علم المسيح

في عمر الثانية عشرة



في عمر الثانية عشرة

في عمر الثانية
عشرة

 

ولما
بلغ يسوع الثانية عشرة من عمره ذهب مع مريم ويوسف إلى هيكل أورشليم، ثم مرَّ على
هذا الحادث نحو ثماني عشرة سنة، سكت الوحي تماماً عن أخبارها. ولم نقُلْ «سكت
البشيرون» لأن سكوتهم لم يكن طبيعياً. ولا يفسره إلا أنهم كانوا منقادين بروح الوحي
إلى هذا السكوت. وأما الكتبة الغير الموحى إليهم، الذين كتبوا بعدهم، فاتَّبعوا
النسق الطبيعي، ولفّقوا أخباراً عديدة تتعلق حسب قولهم بتلك السنين.

ولم
يرْضَ مسيحيو الأجيال المظلمة عن هذا السكوت، فلفّقوا أخباراً مفصَّلة مطوَّلة،
وكتبوا أناجيل ورسائل تحتوي قصصاً خرافية عن طفولية يسوع، تورد أقوالاً وأفعالاً
تلائم تصوُّراتهم السخيفة، المضادة لنصوص الإنجيل الحقيقي، فقد ظنوا أن المعجزات
التي اخترعوها تزيد من أمجاد المسيح، لكنها في الواقع تشهد بسخافة تلك القصص.

ولكننا
نتساءل: لماذا سكت الوحي عن أخبار هذه السنين، مع أن الوسائل لمعرفة حوادثها كانت
متوفرة؟ وجواباً لذلك نقول إن حوادث طفولية يسوع أظهرت ملامح طبيعته الإلهية
الضرورية لأجل صلاحيته كمخلِّص، فصار من الضروري أن تنحجب هذه الملامح مدة كافية
لأجل إيضاح إنسانيته الحقيقية. لذلك انْحجَب لاهوته عن عشرائه أثناء سنوات
استعداده الثلاثين، إلى أن برز للخدمة، فتجدّدت براهين لاهوته الحقيقي، في ما بقي
من حياته بين الناس.

وهذا
السكوت من أهم براهين خطأ الذين يزعمون أن عمل يسوع الأعظم والأهم كان تقديمه قدوة
للناس يتمثَّلون بها، فلو أن هذا كان صحيحاً لكان من الواجب إعلان ما قاله المسيح
وفعله في السنين التي قضاها في العيشة العادية كأحد العامة، يمارس مهنته كنجار في
الناصرة.

ولم
يقصد البشيرون تدوين حوادث حياة المسيح تاريخياً، بل قصدوا أن يبيِّنوا أنه
المصلِح والمخلِّص. لذلك اكتفوا بالتاريخ الذي ابتدأ عند مباشرته أعماله علانية
ورسمياً، بعد بلوغه سن الثلاثين، مع أن الأخبار التي أهملوها كانت تفيد وتلِذُّ
العالم كثيراً لو أنها سُجِّلت.

ومع
أن الناصرة مدينة حقيرة بالنسبة إلى كثير من مدن البلاد، إلا أنها كانت تناسب من
أوجه عديدة تربية الصبي ثم الشاب يسوع فيها، فقد كانت زُمر الكهنة تجتمع فيها من
مساكنهم المتفرّقة، عندما يأتي دورهم ليخدموا في هيكل أورشليم، ومنها يذهبون معاً
لأورشليم. والذين يتعذَّر عليهم الذهاب إلى أورشليم كانوا يقضون أسبوع خدمتهم في
أداء الفروض الدينية في الناصرة، على إحدى الطرق الرئيسية الموصّلة بين المناطق
الداخلية وشاطئ البحر الأبيض المتوسط، فكانت تمرُّ فيها القوافل المسافرة إلى
البلاد الفينيقية وإلى مصر، فيرى يسوع من الحركات العمرانية ما يفقِّهه في أحوال
البشر الزمنية. وقد أدَّى سكنه في قرية حقيرة في أطراف البلاد إلى نموِّه في
التواضع وفي البساطة الدينية، لبُعده عن مركز اليهود الديني حيث كان الفساد
مستفحلاً، لأن الادعاءات الرياسية، والغطرسة الريائية، والسفسطة التقليدية،
والتفنينات الطقسية، كانت قد استولت على قادة الأمة في عاصمة دينهم، فخنقت التقوى
الحقيقة، وضاع من بينهم روح الدين بسبب استعبادهم للحرف، وقد أوضح يسوع أفكاره في
هذا كله يوم زار أورشليم، ودان أولئك الرؤساء على ذلك بكلام قارص جداً.

