بقلم قداسة البابا شنودة الثالث
الإنسان الروحي لا يهرب من التعب بحثا عن الراحة بل يفرح كثيرا بأن يتعب من أجل الله.
إنه يبحث أولا عن راحة ضميره,عن راحته في الرب.أما راحة الجسد,فيضعها في آخر اهتماماته.ويفضل التعب إن كان فيه كسب روحي .ويري راحته في هذا التعب الذي يوصله إلي الله,والذي يكون فيه بناء الملكوت.
وهنا نميز لونا من التعب المقدس,له أمثلة كثيرة في الكتاب:
منه التعب في الكرازة والتعليم,وفي الخدمة عموما,والتعب في الجهاد الروحي والقديس بولس الرسول لما ظنه البعض أقل من باقي الرسل في درجة الرسولية قال مدافعا عن رسوليتهوأنا تعبت أكثر من جميعهم.ولكن لا أنا,بل نعمة الله العاملة معي1كو15:10.وقالأهم خدام المسيحأقول كمختل العقل,فأنا أفضل :في الأتعاب أكثر.في الضربات أوفر في السجون أكثر.في الميتات مرارا عديدة2كو11:13وقال عن خدمته أيضافي تعب وكد,بأسفار مرارا كثيرة..فكان أهم ما أفتخر به هو التعب.وقال عن مكافأة التعب:
كل واحد سيأخذ أجرته بحسب تعبه1كو3:8.
وقد مدح الكهنة الذينيتعبون في الكلمة والتعليم وقال عنهم فليحسبوا أهلا لكرامة أفضل1تي5:17وقال لأهل تسالونيكينسألكم أيها الإخوة أن تعرفوا الذين يتعبون بينكم ويدبرونكم في الرب وينذرونكم وأن تعتبروهم كثيرا جدا في المحبة1تس5:12
وفي رسالته إلي رومية,ذكر أسماء نسوة قديسات تعبن في الخدمة:
فقالسلموا علي مريم التي تعبت من أجلنا كثيرا...سلموا علي تريفينا وتريغوسا التاعبتين في الرب.سلموا علي برسيس المحبوبة التي تعبت كثيرا في الربرو16:12,6.
إن كل تعب يتعبه الإنسان من أجل الرب,هو تعب محبوب لايمكن أن ينساه الله.وذلك كما قال الرسول:
لأن الله ليس بظالم حتي ينسي عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمهعب6:10.
حسن أن تقول إنك تحب الله.ولكن محبتك له تظهر في تعبك من أجله...والله يكافئك علي المحبة وعلي التعب...وهكذا قال الرسول لم أسع باطلا ولا تعبت باطلافي2:16وقال لأهل كورنثوس كونوا راسخين غير متزعزعين مكثرين في عمل الرب كل حين.عالمين أن تعبكم ليس باطلا في الرب1كو15:58
إن الإنسان الذي يتعب,يفرح بثمار تعبه:
مثال ذلك:الزارع الذي يتعب في حرث الأرض وزرعها وريها,وتنظيفها من الآفات..إلي أن يأتي وقت الحصاد فيفرح ,ويعرف أن تعبه لم يكن باطلا,بل كافأه الرب بالبركة حسب كل تعبه...إن كل تعب يتعبه الإنسان بهدف روحي,وبأسلوب روحي,من أجل الله,هو تعب محسوب له عند الله,مسجل عنده,هكذا قال الرب لملاك كنيسة أفسس:
أنا عارف أعمالك وتعبك وصبركرؤ2:2
إنه أمر معزي أن الله يعرف كل تعبك. ويكتبه لك في سفر الحياة ولابد سيكافئك عنه في الأبدية السعيدة, وربما في هذه الحياة أيضا. كما يسندك في تعبك ويقويك. أو يقول لك كما قال للقديس بولا الطموهي في جهاده كفاك تعبا يا حبيبي بولا...وهو يقول علي الدوام'
تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال ,وأنا أريحكممت11:28.
