح أن الآب يسر ويتمجد بسؤالنا وتنفيذ طلباتنا. أما في هذه الآية نرى أن المسيح يضع كل إمكانياته رهن سؤالنا، اليست حياته فينا، ومن يريد يسأل والمسيح يعطيه ان يعمل، فهو لايجبر احد على شئ. بإسمي= الإسم يعبر عن الشخص بكل قوته وكرامته. لذلك فهذه الآية تظهر إمكانيات المسيح الفائقة وتشير لمجد المسيح أيضاً. والدعاء بالإسم يصير هو إستدعاء ودخول للحضرة الإلهية. ولذلك ففي بدء القداس يقول الكاهن.. خين إفران إم إفيوت.. أي بإسم الآب والإبن والروح القدس. وهذا إستدعاء للثالوث ليحل ويقدس القرابين وينقل الموجودين إلى الحضرة الإلهية التي للثالوث القدوس وبهذا فإن المسيح أبقى على حضوره السري مع كنيسته في كل حين كلما إحتاجوه كمصدر قوة وعمل وعزاء. نحن نطلب الآن من الآب ليس فقط عن طريق علاقة الله بكل البشر صالحين وأشرار، بل بطريق جديد طهره المسيح بدمه. وهذا هو مصدر القوة الحقيقية وما يعطينا ثقة للسؤال. الآية السابقة يطلب فيها المسيح أن نعمل من أجل مجد الآب، وهو سيعطينا القوة في كل عمل نعمله. وفي هذه الآية يقول السيد المسيح.. أما عن حياتكم الشخصية فأنا مسئول عنها، وأطلبوا أي شيء وأنا سأعمله لكم. إذاً بضم الآيتين يصبح المعنى. أننا نعمل لمجد الآب والمسيح مسئول عنا ويعمل فينا بقوته. وفي كلا الأمرين فقوته= إسمه يعيننا.

الآيات (15-16): "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا اطلب من الآب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد."

المسيح هو الطريق للآب، لكن كيف نثبت في الطريق "إثبتوا فيَّ". الطريق هو بحفظ الوصية، فلا شركة للنور مع الظلمة. والروح القدس هو الذي يساعدنا على حفظ الوصية. وهنا نرى سبباً أخر لقول الرب "خيرٌ لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي" فالروح هو الذي يثبتنا في الطريق. في الآيات (12-14) يكلمنا المسيح عن الإيمان الذي به نسأل فيستجيب لنا. وهنا نسمع عن الحب. فالإيمان يُخْتَبَرْ بأن نسأل أسئلة ونطلب ان يكون لنا عمل لمجد اسمه، ومحبتنا تختبر بأن نحفظ الوصايا أي نطيع الوصايا. والسيد يعد بإرسال الروح القدس الذي يعيننا على حفظ الوصايا (رو26:8). الإيمان يأتي أولاً ثم الحب ومن يحب يطيع الوصايا والروح القدس هو الذي يعطينا الحب فنحفظ الوصايا. فالروح القدس يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5). فتتحول قلوبنا من قلوب حجرية إلى قلوب لحمية (حز19:11). والقلوب الحجرية هي الخالية من المحبة، أما القلوب اللحمية هي المملوءة محبة. ومن يحب يسعده أن ينفذ أوامر من يحبه، والروح القدس يعيننا على ذلك (رو26:8). وهذا معنى قول إرمياء (33:31). ومن يحفظ الوصايا يكرهه العالم، لذلك يعد المسيح بأن يُرْسِلً الروح المعزي ليعزينا إن أساء العالم لنا وليعلمنا الوصايا، ويشرحها لنا، ويكتبها في قلوبنا. هنا نجد معزٍ ماضٍ ومعزٍ آتٍ فقوله إحفظوا وصاياي هي وصية وداعية. معزٍ ماضٍ تعني أن المسيح بوجوده بصورة جسدية على الأرض، هذا سينتهي بصعوده لكنه موجود في الكنيسة دائماً بحسب وعده (مت20:28) والروح القدس يسميه المسيح هنا المعزي والكلمة تعني المحامي الذي يساند المتهم ويشفع فيه ويدافع ويحامي عنه حتى يحصل على البراءة، فيفرح الإنسان بالبراءة. وحفظ الوصية يبدأ بالتغصب لكن الروح يعزي فنفرح. والروح يظل يبكت ويعين حتى نتوب وبهذا نصير مقبولين لدى الآب. فيشهد لنا بقبول الله لنا وأننا أبناء ويعطينا الفرح فنصرخ يا آبا الآب (غل5:4-7). هذه هي الراحة التي يعطيها لنا الروح. والمعزي جاءت "المحامي الأعظم" باراكليتوس ولاحظ في آية (16) ظهور الثالوث (الآب) والإبن (آخر غيرى) والروح (معزياً) وأنا أطلب= هذه شفاعة المسيح عنا. فبشفاعته يرسل الآب الروح القدس ليلازمنا. أي من ثمار عمله الفدائي إرسال الروح القدس لنا. والروح القدس هو الذي يسكب الحب لله في قلوبنا ويعلمنا وصاياه ويذكرنا بها طوال اليوم ويبكتنا إن خالفنا وصايا الله ويعيننا على حفظها وبهذا نثبت في الطريق.
آية (17): "روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه وأما انتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم."
كما أن المسيح هو الحق كذلك الروح القدس هو حق. ولأن المسيح ماضٍ فهو يرسل الروح القدس لهم. وهو الحق الذي سينطق على أفواههم وفي قلوبهم ليسمعهم العالم كله. وهو روح الحق لأنه يرشد للحق، وهذا في مقابل روح الضلال الذي في العالم. الإبن كان يعلن الآب.. هذا هو الحق الذي يقوله المسيح ويعمله. والحق الذي يقوله ويعمله الروح القدس فيهم وبهم هو الإعلان عن الإبن وإستعلان الآب الذي في الإبن (1يو13:4-15). هو يرشدنا للمسيح الحق "يأخذ مما لي ويخبركم" (يو14:16) أي يعطينا رؤية حقيقية له. والحق= غير متغير بل ثابت. وإذا كان المسيح هو الحق. فروح الحق هو روح المسيح. فمن هو مملوء بالروح لا يتقلب ولا يتغير. لا تجده يوماً في فرح ويوماً آخر في حزن وهكذا لا يتغير بتغير الظروف. لا يستطيع العالم أن يقبله= فالروح القدس هو روح الحق، أما روح العالم فهو روح التزييف والضلال. وكما رفضوا المسيح وصلبوه وهو الحق (يو24:15-25 + لو25:17) هكذا رفضوا الروح القدس الذي ينطق على فم التلاميذ برفضهم للتلاميذ ورفضهم للروح القدس لأنهم يرفضون المسيح والروح يشهد للمسيح (يو21:15). والعكس فمن يقبل المسيح يرفض العالم (1يو15:2). يقصد بالعالم الذين أحبوا العالم فحملوا إسمه. الروح القدس لا يقبله العالم فهو يدعو للصلاة والزهد والتسبيح فنجد فرح حقيقي، أما العالم فيبحث عن الملذات الحسية لذلك لن يقبل من يدعوه إلى عكس ذلك. من احب الظلمة لا يطيق ان يفضحه النور. لا يراه ولا يعرفه= الروح القدس لا يُرى بالعين المجردة، ولكن يُرى بالعقل الروحي. والعالم ليس لديه هذه الإمكانية، فهو حق لا يُدركه من إنشغل بالعالم بل يُدركه من أعطاه الله وإنشغل بالحقائق الروحية والممارسات الروحية (عب14:5) لتصير له الحواس مدربة. وكل من يتوقف من المؤمنين عن الممارسات الروحية يتوقف فيهم مركز الإتصال بالله ويفقدوا حساسيتهم وتصبح معرفة الله غير واضحة لهم، وهذا يحدث لمن ينشغل بالمحسوسات. مثل هذا يصير إنساناً طبيعياً وهي الصفة الدنيا أي إنسان العالم (راجع 1كو11:2-16). فمن ينشغل بالروحيات ويقارن الروحيات بالروحيات يصلي ويقرأ كتابه المقدس ويتأمل فيه تصير له الحساسية الروحية وحواسه الروحية مفتوحة، يرى الحق ويمتلئ سلاماً وفرحاً وراحة. أمّا من ينشغل بالعالم لن يجد الراحة فالإنسان مخلوق على صورة الله ولن ترتاح الصورة إلاّ على أصلها. الحق عكس العالم الباطل، فالعالم متغير متبدل تافه، لا أمان له ومن يلصق نفسه به يصير مثله، أمّا الحق فلا يتغير ولا يتبدل. من يعيش وراء العالم سيعلو وينخفض معه كموج البحر ولا يهدأ إلى أن ييأس، أما من يعيش مع المسيح فسيجد الفرح (يو27:14+ 22:16). لا يستطيع أن يقبله= أي لا يستطيع أن يستقبله فليس له جهاز إستقبال الذي به يدرك الحق، هو اطفأ الروح لذلك فمراكز الوعي الروحي عنده معطلة، حواسه التي تعمل هي حواس الجسد الذي يدرك الملموسات، الشيطان أعمى العالم عن كل ما هو سماوي بأن فتح أعين العالم على كل ما هو أرضي ومادي وجسداني. إذاً مثل هذا لن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. بل إن من إنفتحت حواسه على العالم صارت ملذاته في العالم بل أصبح لا يحتاج لله وهذا يغلق جهاز الإستقبال تماماً. فالعالم لا يدرك سوى المحسوسات (2كو3:4-4 + أف1:2-5 + 1يو19:5-20). فالعالم مملوء شراً وأباطيل فكيف يعرف الحق والروح القدس هو روح الحق. هذا العالم لا يفهم الأمور الروحية. فالروح القدس لا يُعرف من الخارج بل من الداخل نشعر به وبعمله. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكث معكم= ماكث معهم الآن بمكوثهم مع المسيح. ويكون فيكم= حينما يرفع المسيح سيأتي الروح القدس ليقيم فيهم ويشترك معهم بل يعمل الأعمال التي سيعملونها. الروح القدس يقيم فينا ويدرب حواسنا فيفتحها ونكون هياكل له ويغير طبيعتنا ويقدسها ويجددها كأنه يخلقها من جديد. أنتم تعرفونه= أنتم الذي سيسكن الروح القدس فيكم ستعرفونه وتدركون عمله، فهو يبكت ويعلم ويذكر ويعطي كلمة حكمة في حينه ويعزي ويعطي فرح وسلام بل يفتح الأعين الداخلية على السماء (1كو10:2) ويعطي قوة وقت الإضطهاد. بل يغير طبيعتنا من طبيعة عتيقة إلى خليقة جديدة (2كو17:5)..الخ كل هذا ندركه داخلياً ونعرفه. كل ما يلاحظه العالم هو التغيرات التي تحدث في سلوكياتنا. ماكث= لن يفارقكم كما سأفارقكم أنا الآن بالجسد. الحق= هو وصف لله. فالآب حق (يو3:17) والمسيح حق (6:14). والروح القدس حق (هذه الآية) وهو يعلن حق الله ومجد الله وصدق ومحبة الله وشخص إبن الله ويرشد للحق.

آية (18): "لا أتترككم يتامى أني آتى إليكم."
لا يزال المسيح يعزي تلاميذه على الفراق بعد موته وقيامته ولكنه يعطيهم وعد بأنه سيظل حاضراً في كنيسته فهو رأس الكنيسة (مت20:28) ولكن ذهابه للآب ضروري لصالحهم. والروح القدس يكشف لنا عن عمل المسيح ووجوده في كنيسته وعمله لي شخصياً (غل20:2) لا أترككم يتامى= إشارة لموته. فهم سيشعرون باليتم إذ يفارقهم السيد، لكن الروح القدس عمله التعزية. إني آتي إليكم= إشارة لقيامته.

آية (19): "بعد قليل لا يراني العالم أيضاً وأما انتم فترونني أني أنا حي فانتم ستحيون."
لا يراني العالم= يقصد بالجسد. فالعالم لم يكن يدركه إلاّ كإنسان وبموته لن يعودوا يرونه. أمّا أنتم فترونني= ترونني هنا تفيد الرؤيا اليقينية. أي يرونه بالرؤية الروحية التي يعطيها الروح القدس للمؤمنين. وبالإضافة لذلك فهم رأوه فعلاً بعد القيامة. إني أنا حي= المسيح يشير لقوة القيامة التي فيه وكأن الموت سيعبر به عبوراً وكأنه لم يكن. هو حي وبعد القيامة والصعود سيظل مع الآب في المجد. وكل من يؤمن بالمسيح تكون له حياة= فأنتم ستحيون= حياة المحبة والإيمان والرجاء على الأرض وحياة المجد في الأبدية. أنا حي فأنتم ستحيون= فالمسيح يعطينا حياته (في23:1+ غل20:2). الحياة التي فيه ستنتقل لنا.

آية (20): "في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي وانتم في وأنا فيكم."
هو سبق وقال في الآية السابقة "ترونني" أي الروح القدس يستعلن المسيح، بل سنعرف طبيعة المسيح وأنه في أبيه وأننا فيه وهو فينا سر حياتنا. هنا نرى كيفية إمتداد حياته إلى تلاميذه وأن ذلك يكون بالروح. في ذلك اليوم= يوم الخمسين، يوم حلّ الروح القدس روح المعرفة والفهم= تعلمون. والروح القدس يشهد للمسيح أنه إبن الله (يو30:20-31) وهو يستعلن علاقتنا بالمسيح وبأننا صرنا ورثة (رو14:8-17). إني أنا في أبي= يشير للوحدة القائمة بين الآب والإبن، وحدة الطبيعة أو الجوهر، وجوهر الله ألوهيته. هذه الحقيقة لا يفهمها التلاميذ الآن، لأنهم يرون المسيح كإنسان. فالآب والإبن هما بالطبيعة متحدان ليكونا الذات الإلهية الواحدة.. الله. لهما المشيئة الواحدة. الروح القدس يشهد لنا بهذه الحقيقة. ما لستم تدركونه من علاقتي بالآب سيشرحها لكم الروح القدس. فالروح يعطي إنفتاح للذهن. أنتم فيّ وأنا فيكم= المتكلم هنا هو المسيح إبن الله المتجسد، الذي إتحد بالطبيعة البشرية، وصارت الكنيسة جسده. وقوله أنا فيكم أي حياتي صارت فيكم وأنتم فيّ أي طبيعتكم صارت فيّ. وصرتم أعضاء جسدي. وهذا هو ما فتح لنا المجال لنطالب بحق هذا التجسد. وهذا الحق هو الشركة معه أو فيه أو في حياته، ويكون له هو الشركة في حياتنا. وهذا معنى قوله "أنا أمضي لأعد لكم مكاناً" (2:14) أي يدخل جسد بشريتنا الذي فيه للمجد، فيكون لنا إمكانية أن ندخل نحن أيضاً. هي حالة إتحاد. ولكن هناك فرق شاسع بين قوله أنا في أبي.. فهنا إتحاد على أساس وحدة الطبيعة أي الجوهر الإلهي، وبين قوله أنا فيكم.. الأولى أنا في أبي تعني أنهما ذات واحدة ولكن أنا فيكم لا يوحد الذات ولا يرفع الفوارق بل يعطي حقوقاً مجاناً ويُعبَّر عنه بمفهوم الشركة في حياة المسيح (في9:3) أوجد فيه + (غل20:2 + يو56:6-57) وأنا فيكم= ولأن حياة المسيح أبدية "ولا يسود عليه الموت بعد" (رو9:6). فنحن حين نموت جسدياً سنقوم فهو أعطانا حياة أبدية. وهذه مثل "يحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف17:3). هذه الشركة معه لن تبلغ مداها إلاّ في الحياة الأخرى، ولكنها تبدأ تتحقق منذ الآن جزئياً على مستوى الإستعلان بواسطة الروح القدس وبتقديس الروح أيضاً وبالتغيير والتجديد المتواصل. بخلع الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد الذي يتجدد بحسب صورة خالقه. وعلى أساس الإتفاق الكامل في العمل والمشيئة مع الروح القدس لتكميل الحياة المسيحية. ومن له شركة مع المسيح بالروح سيدرك حقيقة المسيح المنيرة وصورته تصبح لا تفارق النفس الواعية بوجوده، وهذا يملأ النفس فرحاً وسلاماً حقيقياً.
أنتم فيّ أنا فيكم= هذه شركة بيننا وبينه، هي شركة فيها يعطينا حياته ويعطينا أن يشترك معنا في كل عمل وهو يعمل الاعمال فينا، ويعطينا قداسة، وسلطان على إبليس وعلى الخطية وبهذا يصير لنا سلطان أن نكون أولاد الله.

آية (21): "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني والذي يحبني يحبه أبي وأنا احبه واظهر له ذاتي."
من يحب احد تصبح وصايا وطلبات المحبوب هي اوامر لمن يحب. وحب الله يسكبه فينا الروح القدس رو 5:5 فيطبع في قلوبنا وصايا المسيح. لذلك فدليل محبتنا للمسيح هو طاعة وصاياه، وبالتالى يثبت فيَ فلا شركة للنور مع الظلمة. ومن هو ثابت ومتحد مع الابن فالآب يحبه، لأن الآب يحب الابن ويحب من هو متحد وثابت في ابنه
الذي عنده= الذي قد سطرها في قلبه وأطاعها فالطاعة علامة المحبة. ووصايا المسيح هي محبة الكل وخدمة الكل وغسل أرجلهم خصوصاً من قال عنهم إخوته. وحمل الصليب وترك محبة العالم والصلاة بدون ملل لينسكب الروح. وتكريم المسيح يكون بحفظ وطاعة وإحترام كلمته وكل وصية قالها.
أبي= هو أب خاص لي. يحبه أبي= "أكرم الذين يكرمونني.." (1صم30:2). ومن يُكرِمْ المسيح بحفظ وصيته يُكرِمْ الآب. ومن يحب المسيح يؤهل ليكون محبوباً من الآب. فلا ثبات في المسيح بدون محبة، ومن يثبت في المسيح الإبن ينعم بحب الآب له. فبالحب الذي يحبني أبي به، يحب به الآب من يحبني. فالمسيح هو الحامل لإسمه والآب في الإبن. وأنا أحبه= حب الآب هو حب أبوي يدخلنا لميراث البنين وحب الإبن هو حب العريس لعروسه. وأظهر له ذاتي هو ظهور فائق لمظاهر المادة والعالم، هو ظهور لا تدركه سوى الحواس الروحية فهو اعلان من الروح القدس الذى يعطينا رؤية حقيقية للمسيح. وتزداد الرؤية وضوحا لمن يمتلئ من الروح القدس . والروح يملأ من يثبت في المسيح. وحفظ الوصايا شرط للامتلاء، فمن يصر على خطاياه فهو يقاوم الروح فينطفئ داخله فيفقد الرؤية. لذلك فهذه المعرفة هي معرفة داخلية للمسيح يعرفها من يحفظ الوصايا أي يحب المسيح. هذه إنارة خاصة من المسيح. هي حالة روحية متقدمة نرى فيها مجد الدهر الآتي. والمسيح يظهر ذاته بحسب إحتياج كل واحد (وهذا يتضح من رسائل سفر الرؤيا السبع) فالمسيح كان يظهر لكل كنيسة بصورة تتناسب مع إحتياجاتها. إذاً لن يدرك المسيح ويراه بعينه الروحية ويستمتع بنوره سوى من يطيع الوصية ويوحنا كرر هذه الآية في رسالته (1يو21:4) لنا هذه الوصية منه أن من يحب الله يحب أخاه أيضاً". معرفة المسيح لها لذة خاصة تجعل من يشعر بها يحتقر كل ملذات العالم.

آية (22): "قال له يهوذا ليس الاسخريوطي يا سيد ماذا حدث حتى انك مزمع أن تظهر ذاتك لنا وليس للعالم."
لم يفهم يهوذا أن الظهور الذي يقصده الرب هو ظهور روحي. فيهوذا كان يتوقع أن يملك المسيح على أورشليم ملكاً مادياً. فالمسيح يتكلم عن السموات ويهوذا يفكر في الأرض. الرب يعلن ألوهيته ويهوذا ينظر للجسد. يهوذا هو لباوس أو تداوس كاتب رسالة يهوذا وهو أخو يعقوب كاتب الرسالة.


آية (23): "أجاب يسوع وقال له إن احبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً."
المسيح يشرح ليهوذا أنه سيظهر لتلاميذه وسيرونه ولكن ليس بالجسد كما يفهم هو، ولن يراه سوى من يحبه ويحفظ وصاياه. هنا المسيح يرفع فكر يهوذا للاهوته فقوله إليه نأتي= أي أنا والآب فنحن واحد، وهذه إشارة لوحدانيته مع الآب. ولاحظ أنه سبق وقال إن الروح ماكث معكم ويكون فيكم. فلا إنفصال بين الأقانيم. ومعنى كلام الرب إن أردتني أن أظهر لك فأعمل ما يحبه الآب.
عنده نصنع منزلاً= (هذه مثل رؤ20:3+ لو21:17+ إش15:57) فالله يسكن عند المنسحق. والخطية هي نوع من الكبرياء فمن أظن نفسي حتى أخالف أوامر الله. وإذا أطعنا فالآب يكون معنا يسكب حبه الأبوي فنستمتع بالبنوة لله. نصنع منزلاً= الله هو الذي يصنع منزلاً عند من يطيع الوصية، فيسمح لله بأن يصنع المنزل. وعدم طاعة الوصية يعطل الله عن إقامة المنزل فالخطية تمنع عمل الله والخطية تنشأ من عدم المحبة. والمسيح يكون كقائد ومخلص والروح القدس للتعليم والشهادة والدفاع عن الإيمان. وهذا تنازل من الله أن يسكن عندنا الآن هنا على الأرض ويشترك معنا في ضيق الحياة وتنازل منه أيضاً أن نسكن نحن معه في منازل في السماء (2كو16:6). وفي الحالتين لنا مجد معد على الأرض أو في السماء. من يستضيف الله على الأرض يستضيفه الله في السماء. والإنسان يعجز عن أن يصنع منزلاً لله، ولكن من يطيع الله تاركاً الخطية يصنع الله عنده منزلاً يرتاح فيه هنا على الأرض، ويعطيه منزل في السماء. وإذا صنع الله عندي منزلاً فبهذا أراه وبهذا يظهر ذاته لي، وهذه هي الإجابة على سؤال يهوذا (آية22). وقطعاً هي رؤية داخلية وليست بالعين الجسدية. ومن يصنع الله عنده منزلاً على الأرض يشبع بالله= يتعشى معه. ويتعشى مع الله في السماء (رؤ20:3) وكلاهما شبع. على الأرض عربون الشبع في السماء.
آية (24): "الذي لا يحبني لا يحفظ كلامي والكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني."
الذي لا يحبني= من إنجرف في تيار محبة العالم يتنكر لله وكلماته= لا يحفظ كلامي (يع4:4) الحب يترجم إلى طاعة للوصية. فأي موافقة لهيكل الله مع الأوثان (2كو16:6). هذه إجابة على سؤال يهوذا "لماذا لن يظهر نفسه للعالم" فالعالم لا يحبه. ليس لي بل للآب= فالمسيح يستعلن الآب ويستعلن الوحدة الذاتية مع الآب. ورفع مستوى الكلام الذي يتكلم به إلى مستوى الرسالة الإلهية. فمن لا يحفظ أقواله فهو لا يحب الله الآب. يهوذا سأل السيد لماذا يراك البعض ولا يراك البعض الآخر. وكانت الإجابة أن من يسمع كلامي يراني، وهذه أهمية دراسة الكتاب المقدس.