ويظهر
أن أصل يسوع السماوي كاد يبرح من أفكار مريم ويوسف في سني حداثته. ولا عجب، لأن
حياته كانت تسير على أسلوب اعتيادي، ما خلا تفوُّقه في الصلاح، فاعتاد أهله النظر
إليه كإنسان فقط. وكان في هذا الإغفال خير، إذْ أدَّى إلى أنه اختبر أحوال البشر
المتنوعة، عندما اختلط بقومه في أطوار حياته التي تدرَّج فيها. ونتيجة لذلك تجرب
في كل شيء مثلنا. فلو كان أبواه يفطنان في كثير من الأوقات إلى حقيقة طبيعته
لأصبحا في ارتباك دائم في معاملته، ولكانا يحسبان أنه يجب عليهما الخضوع له في
الرأي، وأن يقدّما له الطاعة، وليس بالعكس. وكان إذْ ذاك قد تربى تربية أبعدتهُ عن
سائر البشر، وأفقدته الاشتراك التام في الشعور مع الأولاد والشبان والرجال.

ولا
نشك أن يسوع كان في حداثته في الناصرة متّقداً حرارة وغيرة وإشفاقاً لرؤيته مصائب
الناس وآلامهم، ولذلك نُدهش أكثر لصبره العجيب، وامتلاكه عواطفه تلك السنين كلها
التي كان فيها محتجباً في الناصرة، ومؤجلاً عمله الخطير الذي نزل من السماء لأجله،
والذي شغل كل أفكاره.

كان
عليه أن يمارس يومياً حرفة النجارة ليكسب رزقه، حتى أطلق اليهود عليه لقب «النجار
ابن مريم». وتعلَّم القناعة بحالته الفقيرة، والخضوع للأكبر منه سناً. ومما يؤيد
استنتاجنا أن حياته كانت اعتيادية تماماً، أن إخوته لم يؤمنوا به، كما أن صيته لم
يمتدّ في البلاد المجاورة، لأن نثنائيل في قانا الجليل على بُعْد ساعات قليلة، لم
يكن قد سمع به كل تلك السنين، ولا أهل كفر ناحوم وبيت صيدا الأبعد قليلاً بالنسبة
إلى قانا. وقد تلخَّص تاريخ حداثته في قول البشير لوقا: «وَكَانَ ٱلصَّبِيُّ
يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِٱلرُّوحِ، مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ
ٱللّٰهِ عَلَيْهِ». وقوله: «وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي
ٱلْحِكْمَةِ (في عقله) وَٱلْقَامَةِ (في جسمه) وَٱلنِّعْمَةِ
(في روحه)، عِنْدَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ» (لوقا 2: 40 و52). وهذا
الكلام يدل على أن المسيح تدرج في ذلك تدرُّجاً طبيعياً. وبذلك كان حائزاً – ليس
فقط على الرضى الإلهي – بل على الإستحسان البشري أيضاً.. وكإنسان نتصوّره في كل
تلك المدة يحبه جميع الناس، مستعداً لخدمتهم في كل أمر حسن، يبتعد عن كل ما
يكدّرهم، ويصبر على هفواتهم، ويعاملهم باللطف في سيئاتهم. لم تأت ساعته بعد، التي
تطلب منه مقاومة الشر جهاراً، فتثير عليه حنق الأشرار، ولم ينَلْ بعد الشهرة
والأهمية التي تهيّج عليه حسد الكبار.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى