كُتب : [ 04-14-2007
- 12:47 PM
]
في أيامنا، طرح البعض، عن سوء فهم متعمد وغير متعمد، مسألةَ العلاقةِ بين الكتاب المقدس والآباء. بإمكاننا القول هنا أن التاريخ الكتابي، وأحداث الكتاب المقدس، لها امتدادات في حياة الكنيسة. كما يمكننا القول أن الوجدان الأرثوذكسي يفهم الكتاب المقدس ويختبره من المنظار الإكليزيولوحي الواقعي. فيرى العهد القديم مرآةً تعكس صورة المسيح وكنيسته، ويرى العهد الجديد كتاب الكنيسة، فيتحوّل هكذا الكتاب، من خلال الإفخارستيا، خبرة حياة. كل هذه الاعتبارات، لا تبرر أي جمود مَتْحَفيّ . فروح الله الذي أسس الكنيسة وهداها هو روح حرية وليس روح عبودية. بإسم هذا الروح، يجب أن نأخذ بعين الاعتبار السعي الدائم للحفاظ على الرسالة. ما نحتاج إليه اليوم هو إحياء لفكر الآباء الإبداعي وذلك ضمن أطر الشروط الحديثة، بدل الإحياء الأعمى للآباء.
الدراسة التحليلية للمقاربات الآبائية للكتاب المقدس تساعدنا على فهم ما قيل سابقًا.
أ- لم يكن التفسير بالنسبة لآباء الكنيسة نهجاً أكاديمياً أو عملاً سكولاستيكياً داخل المكتبات، لكنه كان عظة تلقى في اجتماع شعب الله. لذلك، فهو مباشر وحيّ ويخاطب عقل المستمع وقلبه في آن، وهو لا يعمد إلى ملء عقولهم بالمعرفة المستقاة من الكتاب المقدس لكنه يهدف لإرشادهم إلى الأعمال، وإلى أخذ موقف، أو بالحري تجديد موقفهم (أي التوبة)، من الصليب وقيامة المسيح، هذا هو جوهر العهد الجديد بشكل خاص. بهذا المعنى وكواعظين بكلمة الله يربط الآباء بأمانة كلمة الحياة هذه بعصرهم بطريقة مفيدة لمستمعيهم أو لقرائهم اللاحقين. يربطونها بالمسائل الحسيّة التي تعترض مسيحيي عصرهم بهدف توفير حلول عملية لحماية المؤمنين وتعليمهم. لم يترددوا للحظة بتحليل مَثَل الزارع ليحددوا بدقة هرطقات معاصرة ومألوفة على أنها الأرض الصخرية والشائكة أو يماثلوا تدرج التربة الصالحة بفئات المسيحيين في زمانهم (مثال نموذجي هي خطبة القديس يوحنا الذهبي الفم "عن الزارع الذي خرج ليحصد…."[3])
يتركّز اهتمام الآباء بشكل واضح على معاصريهم، ولهذا السبب ينطلق منهج التفسير لديهم من المسيح والرسل إلى زمانهم، بعكس البحث الحديث في الغرب بشكل خاصة حيث يفتش الباحثون عن صوت يسوع نفسه ipsissima vox jesu من خلال النصوص وأيضاً من خلال مجموعة المستمعين الأوائل الذين توجّه إليهم يسوع. هذا المسار الرجعي نحو الهدف الأول والمجموعة الأولى من المستمعين له بالطبع التقدير الأكاديمي، ومع ذلك، فإن المسار المعاكس من جماعة المستمعين الأولى إلى المستمع أو القارئ الأخير أو الحديث، إذا جاز التعبير، له أيضاً قيمة تعليمية إضافية. وينال هذا المسار تأييد الآباء الذين هم، بالدرجة الأولى وقبل أي شيء، واعظين ومعلمين لجماعة المصلين في الكنيسة.
ب- استعمل الآباء المفسرون، بالإضافة إلى الربط العضوي للنص الإنجيلي بزمانهم، المعارفَ العلمية في عصرهم من أجل فهم الكتابات. هذا ما شدّد عليه الآباء الكبادوكيون في القرن الرابع كما هو الحال في مؤلَّف القديس باسيليوس الرائع "الأيام الستةHexaemeron " الذي يتألّف من مجموعة عظات صباحية ومسائية أُلقيت في قيصرية كبادوكية في فترة الصوم من السنة 370م. هذا الأسلوب الآبائي باستعمال المعرفة العلمية لفهم أفضل لكلمة الله له دلالة خاصة في عصرنا، فمن ناحية يمكن لتعدد التطورات العلمية والتكنولوجية، إذا استُعملت بالشكل الصحيح، أن تساعد في تفسير كلمة الله ضمن الأطر الواقعية لعصرنا، ومن ناحية أخرى يظهر كم هو غريب عن التقليد الأرثوذكسي موقف بعض التقويين الذين يعتبرون أن المعرفة، حتى اللاهوتية، هي غير ضرورية لا بل مخالفة للإيمان أو ضد الإيمان. هذا الموقف معاكس كلياً للمنهج التفسيري للآباء.
ج- إن اهتمام الآباء المفسرين بربط الحدث الإنجيلي بمشاكل عصرهم، بالإضافة إلى استعمالهم الدائم للمعارف العلمية لفهم أوضح، قادهم بشكل طبيعي إلى تفسير وجودي لرسالة الإنجيل. فبالطريقة ذاتها التي ركّز فيها كتّاب الأسفار المقدسة على البشرية، بمعنى أن تدبير الله الخلاصي بالمسيح، المعلَن عنه مسبقاً في العهد القديم والمحقَّق في العهد الجديد، هو تدبير يرتبط بالبشرية وخلاصها. هكذا، في الفكر واللاهوت الآبائيين وبالتالي في تفسيرهم الإنجيلي، البشرية ومشاكلها الوجودية المقلقة هي نقطة مركزية لا يمكن التغاضي عنها.
كمثالٌ نموذجي على هذا النمط من التفسير الوجودي أو الإنساني، يمكننا أن نذكر تفسير الأمثال المتعلقة بالحديث عن اليوم الأخير (الدينونة). دون إهمال الواقع الأخروي لهذه الأمثال، يركّز الآباء على الواقع البيولوجي لنهاية حياة كل إنسان ويشددوا على الوعي الروحي الدائم بالنظر إلى هذه النهاية، لئلا تُؤخَذ البشرية وبخاصة المؤمنين على غفلة. إن تفسير القديس يوحنا الذهبي الفم لمَثَل رب البيت اليقظ (متى24: 42-44) هو مثل نموذجي، إذ يعتبر أن مجيء ابن الله المفاجئ يُفسَّر على أنه رمز لنهاية حياة كل إنسان[4].
د- يمكننا أن نجد تنوعاً كبيراً في الأنماط التفسيرية عند الأب نفسه أو حتى في العمل ذاته. هذا التنوع يبرهن صحة التقليد الآبائي التفسيري. بالإضافة إلى ذلك، فإن تداخل الأصوات التفسيرية المتعددة للآباء تطوّرت حول موضوع مشترك ألا وهو إيمان الكنيسة بالحدث المركزي لصلب المسيح وقيامته ونتائج هذا الحدث الخلاصي الذي يختبره كل إنسان في الكنيسة. داخل هذا الإيمان ليس من تعدد للأصوات ممكن. إلا أنه في إطار المواضيع الكتابية المختلفة فتداخل الأصوات المتعددة ليس فقط مسموح به بل وضروري لإبراز غنى الكتاب المقدس.
لا تستنفد الوقائع المذكورة آنفاً اتساع آفاق التفسير الآبائي للكتاب المقدس، ولكنها تُظهر على الأقل أربعة أوجه نموذجية له وهي تستحق أن تُدرَس كمراجع، ليس بمعنى التكرار الدقيق لها اليوم، ولكن بالمعنى الذي يجب أن يقف فيه المفسر المعاصر ضمن أطر المشاكل الواقعية لعصرنا.
|