آية (25): "بهذا كلمتكم وأنا عندكم."
هنا المسيح يشرح أنه في الوقت الحاضر طالما هو موجود بالجسد فهو يعلم ويتكلم بشخصه، وعلى قدر فهمهم الآن. ويودع كلامه أمانة عندهم إلى أن يأتي الروح القدس فيعلمهم كل شيء ويذكرهم بكل ما قاله السيد المسيح.

آية (26): "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم."
هنا المسيح يشرح أنه بعد إنطلاقه يكون الروح القدس هو العامل في هذه المعلنات، وهو الذي يعلم ويذكر بكل ما قاله المسيح. وما كتبه يوحنا بالذات في هذه الإصحاحات يشير فعلاً أن الروح القدس هو الذي ذكره بكل كلمة، فكيف يذكر يوحنا تفاصيل هذا الكلام بكل دقة لمدة 60سنة بل هذا الكلام سمعه يوحنا وهو في قمة التعب والألم (2بط21:1). وهذا معنى قول بولس الرسول "أما نحن فلنا فكر المسيح (1كو16:2) فالروح القدس يرفع فكرنا ويعلمنا ويذكرنا. فالروح الذي يفحص كل شيء حتى أعماق الله (1كو10:2) قادر أن يكشف لنا حتى أعماق الله. ولكن هل نجلس في هدوء لنتعلم. ونلاحظ أنه حين أخطأ الإنسان فارقه روح الرب (تك3:6) وبالفداء يعود الروح القدس للإنسان ليعطيه قوة القداسة مرة أخرى. ولم يكن هذا ممكناً أي أن يأتي الروح القدس قبل أن يتم الفداء لذلك قال المسيح خيرٌ لكم أن أنطلق (7:16-14). وهذا خيرٌ لنا أن يكون الروح في داخلنا كل وقت ليعلمنا ويذكرنا حين نحتاج. يذكركم= إذ يخطئ الإنسان أو يفكر في أن يخطئ يذكره الروح القدس بأنه سيخالف وصية المسيح ويذكره بالوصية. وفي كل موقف حرج يذكرنا بكلمات المسيح لنرد على ملوك وولاة. المعزي= أصل الكلمة الباراقليط وأتت هذه الكلمة 5مرات في العهد الجديد. ترجمت 4مرات بالمعزي (16:14-26 + 26:15 + 7:16) وكلها في إنجيل يوحنا. وجاءت مرة واحدة في (1يو1:2) عن المسيح وترجمت شفيع. ونلاحظ أنها في المرات الأربعة الأولى جاءت عن الروح القدس. ولكن المعنى واحد. وتشير الكلمة إلى من يدافع عنا في المحاكم أمام القضاء ولها معاني الشفيع والمعين والمشجع الذي يقف بجوار الضعيف ليسانده فيكون بمساندته له معزياً مشعراً إياه بالأمان وتعنى الحاضر للمعونة (بارا وملازم ومجاور ومنها parallel). وفي آية (16) سمعنا ان المسيح سيرسل الروح القدس معزياً آخر لأنه كان في حالة تجسده هو المعزي لهم والمدافع عنهم وفي السماء شفيعنا بفدائه والروح القدس شفيعنا في هذا العالم بعمله الخفي فينا ليجعلنا مقبولين امام الله، بل هو يعلمنا ماذا نقول في الصلاة (رو26:8-27). والروح يعلمنا كل شيء يخص المسيح (مجده وعظمته ومحبته وطبيعته).وراجع (يو14:16) وإلاّ كيف دافعت الكنيسة عن الإيمان الصحيح ضد الهراطقة. بإسمي= أي بسبب يسوع وعمله وبحضوره وبواسطته. هو سيغيب جسدياً لكن هو حاضر بشخصه. والإسم يعلن كل قوة الإبن وطبيعته وقوته وعمله ومشيئته فكل هذا متضمن في الإسم. والآب سيرسله بشفاعة المسيح وفداء الإبن حتى صعوده للسماء. وقوله بإسمي يشير لقوة وقدرة عمل المسيح الفدائي الذي أدى أن يرسل الروح القدس للإنسان، وهذا شرحه الله في أن مذبح المحرقة ومذبح البخور كان لهما قرون والقرن رمز للقوة. يرسله= جاءت في صيغة المستقبل الدائم فالروح القدس سيرسله الآب للكنيسة كل الأيام. وهو الروح القدس= لأنه يقدس الكنيسة اى يكرسها لله ويهيأها كعروس للمسيح. فتكون مقبولة أمام الآب وهذا معنى شفاعته. في ص(16) نرى الروح يبكت فنتوب. وفي هذه الآية نراه يعلم ويذكر. وفي ص(16) نراه يأخذ مما للمسيح ويخبرنا فيكون لنا رؤية صحيحة عن المسيح فنحبه. ولو وصلنا لدرجة الحب يكشف لنا الروح عن أمجاد السماء كما في لغز (1كو9:2-12 + 1كو12:13). وكتشبيه لهذه المحبة الفائقة المعرفة (أف19:13). فلو هناك رجل غني عنده قصر جميل محصن. فلا وسيلة لكي نرى ما في القصر سوى الدخول مع صاحبه في علاقة صداقة وحب. وهذا هو دور الروح القدس.

آية (27): "سلاماً اترك لكم سلامي أعطيكم ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب."
سلاماً= هذا عهد بين المسيح وكنيسته. سلامي= هي عطية المسيح، هبة من المسيح ووعد منه وهو يودع تلاميذه. سلام= إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله (رو1:5) والله يعطي سلاماً يفوق كل عقل (في7:4) ولكن شرطه البر أي يدخله في الهدوء والسكينة الإلهية وطمأنينة وراحة وسط ضيقات العالم، راحة تتفوق على الإضطراب (2كو8:4). وهو سلام يرفعنا فوق ذواتنا ويسكن في قلوبنا ويملك عليها (كو15:3) فيوقف إضطرابها. إذاً مجال سلام الله في القلب والعقل. القلب منبع والعقل مصب. أترك لكم= هو الآن منطلق ويترك لهم السلام كميراث. أعطيكم= هو أيضاً هبة. ويتلازم السلام والفرح في وعود المسيح للمؤمنين كعربون لما سنتذوقه في الحياة الأبدية، وهما علامة الثبات في المسيح. لذلك فجهادنا الآن أن نثبت في المسيح (يو4:15) وعلامة الثبات السلام والفرح. فسلام المسيح مرتبط بالثبات في شخصه. ليس كما يعطي العالم= ماذا يعطي العالم؟ مال/ مناصب/ جاه/ مباهج وملذات زائفة وزائلة. وهذه كان تلاميذه ينتظرونها إذ كانوا يتصورون أنه سيملك ملكاً زمنياً ويكونون هم حاشيته. ولكن عطايا العالم إن أعطى فهي تدوم إلى زمن وسريعاً ما يذهب كل شيء ولكن عطية المسيح تملأ القلب وتمتد للأبدية وهي ثابتة. الإنسان العالمي إذ تقابله مشكلة [1] يهرب منها مثلاً بالنوم أو التليفزيون أو الإدمان [2] يؤجل الإنسان مشكلته ويظل يؤجل بلا نهاية [3] تنازل مقابل شيء أحصل عليه. وكل هذا لا يعطي سلام. أما سلام المسيح فهو باقي غير متغير وينمو. لا تضطرب قلوبكم= سيقابلكم الآن وبعد ذلك ضيقات كثيرة ولكن لا تخافوا فسأعطيكم سلاماً يملأ قلوبكم كعطية فائقة. بل أعطى المسيح تلاميذه أن يهبوا السلام للآخرين، وهذه قوَّة فعالة روحية تخرج مع النطق لتسكن الفكر والقلب وإذا لم تجد لها مكاناً في الآخرين تعود مرة أخرى إلى ناطقها (لو5:10-6). وهذا ما يصنعه الكاهن حينما يصلي قائلاً "السلام لكم" إيريني باسي. وفي نهاية كل إجتماع أو صلاة يقول "إذهبوا بسلام سلام الرب مع جميعكم" فهو بداية ونهاية كل صلاة (والشعب يرد على الكاهن ومع روحك أيضاً). نبدأ الصلاة بالسلام لنشترك في الصلاة بأذهان صاحية، وننهي به الصلاة كأننا نستودع السلام كعطية في قلوب الشعب قبل أن ينصرفوا. لكن من هو منفصل عن الله يحيا بلا سلام في حياته. لا تضطرب قلوبكم= هي نفس العبارة التي بدأ بها الإصحاح. لكن هي تعني هنا أن بالسلام الذي أعطيه لكم لن تضطرب قلوبكم.
ولأن السلام عطية المسيح وسط هذا العالم المضطرب نقول "يا ملك السلام".

آية (28): "سمعتم أني قلت لكم أنا اذهب ثم آتى إليكم لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت امضي إلى الآب لأن أبي اعظم مني."
سمعتم أني قلت لكم أنا أذهب= فلا تضطرب قلوبكم لهذا السماع. هنا المسيح يعزي تلاميذه عن فراقه لهم بالموت ويشرح لهم أن الموت هو الطريق الوحيد للخلود حاملاً معه كنيسته، وهو سيذهب لكنه سيأتي ليأخذهم معه. فالنتائج التي سيحصلون عليها هي أعظم مماّ لو بقى معهم، بل هو سيرسل لهم الروح القدس الذي يشرح لهم ويعلمهم ويذكرهم بكل شيء ويكشف لهم حقيقة المسيح، فكيف لا يفرحون بذهابه، فهو سيتمجد لحساب الكنيسة (لو26:24) وهم يكسبون مكاسب عظيمة (عب12:9، 24 + عب24:7-25 + 1يو1:2 + يو2:14-3، 16-18، 26 + رو16:8، 27). إذاً هم سيفرحون بأن المسيح بجسده سيكون له نفس مجد الآب. وهذا سيعود بالبركة على تلاميذه. أبي أعظم مني= يقولها المسيح وقد أخلى ذاته وصار إنساناً تحت الآلام. فالآب والإبن واحد في الطبيعة وفي الجوهر ومقامهما واحد. وحين يأخذ الإبن صورة المجد لا يقال هذا. فإن الآب في مجده فهو أعظم من حالة الإبن حال تجسده، والعبيد يهينونه بل هو قادم على موت شنيع وملعون. ويكون المقصود أن الصورة السماوية هي أعظم من الصورة الأرضية المتواضعة.
آية (29): "وقلت لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون."
المسيح يخبر تلاميذه بكل ما سيحدث من موت وقيامة وصعود وإرسال للروح القدس، حتى حينما يتم ذلك يزداد إيمانهم به. الآن= وأنا على وشك الرحيل.
آية (30): "لا أتكلم أيضاً معكم كثيراً لأن رئيس هذا العالم يأتي وليس له في شيء."
كثيراً= المسيح يعرف أن الساعة أتت ولا وقت للكلام الكثير، لقد إنتهى وقت التعليم بالكرازة وأتى وقت العمل بالفداء. أتى وقت الصراع مع رئيس هذا العالم الذي سيأتي بعد دقائق مع كل من حركهم ضده ليهجم عليه بأكبر وأشرس هجمة. رئيس هذا العالم= (لو5:4-6) نجد فيه نفس المفهوم، وأسماه بولس الرسول إله هذا الدهر (2كو3:4-4) أي إله هذا الزمان أو العالم (راجع أيضاً أف12:6) والشيطان قوي وقوته في القتل وفي خطايا هذا العلم يتاجر بها، أما مسيحنا فقوته في الحياة. الشيطان قوته في الكذب والغش والمسيح قوته في الحق (يو31:12 + مت29:12 + أع18:26 + أف12:6). ليس له فيّ شئ= كل إنسان خاطئ، للشيطان فيه شيء هو الخطايا التي أعطى له أن يعملها، لذلك يطالب بموته ثمناً للخطية. ولكن المسيح يقدم نفسه بإرادته ثمناً لخطايا غيره (يو46:8) "من منكم يبكتني على خطية". وكل من هو ثابت في المسيح يستطيع أن يقول "الشيطان ليس له فيّ شئ". ومن يقبل من يد الشيطان خطايا يصبح مديونا له. فيأتى الشيطان لحظة مفارقة الروح للجسد ويطالب بالثمن، ألا وهو نفوسنا يأخذها معه للجحيم. لكن المسيح لحظة موته إذ هو بلا خطية قبض هو عليه وقيده بسلسلة ( رؤ20: 1،2 ). ومن هو ثابت في المسيح الان حين تأتيه هذه الساعة، تأتى له أم النور ( صلاة الغروب ) وتحمل نفسه الملائكة الى السماء.

آية (31): "ولكن ليفهم العالم أني احب الآب وكما أوصاني الآب هكذا افعل قوموا ننطلق من ههنا."
مع أنني لست من العالم والشيطان ليس له فيّ شيء لكنني لأجل محبتي للآب وطاعتي له ومحبتي لكم أسلم نفسي للموت، وسمحت للشيطان أن يأتي عليّ. ويرى الناس طاعتي هذه فيعرفون محبتي للآب، فالطاعة علامة المحبة. لذلك فمن أجل أن إرادة الآب هي خلاص البشر من سلطان إبليس، فمن أجل تحقيق خطة الآب سمح السيد المسيح لإبليس أن يدخل معه في معركة كأنه إنسان عادي، يأتي إبليس ليقبض على روحه. لكن المسيح الذي بلا خطية لم يستطع إبليس معه شيئاً بل قبض هو على إبليس وقيده وأشهره جهاراً. ولاحظ أن المسيح قدم نفسه للموت بإرادته وليس للموت سلطان عليه. هو لم يمت مغلوباً من ضعف، فهو له سلطان الحياة.
إني أحب الآب:
وقيل "الآب يحب الإبن" (يو20:5). وقيل عن الإبن أنه المحبوب (أف6:1). فهي إذاً محبة متبادلة. ولكن هذا الكلام لا يفهم على المستوى البشري، أي كما يحب إنسان إنساناً آخر. بل هو تعبير عن الوحدة بين الآب والإبن، ولكن بلغة المحبة التي هي طبيعة الله، فالله محبة (1يو8:4)
وتعبير الله محبة يعنى أن الله نبع محبة، تنبع منه المحبة. فقولنا الآب يحب الإبن هذا يساوي الآب في الإبن. وقولنا الإبن يحب الآب فهذا يساوي الإبن في الآب. فالمحبة التي تنبع من الآب تصب في الإبن، والمحبة التي من الإبن تصب في الآب.
وكما أوصاني الآب هكذا أفعل:
دليل المحبة هو الطاعة. والمسيح دليل طاعته أنه أطاع حتى الموت، موت الصليب (في8:2). ولكن مرة أخرى، فالمعنى ليس مباشر هكذا. لكن لأن الآب والإبن واحد (يو30:10). ومشيئتهما واحدة. إذاً هناك إتفاق أزلي على أن يقوم الإبن بعمله الفدائي. وقوله أوصاني الآب يعني أن الآب يريد وأنا أنفذ. فالآب يريد والإبن والروح القدس هما أقنومي التنفيذ. وبهذا تكون طاعة المسيح للآب علامة وحدة بينه وبين الآب.
قوموا ننطلق من ههنا:
حين تأتي مباشرة بعد كما أوصاني الآب هكذا أفعل فهي تشير لشدة إشتياق المسيح لتنفيذ إرادة الآب، ولشدة إشتياقه هو أيضاً في تنفيذ الفداء ليخلص البشر. راجع (إش2:27-5) لترى شوق المسيح لفداء البشر.
قوموا ننطلق من ههنا= هو كان يعلم أن أعداؤه إستعدوا له، فلم ينتظر أن يأتي إليه الموت، بل قام هو ذاهباً إليه في شجاعة وبمحض إرادته. قوله هذا يعني هيا نواجه الصليب. أليس عمله أن يعلن حب الآب وينفذ وصيته فهو يخرج طواعية وبمحض إرادته ليواجه الصليب والموت. بل قولهُ هذا لتلاميذه يعني أنكم ستتبعونني يوماً إلى الصليب فلا تهابوا. هذا القول هو تعليق على أنه ينفذ وصية الآب= كما أوصاني الآب. وهذه العبارة تعني غالباً أنهم خرجوا من العلية حيث غسل أقدامهم وقدّم لهم جسده ودمه في العشاء السري. وغالباً إنطلقوا إلى الهيكل حيث فاه السيد بتعاليمه الواردة في (ص15-16) وبعد ذلك صلّى صلاته الشفاعية (ص17) وبعد ذلك نسمع أنه خرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون (1:18) ووادي قدرون هذا هو وادي يفصل بين الهيكل وجبل الزيتون حيث بستان جثسيماني. وهناك من يقول أن تعاليم (ص15-16) كانت في الطريق. والصلاة (ص17) في الهيكل. والآية الأولى في (ص15) يحدثهم فيها المسيح أنه هو الكرمة الحقيقية ويقول المفسرون أن المسيح رأى كرمة في الطريق فأشار لها وقال أنا هو الكرمة الحقيقية. أمّا أصحاب الرأي الأول الذين يقولون أن تعاليم (ص15-16) كانت في الهيكل فيقولون أن الكرمة المقصودة هي كرمة ذهبية مجسمة على أبواب الهيكل (فالكرمة كانت ترمز لإسرائيل). عموماً فالمقصود إستعارة من واقع ما يرونه بعيونهم. والمسيح يستعمل ما نراه بعيوننا ليحدثنا عن طريقه (مثل الزارع والصياد والحقول..) والمسيح إختار الكرمة لأنهم منذ دقائق شربوا من عصير الكرمة أي دم المسيح الذي يعطيهم حياة فيكونوا أعضاء حية في كرمة المسيح. والكرمة قيلت أولاً عن إسرائيل ولكن قيل أنها أعطت ثمراً رديئاً (أر21:2-22+ أش1:5-2+ مز8:80-19+ مت23:21-46). وكل تطهيرات الناموس لن تفيد في تطهيرها ثانية فكان لابد أن تقطع ويغرس الله كرمة أخرى جديدة هي جسد المسيح السري فنحن أعضاؤه من لحمه ومن عظامه. ونحن نولد بالمعمودية لنكون أغصان في الكرمة وعصيرها أي دمه يسري فينا وحينما نحفظ الوصايا نثبت في الكرمة.
الإصحاح الخامس عشر:

آية (1): "أنا الكرمة الحقيقية وأبي الكرام."
إبتداء من هذا الإصحاح يتكلم المسيح وحده والتلاميذ يسمعون. الكرمة الحقيقية= هذه في مقابل الكرمة التي لم تثبت وهي إسرائيل (مز8:80-13+ أش1:5-7). والكرمة هي تعبير عن الكنيسة جسد المسيح (أش2:27-5). وحقيقية تعنى لغويا الثابتة التي لاتتغير و لا تفسد ولا تزول. لكن إسرائيل ليست حقيقية لأنها فسدت وإنتهت وتشبيه الكنيسة بالكرمة، فالكرمة تعطي الخمر رمز الفرح والكنيسة بثمرها تفرح الله. والمسيح تجسد ليوحدنا فيه ليقدمنا للآب كجسده الحى وهذا ما يفرح الآب صاحب الكرمة = الكرام
المسيح هنا يتحدث عن إتحاده بتلاميذه وكنيسته وأنه كإتحاد الكرمة بالأغصان. فهو إتحاد وثيق، فالإبن صار يحمل المؤمنين الذين ثبتوا فيه يعطيهم جسده ودمه طعاماً وشراباً كعصارة تجعل الكرمة حية. ورفع عنهم خطاياهم التي كانت سببا في موتهم الذى احزن قلب الآب، فجاء الابن ليعيد لهم الحياة و ليقدمهم لله الآب الكرام ليفرح بهم. هذه الكرمة قال عنها داود.. (مز14:80-19) (نبوة ربطت بين الكرمة وإصلاحها والإبن) وقال عنها بولس الرسول.. (أف17:1-23) فالله الآب هو الذي يدعونا لمعرفته وإلى ميراثه وقدرته وقوته وهو الذي أقام المسيح رأساً لهذه الكرمة وهو يثبت الأعضاء حسب عمل شدة قوته في المسيح (يو12:17+ يو37:6، 44). والعمل قطعاً هو عمل مشترك بين الآب والإبن (يو4:17). فهنا الإنسان يتحد بالمسيح بسر إلهي ليصير عضواً حياً في المسيح على مستوى الغصن في الكرمة. والآب هو الذي أرسل إبنه ليكون سبب حياة للمؤمنين= أبي الكرام= المسيح بسبب إنسانيته إتحد بالكرمة أما الآب فهو متميز عنها. الآب هو حارس هذا الإتحاد والثبوت فهو الذي يريده ليكون هناك حياة للكنيسة الكرمة. وهذه الكرمة حقيقية لها صفة البقاء والخلود وعدم التغيير والفساد كما حدث للكرمة اليهودية. هذه الكرمة الجديدة (الكنيسة) بدأت بغصن (المسيح) (أش1:11) ويتفرع منه أغصان كثيرة (المؤمنين المعمدين) ليكونوا الكرمة.
آية (2): "كل غصن في لا يأتي بثمر ينزعه وكل ما يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمر أكثر."
الثمار هي الإيمان والرجاء والمحبة والشهادة للمسيح وثمار الروح القدس فينا (غل22:5-23) وأعمال حسنة تمجد الله وتنفع الآخرين. والآب ينزع الغصن عديم الثمر (أش1:5-6). فالآب يطلب الثمر وعلى أساس الثمر يتعامل مع الأغصان. وهو ينزع الغصن عديم الثمر لأنه يعطل نمو الكرمة فهو يأخذ من عصير الكرمة دون فائدة بل يحرم الغصن المثمر. وما يأتي بثمر ينقيه على المستوى الروحي من كل نجاسة وشهوة بالتجارب. فالتنقية تأديب. أو ينقيه بالكلمة فهي سيف ذو حدين. وهذا ما نراه في شوكة بولس الرسول. إذاً فالله لا يريد ثمراً وكفى بل يريد ثمر كثير. كل غضن فيّ= فلا يمكن فصل المؤمنين عن المسيح (أف30:5). بل إن شرط حياتنا هو إتحادنا بالمسيح. وطاعة الوصية تثبتنا في الكرمة فنستمر احياء.
آية (3): "أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به."
حتى لا يتساءل التلاميذ هل نحن من الأغصان التي تقطع أو التي تنقى قال لهم الرب= أنتم الآن أنقياء= أي أن المسيح يراهم مثمرين، فهو أتم عمله معهم بتعاليمه وكلمته الحية الفاحصة والبانية والمبكتة والمعزية والتي تستعلن الحق الإلهي. وهذا الكلام قيل بعد خروج يهوذا. ونلاحظ أن المسيح بكلامه ينقي وفي الآية السابقة نجد الآب ينقي بالتجارب النافعة. وكلمة المسيح سيف ذو حدين، بحدها الأول تنقي وتقدس فتحيي وكأنها تَلِدْ الإنسان من جديد (1بط23:1) وبحدها الثاني تدين (يو22:5+ 48:12) فإن لم تأتي كلمة الله بثمر تكون هذه الكلمة للدينونة (رؤ12:2، 16+ عب12:4) وكلما نهتم بكلمة الله في حياتنا نزداد نقاوة. فكلمة الله حية وفعالة ولها قوة على التنقية. لذلك فالكنيسة تنصح الشعب بعدم التناول لمن لم يسمع الإنجيل. فكلمات الإنجيل تعطي نقاوة يحتاجها المتناول. بسبب الكلام= كل تعاليم الرب لهم لكن إستمرار النقاوة متوقف على شركتهم معه أي إستمرار ثباتهم في المسيح.
آية (4): "اثبتوا في وأنا فيكم كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته أن لم يثبت في الكرمة كذلك أنتم أيضاً أن لم تثبتوا في."
اثبتوا فيّ وأنا فيكم
26يوم الخميس أحداث أسبوع الآلام: www-St-Takla-org__biاثبتوا فيّ= الله خلق آدم. ومن جنب آدم خلقت حواء. والأولاد هم جزء من آدم وجزء من حواء. لذلك فالخليقة كلها الآن هي أجزاء من آدم ولكنها خليقة ميتة فآدم رأسها ميت.
جاء المسيح ليكون جسد ثانٍ حى
هو رأسه وكلنا ينتمي لهذا الجسد بالمعمودية. ويكون في المسيح.
وأنا فيكم= المسيح مات وقام. وأنا أموت مع المسيح وأقوم متحداً به في المعمودية (رو3:6-5) وحين أتحد به تكون لي حياته "لي الحياة هي المسيح" (في23:1) "مع المسيح صلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ" (غل20:2) وحين تكون لي الحياة هي المسيح فهو يستخدم أعضائي كآلات بر (رو13:6) وإذا كنت ثابتاً في المسيح. ولي حياة المسيح فأنا غصن مثمر.

وحياة المسيح فيّ تعطيني قوة لأثبت في المسيح وأثمر وهذا ينطبق على مثال الكرمة فكل
غصن هو في الكرمة = إثبتوا فيّ.
والعصارة الحياة تسرى في كل غصن= وأنا فيكم.
المسيح أعطانا جسده ودمه لنثبت فيه، ومن يتناول بإستحقاق (في حالة توبة صادقة) يثبت فيه. ومن يثبت فيه يقدسه ويعطيه حياة ويكون له ثمر. فالغصن لا يمكن أن يأتي بثمر إن لم يكن ثابتاً في الكرمة. إذاً فلنلتصق بالله كل ايام حياتنا. والمسيح هو منبع الثمر والروح القدس هو الذي يوصِّل ثمر بر المسيح (1يو27:2) أي أن الروح القدس (المسحة) يعلمنا أن نثبت في المسيح. اثبتوا فيّ= وصية من المسيح لنا وهو يعطي مع وصاياه قوة للتنفيذ. وأنا فيكم= هذه تعني إقبلوا ثبوتي فيكم، أي علينا أن نفتح قلوبنا ليدخلها المسيح ليعمل (أف14:3-17). وثبوت المؤمن في المسيح شرط لازم لثبوت المسيح في المؤمن. وثبوت المسيح في المؤمن هو نتيجة طبيعية لثبوت المؤمن في المسيح من يثبت في المسيح بأعماله وتوبته ومحبته يثبت فيه المسيح بأن يمنحه نعمته ويملأه من روحه. ومعنى الآية أن المسيح يقول إعطوني الفرصة لأثبت فيكم. فالثبات في المسيح يستلزم [1] عمل المسيح [2] إرادة الإنسان.

آية (5): "أنا الكرمة وأنتم الأغصان الذي يثبت في وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً."
الرب يشير أنه مصدر الحياة الحقيقية، نستمدها منه بصفة ثابتة ونستمد منه كياننا، وبذلك نحقق تدبير الله فيكون لنا ثمار. ولنلاحظ أننا لا يمكن بدونه أن نفعل شيء فالثمر هو من سخاء الكرمة وليس من صنع الغصن= بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً وأيضاً علينا ألاّ نظن أننا ضعفاء غير قادرين فمن يثبت فيه لا يعود ضعيفاً "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" وكل عمل خارج الثبات فيه لا قيمه له. كيف نثبت في المسيح [1] النقاوة (فبدون القداسة لا يرى أحد الرب عب14:12) [2] ممارسة الأسرار [3] دراسة كلمة الله بإستمرار [4] جهادي (أ) سلبي (نموت عن الخطية رو11:6) (ب) إيجابي (صلاة / صيام..) [5] قبول الصليب. بهذا نثبت في الكرمة ونصير أغصاناً حية تسرى فيها عصارة الكرمة (حياة المسيح). والغصن الحي يكون له ثمار.

آية (6): "إن كان أحد لا يثبت في يطرح خارجاً كالغصن فيجف ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق."
هنا إنذار مخيف لمن هو غير ثابت في الكرمة، فهذا سينفصل عنها فيجف. من ليس له ثمار سيقطع ويحرق (ربما أشار المسيح إلى بعض الأغصان التي قطعوها إستعداداً لحرقها) (الغصن الذي يقطع من الكرمة لا فائدة له إطلاقاً لذلك يحرقونه، فغصن الكرمة ضعيف جداً لا يصلح لشئ. والغصن مهما كان جمال أوراقه، إن لم يكن له ثمار يقطعونه (الأوراق هنا إشارة للبر الذاتي مثل شجرة التين التي لعنها المسيح). ولكن متى يجف الغصن؟ هذا يحدث إن وُجِدَ حاجز فليني يمنع وصول العصارة، وهذا الحاجز هو الخطية التي تعيش فينا أو من حوّل نعمة الله التي فيه إلى مجد دنيوي. والملائكة هم الذين يجمعون ويطرحون في النار.

آية (7): "إن ثبتم في وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم."
هذه عكس الآية السابقة، هنا نرى بركات الثبات في المسيح أي إستجابة الصلاة. هنا نرى الوعد الثمين لمن يثبت في الكرمة. وثبت كلامي فيكم= هنا نرى المسيح يضع كلامه مكان شخصه. فنرى كيف نثبت في المسيح وهذا بأن نثبت في كلامه. وهذا يعني تصديق وعد المسيح بكل ما أوتينا من إرادة وفكر وقلب. وطاعة المسيح مهما حدث حتى الاستشهاد. هنا فالله يستجيب لنا مهما طلبنا. والله يستجيب بثلاث طرق [1] فوراً [2] في ملء الزمان (بعد مدة) [3] لا يستجيب لو طلبي ليس لمصلحتي فهو لم يستجب لبولس ورفض شفاءه ولكنه لابد وأن يستجيب. وأن يكون لنا الحاسة السمعية الروحية فنستطيع أن نميز صوته. والمسيح يخاطبنا وسط كل أحداث اليوم من خلال كل ما نسمع ونرى. تطلبون= إذا كنا نستطيع أن نميز صوته فحينئذ لن نطلب إلاّ ما هو حسب إرادته ومشيئته (1يو14:5) "أطلبوا أولاً ملكوت الله" (لو31:12). ما تريدون= من ثبت في المسيح تصبح إرادته الحرة حسب حرية البنين لا العبيد والإبن لا يطلب سوى ما يَسُّرْ أباه. بل سيكون لمن يثبت في المسيح تَماثل في الإرادة والمسرة معه (أف20:3). ولنلاحظ أن خلاصة المسيحية هي الحياة مع المسيح وفي المسيح وحياة المسيح فيَّ. ثبت كلامي فيكم= وصايا المسيح تصبح مكتوبة داخل القلب، فلا نحتاج لمن يعلمها لنا أو يوصينا بها أو يقنعنا بتنفيذها، بل ننفذها عن حب في المسيح، وهذا عمل الروح القدس الذي يعلمنا ويذكرنا ويسكب محبة الله في قلوبنا. لكن يكون هذا لمن يتجاوب إيجابياً مع صوت الروح القدس ولا يقاومه.

آية (8): "بهذا يتمجد أبي أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي."
بهذا= بثبوتي فيكم وثبوتكم فيّ وثبوتكم في كلامي، هذا ينشئ إستجابة لصلواتكم كونها تتفق مع إرادة الآب السماوي. أن تأتوا بثمر كثير فتكونون تلاميذي= لقد صلب المسيح ليأتي بثمر هو إيمان البشر (يو24:12) وعمل التلاميذ أن يكملوا عمل المسيح (مت19:28). والثمار الكثيرة تمجد الآب (1بط9:1 + مت16:5) وكل هذا يحدث إن ثبتنا في كلام المسيح أي صدقناه وعشنا به كلمة كلمة، فيرى الناس فينا صورة للمسيح الثابت فينا.
في الآية السابقة رأينا أن طاعة كلام المسيح شرط للثبات فيه، وفي الآية الآتية وما بعدها نرى أن المحبة هي الشرط الآخر.

آية (9): "كما احبني الآب كذلك أحببتكم أنا اثبتوا في محبتي."
المحبة التي يطلبها المسيح أن تكون فينا ليست محبة إنتقائية، أي نحب من يروق لنا ونكره من يكرهنا، فهذا النوع من الحب ينتمي للخليقة العتيقة.. "فالعشارون أيضاً يفعلون هكذا" (مت43:5-48). أما المحبة التي يطلبها المسيح أن تكون فينا هي محبة مطلقة أي للكل.. لله أولاً ولكل إنسان، لمن يحبني ولمن يكرهني.. لذلك قال السيد "أحبوا أعداءكم.." المحبة هي للخالق وللمخلوق (1يو20:4-2:5)
والطبيعة الجديدة، طبيعة المحبة حصلنا عليها بالمعمودية، وفيها صرنا خليقة جديدة (رو3:6-6 + 2كو17:5). والرب يطلب هنا قائلاً إثبتوا في محبتي= أي ما حصلتم عليه من طبيعة جديدة إثبتوا فيها. وأهمية ذلك أن نثبت فيه هو، وهو الذي قال عن نفسه "أنا هو القيامة والحياة" (يو25:11). إذاً من يثبت في المحبة تثبت فيه الحياة الأبدية التي حصل عليها في المعمودية. وذلك لأن المسيح حياة وهو أيضاً محبة.
المسيح حين أراد أن يشرح مقدار محبته للبشر شبهها بمحبة الآب له وهذه محبة أزلية أبدية لا نهائية لأن الله محبة والله غير متناهي فالأصل في المحبة هو محبة الآب للإبن. ومحبة الآب للإبن تعني وحدة الآب مع الإبن، محبة الآب تصب في الإبن المحبوب. إذاً محبة الآب للإبن هي تعبير آخر لقول المسيح "أنا في الآب والآب فيَّ ولكن بلغة المحبة فالله محبة. فالآب والابن واحد بالمحبة. وعلى نفس النمط أحبنا المسيح فصار فينا وصرنا فيه، ولذلك قال إثبتوا فيَّ وأنا فيكم أي نحن صرنا فيه وصارت حياته فينا. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). ولكن شرط هذا الثبات أن نحيا في محبة لذلك يقول هنا إثبتوا في محبتي. هو مساو لقوله أثبتوا فيَّ لكن بلغة المحبة وتعني أن من يثبت به يتذوق ويتلذذ بمحبته. وأن المحبة هي شرط لثبات المسيح فينا. والمسيح أوصل لنا بمجيئه في الجسد محبة الآب. هنا يشرح المسيح سر ثبات الغصن (المؤمن) في الكرمة (المسيح) وهذا السر هو الحب. فالآب يحب الإبن، حب يتوحد فيه المحب بالمحبوب فيكونان ذاتاً واحدة وكياناً واحداً، الحب هو سر الوحدة القائمة بين الآب والإبن. وهكذا أحبنا المسيح حباً بلغ من قوته أن يجعلنا معه في إتحاد كامل يحيا فينا ونحيا فيه ومعه وبه وله. فحب المسيح لنا هو سر الإلتحام أو الوحدة التي جاء إبن الإنسان ليؤسسها مع بني الإنسان لحساب الله (يو23:17) ومحبته لنا قائمة على أن هذا هو طبعه فهو يحب الآب والآب يحبه فالله محبة. وتظهر فاعلية هذه المحبة في محبتنا له وفي محبتنا لبعضنا البعض (آية12) لكن السؤال الموجه لنا هو هل نقبل هذه المحبة ونبادله حباً بحب وهل نثبت في هذه المحبة. وفي (15:15) "لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي. هنا أعلمتكم لا تعني المعرفة والفلسفة بل هي توصيل أسرار الآب ومحبته لنا. فالإبن الضال حين عاد لم يتعرف على أبيه على مستوى الفكر إنما على مستوى الأحضان والقبلات (يو26:17). محبة المسيح للآب هي محبة فائقة للطبيعة ولأفكارنا ولكن المسيح يعطينا أن نتذوقها فنفرح بأبوة الآب لنا. كذلك أحببتكم أنا= المسيح ظهرت محبته لنا في بذله نفسه على الصليب. ولولا هذه المحبة ما كنا قد فهمنا محبة الآب للإبن ولا محبة الإبن لنا. والمسيح بمحبته لنا ضمنا في بنوته الرفيعة القدر والمجد (1يو1:3-2) وهنا نرى ما سنحصل عليه لذلك يشجعنا أن إثبتوا في محبتي بأن نصدق دعوته ونقبلها ونستمر فيها ونقيم في محبة له ولكل أحد (وهنا نرى خطورة ان لا نحب اعداءنا) ونبادله حباً بحب ويكون هذا بأن نحفظ وصاياه وكلما نكتشف محبته نحبه وهذا ما قاله بولس "محبة المسيح تحصرنا" + "من يفصلني عن محبة المسيح". ومن يحفظ وصاياه يكتشف أعماقها. الوصية لا تشرح ولا تفلسف بل تنفذ بلا فحص ومن ينفذها يكتشف معناها. ولنلاحظ أن الآب والإبن هما واحد بسبب المحبة، والإبن محبة، فكيف يتحد الإبن بنا لو عشنا في كراهية. والإبن حياة، فإن عشنا في كراهية نموت، لذلك قيل "كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس" (1يو14:3-15). ومن يحب الله يحب الإخوة (1يو21:4).
من هنا نرى ان الوحدة بين الآب والأبن تم التعبير عنها بعدة طرق في الكتاب المقدس:
1. الآب يحب الإبن (يو5: 20).
2. لا أحد يعرف الآب الا الإبن ولا أحد يعرف الإبن الا الآب (مت 11: 27).
3. انا في الآب والآب فىّ (يو14: 10).
4. أنا والآب واحد (يو10: 30).
5. من رآني فقد رأى الآب (يو14: 9)
راجع تفسير الآيات (في3: 8) + ( مت11: 27) + (يو5: 20) لترى أن كلمة يعرف في الكتاب المقدس تعنى الوحدة. والمعرفة بهذا المعنى أي الإتحاد لها ثلاثة أنواع :-
1. وحدة لاهوتية: (مت11: 27) + (يو10: 15)
فالآب يعرف الإبن والإبن يعرف الآب = الآب فىّ وأنا في الآب (يو10: 38)
2. وحدة جسدية: وعرف آدم أمرأته فحبلت وولدت قايين (تك4: 1) وهي وحدة مثمرة فلقد أثمرت أبناً.
3. وحدة بين المسيح والإنسان: ( يو17: 3) + (مت11: 27) "ومن أراد الإبن أن يعلن له"
+ (في3: 8). وهذه الوحدة أثمرت حياة لجسدنا المائت (يو17: 3)+ هذه الاية وفيها نتحد بالمسيح بالمحبة
إذاً المحبة والمعرفة كلاهما تعبير عن الوحدة. وراجع تفسير آية (يو5: 20) في الجزء الثالث من كتب الاناجيل + (يو17: 3)
ونحن حين نمتلئ من الروح القدس فهو يحكي لنا عن المسيح (يو 16: 14) وحينئذ سنعرفه وحين نعرفه سنحبه. لذلك فالمعرفة والمحبة
مرتبطان، ونلاحظ أن كلاهما عمل الروح القدس فينا:-
1. يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5)
2. يعطينا أن نعرف المسيح Know him

وبهذا نعرفه بمعنى الإتحاد به
وأيضاً المحبة هي وحدة:
1. على مستوى اللاهوت فقول الكتاب "الآب يحب الإبن"(يو5: 20)، أو "الإبن يحب الآب" (هذه الآية يو15: 9) فهذا يعني أنهما واحد.
2. وحينما نبقى في المحبة نحيا لأننا سنثبت في المسيح. والمسيح هو الحياة (يو10: 25) + (1يو3: 14)
لذلك نقول أن الروح القدس يثبتنا في المسيح.
وكذلك هو يبكت (يو16: 8) ويعين (رو8: 26) لنظل ثابتين في المسيح، وهذا معنى قول الكتاب "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" ( أر31: 18) وكل هذا يبدأ بالأسرار السبعة التي هي عمل الروح القدس.
ولذلك نلاحظ أن سر الميرون يسمى سر التثبيت. فالروح القدس يثبتنا في المسيح (2كو1: 21، 22).

آية (10): "أن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي كما أني أنا قد حفظت وصايا أبي واثبت في محبته."
هنا نرى كيف نثبت في محبته (آية9) حفظتم= سهرتم على تنفيذها متشبثين بالوعد. حفظت وصايا أبي= بالتجسد والفداء (في5:2-8). وبولس هنا يطلب أن نتعلم الطاعة كما أطاع المسيح نفسه. وهكذا أطاع بولس نفسه وإحتمل الآلام (2كو23:11-26). بل إحتمل شوكة الجسد التي كان الله ينقيه بها ليأتي بثمر أكثر. إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي هذه خبرة عملية يختبرها من يحفظ الوصية. فمن أحب الإبن بحفظ وصاياه يشعر بمحبة الآب وهذه المحبة لا توصف (27:16) وأهم وصية للمسيح هي المحبة (آية12). عموماً من يحفظ وصايا المسيح حتى ولو بالتغصب (فهذا هو الجهاد) يبدأ في الحب. وبالإصرار على حفظ الوصايا يشتعل الحب في داخل القلب فيثبت الإنسان في المحبة لدرجة أن يضحي ويبذل. وهذه هي المحبة الكاملة التي تطرح الخوف إلى خارج. ومن يحب محبة كاملة يكون مستعداً لقبول أي ألم من أجل الذي مات لأجلنا. حفظ الوصية هو سلوك في النور، إذاً مخالفة الوصية هو سلوك في الظلمة. والمسيح نور. ولا شركة للنور مع الظلمة. ومن يغصب نفسه على حفظ الوصية يثبت في المسيح. ومن يثبت في المسيح يكتشف محبته. ومن يكتشف محبته يبدأ يطيع الوصية عن حب وليس عن تغصب. وهكذا يتنامي داخل الإنسان حفظ الوصية والثبوت في محبة المسيح. أما عن العلاقة بين المسيح والآب، فلأنهما واحد ومشيئتهما واحدة. فإنه من المستحيل أن يخالف المسيح إرادة الآب، وبالتالي فهو ثابت في محبته وبولس الذي نفذ وصايا المسيح شعر بهذا الثبات في محبته فقال "محبة المسيح تحصرنا" (2كو14:5) إن حفظتم وصاياي= التي يسمعكم إياها الروح القدس. تثبتون في محبتي= يزداد إنسكاب المحبة لله في داخلنا من الروح القدس (رو5:5).
حفظت وصايا ابي = الآب والابن واحد بالمحبة، ومشيئتهما وارادتهما واحدة. ولكن الآب يريد والابن والروح هما اقنومى التنفيذ. فتصبح طاعة الابن للآب هي تنفيذ ما يريده الآب، اي ما يريده الابن ايضا.

آية (11): "كلمتكم بهذا لكي يثبت فرحي فيكم ويكمل فرحكم."
كلمتكم بهذا= بهذا= هو سر الكرمة الذي شرحه، وثباتنا فيه بالمحبة وطاعة وصاياه يجعله يفرح ويعطينا أن نفرح بان يدخل فرحه هو فينا. حتى لا نتصور أن حفظنا للوصايا حتى تثبت فينا محبة الله فيه إرهاق وتضحية منا وتثقيلاً علينا يشرح الرب هنا أن الثبوت في المحبة هو سر الفرح الكامل. والطريق للفرح الكامل إذن هو أن نثبت في الإيمان وفي كلام الرب بأن نصدقه وننفذه فنثبت في محبته أي نكتشفه هو ونحبه وهنا يكون الفرح (1يو3:2-6). يثبت فرحي فيكم= فرح المسيح كامل. ويكمل فرحكم= فرح التلاميذ والمؤمنين يحتاج إلى تكميل. فالمسيح يسكب فرحه في القلب ونحن نأخذ ليكمل فرحنا. فرحه وجد موضعاً فينا. وهذا هو طلب المسيح أن نفرح فهو يطلب أن نثبت فيه ونطيع وصاياه لنفرح. وكلما نطيع نثبت وكلما نثبت يزداد فرحنا ويكمل (ولاحظ أنه سبق وأعطاهم السلام والآن الفرح) وأهم فرح يفرح به الإنسان الخلاص الذي قدمه المسيح، هو حياة جديدة نرى فيها الرب من هنا على الأرض. ولنلاحظ العلاقة المباشرة بين المحبة والفرح. فالفرح هو نتيجة وجود المحبة. وهذا ما عمله الروح القدس، فهو يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5). لذلك فأول ثمار الروح المحبة وثاني الثمار مباشرة هو الفرح (غل22:5).

آية (12): "هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم."
راينا في اية (9) اننا نتحد بالمسيح ونثبت فيه بالمحبة، وهنا نرى اننا نكون جسد واحد اذا ترابطنا بالمحبة.
فالكنيسة جسد المسيح تترابط ببعضها بمفاصل هي المحبة وهذه يعملها الروح القدس لمن يريد ويقبل عمله.
( اف 4: 16 + نش 7: 1 ). ما سبق كان عن محبتنا لله وهذه تناظر وصايا اللوح الأول. وابتداء من هنا نجد المحبة للإنسان وهذه تناظر وصايا اللوح الثاني. ووصية المسيح أن نحب بعضنا كما أحبنا هو فالمحبة هي التي تجعل فرحنا كاملاً.
ونلاحظ أن المحبة شرط لأن يتحد بنا المسيح، وإتحاد المسيح بنا هو حياة وبالتالي فرح. والمسيح لا يسكن حيث تكون هناك كراهية.
ومحبته هي:-
1- كما أحبــه الآب= أي محبة إلهية وليست محبة جسدانية أو عاطفية. هي وحدة بين الآب والإبن.
2- أحبنا ونحن خطاة= هكذا ينبغي أن نحب من هم أضعف منا.
3- أحبنا ونحن أعداء= هكذا ينبغي أن نحب أعدائنا.
4- أحبنا حتى الصليب= هكذا ينبغي أن نحب حتى الموت.
5- محبة باذلة= هكذا ينبغي أن نحب بلا أنانية، لا نطلب شيئاً في مقابل محبتنا لإخوتنا، محبة الله أنه يعطي بسخاء ولا يعير، هكذا علينا أن نعمل فالمحبة روح كل الوصايا فأنا لا أسرق ولا أقتل.. الخ لأنني أحب.
هي محبة من نوع غير محبة الأرضيين النفعية.
ومن يحب فقد وُلِدَ من الله (1يو7:4). ومن يحب فقد إنفتح قلبه على عمل ذبيحة الصليب وهذا هو أساس ميلاد الخليقة الجديدة. والمسيح إحتمل كل الآلام ليستعلن لنا محبة الآب (يو16:3). ومحبة الآب هذه لا تسكن في قلوب، ولا تعمل في قلوب ليس لها صفة المحبة. فالمحبة الإلهية لا تعمل إلاّ في مجال المحبة. هذه المحبة تحمي الكنيسة من الشر والفساد. وصيتي= هي وصية المسيح في حديث الوداع الأخير قبل الفراق (مت44:5) ووصية المسيح أن نحب أعدائنا لا مثيل لها في أي مكان في الدنيا ولا في أي دين، هي وصية مستمدة من صليب المسيح (رو10:5). والمسيح حين يعطي أمراً أو وصية يعطي معها الإمكانية على التنفيذ فهو يبني أوامره بناءً على ما عمله هو وما سيعمله فينا وما هو مستعد أن يفعله في كل من يؤمن به فبدونه لا نقدر أن نفعل شيئاً (آية5). فالمسيح ارسل لنا الروح القدس لاجل هذا، ان يؤسس ويبنى الكنيسة رابطا اعضاءها بالمحبة. ونلاحظ أن المصدر الوحيد للمحبة هو الله، فهذه هي طبيعته. وهو مستعد أن يعطينا أن نحب أعدائنا، لكن هل نجاهد لأجل ذلك. لنراجع قول الرب "أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا.. صلوا.." (مت44:5). فمن يغصب نفسه على أن يتكلم بالخير على عدوه ويحسن إليه ويصلي لأجله، يسكب الله محبة داخل قلبه لعدوه هذا.هذه المحبة يسكبها الروح القدس لمن يجاهد. ومن يحب سيفرح، فهذه هي ثمار الروح (غل 5: 21، 22 ). محبة.......فرح.اي حينما توجد المحبة يوجد الفرح.

آية (13): "ليس لأحد حب اعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه."
هنا نرى غاية المحبة أن يضع الإنسان نفسه عن الآخرين. هي محبة مضحية، وهذا ما عمله المسيح هذه الليلة (1يو16:3). لأجل أحبائه= لم يقل لأجل من يحبونه فهو لا يقصد القديسين. فالمسيح وضع نفسه لأجل كل الناس لأنه هو الذي يحبهم. فهو أتى لأجل الخطاة الذين كانوا أعدائه (رو10:5 + غل20:2) فالمسيح مات عن شاول الطرسوسي الذي كان عدواً له وحوَّله إلى إنسان يحبه حقاً. وهكذا ينبغي أن نفعل مع كل إنسان حتى لو لم نكن نحبه أو لم يكن يحبنا.

آية (14): "أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيكم به."
هنا المسيح يرفع درجة المؤمن الذي يحفظ الوصايا لدرجة إبراهيم (يع23:2 + إش8:41) أحبائي= هنا جاءت في اليونانية "خلاني" "من خل" وهذه قيلت عن إبراهيم. والخل كل شيء مكشوف أمامه.

آية (15): "لا أعود اسميكم عبيداً لأن العبد لا يعلم ما يعمل سيده لكني قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي."
السيد يكشف أسراره لأحبائه لا لعبيده. والمسيح كشف لنا تدابير الآب التي هي أيضاً تدابيره ولا أحد يعرف قلب الآب سوى الإبن. ولذلك لم يخفي الله عن إبراهيم ما هو فاعله (تك17:18) وما الذي أعلنه المسيح لأحبائه؟ هو أعلن لهم محبة الآب وأعلن لهم الآب فهو وحده الذي يعرف الآب (يو18:1). والذي رأي المسيح فقد رأى الآب، هو يعلن ما يمكن أن ندركه والعبد يطيع إما عن خوف أو طلباً في أجرة أو فائدة. أما الإبن فيطيع عن حب. ما سمعته من أبي= هو قبلات وأحضان الآب للإبن الضال. هو إشتياق الآب لعودة أبنائه لحضنه. وهي نفس إشتياقات الإبن لنا. فقوله ما سمعته هو تعبير عن تطابق فكر الآب والإبن. لكن الآب ما يريده يعلنه الإبن.

آية (16): "ليس انتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا وتأتوا بثمر ويدوم ثمركم لكي يعطيكم الآب كل ما طلبتم باسمي."
ليس أنتم إخترتموني= دعوتهم هي دعوة إلهية لأجل محبته لهم. وهذا ما يعطيهم الحافز لإحتمال الآلام في خدمتهم أن الله يحبهم ويثق فيهم (هذه الآية موجهة للخدام). ولنلاحظ أن الله دائماً هو صاحب المبادرة في كل ما يمت للإنسان من الخيرات السماوية. فهو الذي بادر وأتى ليجعلهم أبناءً بدلاً من عبيد ويعطيهم المجد الذي له (22:17) ويعطيهم الفرح هنا. والله يختارني وأنا أقبل هذا الإختيار وأختار الله تاركا العالم. ولكن لنلاحظ أن قول الرب إخترتكم= هذه لا تخص الخلاص بل إخترتكم للرسولية( فهو اختار يهوذا)= لتأتوا بثمر لهذااختارهم رسلا ليرسلهم لكل العالم. إذاً ليس لهم فضل في أن يكونوا رسلاً بل الفضل للمسيح في إختيارهم، فهو صاحب المبادرة. هو الذي يعرف ظروفهم ومواهبهم وضعفاتهم. ولكن هذا لا يمنع أنهم هم لابد أن يقبلوا الدعوة. أما بالنسبة لكل إنسان فهو يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2) إذاً هو يدعو الجميع ولكن كل واحد حر في أن يقبل أو يرفض. أما لو قيل أن الله قد إختار إنساناً للخلاص، فهذا يعني سبق معرفة الله لقبول هذا الإنسان دعوة الله له للإيمان (رو29:8).
لتذهبوا= الله إختارهم كتلاميذ لا كشرف لهم فقط بل ليدعوا العالم بكرازتهم. ويكونوا سفراء له. فالكنيسة ستبنى على أساس الإيمان الذي سيكرزوا به. فالثمر المطلوب هو إيمان كل العالم بالمسيح فيكون لهم حياة. يدوم ثمركم= الإثمار مستمر في الكنيسة وخدامها وخدمتها للعالم كله حتى نهاية الدهر. يعطيكم الآب كل ما طلبتم بإسمي= المسيح هو المتكفل بأن يعطيهم الآب كل ما يطلبونه ويحميهم من مخاطر الكرازة ويضمن لهم الثمر الكثير. ولنلاحظ أن الثمر الكثير وإستجابة الصلاة نتيجتان لثباتنا في المسيح. ولاحظ أنهم حينما يجاهدون ويكرزون بالمسيح يستجيب الله لصلواتهم إذ هم أمناء. فيعطيهم ما يطلبونه فيزداد ثمرهم. فلا ثمر بدون صلاة ولا ثبات بدون صلاة وبدون محبة (آية17). ولاحظ أن هذه هي إرادة الله أنه إختارهم وأرسلهم ليأتوا بثمر ليتمجد، لكن لا نجاح لخدمتهم إلاّ [1] بالصلاة [2] بثباتهم في المسيح.
كل ما طلبتم بإسمي= فمع أن إرادة الآب أن يتمجد بزيادة المؤمنين إلاّ أنه ينبغي أن نصلي لأجل ذلك.

الآيات (17-18): "بهذا أوصيكم حتى تحبوا بعضكم بعضاً. أن كان العالم يبغضكم فاعلموا انه قد ابغضني قبلكم."
في الآيات (18-27) نرى المواجهة مع العالم الذي يجهل الآب والإبن وعداوة العالم لكنيسة المسيح والمسيح نفسه. وعلى التلاميذ أن يكملوا الصراع الذي بدأه العالم مع المسيح. أبغضني قبلكم= أي سيبغضكم العالم، بسبب إيمانكم بي. والمقصود بالعالم، روح الشر الذي في العالم. أما العالم الذي خلقه الله فقيل عنه "هكذا أحب الله العالم". ولكن الروح القدس سوف يؤازرهم ويقدم المعونة في وقتها (1يو3:1 + 1بط12:4-19). ولكن المسيح يؤكد ويكرر على ضرورة المحبة بيننا لنستطيع أن نواجه العالم. والعالم يكره المسيح لأن قداسته ونوره يفضحان شرورهم. وهكذا الكنيسة التي فيها الحب يكرهها العالم. محبتنا لبعضنا البعض درع نواجه به كراهية العالم لنا. فمن خلال محبتنا يعمل الله فينا ويعطينا قوة ومعونة وتعزية. ولو كرهنا العالم فنحن لا نكره أحد ولا نعادي أحد. بل نصلي لأجل الجميع ونحب الجميع. ومحبتنا تجعل المسيح يسكن فينا وهذا هو الدرع الذي يجعلنا نحتمل إضطهاد العالم. لكن لنعلم أن الشيطان الذي يسود العالم سيجعل العالم يكرهنا.
ومعنى كلام السيد هنا أنه ينبغي أن نعمل وسط عالم يبغضنا ويكرهنا، ونحب هؤلاء ونكرز لهم ونخدمهم، وهذا ما عمله هو تماماً. فلا نقول أنه طالما أن العالم يبغضنا فهذا مبرر لنا أن نكره من يبغضنا.

آية (19): "لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته ولكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم."
(قارن مع 2تي12:3). الشيطان رئيس العالم لا يحتمل أن يهرب أحد من تحت سلطانه ويتركه. وحينما يحدث هذا ويدخل أي مؤمن في الكرمة سواء بالإيمان أو بالتوبة يهيج الشيطان العالم ضده. وهذا ما حدث في بدء الكنيسة وما يحدث لكل تائب حتى الآن. ولكن هذا الهيجان وهذه البغضة ضد المؤمنين هي علامة ثبات في المسيح ورجاء لنا أننا على الطريق الصحيح. على شرط أن لا نكون نحن سبباً في هذه البغضة. العالم يحب خاصته= الذين أصبحوا عبيداً له يعملون لحسابه (44:8). فلا أحد يحارب الذين له وهذا غير محبة المسيح الباذلة. فمحبة العالم لخاصته هي محبة أنانية فيها يستعبد العالم خاصته كما يستعبد المال الناس. ولاحظ أن المسيح يكرر كلمة العالم في هذه الآية 5مرات للتنبيه على خطورة هذا العدو. فالعالم يرفضنا لكن هذا لا يهم فنحن لسنا من العالم بل من فوق بعد أن إختارنا المسيح. أنا إخترتكم= فالعالم يكره المسيح، لأن رئيس هذا العالم أي الشيطان يكره المسيح، وبالتالي يكره من هم للمسيح.

آية (20): "اذكروا الكلام الذي قلته لكم ليس عبد اعظم من سيده إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم وأن كانوا قد حفظوا كلامي فسيحفظون كلامكم."
حفظوا كلامي= إحترموا كلامي. وهذا لم يحدث. وسفر الأعمال شاهد كيف قاوم اليهود كرازة الرسل وكلام المسيح. هذا النص وارد في (يو16:13). والمسيح أسمانا بنين وأحباء فلماذا يعود ويسمينا عبيد؟! المسيح يسمينا أبناء ولكن علينا أن نسمى أنفسنا عبيد، علينا أن ندرك في أنفسنا أننا عبيد.. "متى فعلتم كل ما أمرتم به فقولوا إننا عبيد بطالون" (لو10:17). ولذلك كان التلاميذ يفتخرون بأنهم عبيد ومنهم من كان قريباً للمسيح بالجسد وحتى بهذا لم يفتخر بل إفتخر بأنه عبد للمسيح (رو1:1 + 2بط1:1 + يع1:1 + يه1). فالمسيح وهو الله فعل هذا وغسل أرجل تلاميذه وقبل الشتائم والإهانات فهل نطلب نحن الأكاليل، هو تواضع فهل نرتفع. هو وضع نفسه في المقدمة كنموذج لنا، فقيل عنه انه اخذ صورة عبد ( في 2: 7 + اش 52: 13 ). ومن يظن في نفسه أنه عبد لن ينتفخ ويتكبر بل وسيشعر في نفسه أنه لا شيء ولا يستحق شيء ولن يختلف مع الله إذا لم يعطه شئ، لسان حاله يقول "اللهم إرحمني أنا الخاطئ" "وخطيتي أمامي في كل حين" وكل ما تعطيه لي يا رب أنا لا أستحقه بل هو من رحمتك وحنانك. ومن يحب الله محبة حقيقية يشتهي أن يكون له عبدا أي أن يسود الله علي حياته ويكون هو وكل ما يملك ملكاً له (خر5:21-6) وهذا ما قيل عن المسيح نفسه (مز6:40 + عب5:10) ومعنى كلام السيد أننا سنتألم لأجله، وهذا جزء من معركة النور مع الظلمة. آلامنا هي شركة في آلام المسيح ونحن لسنا أفضل منه حتى لا نتألم. بل أن آلامنا حقيقة هي موجهة ضده. فالإضطهاد الواقع علينا هو بسببه. وإن كان هو قد تألم فهذا سيحدث لنا. إحساسنا أننا عبيد يحمينا من مخاطر الشعور بالكبرياء،" فمن يظن انه قائم فلينظر ان لا يسقط" ( 1 كو 10: 12 ) اما من هو تحت فلن يسقط لأسفل، فهو أصلاً تحت لذلك قال الرب "قولوا إننا عبيد بطالون" (لو10:17). لكن هو في محبته يسمينا أبناء.

آية (21): "لكنهم إنما يفعلون بكم هذا كله من اجل اسمي لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني."
سبب الإضطهاد ضد الكنيسة هو إرتباطها بالمسيح (أع40:5-41 + 1بط14:4). لأجل إسمي= طوبى لمن يضطهد لأجل إسم المسيح، فالآلام مع المسيح هي شركة مجد. هم يضطهدونكم لأن إسمي فيكم. فالمسيح فتح الباب لكل إنسان ليعود إلى أحضان الآب ويخرج من سلطان الشيطان والظلمة. لذلك يكره العالم إسم المسيح، أمّا أبناء الله فيدركون أنه سر قوتهم. لأنهم لا يعرفون الذي أرسلني= هم يتصورون أنهم يعرفون الله ولكنهم حقيقة لا يعرفوه ولا يعرفون أن الآب هو الذي أرسل الإبن ليجمع فيه أبناء الله. ومعرفة الله الآب مقصورة على من يقبل الإبن وفدائه فتكون له حياة. والذي لا يعرف الإبن يستحيل عليه معرفة الآب ومن لا يعرف الآب حقيقة لا يعرف الإبن فهو إبنه. وبالتالي فهو يجدف على الآب والإبن دون أن يدري. ودون أن يدري يسئ إلى نفسه (لو34:23). هذا كله= الإضطهاد حتى القتل والتعيير والإحتقار.
ملحوظة: هناك من يتصور أنه يعرف الآب ولكنه لا يعرفه حقيقة إذ قد صور هو لنفسه صورة غير حقيقية للآب تتفق مع ميوله، مثل هؤلاء اليهود. لكنهم لم يعرفوا الآب الحقيقي، ولذلك لم يعرفوا إبنه الذي هو صورته.

آية (22): "لو لم اكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم."
العالم ليس له عذر في إضطهاده للمسيح ولكنيسته، فهو قد جاء وجعل معرفة الآب ظاهرة لكل إنسان. هو جعل معرفة الآب ظاهرة بأقواله وأعماله. واليهود كان يجب أن يدركوا قبل غيرهم أن المسيح فيه تحقيق كل النبوات، ولذلك آمن الكثيرون وسيكونون سبب دينونة لمن لم يؤمن، فمن لم يؤمن أثبت أنه قد أسلم نفسه للشيطان وقد إنحاز لشهواته. لم تكن لهم خطية= لذلك برفضهم المسيح وصلبهم له بدون وجه حق كانوا بلا عذر بل صلبوه بحقد مجنون. فهو جاء بنفسه وأظهر حبه واظهر لهم الآب. فلماذا الرفض؟ والإنسان مسئول على قدر ما يعرف، وهم رأوه وعرفوه فصارت لهم خطية إذ رفضوه وهي = أبغضوني أنا وأبي.

آية (23): "الذي يبغضني يبغض أبي أيضاً."
قارن مع (1يو23:2) هنا نرى ببساطة أن الآب والإبن هم واحد. فما يصيب الإبن يصيب الآب، ومن أبغض الإبن فقد أبغض الآب.

آية (24): "لو لم اكن قد عملت بينهم أعمالاً لم يعملها أحد غيري لم تكن لهم خطية وأما الآن فقد رأوا وابغضوني أنا وأبي."
أعمال المسيح المملوءة حباً وقوة إعجازية كانت تنطق بأن الآب الحال فيه هو يعمل الأعمال (يو10:14). فالآب عن طريق أعمال المسيح يقترب للإنسان لذلك فلا عذر لمن لا يؤمن وقارن مع (1يو1:1-4). فأعمال المسيح كان فيها خلقة وبسلطانه الشخصي. وياليتنا نضع أمام أعيننا كم صنع المسيح معنا في حياتنا، كم ستر علينا وأعاننا في حياتنا المادية، فلا نشك أبداً في محبته.

آية (25): "لكن لكي تتم الكلمة المكتوبة في ناموسهم أنهم أبغضوني بلا سبب."
أبغضوني بلا سبب= فالمسيح لم يؤذ أحد ولا أساء لأحد. (مز19:35 + 4:69). وكون أن الناموس يتنبأ عماّ حدث للمسيح بالتفصيل فهذا فيه إعلان بأن خطة الفداء أزلية. (لاحظ أن بيلاطس لم يجد فيه علة تستوجب الموت).

