اللاهوت الدفاعي

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل
الثالث

لأنَّ
كثيرًا مِنَ النّاسِ
أخَذوا يُدَوِّنونَ رِوايةَ
الأحداثِ الّتي جَرَت بَينَنا

 

1 – أين هي بقية الأناجيل؟؟!!

ورد المقال التالي بأحد المواقع التي تهاجم العقيدة المسيحية وتشكك فيها
ليل نهار وقد نقلته عنه عشرات المواقع الأخرى واستخدمه بعض الكتاب في كتابة الكتب
والمقالات بالمجلات والجرائد لنفس الغرض كما استخدمه بعض المتحدثين في القنوات
الفضائية وكأن ما جاء فيه هو الحق المبين والدليل الدامغ على أن هناك العشرات من
الأناجيل والأسفار المفقودة من الكتاب المقدس!!! والغريب أنه ولا واحد من هؤلاء
الكتاب، سواء واضع المقال أو من نقلوا عنه، فكر في بحث الموضوع بأسلوب علمي أو
استخدموا أي منهج علمي عقلاني للتحقق من صحة ما يكتبون أو يقولون!! فقط فسروا
الفقرة الأولى من الإنجيل للقديس لوقا على هواهم وبعيدا عن سياقها ومعناها اللغوي
والأصلي الذي قصده الكاتب الموحى إليه بالروح القدس!! واستشهدوا بفقرات ناقصة
ومبتورة ونقلوها عن بعض المراجع المسيحية دون أن يأخذوا بما كتبه هؤلاء الكتاب
كاملا، فقط جاءوا بفقرات مأخوذة بعيدا عن سياقها وموضوعها ليوحوا للقاريء وكأنهم
أتوا باليقين الدامغ على صحة ما يدعون من أباطيل وأكاذيب وتدليس!! ولذا نقول لهم
ما بني على باطل فهو باطل!!

وقبل أن نعلق على ما جاء في هذه المقالة نضعها كاملة أمام القاريء ليشترك
معنا بفكره وعقله في تحليلها والتعليق على ما جاء فيها، وفيما يلي نص المقالة
كاملاً:

” كتب لوقا في [1: 1]: ” إذ كان كثيرون قد اخذوا بتأليف قصة في
الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما
للكلمة رأيت أنا أيضا إذ قد
تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق آن اكتب على التوالي إليك أيها العزيز
ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علّمت به “. ثم بدأ قصته قائلاً: ” كان
في أيام هيرودوس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا… ” [ترجمة الفاندايك].

يتبين لنا من مقدمة الخطاب الموجه من لوقا إلى العزيز ثاوفيلس أن كثيرين
هم الذين كتبوا مثل ما كتبه لوقا في بيان حال المسيح
، فأين هي تلك الأناجيل؟

يقول ماكنيكل J. McNicol
في شرحه لعبارة: ” إذ كان كثيرون قد اخذوا بتأليف
قصة “: هذه الكلمات هي الخبر اليقين الوحيد الذي بحوزتنا عن وجود سجلات
مكتوبة قبل الشروع في تدوين الأناجيل الثلاثة الأولى، لكن تلك المؤلفات اندثرت
جميعها. [ تفسير الكتاب المقدس تأليف جماعة من اللاهوتيين لدار منشورات النفير –
بيروت].

من الملاحظ
أن لوقا قد كتب إنجيله حوالي عام 60 ميلادي كما يذكر
قاموس الكتاب المقدس / ص 823
وعليه فإن تلك السجلات المفقودة تعود لذلك التاريخ وما قبله.

والسؤال الذي يطرح نفسه: أليس من الممكن أن تكون تلك الأناجيل المندثرة قد احتوت ونقلت بعض
الحقائق، كعدم صلب المسيح وانه بشر ورسول ليس أكثر و
انه مبشرُُ بالرسول
الخاتم؟

وعلى ذلك لم تكن الأناجيل الأربعة التي يتضمنها
حالياً الكتاب المقدس هي الأناجيل الوحيدة التي كانت قد دُوِّنت في القرون الأولى
بعد الميلاد، فقد كان هناك الكثير من الأناجيل
. وهذا هو السبب الذي دفع لوقا
أن يكتب رسالته إلى صديقه ثاوفيليس التي اعتبرتها الكنيسة فيما بعد من كلام الله
: ” إذ كان كثيرون قد اخذوا بتأليف قصة
في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما
للكلمة رأيت أنا أيضا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن اكتب على التوالي
إليك أيها العزيز ثاوفيلس لتعرف صحة الكلام الذي علّمت به ” ثم بدأ قصته
قائلاً: ” كان في أيام هيرودوس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا…”
لوقا 1: 1-4