يريحينا بأن يرفع الأثقال عنا,أو يعزينا عزاء روحيا في أتعابنا,أو يقدم لنا وعوده الجميلة أو يعطينا لذة في التعب حتي نشتاق إلي تعب أكثر أو يذكرنا بأن كل عملنا لأجله سيتبعنا في الأبدية السعيدة كما قيل في تطويب المنتقلين:
...لكي يستريحوا من أتعابهم,وأعمالهم تتبعهمرؤ14:13:لذلك فالإنسان الروحي حينما يتعب من أجل الرب يشعر ببركة في هذا التعب.وأن كل تعب له إكليل فلا يركن إلي الراحة أبدا في هذه الحياة,متذكرا قول الوحي في سفر الأمثال:في كل تعب منفعةأم14:23
وكما قدم الكتاب المقدس أمثلة للذين تعبوا لأجل الرب,
0 كذلك قدم لنا تاريخ الكنيسة أمثلة من التعب المقدس:
القديس أثناسيوس الرسولي مثلا,كم تعب من أجل الإيمان,وكم اضطهادات لاقاها من الآريوسيين الهراطقة...وكم من اتهامات باطلة ومقاومات كثيرة صدرت ضده ومجامع حكمت عليه وشكاوي للإمبراطور وأحكام بالنفي حتي قيل لهالعالم ضدك يا أثناسيوس..!!ولكنه احتمل كل هذا التعب في صبر وفي فرح,لأجل حماية الإيمان,آخذا بركة هذا التعب...
وبالمثل وأكثر:التعب الذي احتمله الشهداء:
من تهديد ومحاكمات وسجن وألوان مرعبة من التعذيب وما ذاقوه من آلام فوق الوصف...ولكنه كان تعبا مباركا من أجل الرب,نالوا عليه أكاليل,واستحقوا بسببه الراحة الأبدية.
الإنسان الروحي يفرح بالتعب,ويجد راحته فيه:أي أنه يجد راحته الداخلية في هذا التعب الخارجي أو يجد راحة روحه في تعب جسده,أو يجد الراحة الأبدية في هذا التعب الزمني المؤقت فهو مستعد أن يتعب هنا ليستريح هناك.
إن القديس يوحنا المعمدان لاقي المتاعب في توبيخ هيرودس علي أنه أخذ امرأة أخيه فسجن وقطعت رأسه ولكنه أراح ضميره ليستريح في الأبدية أعطانا جميعا مثالا قويا للشجاعة في الدفاع عن الحق.
لا ننسي أيضا تعب الذين كانوا أمناء في الخدمة وقد وضعوا أمامهم قول الرب:
كن أمينا إلي الموت,فسأعطيك إكليل الحياةرؤ12
إلي الموت....هل يوجد تعب أكثر من هذا!ولكنه تعبير عن محبة الإنسان لله...انظر داود النبي وهو يقول لا أصعد علي سرير فراشي,ولا أعطي لعيني نوما ولا لأجفاني نعاسا ولا راحة لصدغي إلي أن أجد موضعا للرب ومسكنا لإله يعقوبمز132:3-5
إنه لايسمح لنفسه بالراحة الجسدية,إلا إذا تم واجبه وحقق مسئوليته في خدمة الرب وحينئذ يستريح روحا وجسدا ينام وهو مستريح من الداخل...
الإنسان الروحي لايهرب من التعب.فالذي يهرب من التعب,إنما يهرب من الله.أنه يهرب من واجبه ومن مسئوليته ويهرب من الأكاليل المعدة...بينما الذي يتعب,إنما يظهر بالتعب مقدار محبته لله,ومقدار اهتمامه بملكوت الله علي الأرض واهتمامه بخدمة الله في أشخاص أولاده...
* لذلك إن أردت أن تستريح في قلبك اعمل علي راحة غيرك:
كل الذين أراحوا غيرهم شعروا بسعادة داخلية بسبب ذلك حتي في مجال الحياة الاجتماعية وما أكثر الأمثلة ذلك:
فالطبيب يجد راحة في ضميره وقلبه عندما يريح المريض الذي يعالجه ويبعد عنه الألم ورسام الكاريكاتير يجد راحته في أن يفرح من يرون رسومه ويقرأون فكاهاته وهكذا كل فنان يجد راحته عندما يدخل فنه إلي قلوب الناس يريحهم.
الشخص الذي يبحث عن راحته الشخصية,قد يكون أنانيا
أما الإنسان الروحي فيفكر دائما في راحة الآخرين...