الآيات (26-27): "ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي. وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء."
إزاء أضطهاد العالم للكنيسة نجد الله يُرسل الروح القدس للكنيسة كقوة إلهية جبارة تشهد وتدعو سراً القلوب الأمينة التي تقبل الله (1كو3:12) وهو يقنع ويشجع ويعزي ويعطي كلمة للإقناع بقوة وسط هذه الضيقات. وبدونه لا نقدر على مواجهتها. أرسلهُ أنا= أي حينما أتمم عملي بالصليب ثم بالإنطلاق إلى الآب لأتمجد أُرْسِلْ الروح القدس للكنيسة. وكون المسيح يُرسل الروح القدس ليعطينا الولادة الجديدة ويعيد تشكيلنا فهذا العمل هو تكميل نهائي لعمل الخلقة الأولى التي إضطلع بها الكلمة سابقاً. وكون أن المسيح يُرسل الروح القدس فهذا يثبت ألوهية المسيح (يو7:16) فقد قال سابقاً "الذي سيرسله الآب بإسمي" (يو26:14) فكما يرسل الآب الروح القدس يرسله الإبن أيضاً. روح الحق= الذي يشهد فينا للمسيح الحق (عكس الباطل الذي في العالم). الروح يشهد للناس بالحقيقة الغائبة عنهم. والعكس نجده في (1يو3:4). من عند الآب ينبثق= الإنبثاق يعني أن الروح القدس يخرج من الآب بالطبيعة. كذلك المسيح يخرج من عند الآب (27:16-28) فالآب هو المنبع. وتعبير الإنبثاق هو تعبير خاص بالروح القدس. والفرق بين الولادة (للمسيح) والإنبثاق (للروح القدس) هو الفرق بين خروج النور من الشمس وإنبعاث الحرارة منها. ونلاحظ أنه لا توجد فوارق زمنية بين الآب المصدر والإبن المولود والروح المنبثق. فالحرارة والضوء كائنين مع الشمس منذ وجودها. والآية صريحة أن الروح القدس ينبثق من الآب وليس من الآب والإبن. ولكن نقول أن الإبن يرسل الروح لنا بعد أن أتم فدائه. هو يرسله من عند الآب بإسمه. يشهد لي= من خلال التلاميذ وكرازتهم وفي قلوب من يسمعهم وبتوجيه المؤمنين للقيام بأعمال هي بحد ذاتها تصير شهادة للمسيح. فالروح القدس هو روح مناداة وإعلان ينطق بالكلمة في الأفواه وفي القلوب، أفواه الكارزين وقلوب المستمعين. والروح القدس أوحي للتلاميذ ليكتبوا الكتاب المقدس ليكون شاهداً للمسيح. يشهد لي= فالآب يشهد للمسيح والمسيح يشهد للآب والروح يشهد للمسيح. وتشهدون= أي أن الروح القدس يعطينا قوة لنشهد للمسيح الذي شهد له الروح داخلنا. ويعطينا قوة أن نحيا بحسب الحق. (ولاحظ التغيير الذي حدث لبطرس والتلاميذ يوم الخمسين). وتشهدون أنتم أيضاً= كثمر لحلول الروح القدس فيهم يشهدوا لعمل المسيح فيهم. ويشهدوا أنهم مسيحيين حتى سفك الدم. والشهادة تكون بسيرتنا فيظهر المسيح الذي يحيا فينا. لأنكم معي من الأبتداء= فالتلاميذ عاشوا مع المسيح منذ بداية عمله وخدمته وتعليمه وكانوا شهوداً على كل كلمة وكل عمل. والمسيح هنا يتكلم عن رحلة الكرازة منذ يومها الأول. والقديس متى والقديس لوقا تتبعا الأمور منذ بدايتها. والروح القدس علمهم ما يكتبونه عن كل القصة منذ ولادة المسيح بل والبشارة به. ومرقس شهد بالروح القدس عن كل القصة من بدء عمل الروح القدس في المعمدان. أمّا يوحنا فكشف له الروح القدس سر البدء الأزلي، بل وكشف ليوحنا عن تفاصيل سرية جداً (راجع أع32:5، 21:1-22) + (1يو1:1). ولنلاحظ أن الخادم الذي لم يعش مع المسيح ويختبره ويراه لا يستطيع أن يشهد له وعنه. والروح القدس يعمل في الخادم المتكلم ليشهد للمسيح ويعمل في السامع ليقبل الكلام.
ملحوظة: هناك من غَيَّرَ في قانون الإيمان وقال عن الروح القدس أنه منبثق من الآب والإبن بزعم الوحدة والتساوي بين الآب والإبن. ولكن الوحدة لا تمنع الأقنومية والتميز في الفعل. فالإبن مولود من الآب والروح القدس منبثق من الآب. ولو كانت الوحدة تلغي الأقنومية لكنا نقول أن الإبن مولود من الآب ومن الروح القدس. ولكن علينا أن لا نرتئي فوق ما ينبغي أن نرتئي!! فالله أعلن في هذه الآية أن الروح القدس ينبثق من الآب فهل نترك لعقولنا المحدودة فحص طبيعة الله بل وتغيير الآيات!! ربما فهم من قال هذا (أن الروح القدس منبثق من الإبن) لأنه إلتبس عليه الأمر، إذ سمع أن الإبن يُرسل الروح القدس ففهم أن الروح القدس منبثق من الإبن. لكن هناك فرق كبير بين الإنبثاق والإرسال. فالإنبثاق هذا من طبيعة الله. والآب بعد فداء المسيح أرسل الروح القدس للكنيسة يسكن فيها ليقدسها. وحين يقول الكتاب الآب يُرسل الروح فهذا إعلان أن هذه هي إرادة الآب. وحين يقول الإبن أنه سيرسل الروح فهذا يعني أن الروح سيحل على الكنيسة بناء على فداء المسيح بعد أن يتمم المسيح فدائه ويجلس عن يمين الآب.
المعزي= باراكليتوس
بارا= بجوار أي ملازم لشخص/ حاضر معه/ قريب منه (ومنها PARALLEL)
كليتوس= المدعو
فهو يطلب ليساعد، هو حاضر بالقرب من الإنسان ليعينه ويعزيه ويسنده ويشهد للمسيح.
ولكن لماذا ذكر السيد المسيح هذه الحقيقة أن الروح القدس منبثق من الآب؟
لماذا يدخلنا السيد المسيح في تفاصيل هي أسمى من عقولنا كعلو السماء عن الأرض؟بل إن تكلمنا عن طبيعة الله ذاته فهذا أسمى من السموات بما لا يقاس.
الإجابة ببساطة هي أن الله يحترم عقولنا.
لقد رأس التلاميذ المسيح وعرفوه، ثم رأوه يصلب ويقوم ثم فهموا أن هذا هو الفداء، وأن المسيح تمم عمله الفدائي وجلس عن يمين الآب.
ولكن كيف يكمل الخلاص؟
الآب يريد أن الجميع يخلصون (1تي4:2)
المسيح بذل ذاته وتمم الفداء.
ولكن هناك مشكلة كبيرة هي أن الإنسان الساقط صارت له طبيعة عاصية متمردة تحب الخطية.. فكيف نستفيد من الفداء لكي نخلص؟ هذا هو عمل الروح القدس.
الإنسان بسقوطه صار له طبيعة خاطئة تشتهي الخطية، وبسبب هذه الطبيعة سيموت ويهلك. والخلاص هو أن تتجدد طبيعتنا ونصير خليقة جديدة. (2كو17:5) بل شكل المسيح (غل19:4)
لكن هناك قانون إسمه ناموس الخطية يعمل في أعضائنا (رو7) ولذلك أرسل لنا الله ناموس جديد إسمه ناموس روح الحياة (رو8) وهو قوة الروح القدس تميت ناموس الخطية فينا بشرط أن نحاول تنفيذ الوصايا (رو13:8).
والله الذي يحترم عقول البشر، في محبته شرح لنا شيئاً من طبيعته لا لنتفلسف بها كمعلومات ولكن لندري ماذا سيحدث فينا فالمؤمن سيشعر بتبكيت لو عمل خطية فما مصدر هذا التبكيت؟ والمؤمن سيشعر بإضمحلال قوة الخطية فيه وأنه قد صارت له قوة جديدة. فما مصدر كل هذا؟
وإذا قام إضطهاد وقرروا قتله سيجد قوة داخله ويقبل على الموت بلا خوف. فما مصدر هذه القوة؟
والكنيسة ستمارس أسرار، فما القوة الخفية وراء الأسرار؟
والمؤمن سيشعر بثمار جديدة (محبة/ فرح/ سلام..) فما مصدرها؟ والمؤمن سيجد مواهب ما كانت فيه فما مصدرها؟
مصدرها قوة خفية غير مرئية هي قوة أقنوم الروح القدس. والمسيح سبق وشرح هذا لنيقوديموس (يو8:3) هنا السيد المسيح يقول مصدر كل هذا هو الروح القدس الذي سيتمم عمل الخلاص فيكم. فما كان مناسباً أن نرى كل هذا التغييرات فينا والقوى التي تعمل فينا وفي كل الكنيسة، دون أن ندري مصدرها. لقد تعود التلاميذ رؤية المسيح وشاهدوا قوته، والمسيح هنا يقول سيبدأ من الآن عصر قوة غير مرئية.
والآن نقول الآب يريد الخلاص للبشر.
والإبن تمم الفداء.
والروح القدس أعطى الكنيسة أن تستفيد من الفداء.
فالآب يريد والإبن والروح القدس ينفذان إرادة الآب. وهذا ما رآه زكريا النبي في رؤياه (14:4)
وما معنى قول الرسول ناموس روح الحياة (رو2:8)؟
هو قانون أن الروح القدس الساكن فينا يتمم الخلاص لمن يتجاوب معه فيثبته في المسيح، والمسيح هو القيامة والحياة، فيكون له حياة. ولكن كيف يعمل الروح القدس هذا؟
هذا موضوع الإصحاح القادم.
وملخص ما أراد المسيح أن يقوله هنا للتلاميذ.... لا تخافوا من إختفائي عنكم. فإن كنت أنا إبن الله المولود من الله، فالروح القدس الذي سيكون كرفيق دائم لكم وفيكم هو أيضاً منبثق من الله. هذه رسالة للتعزية وليست للفلسفة والمناقشات. لذلك كان من غير المناسب أن نغير آية يحدثنا فيها السيد المسيح كأحبائه، في حديث كله محبة، عن طبيعة الله، فنعمل عقولنا العاجزة ونغير فيما قاله عن طبيعة الله. وإذا كان الإنسان عاجزاً عن أن يفهم كل أسرار الأرض، وقطعاً هو عاجز عن فهم أسرار السماء (سفر التكوين بدأ بقوله في البدء خلق الله السموات والأرض، ثم في بقية الكتاب المقدس يكلمنا عن الأرض فقط) فهل نتجاسر ونتكلم عن طبيعة الله نفسه ونغير فيما قاله !!

فكرة هذا الأصحاح:
الإبن تجسد ليُعيد لنا الحياة الأبدية والفرح الذي فقدناه بالخطية (يو1+ يو2) وكان هذا عن طريق الصليب والمعمودية (يو3). وكيف تعود لنا الحياة؟، ذلك بأن يثبت فينا ونثبت فيه وهو الحياة (يو25:11)، وهو المحبة (يو16:4)، فلكى نثبت فى الحياة يجب أن نثبت في المحبة (1يو16:4).

1. يو9:15 الثبات في المسيح بالمحبة
كما أحبنى الآب = الآب يُحب الإبن (هذه الآية + يو20:5) = الآب في الإبن.
الإبن يُحب الآب (يو31:14) = الإبن في الآب "يو38:10"
فالآب واحد مع الإبن بالمحبة التي هي طبيعة الله (يو30:10).
كذلك أحببتكم أنا = على نفس القياس نجد أننا نتحد بالمسيح عن طريق المحبة، وبهذه المحبة يتحقق طلب السيد المسيح "إثبتوا فىّ وأنا فيكم" (يو4:15).
إثبتوا في محبتى = طريقة الثبات في المسيح هي أن نُحب الله والناس.
إذاَ آية (9) تتفق مع نشيد 6:8 "إجعلنى كخاتم على قلبك"، والخاتم هو شمع أحمر يتشكل بحسب الختم حين يُسخّن بالحرارة. والمعنى أن الروح القدس الذي يسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5) يُشعل حرارة المحبة في قلوبنا لله وبهذا كأننا نذوب في الله بالمحبة ونتحد به. والروح القدس قيل عنه أنه ختم (أف13:1)، أمّا عدم المحبة أو الكراهية تجعل ثباتنا في الله مستحيل ونموت (1يو14:3 و15).

2. يو10:15 الثبات في المسيح بحفظ الوصايا
"إن ثبتم في وصاياى تثبتون في محبتى"، ويعطينا المسيح مثال لذلك بأنه يحفظ وصايا الآب فيثبت فيه = كما إنى قد حفظت وصايا ابى وأثبت في محبته.
مرة ثانية نقول أن الآب والإبن واحد فمشيئتهما واحدة، ومعنى أن المسيح يحفظ وصية الآب معناها أنه واحد مع الآب لهما نفس الإرادة والمشيئة. وليس من الممكن أن يختلف الإبن مع الآب فهما واحد بالمحبة. ولا معنى بالتالى أن نقول أن المسيح يغصب نفسه على حفظ الوصية. ولكنه يقول هنا لنا... حتى تثبتوا فىّ. يكون هذا على نفس النمط أي بحفظ الوصية بأن نحب الله ومن اجل المحبة سنحفظ وصيته. ونحن نبدأ بأن نغصب أنفسنا لنحفظ الوصية. ولكن كلما إمتلأنا من الروح القدس تزداد محبتنا لله ويصير لنا مشيئة الله فننفذ الوصية بسهولة عن حب. وهذا معنى "من يحبنى يحفظ وصاياى" (يو21:14, 23). وكلما نفذنا الوصية نختبر المسيح ونعرفه فنثبت في محبته ( مت7: 24 – 27 ). وهذا هو تفسير قلوب اللحم بدلاً من القلوب الحجر (خروج19:11). وأيضاً بنفس المعنى يقول أرميا "أكتب شريعتى على قلوبهم" (ارميا33:31)، ومرة أخرى بهذا يتفق مع (نش6:8) "إجعلنى كخاتم على ساعدك". "لأن المحبة قوية كالموت.. لهيبها لهيب نار لظى الرب". فالروح القدس يشعل محبة الله في قلوبنا،/ فنعمل ونحفظ الوصية نتيجة ثباتنا في المسيح وهذا معنى "لأنكم بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً" (يو5:15).

3. يو26:15 إذا طريق الثبات في المسيح هو الروح القدس الذي يُعطينا:
1) المحبة لله وللناس (رو5:15 + غل22:5) وقارن مع يو9:15.
2) إمكانية تنفيذ الوصية: أ – هو يثبتنا في المسيح (2كو21:1)
ب- يبكت (يو8:16)، ويُعين على كل شيء لنخلص (رو26:8)
الإصحاح السادس عشر:

آية (1): "قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا."
قد كلمتكم بهذا = [1] أنه سيكون هناك ضيقات [2] لكنه سيرسل لهم الروح القدس [3] يسلكوا بمحبة فالمسيح لم يخدع أحد، فطريق المسيح فيه ضيق، ولكن تعزيات الروح القدس تساند. هذا الكلام ليس موجهاً للتلاميذ فقط بل لكل الكنيسة عبر كل العصور. المسيح في هذه الآية والآيات التالية يكمل حديثه عن إضطهاد العالم لتلاميذه ولكنيسته والذي سيبدأ بأن يخرج اليهود التلاميذ من المجمع، ثم يصل الأمر للقتل، بل سيأخذ هذا الإضطهاد شكل الغيرة الدينية وبعد هذا سيأتي الإضطهاد الروماني ولن ينتهي إضطهاد العالم للكنيسة، والإضطهاد هو كل مقاومة من العالم ضد الإيمان. وهناك إضطهادات من نوع حديث كأن يجتمع الأشرار ليدينوا إنساناً طاهراً بحجة أنه منغلق ومقفول عن المجتمع ولا يساير روح العصر.
ولكن السيد المسيح يخبر تلاميذه ليطمئنهم أن الروح القدس الذي سيرسله لهم سيشهد في داخلهم بمجد المسيح الذي ينتظرهم وسيعطيهم ما يقولونه إذا وقفوا أمام مجامع أو ولاة. بل سيعزيهم ويشددهم. قد كلمتكم بهذا= كلمهم عن مفارقته لهم وثباتهم فيه وإضطهاد العالم وإرسال الروح وإلتزامهم بقانون المحبة. لكي لا تعثروا= العثرة تعني الإرتداد عن المسيح أو يتوقفوا عن الكرازة إذا واجههم إضطهاد ورفض من العالم وبالذات من إخوتهم اليهود. والمسيح أخبرهم بالإضطهاد الذي سيواجهونه حتى لا يفاجأوا به فيتشككوا في حماية الله لهم وأن الله قد يكون تخلى عنهم أو يرتدوا، خاصة أن لهم مواعيد إرسال الروح وإستجابة الآب لصلواتهم إن حفظوا الوصايا وبالتالي تعزيات ومساندة الروح لهم إذا ثبتوا. والعكس فإن الإنكار سيؤدي لفقدان التعزية وفقدان السلام على الأرض وخسارة حياتهم الأبدية (مت33:10). تعثروا= العثرة هي أن يتوقف إنسان عن السير حين يصطدم بحجر في طريقه. والمقصود بالعثرة هنا الشك في مساندة المسيح لهم أو تخليه عنهم أو كراهيتهم لبعضهم البعض، فحينما تزداد الضيقات يتضايق الناس ممن حولهم، بل يمكن أن يشوا بعضهم ببعض (يع8:5-9)

آية (2): "سيخرجونكم من المجامع بل تأتى ساعة فيها يظن كل من يقتلكم انه يقدم خدمة لله."
قارن مع (يو22:9 + 42:12-43). ومن يخرجونه من المجمع يُحرم من الصلاة وكل الحقوق الدينية والسياسية والإحتفالات وعقوبة مدنية فلا أحد يشتري أو يبيع منه. بل أن الموضوع سيتطور إلى القتل= كل من يقتلكم= تشير لكثرة المضطهدين الذين يريدون قتلهم. وقطعاً سيكون مصاحباً لهذا إضطهاد على كافة المستويات. بل يظنون أنهم يقدمونهم كذبائح لإرضاء الله. يقدم خدمة لله= فكلمة خدمة تشير للعبادة الطقسية. وهكذا صنعوا بإسطفانوس بل قيل في كتاب المدراش اليهودي "أن من قتل إنسان شرير مثل المسيحيين فكأنه قدَّم ذبيحة لله وإستندوا في هذا إلى (عد1:25-11) حينما قتل فينحاس الرجل الزاني فرد سخط الله عن الجماعة" ولنرى ماذا صنع بولس قبل إيمانه بالمسيحيين (أع9:26-11).

آية (3): "وسيفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني."
راجع (1تي13:1) فمن يفعل هذا يجهل حقيقة الآب والإبن. هؤلاء لا يعرفون سوى أنفسهم، ولا يعرفون الله، يحبون ما عندهم سواء ذواتهم أو عقيدتهم التي يدافعون عنها عن جهل. ولو عرفوا الله لأحبوا أعدائهم وليس ذواتهم فالله محبة. ومن يعرف الآب سيعرف إبنه، فالإبن هو صورة الآب ورسم جوهره (عب3:1)

آية (4): "لكني قد كلمتكم بهذا حتى إذا جاءت الساعة تذكرون أني أنا قلته لكم ولم اقل لكم من البداية لأني كنت معكم."
لكني= لم أكن أريد أن أحزنكم بهذه الأخبار الآن، ولكن أنا مضطر حتى إذا جاءت الساعة= وإضطهدوكم لا تفاجأوا. وإذا فهمتم أني عالم من البداية ستفهمون أنني مسيطر على الأمور فلا تخافوا. ولم أقل لكم من البداية= لم يقل لهم عن هذا الإضطهاد لأنه كان معهم يحفظهم من الذئاب ويشجعهم حين يخافون ويقويهم حين يضعفون ويخفف عنهم كل ضيق ويتلقي هو الهجمات بدلاً منهم ليحفظهم منها. المسيح أراهم قوته وسلطانه وهو معهم حتى يثقوا فيه حتى وسط الإضطهادات الآتية بعد صعوده. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). والمسيح إستمر في هذا إلى أن قبل الصليب عنهم. ولكن الآن هو ماضٍ إلى الآب ولن يروه. ولكنه لن يتركهم يتامى فسيرسل لهم الروح القدس الذي سيعطيهم القوة ويشجعهم ويعزيهم. وعليهم [1] أن يتعلموا الإستجابة لصوته [2] أن يجاهدوا. ونلاحظ أن في (مت17:10، 21، 28) سبق المسيح وأخبرهم عن إضطهاد العالم فلماذا يقول المسيح لم أقل لكم من البداية؟ هنا يوجد إحتمال من إثنين:-
أ‌- الأهوال التي كلمهم عنها في (مت17:10، 21، 28) ذكرها المسيح في ذلك الوقت بطريقة مخففة حتى لا يصدمهم في بداية الطريق، ولكن متى حين كتب في (ص10) عن الأهوال دمج كل أقوال المسيح عن الأهوال سواء ما قاله في بداية الخدمة أو نهايتها، فالإنجيليون ليسوا مؤرخين ولا يهتمون بالتأريخ، بل هم يقدمون فكراً، أي يريدون لفكرة معينة أن تصل للقارئ.
ب‌- أو أن الجديد هو عمل الروح القدس معهم بدلاً من عمل المسيح الذي سيفارقهم.

آية (5): "وأما الآن فأنا ماض إلىّ الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي."
ليس أحد منكم يسألني= هذه لها عدة إحتمالات:-
1. المسيح يعاتبهم لأنهم إنشغلوا بما سيحدث لهم من آلام ولم يسألوه أين يمضي، هم سألوه بمفهوم خاطئ كان سؤالهم عن مركزهم الأرضي حين يملك بينما هو ذاهب ليعد لهم مكاناً سمائياً. فلنتعلم ألاّ ننشغل بآلام أو أمجاد هذا العالم عن المجد المعد لنا. فالمجد السمائي هو التعزية الحقيقية وسط الألم.
2. أو يكون المعنى لا تسألونني إلى أين أنا ذاهب فأنا لا أريد الكشف عما سيحدث وأنكم لن تفهموا الآن. ولكن الروح القدس سيعلمكم كل شيء ويشرح كل غموض. وهم سبق وسألوه (يو36:13 + 5:14) ولكن بأسلوب مختلف عما يقصده المسيح هنا، بل هم كانوا يسألونه ليثنوه عن طريق الصليب.
3. التلاميذ إذ شعروا أن المسيح سيفارقهم حزنوا بشدة، ولم يفكروا في الحال التي سيكون فيها المسيح. هم سألوا عن المكان الذي سيذهب إليه لكن لم يسألوا عن معنى الذهاب للآب. ولو فهموا لفرحوا كما قال لهم من قبل.

آية (6): "لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم."
لقد تعودوا أن يفرحوا في وجودهم معه ووجوده وسطهم. والآن يحزنون بسبب فراقه لهم. ولكنهم لم يفهموا أن ذهابه للآب يعني أفراحاً وأمجاداً مضاعفة.

آية (7): "لكني أقول لكم الحق انه خير لكم أن انطلق لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي ولكن أن ذهبت أرسله إليكم."
هم عرفوا المسيح حسب الجسد ولكن بالروح القدس سيعرفون حقيقة المسيح وعمله. ومن يعرف المسيح حسب الجسد لن يعرفه ولن يقبله (2كو16:5). وجود المسيح على الأرض يجعلنا نراه في صورة جسد ضعيف وصعوده يجعلنا بالروح القدس نراه في مجده وقدرته. ولو استمر المسيح معنا بالجسد فهناك إحتمالين:-
1) أن يستمر بجسده غير الممجد وهنا يكون:-
أ‌- الفداء لم يتم، فالفداء يتم بدخول المسيح بجسده للسماء وجلوسه عن يمين الآب.
ب‌- نقع في حيز المحدود، والمسيح بإمكانياته غير محدود، ولكن طالما نرى المسيح بجسد محدد فلن نتصور لا محدوديته. أما الروح فهو يعطينا صورة ورؤية واضحة عن المسيح الإله غير المحدود.
2) أن يظهر لنا بجسده الممجد وهنا:-
أ‌- من يحتمل صورة مجده (رؤ17:1).
ب‌- لن يكون إختيارنا للمسيح حراً، فمن يرى صورة المجد ويرفضه. وما يفرح قلب الله الإيمان وهو الإيقان بأمور لا ترى. حتى لا أكون مضطر لأن أقبله مجبراً.
وهم الآن حزانى لأن المسيح سيفارقهم بالجسد ولكن الأفضل لهم أن يأتي الروح القدس ليشهد لهم عن حقيقة المسيح. والروح القدس لن يأتي إن لم تكمل آلام المسيح وفدائه بالصلب والموت ثم بالقيامة والصعود، وبالصعود يتم الفداء فيرسل الروح القدس ليعمل فيهم وبهم. فبدخول المسيح بدم نفسه للأقداس السماوية يتم الصلح بين الله والإنسان (عب12:9) فيأتي الروح ليسكن في الإنسان فالروح لا يسكن عند أعداء. وهذه الآية نجد لها شرحاً في (يو39:7). وحينما نقارن بين (مت11:7)، (لو13:11) نفهم أن الروح القدس هو الخيرات بل هو الخير الأعظم الذي يعطيه الآب لنا. لذلك يقول المسيح خيرٌ لكم فهو بإنطلاقه سيرسل الخير الأعظم. ولنفهم أننا حتى وإن لم نفهم مشيئة الله فما يريده الله هو دائماً الخير لنا. والروح القدس هو الذي يسكب محبة الله في قلوبنا فنفرح. أقول لكم الحق= الحق هو أن صلب المسيح هو لحساب التلاميذ والكنيسة. لأن بعد الصلب قيامة وصعود. وإنطلاق المسيح فيه كمال الفداء وعمل الفداء وفيه وبه التبني لنا. ودخول المسيح إلى المجد يحقق لنا الحب الأبوي والروح يأخذ مماّ للمسيح ويخبرنا، فهو سيخبرنا عن مجده الذي سيصير لنا ويشهد لنا بأننا أبناء، لنا حق الوراثة (يو21:17 + رو16:8-17) فحزن التلاميذ كان بسبب تعلقهم الجسدي بالمسيح ولكن إنطلاق المسيح هو المستقبل المجيد للكنيسة. ويكفينا أن نراه الآن بالإيمان وبما يعلنه الروح القدس في قلوبنا (أف17:3 + 1كو9:2-12) الفداء يكمل بتمجيد جسد المسيح أي صعوده وجلوسه عن يمين الآب. والمسيح بذهابه مجد الطبيعة البشرية في جسده، فطبيعة البشر صارت في عرش الله. ولكي ندخل نفس المكان يرسل لنا الروح القدس ليعيننا. وكيف يعيننا؟ هذا موضوع الآيات التالية.. بأنه يبكت على خطية وبر ودينونة. والروح يعطي رؤية حقيقية للمسيح غير التي رآها التلاميذ بالجسد وهذا أفضل. وهو يمكث للأبد والسيد طوب من آمن ولم يرى. وهذا الإيمان يعمله الروح القدس.

الآيات (8-11): "ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي. وأما على بر فلاني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً. وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين."
بعض الترجمات الإنجليزية ترجمت كلمة يبكت كالآتي [1] يوبخ [2] يدين [3] يقنع. (REPROVE / CONVICT / CONVINCE)
يبكت= هذه الكلمة ترجمتها تعني التوضيح للشخص بشأن خطيئته ودعوته للتوبة وقد يكون هذا التوبيخ سراً (كما جاءت الكلمة في مت15:18) لمن لا يقاوم بعناد وقد يكون هذا التوبيخ علناً (كما جاءت الكلمة في تي9:1) والروح القدس يستخدم الكتاب المقدس والوعظ والتعليم والإرشاد والإعتراف والعمل الداخلي، كل هذا سراً. فإذا لم يأتي كل هذا بنتيجة يلجأ الروح القدس لمن نسمع منه أخطاءنا علانية لعلنا نندم ونتوب. إذاً عمل الروح القدس أن يوضح الخطية للإنسان بهدف إقناعه ببشاعة نهاية طريقها "اقنعتني يا رب فإقتنعت" (أر7:20). وبأن يتركها. والروح يقنع بأن طريق الله كله فرح لا يقارن بلذة الخطية. فهي نوع من التلمذة التعليمية للتهذيب وهذا المعنى نجده في (2تي16:3). فكلمة يبكت تشير أيضاً لمن يغلب بالحجة حتى يسكت. وهذا التبكيت يؤدي لحياة لمن لا يقاوم ويؤدي إلى دينونة لمن يقاوم "فهو رائحة حياة لحياة ورائحة (دينونة) وموت لموت (2كو16:2) والروح القدس أعظم من الضمير. فالضمير يوبخ الإنسان لو أخطأ لكنه قد يقوده لليأس، أمّا الروح القدس فيوبخ فاتحاً باب الرجاء (هذا هو الفارق بين يهوذا وبطرس). فالروح القدس الذي يعزي هو الذي يبكت فتبكيته لا يؤدي إلى اليأس بل للتوبة والبر والسلام والتعزية لمن يطيعه والعكس يكون رائحة موت لموت. وهذا ما حدث يوم الخمسين فهناك من آمن بفرح وهناك من إستهزأوا (أع13:2-14) والضمير أيضاً قد يتغير بحسب البيئة التي يحيا الإنسان فيها فيقبل الخطية على أنها شيء عادي، وقد يمرض وهذا ما يسمى بالوسواس.
على خطية.... فلأنهم لا يؤمنون بي
الروح القدس يبكت الإنسان على خطاياه، فقصد الرب أن يعطي الإنسان شركة مع المسيح، وكل من يؤمن بالمسيح وتكون له هذه الشركة يرفع المسيح عنه خطاياه ويعطيه معونة ليتخلص منها. نحن متنا مع المسيح في المعمودية وكل من يؤمن يكون له قوة للموت عن شهواته وأهوائه. وكل من يؤمن حتى لو أخطأ فدم المسيح يطهره من كل خطية.ولا طريق للتطهير من الخطية سوى دم المسيح. لذلك فكل من لا يؤمن يرفض هذا القصد وبذلك يقع تحت غضب الآب ويحرم نفسه من النعمة الوحيدة القادرة أن تحفظه من السقوط في الخطية ويحرم نفسه من نعمة الدم الغافر. فتبكيت الروح القدس يشعر الإنسان بجرم خطيته وقساوتها وكيف أنها رهيبة في نظر السماء ومن يستجيب ويقدم توبة بإخلاص ويرجع سيجد المعونة ويجد الغفران. ومن يرفض ويقاوم الروح سيجلب على نفسه اللعنة والدينونة. وطبعاً المقصود بالإيمان هو الإيمان الحي الذي له ثمار واضحة في حياة الإنسان، الإيمان العامل بمحبة. والروح القدس يبكت العالم على الخطية ليس بحسب مفهوم العالم أو بحسب مفهوم اليهود. فاليهود ظنوا أن الخطية قاصرة على تعدي الناموس وكسر السبت لذلك حكموا على المسيح أنه خاطئ (24:9) وأما العالم فكل له تصوره عن الخطأ والصواب. لذلك جاءت كلمة خطية غير معرفة لأن العالم لم يكن يعرف تماماً ما هي الخطية. والآن يشرحها المسيح بأنها عدم الإيمان به فهو وحده الذي يرفع الخطية (رؤ14:7) ويعطي معونة لنتخلص منها. بل أن كل خطية هي نوع من عدم الإيمان بالمسيح. فالسارق لا يؤمن بأن المسيح قادر أن يسدد إحتياجاته والذي يشتهي لا يؤمن أن المسيح قادر أن يشبع شهواته. والذي يخطئ عموماً لا يؤمن أن المسيح يراه وسيعاقب (تك9:39). ومن يؤمن بالحياة الأبدية كيف يتصارع على المادة. ومن يؤمن بصلاح الله كيف يتهم الله بالقسوة إن حدثت له تجربة.. الخ. أما من يؤمن بالمسيح، فالمسيح يملك على قلبه عوضاً عن الخطية (رو14:6). ومن لا يؤمن بالمسيح فهو لا يؤمن بالله ولا يعرفه فالمسيح هو إبن الله (يو19:8). إذاً خطية عدم الإيمان بالمسيح هي أصلاً خطية عدم إيمان بالله أو عدم معرفة بالله. لو استخدمت يدي في السرقة يبكتني الروح القدس حتى أكف عن إستخدامها في السرقة (تبكيت على خطية) ثم يبدأ يبكتني على بر، أي لماذا لا أستخدمها في عمل الخير.
وعلى بر.... فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً
ماذا كان مفهوم البر قبل المسيح؟ بحسب المفهوم اليهودي كان البر في الإلتزام بالناموس. لكننا نجد شاول الطرسوسي يحكم بقتل إسطفانوس ظلماً وهو برئ بالرغم أن شاول كان ضليعاً في الناموس. وأمّا العالم فكان غارقاً في عباداته الوثنية وفجوره وزناه. فالمسيح فضح بر اليهود الكاذب إذ صلبوه، وفضح فساد القانون الروماني، إذ حكم عيه بالموت. وبعد المسيح فقد تغير مفهوم البر. فالمسيح وحده هو البار والذي ظهر بره في ذهابه إلى أبيه وجلوسه عن يمينه وقبول الآب له وأنه لن يعود يظهر على الأرض فهو جالس عن يمين الآب لذلك لن نراه، فهو في مجد السماء. ولكن المسيح لم يكن محتاجاً أن يظهر بره، بل هو يظهره ليبررني، المسيح يعطيني حياته فأعمل البر، فأخلص بحياته (رو10:5 + غل20:2 + في21:1). والروح أظهر أن بر المسيح الذي ظهر بصعوده للسماء صار لنا. الروح يبكتني إن لم أعمل أعمال بر وتتحول أعضائي إلى آلات بر (رو13:6). وهذا البر لا أصنعه بقدرتي، بل بحياة المسيح فيًّ. فبدونه لا أقدر أن أعمل شيء (يو5:15).وهو يستخدم اعضائي الات بر فهى صارت أعضاءه لصنع البر.فأى الة يوجد من يستخدمها. ولأنني ما عدت أراه إذ هو صعد إلى السماء وذهب إلى أبيه، فما عدت أرى بره لأتمثل به، فالروح القدس الذي يأخذ مما له ويخبرني (يو14:16) يرسم لي صورة للمسيح فأتمثل به ويذكرنى بأقوال المسيح ويعلمنى وصاياه (يو26:14). والروح يقنعني أنني قادر أن أسلك في بر المسيح ليس بقدرتي بل بحياة المسيح فيّ، الذي وإن لم أراه بالجسد، لكنه يعطيني حياته وبره.
ولهذا رأينا أن إسطفانوس في ساعة موته يردد ما قاله المسيح على الصليب"إغفر لهم + في يديك أستودع روحي". ويبكتني إن لم أفعل البر. والروح يبكتني إذا شابهت اليهود وعشت متصوراً أنني أتبرر بأعمالي (بر ذاتي) ويبكتني لو شابهت اليونانيين الوثنيين الذين يعيشون في خطاياهم غير شاعرين بإحتياجهم للمسيح والإيمان به ليبررهم أي يعملون أعمال بر، معجبين بأنفسهم وفلسفاتهم وطرقهم. أمّا المسيحي الحقيقي فهو يقف أمام المسيح شاعراً بخطيته كالمرأة الخاطئة، باكياً عند قدميه شاعراً بعدم إستحقاقه لشئ، شاكراً المسيح في نفس الوقت أنه أنعم عليه ببره فالمسيح هو الذي يبرر الخاطئ. ولاحظ أن الروح القدس يبكت على خطية أولاً، فإذا ما رجع المؤمن بتوبته الصادقة لله وبدموعه حينئذ نتكلم عن التبكيت على البر. (راجع 1تي16:3) أي أعمال البر التي لا نعملها. والروح أيضاً يبكتني لو نسبت أعمال البر لنفسي وتصورت أنني أنا الذي أعملها.
ذاهب إلى أبي= لن تعودوا ترونني بالجسد لتتمثلوا بي. وأيضاً ما كان يمكن أن أذهب إلى أبي إن لم أكن باراً وسيكون لكم بري.
ولا ترونني أيضاً= لكن الروح القدس سيشهد ببري ويشهد بالمجد الذي لي في السماء، ويعطيكم رؤية واضحة لي أفضل من رؤيتي بالجسد. فالروح يرسم صورة لقدراتي وقوتي وغفراني للخطايا لا تراها العين الجسدية في جسدي الذي ترونه بعيونكم الجسدية.
يبكت على بر= يبكت المؤمن على عدم وجود بر في حياته أو بشعوره بالبر الذاتي. فمن إعتمد قام مع المسيح في حياة جديدة يجب أن يمارس فيها أعمال بر إيجابية، إيمان عامل بمحبة. الروح يرسم لنا صورة لبر المسيح ويبكتنا إن لم نشتاق أن يكون لنا نفس البر الذي للمسيح. هذا التبكيت يعطي حالة عطش وإشتياق لهذا البر. ومن لا يقبل تبكيت الروح على الخطية وعلى البر يسقط تحت الدينونة، لأنه إنحاز لرئيس هذا العالم الذي قد دين، وكما صار المسيح رأساً للأبرار الذين يسلكون في بره صار إبليس المدان رأساً للأشرار الذين يسلكون في شره.
وعلى دينونة.... فلأن رئيس هذا العالم قد دين

الروح يبكت الإنسان المؤمن لأن رئيس هذا العالم قد دين أي أن الشيطان قد هزم وبطل سلطانه. وبذا يكون التبكيت للناس أنهم رفضوا الخلاص وأطاعوا الشيطان ومن يرفض الخلاص يظل عبداً للشيطان، أمّا الذين تبعوا الرب فقد رفعت عنهم خطاياهم من أجل إسمه (1يو12:2). فهو حمل الله الذي يحمل خطايا العالم. والمؤمنين صاروا متبررين مجاناً بنعمة الفداء (رو24:3 + 1:8). والمسيح دان الخطية (رو3:8) فما عاد لها سلطان علينا (رو14:6). والروح يدين من ما يزال يعتذر بأن الخطية أقوى منه. والدينونة على إبليس كانت نتيجة طبيعية لظهور بر المسيح. فإبليس إشتكى عليه ظلماً. وبعد ظهور بر المسيح دين إبليس وقيده المسيح بسلسلة (رؤ1:20-3)، بل أعطانا نحن المؤمنين سلطاناً عليه (لو19:10) "أعطيتكم سلطان أن تدوسوا الحيات والعقارب.." فتبرئة المتهم ظلماً هي إدانة للمشتكي بهتاناً. والمبلغ بلاغاً كاذباً يقع عليه عقاب من يقترف جريمة.
والشيطان كان مسيطراً على نفوس الناس متحكماً فيها حاكماً لها. له سلطان أن يذل البشر. ولكنه الآن قد أدين وسقط وفقد بإنتصار المسيح عليه كل ما كان له من رياسة وسيطرة وسلطان. ومع ذلك ظل الناس على شرهم ومكرهم وظلمهم وظلام عقولهم. مع أنهم وقد جاءهم المسيح الذي عمل على إقتلاع كل ما غرسه الشيطان فيهم لم يَعُدْ لهم عذر ولا مبرر في مفاسدهم ومعاصيهم. والعالم له مقاييسه الخاصة في الدينونة ولكنها مقاييس باطلة، فمثلاً اليهود لهم محكمتهم التي بحسب الناموس. والرومان لهم قانونهم الروماني أساس كل دساتير العالم وكلاهما حكم ظلماً بقتل المسيح بعد أن أدانوه. والمسيح قام ناقضاً حكم الموت ليعلن بطلان أحكام العالم (يهود ورومان) وأنهما ليسا بحسب الحق بل بحسب إبليس، الذي دانه وأظهر غشه وكذبه وأنه قتال للناس منذ البدء. أمّا الروح القدس الذي دخل إلى العالم فجاء ليصحح هذه المقاييس، وصارت الدينونة الآن بحسب مفهوم الروح القدس هي في رفض المؤمن للخلاص والبر والمجد الأبدي. وإصراره على عدم التوبة. الدينونة الآن تقف على طرف نقيض مع حياة الخلاص. وهي تقع من الآن على من يرفض الخلاص وتَكْمُل في اليوم الأخير. الروح القدس يدخل إلى العالم الشرير ليبكته ويستذنبه على ما فعل وعلى دينونته الغاشة الباطلة الكاذبة القائمة بتحريض من رئيس عالم الكذب والضلال الذي أدانه المسيح بالصليب وعلى الصليب وفضح غشه (لو18:10 + يو31:12) إذ ضبطه متلبساً بالحكم بقتل إنسان برئ بعد أن لفق له إتهامات باطلة، فالمسيح أظهر بره بقيامته وصعوده. والمسيح دان إبليس ورفع يد رئيس هذا العالم عن أن تتدخل بعد اليوم ولا أن يكون له صوت في الدينونة التي سيتولاها إبن الله (رؤ9:12-11). فالمسيح غلب وصار دياناً للأحياء والأموات. بل أننا نلاحظ أن المسيح بدأ هزيمة إبليس في تجربته له في البرية حين رفض إغراءات هذا العالم ثم وصل في رفضه لهذا العالم لأنه قبل الموت. والخلاصة أن الروح القدس يبكت المؤمن الذي مازال يدّعي أن إبليس له سلطان عليه لذلك فهو يخطئ، ويبكت من لازال خائفاً من أحكام ودينونة العالم الذي رئيسه إبليس بعد أن ظهر أن أحكامه باطلة كلها غش (مثل من يخطئ ويدّعي لنفسه العذر بأنه يساير المجتمع، وأن هذه هي القوانين السائدة) ويبكت من ما زال سائراً وراء هذا العالم ورئيسه قائلاً كيف تسيرون وراء الشيطان الذي غلبه المسيح وحكم عليه.
يبكت على خطية وعلى بر وعلى دينونة

يبكت على خطية.. هذا هو داء البشرية وهو الخطية. والمسيح أتى ليرفع الخطية لكل من يؤمن به وهذا هو المدخل للمسيحية.
يبكت على بر.... بعد أن ندخل المسيحية كيف نحيا؟ الإجابة نحيا أبرار ببر المسيح الذي أعطانا حياته.
يبكت على دينونة.. دائماً الإنسان يحاول أن يتحجج بأن سبب الخطية، وأنه لا يسلك في البر، هو قوة إبليس، ولكن السيد يعلن بصراحة أن إبليس قد دين وأن لنا سلطان أن ندوسه. وأن لنا قوة من الله تعين. والسؤال لمن مازال يقول أن الشيطان قوي هو. من الأقوى الروح الذي يعين ضعفاتنا (رو26:8) أم الشيطان؟ من معنا أقوى. وإن كان إليشع قد قال هذا عن ملائكة فكم وكم قوة الروح القدس. حقاً نحن بلا عذر فالروح يعطي نعمة أعظم (يع6:4).
ولنلاحظ أن العاملون في قضية خلاص الإنسان هم الإنسان نفسه والرب يسوع والشيطان. فالله يسعى لخلاص الإنسان والشيطان يسعى لهلاكه والإنسان حر في أن يختار طريق البر أو طريق الشر. والروح القدس أتى ليجذب ويوجه البشر نحو الفداء وذلك بأن يبكتهم على خطاياهم وعلى رفضهم للمسيح البار الحقيقي مصدر برهم وعلى تبعيتهم للشيطان الذي تمت هزيمته.
والروح القدس يبكت ويعطي قوة ومعونة على طاعة الله. والقوة التي يعطيها الروح القدس أقوى بما لا يقاس من قوة إبليس. ولذا كان رفضه اى رفض الروح القدس إغلاقاً لباب التوبة. ولذا قال الرب "من قال كلمة على إبن الإنسان يغفر له وأمّا من قال على الروح القدس فلن يغفر له" (مت32:12) لأن من يجدف على الإبن فهو قد يستمع لصوت الروح الذي في قلبه فيتوب عن خطيته فتغفر له. وأمّا من أنكر الروح أي رفضه وقاومه وأحزنه فأطفأه، والروح هو الذي يبكت ويقود إلى التوبة، فبإطفائه للروح القدس فهو يفقد التوبة والغفران لذلك يوصينا الرسول (لا تحزنوا الروح/ لا تطفئوا الروح) ونصلي في المزمور الخمسين "روحك القدوس لا تنزعه مني" (مز11:51)
فالروح القدس يبكت الإنسان على خطايا عدم إيمانه فإمّا يتجاوب مع الروح ولا يقاوم فيكون له بر المسيح وإمّا ينحاز إلى جانب إبليس فيدان معه. والإنسان بلا عذر فإبليس مدان.
ونلاحظ أن كلمات خطية وبر ودينونة أتت بدون أداة التعريف للتعميم والإطلاق. يبكت العالم= العالم بشقيه [1] اليهود المنغلقين في عالمهم الحرفي وبرهم الذاتي. [2] الأمم التائهين وراء شهواتهم وفلسفاتهم ووثنيتهم.
هذه الآيات تضع معادلة معاملة الله مع المسيحي:
1. تبكيت على خطية= تبكيت الروح للإنسان الخاطئ الذي تسكن الخطية في جسده.
2. تبكيت على بــر= المسيح يريد أن يعطي بره للإنسان.
3. تبكيت على دينونة= إبليس يريد جذب الإنسان إليه ويظل الإنسان تحت تأثير قوة جذب الروح (ليصبح له بر المسيح) وقوة جذب الشيطان.
ولكن قطعاً قوة جذب الروح لا تقارن في قوتها بقوة جذب إبليس ولكن لنلاحظ فالله ترك الإنسان حراً.
ملخص لهذه الآيات

هذه الآيات تلخص عمل المسيح والروح القدس في تجديد الخليقة
تبكيت على خطية
لأنهم لا يؤمنون بي
الروح القدس يدعو للإيمان بالمسيح، فلا أحد يستطيع أن يقول المسيح رب إلاّ بالروح القدس (1كو3:12) والإيمان بالمسيح هو الطريق الوحيد لغفران الخطايا والإيمان الحي بالمسيح هو الطريق الوحيد للتوبة.
تبكيت على بر
لأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني
المسيح ذهب ليعد لنا مكان، ويأتي ليأخذنا إليه. بعد التوبة يبدأ الروح القدس في الدعوة لأن نحيا في بر المسيح. وذلك بأن:
1) يرسم لنا صورة المسيح (آية14)
2) يثبتنا في المسيح (2كو21:1)
3) فتكون لنا حياة المسيح.
4) يذكرنا بكل أقوال المسيح (يو26:14)
لذلك فمع أننا لا نرى المسيح لكن الروح يجعلنا نشتهي أن نحيا في بره، ويعطينا القوة على ذلك.
تبكيت على دينونة
لأن رئيس هذا العالم قد دين
الروح القدس يساندنا بقوة جبارة لكي نسلك في حياة البر، فالشيطان أصبح بلا قوة وصار لنا نحن المؤمنين سلطان عليه. بل الذي معنا وهو قوة الروح القدس أعظم بكثير من قوة هذا العدو المهزوم. إذاً نحن بلا عذر.
القرار قرارنا والإختيار إختيارنا.. أن نحيا في بر المسيح أو نحيا مهزومين. وراجع وعود سفر الرؤيا (2-3) لمن يغلب.