ومن المعلوم أن المجامع الأولى قد حرمت قراءة
الكتب التي تخالف الكتب الأربعة والرسائل التي اعتمدتها الكنيسة فصار أتباعها
يحرقون تلك الكتب ويتلفونها، فنحن لا ثقة لنا باختيار المجامع البشرية لما اختارته
فنجعله حجة ونعد ما عداه كالعدم
. ومما هو معلوم
فإن المؤرخين يختلفون في عدد المجامع المسكونية فبعضهم يقول أنها سبعة وآخرون
يقولون أنها 19 مجمعاً. وكما أن المؤرخين يختلفون في عددها هكذا تختلف الكنائس في
الاعتراف بها. فالكنيسة القبطية مثلاً لا تعترف إلا بالأربعة الأولى
منها. وها هي كنيسة روما ومعها الكنيسة اليونانية لا تعترفان بالمجمع
المسكوني الرابع (أفسس الثاني)
.

وفي مجمع (ترنت) الذي عقد في القرن الخامس
عشر والذي صادق على قرارات مجمع
(قرطاج Carthage)
سنة 397 بشأن الأسفار السبعة
وحكم بقانونيتها،
نجد
أن
الكنيسة البروتستنانية جاءت بعد ذلك في أوائل القرن السادس عشر ورفضت قرارات هذين المجمعين بمجمع آخر!

يقول القس السابق عبد الأحد داود:

” إن هذه السبعة والعشرين سفراً أو الرسالة
الموضوعة من قبل ثمانية كتاب لم تدخل في عداد الكتب المقدسة باعتبار مجموعة هيئتها
بصورة رسمية إلا في القرن الرابع بإقرار مجمع نيقية سنة 325م. لذلك لم تكن أي من
هذه الرسائل مصدقة لدى الكنيسة… وهناك أي في مجمع نيقية تم انتخاب الأناجيل
الأربعة من بين أكثر من أربعين أو خمسين إنجيلاً، وتم انتخاب الرسائل الإحدى
والعشرين من رسائل العهد الجديد من بين رسائل لا تعد ولا تحصى، وصودق عليها، وكانت
الهيئة التي اختارت العهد الجديد هي تلك الهيئة التي قالت بألوهية المسيح، وكان
اختيار كتب العهد الجديد على أساس رفض الكتب المسيحية المشتملة على تعاليم غير
موافقة لعقيدة نيقية وإحراقها كلها ” [ الإنجيل والصليب صفحة 14]

ويقول المؤرخ (ديورانت) في كتابة قصة الحضارة المجلد
الثالث
: ” وصدر مرسوم إمبراطوري
يأمر بإحراق كتب آريوس جميعها، ويجعل إخفاء أي كتاب منها جريمة يعاقب عليها
بالإعدام
“.

ويقول الكاتب المسيحي حبيب سعيد: ” وبذلك فض المؤتمر
النزاع القائم، وقرر إبعاد آريوس وأتباعه وحرق الكتاب الذي أودعه آراءه الملحدة
“.

وقد أعلن آدم كلارك في المجلد السادس من تفسيره: ” إن الأناجيل الكاذبة
كانت رائجة في القرون الأولى للمسيحية، وأن فايبر بسينوس جمع أكثرَ من سبعين
إنجيلاً من تلك الأناجيل وجعلها في ثلاث مجلدات
“. كما أعلن فاستوس الذي
كان من أعظم علماء فرقة ماني في القرن الرابع الميلادي
: ” إن تغيير الديانة
النصرانية كان أمراً محقاً، وإن هذا العهد الجديد المتداول حالياً بين النصارى ما
صنعه السيد المسيح ولا الحواريون تلامذته، بل صنعه رجل مجهول الاسم ونسبه إلى
الحواريين أصحاب المسيح ليعتبر الناس
“.

وقد كتب في مسألة تعدد الأناجيل الكثير من مؤرخي
النصرانية، فيقول العالم الألماني
دى يونس في كتابه
(
الإسلام): ” إن روايات الصلب
والفداء من مخترعات بولس ومَنْ شابهه من المنافقين خصوصاً وقد اعترف علماء
النصرانية قديماً وحديثاً بأن الكنيسة العامة كانت منذ عهد الحواريين إلى مضى
325 سنة بغير كتاب معتمد،
وكل فرقة كان لها كتابها الخاص بها
“. [راجع المدخل إلى العهد
الجديد
].

 

2 – أهم ما ورد في المقال من
ادعاءات باطلة:

من قراءتنا الأولى للمقال يتضح الآتي:

(1) أن كاتب المقال فسر مقدمة الإنجيل للقديس لوقا، على هواه!! وبدون دراسة
أو معرفة لا بمفهوم الكتاب ولا باللغة المستخدمة ولا بطبيعة الإنجيل نفسه سواء في
صورته الشفوية الأولى التي تسلمه بها المؤمنون في الكنيسة الأولى من تلاميذ المسيح
ورسله
ولا في شكله المكتوب ولا بحسب طبيعة العصر وحضارته وبيئته ولغته وأسلوبه، سواء في اليهودية ومصر
والشرق الأوسط أو في روما واليونان، الذي كان الناس يحفظون فيه رواياتهم وأساطيرهم
الدينية وكان المتعلمون فيه يكتبون سجلات جزئية لما كان يسلم لهم.