هناك نفوس يمكن أن نسميها نفوسا مريحة كل من يختلط بها يستريح وهي مصدر راحة باستمرار ونضرب لذلك أمثلة:
* مثال ذلك الأمومة والأبوة:
الأم تتعب جدا في تربية ابنتها. وتتعب في تجهيز ابنتها للزواج. وتفرح بزواجها لأنها استقرت في حياتها.. وعلي الرغم من أنها حرمت من عشرتها,إلا أنها تشعر بسعادة لسعادتها,وربما تبيع مجوهراتها وحليها لتجهيز ابنتها إذا لزم الأمر.وهكذا الأب في تربية أبنائه وفي الاهتمام بتعليمهم ومستقبلهم. ويشعر أن رسالته في الحياة هي أن يجلب كل وسائل الراحة والسعادة لأبنائه ولكل هذا نجد أن إلهنا الصالح لقب نفسه بالأب السماوي والمهم أن الأب والأم يريحان أبناءهما علي أساس سليم.
* مثال آخر في إراحة الآخرين,هو الراعي وعمله لأجل رعيته:
أنه لايعمل من أجل راحة نفسه, بل يبذل كل جهده من أجل خرافة يأتي بها إلي المراعي الخضراء وإلي ماء الراحة ويحميها من كل اعتداء تتعرض له ومن كل خطر ولهذا كله أقام الله رعاة لشعبه للاهتمام بهم, ليرعوا رعية الله التي اقتناها بدمهأع20:28.
بل أن الرب نفسه شبه نفسه بالراعي ,وقال أنا هو الراعي الصالح.والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف يو10:11وقال الرب في العهد القديم,وفي سفر حزقيال النبيأنا أرعي غنمي وأربضها-يقول السيد الرب-وأطلب الضال واسترد المطرود أجبر الكسير وأعصب الجريحمز34:16,15...كله عطاء لراحة غنمه...
* كل هذا يعطينا فكرة عن الراحة في العطاء:
الإنسان الروحي يجد سعادته في أن يعطي ويجد راحته في سعادة الذي هو يعطيه.
إن الرضيع يجد راحته في المرضعة التي ترضعه سواء كانت أمه أو غيرها والمرضعة تجد راحتها في راحته وإذا ابتسم ,تشعر بسعادة كبيرة ما أكثر ما يعمل من أجل الطفولة. كلها راحة في العطاء.
ستظل قلوبنا قلقة ,إلي أن تجد راحتها فيك
الإنسان البعيد عن الله يعيش في تعب لأن الراحة الحقيقية لايجدها إلا في الله. ولذلك حسنا قال داود النبي أما أنا فحسن لي الالتصاق بالربمز73:28وقال الاتكال علي الرب خير من الاتكال علي البشر. الرجاء بالرب خير من الرجاء بالرؤساءمز117دفعت لأسقط,والرب عضدني يمين الرب صنعت قوة ,يمين الرب رفعتنيمز117.
كما يستريح الإنسان في حياة الإيمان ,يستريح في حياة الرجاء.
الذي يفقد الرجاء يقع في اليأس,ويقترب من الهلاك أو الضياع. أما الإنسان الروحي فيري بالرجاء أن كل مشكلة لها حل,وكل باب مغلق له مفتاح أو عدة مفاتيح وكل سقطه لها قيام بعدها.
المشاكل لها شكل هرمي ترتفع حتي تصل إلي قمتها ثم تنحدر نازلة علي الجانب الآخر. هكذا كانت مشاكل يوسف الصديق, ارتفعت حتي أوصلته إلي السجن ثم نزلت ووصل إلي المملكة وبالمثل كانت تجربة أيوب:ارتفعت حتي فقد كل شيء, ثم انتهت فنال البركة بالضعفأي42:10.
راحة الإنسان الروحي في حياة التسليم والسلام, وحياة الإيمان والرجاء.
ثق أنك إذا استرحت في الداخل, ستستريح من الخارج أيضا:
وباستمرار لتكن وسائلك إلي الراحة وسائل روحية.
لأن هناك إنسانا قد يقع في مشكلة فيجد راحته في كذبة تغطيها أو في حيلة كلها خداع, كما فعل داود لما سقط!أو إنسان يتعب فيلجأ إلي حبوب مسكنة,لاتحل مشكلته أو تتيهه عنها...
والراحة ليس معناها التوقف المطلق, عن العمل إنما البعد عن الإرهاق:
فإذا تعبت من التفكير في موضوع ما,لاتستطيع أن توقف عقلك عن الفكر تماما,هنا تغير مجري تفكيرك وتستبدل
فكرا يفكر,فتستريح