آية (12): "أن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن."
وهذه تشبهها آية (25). فالمسيح أخبر تلاميذه عن أمور كثيرة ولكنهم لم يستوعبوا كل ما قاله. وهو أخفى عنهم أموراً أخرى كثيرة عن طبيعته الإلهية وعن أمور صلبه، أو ما سيحدث لهم من آلام وإضطهاد، وما سيحدث بعد قيامته. ولكن الروح القدس الذي سيرسله سوف يشرح لهم ما غمض عليهم فهمه وما لم يذكره المسيح لهم إذ كانوا غير مؤهلين بعد بل سيعطيهم إحتمال الآلام. وقوله الآن يعني قبل أن يحل الروح القدس عليهم ويشهد للمسيح ويشرح أسراره (أف3:3-10). فالروح هو الذي يعلم ويذكر ويعزي ويقوي..
الآيات (13-15) يعرفنا المسيح بعمل الروح القدس مع الكنيسة في إصحاحات (14-16) لذلك يسمون هذه الإصحاحات إصحاحات الباراقليط فهو المعزي (16:14) وهو روح الحق الذي يكون فينا (17:14) وهو يعلم ويذكر (26:14) وهو يشهد للمسيح في التلاميذ وهم يشهدون بواسطته للعالم (26:15،27) فهو روح الشهادة للمسيح. ويضيف في هذه الآيات أنه يرشد لجميع الحق (13:16) ويخبر بأمور آتية كسفر الرؤيا مثلاً. بل هو يخبر أحباؤه بكثير من الأمور المستقبلية وعن المجد المعد والملكوت الآتي. وهو يأخذ مماّ لي ويخبركم (14:16). وبذلك يمجد المسيح. فهو يستعلن الآب والإبن للمؤمنين. وكان من نتائج عمل الروح القدس في التلاميذ [1] بشروا العالم [2] كتبوا الإنجيل.

آية (13): "وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية."
متى جاء ذاك= أي الروح القدس الذي سيعطيهم إنفتاح الذهن فيقبلوا ما هم غير قادرين على إحتماله. الحق= هو المسيح لذلك هو معرّف بأل. فهو يرشدنا لكل الحق الذي في المسيح ويستعلن لنا المسيح (يو21:14) فعمل الروح القدس هو الإنارة والإرشاد لجميع الحق كما كان عمود النار يهدي ويرشد الشعب في البرية. هكذا الروح القدس يهدينا في طريق الحق وسط ضلال العالم. ونلاحظ أن المسيح بتعاليمه وضع بذور الحق والروح القدس ينميها فينا وينير كل جوانب الحق فيما علمه المسيح. وكلمة الحق عند اليونانيين الفلاسفة تعني تحرير الفكر من الجهل وعند اليهود تعني السلوك بحسب الناموس حرفياً. ولكن بهذا المفهوم فإن الحق الذي يعلمنا إياه الروح القدس هو إعلان المسيح لنا وإعلان عمله، وتذكيرنا بأقواله. فإذا آمنا به وإستجبنا له نتحرر من الشيطان والخطية والعالم. لذلك فالروح القدس هو روح الحق هو يأخذ من الحق الذي ليسوع ويعطي لنا. فهو يعرفنا بالمسيح وعلاقة الإبن بالآب. يأخذ مما لي ويخبركم. لأنه لا يتكلم من نفسه= يرشد إلى كل تعاليم المسيح، هو ينقل كلام المسيح إلى قلوبنا. وهو لا يتكلم من نفسه= أي هو لا يقول كلاماً غير ما قلته أنا فنحن على إتفاق. أي لا تظنوا أن هناك إنفصال بيننا، بل نحن واحد.
بل كل ما يسمع يتكلم به= سبق المسيح وقال أنه يشهد بما سمعه (يو32:3 + 26:8). هناك إتفاق تام بين الأقانيم. وما يريده الآب يريده الإبن ويريده الروح القدس. لكن هناك توزيع للأدوار بين الأقانيم. فمثلاً الآب يريد أن الجميع يخلصون. فالإبن ينفذ الفداء. والروح القدس يقود الكنيسة كلها للسماء. فالآب يريد والإبن والروح ينفذان. وكيف يتم التعبير عن هذا. نسمع الرد في هذه الآية. فالآب حينما يريد شيئاً ينفذه الروح، وتم التعبير عن ذلك بأن الروح سمع إرادة الآب وأخبرنا بها، والآب والروح لهما نفس الارادة فالروح يفحص اعماق الله ( 1كو 2:10 )= هذا يعنى ان الروح ينفذ ما يريد الآب ان يخبرنا به. والإبن لأنه يعرف إرادة الآب يقال أنه حين يسمع يقول الأقوال (يو26:8) وحين يرى يعمل الأعمال. ولأنهم واحد يقول الآب يعمل (يو19:5-20). فالآب في الابن فهو يعمل فيه وبه.
يرشدكم إلى جميع الحق= كل ما لم يقله المسيح وكل ما لم يفهموه من المسيح إذ كان يتكلم بأمثال، فالروح سيكشف الحق بطريقة كاملة. والروح القدس يلقي النور ليكشف عن الأعماق التي في كل آية، وكل يوم نرى فيها معنى جديد نفرح به. فالروح يشرحها مرات ومرات. والروح يشهد عن طريق الرسل أو الخدام أو مباشرة داخل القلب. يأخذ مما لي ويخبركم= يعرض ويكشف أمامكم كل ما يخصني. كل ما للآب هو لي= الحق الخاص بي هو نفسه خاص بالآب. والمسيح جاء ليمجد الآب. والروح جاء ليمجد المسيح. والروح الآن مستتر وكل ما يعمله يظهر المسيح. يخبركم= بالبشارة والإعلان. بأمور آتية= فالروح يرشدني إلى ماذا أفعل في المستقبل لأحصل على الخلاص، وسيخبر التلاميذ بما حدث للمسيح بعد صعوده ويخبرنا بما لنا من مجد معد في السماء (1كو9:2-12). وكشف ليوحنا ما رآه وسجله في سفر الرؤيا. وليس معنى هذه الآية بالضرورة النبوات كما كان يفعل مع الأنبياء (أغابوس مثلاً). وسيكشف لكم عن الضيقات التي تحل بالكنيسة.

آية (14): "ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم."
المجد هنا هو إستعلان حقيقة المسيح الإلهية وأنه مساوٍ للآب في الجوهر، جوهر الألوهية. وأن له كل المجد. وأيضاً فالروح القدس يأخذ ممّا للمسيح وينقل صورة للمسيح داخل قلوبنا فنحبه ونمجده إذ نراه بالقلب ويسكب بغني النعمة على قلوب وحياة المؤمنين وهو ينقل لي بر المسيح وخلاص المسيح.. فالآب يمجد الإبن والإبن يمجد الآب والروح يمجد الإبن. كل إقنوم يمجد الآخر. وكل إقنوم ينكر نفسه ويشهد للآخر.

آية (15): "كل ما للآب هو لي لهذا قلت أنه يأخذ مما لي ويخبركم."
المسيح ينبه أذهاننا أن مجده هو مجد الآب. وهذا ما سيعمله ويعلنه الروح القدس لنا، الذي سيشهد في قلوبنا أن المسيح الذي رأيناه بالجسد له كل المجد الذي للآب شخصياً. هذا الكلام موجه للتلاميذ الذين لم يكونوا يدركون وهم يرون المسيح وسطهم بالجسد أن له كل مجد الآب. وكل ما يخبرنا به الروح القدس عن مجد المسيح هو عن الآب أيضاً. والروح القدس يعرفنا بإستمرار عن الآب والإبن وعلاقة الآب بالإبن التي هي موضوع خلاصنا. فحب الآب للإبن صار من نصيبنا أن نشترك فيه وطاعة الإبن للآب علينا الآن أن نتشبه بها ونشترك فيها حتى إن وصلت للصليب والروح القدس يعطي القوة على طاعة الله، وهو يعلمنا ويذكرنا بما قاله المسيح. كل ما للآب هو لي= إشارة واضحة جداً للوحدة. والحق الخاص بي هو خاص بالآب.
آية (16): "بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضاً ترونني لأني ذاهب إلى الآب."
بعد قليل= المسيح أتى ليقضي أياماً قليلة على الأرض ينهي فيها رسالته وها هي قد قاربت على الإنتهاء. ولابد من الفراق بالجسد. والمسيح بعد ساعات سيصلب ويموت ولن يراه التلاميذ بالجسد ثانية. ولكن المسيح هنا يعزي تلاميذه على حزنهم بسبب الفراق أنهم بعد قليل سيرونه ثانية لأنه سيقوم. إلاّ أنه بعد قليل يصعد للآب فلا يعودوا يرونه، ثم بعد قليل يحل عليهم الروح القدس فيرونه في قلوبهم= لأني ذاهب إلى الآب فلن ترونني بالجسد لكن الروح القدس يعطيكم رؤيا حقيقية أقوى بكثير من رؤية الجسد. لا تبصرونني.. ترونني= الفعل يبصر في اليونانية يشير إلى رؤية شبه صحيحة، رؤية فكرية، لا رؤية حق، هي رؤية تصوُّر وليس رؤية واقع واستخدمت هنا بخصوص رؤية التلاميذ للمسيح بالجسد المادي. أمّا الفعل يرى في اليونانية يعبر عن الرؤية الصحيحة، رؤية الحق كما هو، بلا أي خيال فكري أو أي تصور عقلي بشري. وإستخدمت هنا للتعبير عن رؤية المسيح القائم من الأموات بالجسد الروحاني الممجد. والمعنى أن رؤية التلاميذ للمسيح قبل أن يقوم وقبل أن يتمجد هي رؤية ليست تامة أو صحيحة. فهم يرونه كإنسان ضعيف. فالمسيح لم يكن مستعلناً إستعلاناً كاملاً. أمّا بعد القيامة وبعد أن عرفوا من هو فكانت رؤية صحيحة لذلك صرخ توما ربي وإلهي (28:20). فهم رأوه غالباً الموت، رأوه بالعين الروحية التي تستعلن الحق، وكأن المسيح يريد أن يقول "إنكم لا ترونني على حقيقتي، بالرؤية الصحيحة ولكن بعد قليل حينما أكمل إستعلاني وأظهر في مجدي حينئذ ترونني حقاً سواء بعد القيامة أو أثناء صعوده أو بعد صعوده "كما رآه شاول في الطريق لدمشق" وبالأكثر حين يحل عليهم الروح القدس ويعطيهم الرؤيا الروحية الحقيقية للمسيح في مجده الذي صار فيه فعلاً. وهنا نرى أن الروح القدس يعطي الرؤية الصحيحة وهذه الرؤية الصحيحة التي يعطيها الروح تسبب فرح حقيقي (آية22) ونرى أيضاً في (لو39:23-43) أن اللص اليمين بعد أن إعترف بخطيته وشعر
بحقيقة حاله إنفتحت عيناه وعرف أن المسيح هو الرب والذي سيأتي في ملكوته. فمن يشعر بخطيته وينسحق أمام الله يفتح الروح القدس عينيه ليرى المسيح. أما في السماء فسنراه كما هو (1يو2:3)

الآيات (17-19): "فقال قوم من تلاميذه بعضهم لبعض ما هو هذا الذي يقوله لنا بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضاً ترونني ولأني ذاهب إلى الآب. فقالوا ما هو هذا القليل الذي يقول عنه لسنا نعلم بماذا يتكلم. فعلم يسوع انهم كانوا يريدون أن يسألوه فقال لهم اعن هذا تتساءلون فيما بينكم لأني قلت بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضاً ترونني."
واضح أن حالة من الإرتباك سادت التلاميذ ولم يفهموا ما قصده الرب من كلماته هذه. ويوحنا كشاهد عيان يصوِّر المشهد بدقة.

الآيات (20-22): "الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح انتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحول إلى فرح. المرأة وهي تلد تحزن لأن ساعتها قد جاءت ولكن متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح لأنه قد ولد إنسان في العالم. فانتم كذلك عندكم الآن حزن ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم."
المسيح لم يتركهم في حيرتهم بل بدأ يشرح لهم أن العالم يحزن ويفرح بطريقة مختلفة عن حزن وفرح أولاد الله. فالعالم يحزن بسبب الخسائر المادية ويفرح للمكاسب المادية. أمّا المسيحي فحينما تصيبه التجارب والأحزان بل قد تصل أن البعض يتصور أن المسيح تركه، ولكن الله لا يترك أولاده، وسرعان ما يشرق نور المسيح مبدداً ظلمات الحزن والكآبة مالئاً قلوب أولاده تعزية وفرح. لكن ما يسبب الحزن الحقيقي لأولاد الله هو الخسائر الروحية حينما لا يحقق مشيئة الله في حياته أي الخطية. والمسيحي يفرح إذا ما شعر برضى الله ولكن هذه الأشياء الروحية لا تفرح أهل العالم. ولكن ما علاقة موضوع الحزن والفرح بما سبق عن رؤية المسيح؟! الإجابة في أن من يرى المسيح وتكون له هذه الرؤية الروحية سيفرح فرحاً حقيقياً والمسيح هنا يخبر تلاميذه بأنهم يبكون وينوحون ومثلها أنتم كذلك عندكم الآن حزن بسبب صلبه وبسبب مفارقته لهم ولكل مسيحي الآن. نحن عندنا حزن بسبب خطية أو ضيقة أو تجربة أو خسارة. فالمسيح بدمه يغفر وبقوته يحول الخسارة لمكاسب روحية. والعالم يفرح= لأنهم تخلصوا من المسيح وبسبب أنهم يتصورون أنفسهم أقوياء ويتمتعون بملذات العالم. وهم سيبكون ويحزنون بسبب إضطهاد العالم لهم. وبالنسبة لنا تشير لكل آلام العالم وإضطهاده بل بسبب التجارب والخسائر التي نلاقيها في العالم. ولكن حزنكم يتحول إلى فرح= بالنسبة للتلاميذ فهم سيفرحون قريباً بقيامة المسيح، ويوم حلول الروح القدس وبدء ظهور ثمار فداء المسيح. وبحلول الروح القدس رأى التلاميذ المسيح رؤية روحية حقيقية فإمتلأت قلوبهم فرحاً والفرح من ثمار الروح القدس. وبالنسبة لنا فكل تجربة مادية فيها حزن، نلجأ لله والروح القدس يكشف لنا وسط أحزاننا عن وجه المسيح المحب فيتحول حزننا إلى فرح. وأيضاً أحزان التوبة المقدسة هكذا تتحول إلى فرح. بل كل ما نخسره (والعالم يحزن بسبب هذه الخسارة) (مرض/ ألم/ خسارة/ تجربة..) سيكون سبب فرح فالمسيحي يعلم أن كل الأمور تعمل معاً للخير. وأن التجربة التي سمح بها الله هي الطريق للتنقية وبالتالي طريق السماء. فالحزن تحول إلى الفرح بالنسبة للمسيحي. والمسيح ضرب مثالاً بالمرأة التي تحزن حينما تأتي ساعتها لتلد بسبب الخوف من آلام الولادة ولكن حزنها يشوبه رجاء وفرح وأمل وسريعاً ما يتحول الحزن إلى فرح. وهكذا المسيحي يخاف من الآلام ومن تنفيذ الوصايا الصعبة أو أن تسلب أمواله أو يتألم في مرض أو إضطهاد أو يُهان إسمه، بل هناك من يخافون ويحزنون إذا أتى الصوم وهو ألم إختياري. ولكن عمل الروح القدس أنه يعطي عزاء هنا على الأرض وفي السماء مجد أبدي. (رو18:8 + أع40:5-41 + عب34:10-35). ولكن لماذا إختار المسيح التشبيه بآلام المرأة التي تلد؟
1. أن المرأة تقبل على هذه الآلام إختيارياً وبإرادتها وهي تعلم قسوة آلامها.
2. فترة الحزن والألم قليلة جداً لا تزيد عن ساعات في حالة الولادة. (هكذا قال المسيح للتلاميذ ويقول لنا "أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة")
3. يعقبها فرح بولادة طفل.
4. الولادة بآلامها الصعبة يخرج منها فرح. وهكذا الصليب سيخرج منه قيامة، وأي حزن يسمح به الله لنا سيخرج منه حياة وبه نكمل " حولت لى العقوبة ( الالم نتيجة الخطية) خلاصا ( تزكية اي تنقية ).
وهكذا إختار المسيح آلام الصليب بإرادته (وهي كانت لفترة ساعات) ولكن أعقبها فرح المسيح بولادة كنيسته. ومهما زادت فترة آلامنا في طريق القداسة الذي إخترناه فهي لن تزيد عن أيام عمرنا وهي قليلة ولكن يعقبها فرح أبدي. آلامنا وتجاربنا هي كآلام الأم إن إحتملناها يولد فينا إنسان جديد فالألم يطهر (1بط1:4) عموماً طريق المسيح يبدأ دائماً بالألم وينتهي بالفرح هنا على الأرض ومن المؤكد في السماء. سأراكم= كما يقال نظر الملك بعين العطف على فلان. لم يقل المسيح سترونني بل سأراكم. وجميل جداً أن ننظر نحن للمسيح لنحصل منه على الفرح. والأروع أن يتكرم هو علينا بنظرة تعطينا الفرح الحقيقي. هو الذي سيفتش علينا في حزننا كما فتش على الأعمى الذي شفاه حين طردوه ليعلن له نفسه فيفرح (يو35:9-37) ولاحظ قول الكتاب "فوجده". وقصد المسيح أنه سيفيض من فرحه وتعزياته بل من مجده الأسنى بعد قيامته علينا. فنحن لو حاولنا أن ندرك المسيح لنراه سنفشل. ولكنه هو في محبته وفرحته يبحث عنا ليفيض علينا من فرحه وسط احزاننا، هو يتطلع إلى تلاميذه من مجده، ومع رؤيته لهم يُرى ذاته لهم. هو يأتي ليظهر نفسه ويسكب حينئذ فيهم فرحته فهم سيفرحون إذ يروه بالروح القدس. ولأن الفرح هو فرح الله فلا يستطيع أحد أن ينزعه منا لا أشخاص ولا أحداث ولا حتى آلام. وهذه ميزة الفرح الذي يعطيه الله بالمقارنة بأفراح العالم فأفراح العالم مؤقتة ولفترات بسيطة. والتسمية الصحيحة لما يعطيه العالم هي لذة، فالفرح صفته أنه دائم وهو عطية من الله فقط.اما اللذة فهى عطية الجسد، وهي عابرة لحظية، اى ضيقة تذهبها كانها لم تكن. اما عطية الله فهو فرح روحي سماوي يبدأ هنا ولكنه أبدي، هذا الفرح سيغطي كل أحزان وأوجاع التلاميذ، وآلامنا التي هي مؤقتة أرضية لا تلبث أن تنتهي ويبقي الفرح الأبدي. ولنقارن الآن بين الحزن القليل الذي عبروه والفرح الذي هم مقيمون فيه الآن. حياة النصرة في المسيحية ليست في إنتهاء الألم بل الفرح وسط الألم.. نلاحظ أن بولس الرسول إستخدم نفس التشبيه، مخاض الأم الوالدة للتعبير عن ميلاد الإنسان الجديد (غل19:4) فالكنيسة كمسيحها (عريسها) تتألَّم لتلد إبناً لله.. هذه هي آلام الخدام.

الآيات (23-24): "وفي ذلك اليوم لا تسألونني شيئا الحق الحق أقول لكم أن كل ما طلبتم من الآب باسمي يعطيكم. إلى الآن لم تطلبوا شيئا باسمي اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً."
في ذلك اليوم= يوم حلول الروح القدس، يوم ينفتح عهد جديد من العلاقات فوق الطبيعة. حينما يَسْتَعْلِن الروح القدس مجد المسيح المقام لتلاميذه. يوم الحصول على فرح القيامة ورؤية المسيح بالروح بعد حلول الروح وهي خبرة روحية فيها إستنارة داخلية. يوم يفهم التلاميذ معنى أن الآب في الإبن والإبن في الآب وأن الإبن فينا. هنا يمتنع السؤال. والفعل يسأل مختلف عن الفعل يطلب في اليونانية. فيسأل تعني يسأل أسئلة. أما يطلب تأتي بمعنى يقدم طلب. لا تسألونني شيئاً= كما حدث في الآيات (17-19) وكما حدث يحدث دائماً أن التلاميذ حينما لا يفهمون يسألون أسئلة عدم فهم سواء في أمثال المسيح أو كلامه، مثل أرنا الآب وكفانا، أو إلى أين يذهب. ولكن بعد أن حدثت الإستنارة بالروح لا يعودون لهذه الأسئلة. أو كانوا يطلبون أشياء مادية كما طلب يعقوب ويوحنا الجلوس عن يمينه وعن يساره أي يملكا معه زمنياً. وإذا حلّ الروح القدس فيهم سيكفون عن هذه الأسئلة فالروح القدس سوف يشرح لهم كل ما يجول بخاطرهم فلا يعودون بحاجة إلى السؤال فهو يعلمهم ويذكرهم بكل شيء (26:14) وسيفتح عيونهم الروحية فيروا ما لم تره عين ويدركوا أن لهم الميراث السماوي كأبناء لله (رو17:8) فيصبح لسان حالهم "ومعك لا أريد شيئاً في الأرض" (مز25:73) ولن يطلبوا أي أشياء مادية أمّا فعل أطلبوا الذي تكرر هنا فيشير لشعور الإنسان أنه في المسيح يتمتع بحب الآب وهنا يطلب بدالة البنوة وسيستجاب له فيكون فرحه كاملاً. وماذا يطلب الإبن إلاّ ما يمجد أبيه. فمن إكتشف بنوته للآب السماوي لن يطلب سوى ما يمجده بل أنه بعد حلول الروح القدس وإرتفاع المستوى الروحي للتلاميذ ستتفق إرادتهم مع إرادة الله وتكون طلباتهم متفقة مع رأيه. ومن يراه المسيح أي يسكب فرحه فيه سيكون مكتفياً تماماً بالمسيح ولا يطلب سوى مزيد من الحب والفرح ومجد الله. أمّا فرح العالم فدائماً ناقص ومعه يشعر الإنسان بالإحتياج. وقد ينزع في أي لحظة. أمّا فرح المسيح فلا يوجد سبب يمكن أن يبطله. والفرح ثمرة من ثمار الروح، لذلك فأهم ما نطلبه الإمتلاء من الروح، والروح يكشف لنا أمجاد السماء التي هي لنا (1كو9:2-12) فنكف عن طلب الأرضيات.
من الآب بإسمي= الإسم يدل على الشخص وقدراته وإمكانياته والمسيح كان عمله وفداءه جباراً، أعطانا دالة أن نطلب من الآب. المسيح بذهابه للآب أتم الصلح بين الآب والبشر فإستعاد المسيح للإنسان صلته الأولى بالله (رو1:5-2) لذلك ننهي صلواتنا بقولنا "بالمسيح يسوع ربنا" والآب يستجيب لنا بشفاعة المسيح أي عمل دمه القوي لكن يجب أن تكون أسئلتنا متفقة مع مشيئة المسيح (1يو14:5). هو قرَّبنا للآب بعمله القوي فصار الآب يستجيب لنا إذا صلينا بحسب مشيئته (1يو14:5 + مت7:7). وماذا نطلب حسب مشيئته إلاّ أعظم عطية أعطاها لنا وهي الروح القدس (لو13:11) الذي بواسطته يعطي الله عطاياه.
إلى الآن لم تطلبوا= أي أن التلاميذ لم يدركوا بعد من هو المسيح وما هو عمله. لكن متى جاء الروح القدس سيعرفهم من هو المسيح. بل سيعرفهم كيف يصلون وماذا يطلبون (العبادة بالروح يو24:4) والتلاميذ لم يدركوا بعد أن المسيح بفدائه أعطاهم دالة كبيرة عند الآب بها يطلبون منه. حتى الآن لم يستعلن إسم المسيح بالكامل ولم يُكَّمَلْ بالآلام ولم يدخل إلى المجد. وإلى الآن لم تنفتح قلوب التلاميذ ليطلبوا فهم ما لم يفهموا. ثم نجد تعليم المسيح اطلبوا هو طلب بدالة بعد أن يتم الفهم ومثل هذه الطلبات تقبل. وهو تصريح دائم بأن طلباتنا ستقبل أمام الآب بإسم المسيح (عب19:10-23). وحينما يستجيب الآب يكون.. فرحكم كاملاً. الفرح الكامل هو عطية الروح القدس لذلك فأهم ما نطلبه هو الإمتلاء من الروح القدس. وهو كامل لأن الفرح الزمني يطفئه الحزن وهذا سريعاً ما يحدث. أمّا الفرح الذي سيسكبه المسيح عليهم حينما يشرق بوجهه من السماء ويطلع عليهم.. "سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم" فهو فرحه الخاص الذي فيه نتذوق بهجة الحياة الأبدية مسبقاً (ونقارن بين 13:17 + 11:15 + 1يو3:1-4) لنرى أن الفرح الكامل هو في الشركة مع الآب والإبن). والفرح الحقيقي هو أن المسيح قام ونحن قمنا معه. هل نطلب من الله أن يفرح هو بنا، الحقيقة أن فرح الله سينعكس علينا فنفرح فرح حقيقي. ولكن هناك من يهتم بان يفرح قلب الله.
آية (25): "قد كلمتكم بهذا بأمثال ولكن تأتى ساعة حين لا أكلمكم أيضاً بأمثال بل أخبركم عن الآب علانية."
الأمثال= كان المسيح يعلمهم عن السماويات والحقائق الإلهية بأمثال ورموز كمثل الكرمة والأغصان والمرأة التي تلد.. الخ وهذه الرموز والأمثال تحتاج إلى إستفسار وشرح. والمسيح إستخدم هذا الأسلوب لأنه لو تكلم بكلام مباشر فلن يفهموا أو هم سيسيئوا الفهم، أمّا حين يحل الروح القدس عليهم يعطيهم إستنارة بها سيدركون كل الحقائق وما غمض منها كعلاقة الآب مع الإبن= تأتي ساعة حين أخبركم= هذه الساعة هي وقت حلول الروح القدس لذلك لم يقل تأتي ساعة وهي الآن. فالفهم بدون الروح القدس صعب على مستوى الفكر البشري. أمّا بعد حلول الروح القدس فسيصير الكلام واضحاً على مستوى الوعي الروحي (راجع يو36:13 + 5:14 + 28:13 + 27:8 + 7:13 + 8: 28 + مر18:7، 21 + 32:9 + لو45:9 + 34:18). فكيف نفهم أسرار السماوات بعقل جسداني، أمّا الروح القدس فهو يرشد لجميع الحق ويكشف كل يوم عن معاني جديدة وأعماق جديدة لكلمة الله التي يعلمها لنا ويذكرنا بها حينما نقف أمام الله بروح الصلاة والطلبة.
علانية= كان كلام المسيح علانية ولذلك نفهم أن العلانية هنا المقصود بها ليس أنه أمام الناس. لكن العلانية هي أن يكون الكلام واضحاً أمام قلوب التلاميذ بدون أمثال توضيحية إذ صار هناك إمكانية للفهم في وجود الروح القدس داخلنا، الذي يعلن لنا حتى أعماق الله. (1كو10:2) فالمسيح سبق وتكلم لكنهم لم يفهموا بسبب أذانهم المغلقة. أمّا حينما يحل الروح القدس ويفتح أذانهم وبصائرهم يصير الكلام علانية أي يصل لقلوبهم. فعدم معرفتهم بالمسيح معرفة واضحة جعلهم لا يعرفون الآب بوضوح. أما الروح القدس سيعطي الشعور بالبنوة فنصرخ "يا آبا الآب" فندخل في علاقة خاصة مع الآب والإبن وهذه هي العلانية. وللآن هناك من يقول يا ليت المسيح يظهر لنا والحل سهل أن نصلي والروح يفتح قلوبنا فنرى ونسمع علانية والخطوة الأولى هي الإيمان (يو24:5).

آية (26): "في ذلك اليوم تطلبون باسمي ولست أقول لكم أني أنا اسأل الآب من أجلكم."
في ذلك اليوم= الموضوع ليس هو نطق إسم يسوع، بل هو حالة الوحدة بيننا وبين المسيح بالروح القدس. فاليوم هو إذاً يوم حلّ الروح القدس فأضرم الحب والمعرفة. والحب يولد الطلبة. والطلبة تقبل بسبب المسيح الحاضر داخلنا متحداً بنا. لست أقول لكم إني أنا أسأل الآب من أجلكم= المسيح لم يقل لن أسأل ولم يقل لن أشفع فيكم. فالمسيح سبق وأخبرهم في آية (23) أن كل ما يطلبونه بإسمه سيقبله الآب. ولكن المسيح هنا يقول لهم أنه أزال كل حاجز بينهم وبين الآب بعد أن تم الصلح (أف16:2-19). أزال المسيح كل حاجز يفصل بيننا وبين الآب بعد أن كان إله محتجب (أش15:45 + مز24:44) والمسيح رفع هذا الحجاب وجعلنا بنين ولنا دالة البنين نشعر بمحبة الآب. ليس معنى كلام المسيح أنه ليس هناك داعٍ لشفاعته بل هو يشجع التلاميذ أن يتكلموا مع الآب لأن الآب يحبهم. هذه الآية هي منتهى ما كان المسيح يريده من عمله. أي أن يظهر الآب ويستعلن الآب. وهو هنا يعلنها صراحة أن الآب يحبنا. خصوصاً أن الإبن إتحد بنا فصرنا أبناء لنا صورة الإبن. وكما أن الروح القدس يشهد للإبن ويعطينا رؤية صحيحة له، نرى هنا الإبن يظهر لنا محبة الآب، فعمل الإبن أنه يستعلن لنا الآب.

آية (27): "لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت."
هنا المسيح يوضح لماذا أصبح من غير الضروري أن يسأل المسيح الآب من أجلنا والسبب أنه يحبنا. ولماذا يحبنا الآب؟ هذا لأننا أحببنا إبنه وآمنا به (21:14 + 1يو10:4، 19). ونحن نحب المسيح كإستجابة لمحبته هو لنا. فالله بادر بإعلان محبته إذ كان البشر في خطاياهم كالعميان لا يدركون محبة الله. لاحظ أن محبة الآب هنا للمؤمنين بالمسيح هي محبة خاصة غير محبته لكل العالم. محبته للمؤمنين فيها صداقة لهم، وهم قريبين لقلبه جداً وأعزاء عنده. المسيح بهذا يفتح إدراكهم لمحبة الآب لهم. خرجت= خروج لا يعني الإنفصال بل الإتصال كما شرحها قانون الإيمان نور من نور وهم آمنوا بهذا بأنه خرج من عند الآب لذلك أحبهم الآب بسبب إيمانهم بإبنه. وكلمة خرجت تشير للتجسد. فالإبن بلاهوته لم يفارق الآب ولكن لأنه ظهر بالجسد على الأرض فقد ظهر كأنه ترك مجده لأنه أخلى ذاته. وقوله خرجت تشير أيضاً للوحدة بين الآب والإبن التي شرحها المسيح في (13:3)، وتشير لأن رسالة المسيح هي من عند الآب.

آية (28): "خرجت من عند الآب وقد آتيت إلى العالم وأيضاً اترك العالم واذهب إلى الآب."
هذه الآية فيها خلاصة عمل المسيح وفيها إرسال الآب للإبن وميلاد الإبن بالجسد ثم آلامه وقيامته وصعوده للآب. خرجت من عند الآب= من= هنا تعني من داخله فهو من ذات طبيعة الآب وتشير لأزلية الإبن الذي هو نور من نور ومن نفس جوهر الله. وأنه في مجد أزلي. وتشير للتجسد لأن الإبن في تجسده ظهر للعالم في جسده، وحده مع أنه قائم دائم في أبيه. أتيت إلى العالم= تشير لتجسد الإبن وأنه أخذ صورة عبد. أترك العالم= تشير لأن الإبن أتم رسالته التي أتى لأجلها. وهو تركه بحسب الظاهر حينما صعد أمام تلاميذه ولن يعودوا يرونه بالجسد ولكنه باقٍ في كنيسته دائماً (مت20:28). أذهب إلى الآب= تشير لأبدية الإبن ومجده الأبدي. هذا الذهاب كان سبباً في أن يجيء الروح القدس للكنيسة. والإبن حينما يذهب لحضن أبيه سيأخذنا لحضن الآب. وذهابه للآب هو بجسده فلاهوت الإبن لم يفارق الآب أبداً. إذاً نفهم أن قوله خرجت يشير لإخلاء ذاته أخذاً صورة عبد. وقوله أذهب هي إشارة للمجد الذي سيحدث للجسد (ناسوت المسيح). فهو سيحمل ناسوته معه ذاهباً للآب، فيكون للجسد نفس مجد اللاهوت= "كما غلبت أنا وجلست مع أبي في عرشه" (رؤ21:3). فناسوت المسيح لا يفارق لاهوته أبداً. وهذا معنى جلس "عن يمين الآب"

آية (29): "قال له تلاميذه هوذا الآن تتكلم علانية ولست تقول مثلاً واحداً."
علانية= ظن التلاميذ أن هذا الكلام هو العلانية لأنه لا يقول أمثال ولم يفهموا أن العلانية الحقيقية لن تحدث إلاّ بحلول الروح القدس.
آية (30): "الآن نعلم انك عالم بكل شيء ولست تحتاج أن يسألك أحد لهذا نؤمن انك من الله خرجت."
حقيقة هم لم يكونوا فاهمين لكل شيء لكن التلاميذ يظهرون هنا إندهاشهم من أن المسيح كان يعرف أفكارهم، وهذا رد على آية (19). ولكن فهم التلاميذ كان ناقصاً. فهم بدون حلول الروح القدس عليهم ما كانوا يفهمون سوى الواقع الزمني. هم لم يفهموا مثلاً من هو المسيح ولا علاقته بالآب ولا أهمية الصلب وأنه ليس عن ضعف. وهذا ما تأكد في إنكار البعض وهروب البعض منهم بعد ساعات قليلة من هذا الحديث.

آية (31): "أجابهم يسوع الآن تؤمنون."
الآن= المسيح يقارن بين قولهم الآن أنهم يؤمنون وبين ما سيحدث بعد قليل من عدم إيمان وهروب. كأن المسيح يريد أن يشرح لهم أن إيمانهم الآن على مستوى قدرتهم وإحتمالهم، لذلك سيهربون في خوف، أمّا حينما يحل عليهم الروح القدس سيتخذ إيمانهم أبعاداً وأعماقاً جديدة تعطيهم شجاعة لإحتمال الآلام. ولفظ الآن يساوي قول المسيح لبطرس في (يو37:3، 38) "أتضع نفسك عني" حينما إندفع بطرس في شجاعة ناقصة يعرض أن يضع نفسه عن المسيح. إذاً قول المسيح الآن= هو تساؤل فيه شك في مستوى إيمانهم وفهمهم وادراكهم لحقيقة الامور. ولذلك أخبرهم بما سوف يحدث "هوذا تأتي ساعة.. تتفرقون.. وتتركونني وحدي" (آية32). فأين هذا الإيمان إذاً. كل ما حدث أنهم دهشوا أن المسيح عرف أفكارهم وتساؤلاتهم عن معنى كلمة "القليل" التي قالها آيات (16-19) وأنهم أرادوا أن يسألوه عنها.

آية (32): "هوذا تأتى ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي وأنا لست وحدي لأن الآب معي."
لأن الآب معي= قارن مع "إلهي إلهي لماذا تركتني" فنفهم أن الآب لا يترك الإبن أبداً. إذاً المعنى لماذا تركتني لهذا الصليب؟ والإجابة.. حباً وخلاصاً للبشر. والتلاميذ أعلنوا أنهم آمنوا بالمسيح والمسيح يقول لا بل هي لحظة ضعف ستنكرون فيها وتهربون. إن قوتكم الآن مستمدة من وجودي وحين أغيب سيغيب إيمانكم. المسيح هنا لا يعاتب بل يقرر واقع سيحدث وتنبأ عنه أشعياء (1:63-6) وهو يخبرهم ليتأكدوا منه إذ يحدث ما قاله لهم، وليتأكدوا أنه يحبهم حتى إذا أنكروه وهربوا وكلمة خاصته قد تعني بيته (كما جاءت في يو27:19) أو تعني مهنته (كما جاءت في هذه الآية). والشيطان ضرب تلاميذه بالخوف ليتركوه فلا يقف أحد بجانبه أما الآب فكان معه (مز16:22-20) "أمّا أنت يا رب فلا تبعد" الإنسان العادي يلجأ لخاصته عند الضيق ولكن الإنسان المؤمن فيلجأ لله، بل أن المؤمن يسند الآخرين ولا يطلب من إنسان أن يسنده بل يطلب من الله. تتركونني وحدي= هل يوجد منا الآن من يتركه وحده ويرفض أن يجلس معه أو يخدمه..الخ. الآب معي= إبن الله يشعر بإستمرار أن الله معه ولا يحتاج، ولا يشعر بالإحتياج لأحد.


آية (33): "قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم."
حينما يرى التلاميذ أن كلام المسيح هنا قد تحقق يزداد إيمانهم به فيكون لهم سلام. لكم فيّ سلام= ولم يقل لكم سلام فقط (السلام ليس في حل مشكلتي بل في وجود المسيح في حياتي) فلا سلام حقيقي سوى في المسيح إذا آمنا به (لا تبحث عن السلام في العالم وملذاته بل إطلبه في الإتحاد بالمسيح وفي شخص المسيح). هذا الذي غلب على الصليب مستعد أن يغلب فينا عدونا المهزوم إن نحن أعطيناه قلباً مفتوحاً وإرادة خاضعة، إذاً جهادنا نتيجته مضمونة. المسيح غلب الموت وغلب الخطية والشيطان فلماذا الخوف. وهذا المسيح الغالب يحل في قلوبنا بالإيمان (أف17:3) فلا بد وسنغلب + (1يو4:5، 5) فنحن نخطئ لو تذمرنا في الضيق ونخطئ إذا لم نجد سلاماً في الداخل. فالمسيح الذي يهب السلام وهو مقبل على الصليب هو قادر أن يعطيه دائماً للمؤمنين الثابتين فيه. المسيح غلب العالم والشيطان بناسوته وكان هذا لحسابنا، لكي يغلب بنا وفينا. لذلك رأيناه وقد "خرج غالباً ولكي يغلب" (رؤ2:6) هو غلب على الصليب و مازال يغلب فينا.
ملخص الإصحاحات السابقة (14، 15، 16) مقدمة لإصحاح (17)
تكلم المسيح عن الإيمان به وبأنه يجب على المؤمن أن يقبل شركة صليبه فيتحمل الآلام والإضطهاد والرفض. وأن هذا سيعطي للنفس فرح حقيقي كأنها جازت الموت والقيامة وغلبت العالم. وهذا يحمل معنى إتحاد النفس بالمسيح فتجوز في نفس الطريق لأن المسيح هو الطريق. فهو يأخذنا فيه. ولذلك بدأ المسيح بغسل الأرجل لينقي تلاميذه إستعداداً لهذا الإتحاد فلا شركة للنور مع الظلمة. ودعا تلاميذه للمحبة ليتحدوا فبدون محبتهم له ومحبتهم لبعضهم البعض فلا إتحاد معه. لذلك فالوصية الجديدة للعالم هي المحبة (34:13) وهي على شكل محبة المسيح الباذلة. والمسيح صوَّر هذه الوحدة بمثل الكرمة والأغصان وأن على الأغصان (المؤمنين) أن يكون لهم ثمار وبهذه الثمار يتمجد الآب (8:15). وهنا نرى أن وحدة المسيح مع تلاميذه هي التي أنشأت هذا الثمر. وهذه الوحدة هي فعل لمحبة الآب التي إستعلنت في المسيح. فأن يكون هناك ثمر فهذا هو الرد المباشر لمحبة الآب. وحتى الإضطهاد الذي سيجوزه التلاميذ في العالم فهو ثمرة الوحدة مع المسيح (أع4:9 + يو20:15، 21) والمسيح يتألم أيضاً لآلامنا (أش9:63). وإرسال الروح القدس سيكون لتعميق هذه الوحدة والحفاظ عليها ومن خلال هذه الوحدة يعلن المسيح أسراره لأحبائه (15:15). وهذا الإتحاد كان من نتائجه أن المسيح بموته إفتدى البشر وأعطاهم حياته (غل20:2). والمسيح أعطى تلاميذه جسده ودمه لتثبيت هذه الوحدة. وكأن الحب الذي يربط المسيح بكنيسته وتلاميذه وبالتالي الوحدة بين المسيح وكنيسته هو من نفس نوع وعلى شكل محبة الآب للإبن والوحدة بينهما (9:15).


رد مع إقتباس
Sponsored Links

اضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدلالية (Tags)
26يوم, الخميس, الآلام:, المسيح, الوداعية, خطب, أحداث, أسبوع, متى, من

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
تفاسير إنجيل متى21- 1- دخول السيد المسيح إلى أورشليم هو طريق للقيامة Bible تفاسير الكتاب المقدس العهد الجديد 1 04-12-2020 04:20 PM
تأملات فى أحداث أسبوع الآلام اشرف وليم التأملات الروحية والخواطر الفكرية 2 11-15-2012 04:40 PM
تفاسير إنجيل متى 4 Bible تفاسير الكتاب المقدس العهد الجديد 0 10-10-2011 07:24 AM
شخصيات الكتاب المقدس كامله ملكه الاحزان رجال ونساء الكتاب المقدس 30 05-31-2010 09:41 PM
تفسير بعض الايات الصعبه فى انجيل متى (منقول) وردة حزينة تفاسير الكتاب المقدس العهد الجديد 0 08-10-2008 09:45 PM

Rss  Rss 2.0 Html  Xml Sitemap SiteMap Info-SiteMap Map Tags Forums Map Site Map


الساعة الآن 02:14 PM.