(2) لذا فقد فهم خطأ مقدمة الإنجيل للقديس لوقا وما ذكر فيها عن سجلات كانت
مكتوبة في زمن القديس لوقا وتصور أنه كان هناك الكثيرون الذين كتبوا أناجيل أخرى
مثل القديس لوقا!!

(3) زعم وتوهم أن هذه السجلات، والتي تصور وتخيل أنها أناجيل مفقودة، وأطلق
لنفسه العنان في تخيل ما يمكن أن تحتويه هذا الكتابات لدرجة تخيله أنه يحتمل أن
تكون قد
احتوت على نصوص تقول
بعدم صلب المسيح وتنفي لاهوته وتقول أنه لم يكن أكثر من مجرد رسول بشر، إنسان مثله
مثل آدم مخلوق من تراب!! كما يحتمل أن تكون قد احتوت على إشارات عما يؤمن به أنه
النبي الخاتم!! قد يكون موجودا في كتابات لا وجود لها إلا في خياله!! وهنا يظهر
هدف محاولاته المستميتة للإيهام بصحة ما يؤمن به من عقائد مضادة للمسيحية من مصادر
لا وجود لها في الواقع بل موجودة فقط في أوهامه وتخيلاته!!

(4) زعمه المتكرر وادعائه، هو وغيره، بغير علم ولا دليل ولا معرفة، أن
المجامع المسكونية، وبصفة خاصة مجمع نيقية، هي التي قررت وحددت ماهية الأناجيل
القانونية، وأنها هي التي قررت وحددت ماهية الأناجيل المحرمة وأمرت بإحراقها!!
ويعتمد مثل الكثيرين غيره على أكاذيب المدعو بالقس عبد الأحد داود والذي يقول كذبا
وتدليسا وبغير علم أو دليل: ”
إن هذه السبعة والعشرين
سفراً أو الرسالة الموضوعة من قبل ثمانية كتاب لم تدخل في عداد الكتب المقدسة
باعتبار مجموعة هيئتها بصورة رسمية إلا في القرن الرابع بإقرار مجمع نيقية سنة
325م. لذلك لم تكن أي من هذه الرسائل مصدقة لدى الكنيسة… وهناك أي في مجمع نيقية
تم انتخاب الأناجيل الأربعة من بين أكثر من أربعين أو خمسين إنجيلاً، وتم انتخاب
الرسائل الإحدى والعشرين من رسائل العهد الجديد من بين رسائل لا تعد ولا تحصى،
وصودق عليها، وكانت الهيئة التي اختارت العهد الجديد هي تلك الهيئة التي قالت
بألوهية المسيح، وكان اختيار كتب العهد الجديد على أساس رفض الكتب المسيحية
المشتملة على تعاليم غير موافقة لعقيدة نيقية وإحراقها كلها “
(1).

وهذا الكلام لا أساس له من الصحة ولم تناقش مسألة
الكتابات الأبوكريفية على الإطلاق لا في مجمع نيقية ولا في غيره من مجامع القرون
الأولى ولم يكن ضمن جدول أعمال مجمع نيقية أي شيء يختص بقانونية أي سفر من
الأسفار، سواء كان قانونياً أو أبوكريفياً، ونتحدى أي إنسان أو مخلوق أن يأتي لنا
بما يشير من قريب أو من بعيد لمثل هذا الادعاء، سوا من وثائق مسيحية أو غير مسيحية
ترجع للقرون الأولى أو زمن مجمع نيقية!! وها هي كتب التاريخ والكتب التي كتبت عن
مجمع نيقية في حينه بالعشرات!!

(5) راح يسخر من المجامع المكانية والمسكونية دون
معرفة بالأسباب التي دعت لعقدها وادعاؤه أنها قررت، على هواها، الأناجيل التي
تعتمد والأناجيل المرفوضة والتي قامت بإتلافها وبإحراقها!! وراح يتخذ من اختلاف
البعض حول بعض هذه المجامع حجة لرفض الأناجيل القانونية الموحى بها، على الرغم من
أن هذه المجامع كانت تناقش أمور لاهوتية وليتورجية وطقسية لا تخصه ولا تخص غيره في
شيء!! ونقول له أن أهم المجامع المسكونية وهي مجمع نيقية (325م) ومجمع القسطنطينية
(385م) ومجمع أفسس الأول (431م) والتي ناقشت أهم الأمور اللاهوتية مثل لاهوت
المسيح ولاهوت الروح القدس وطبيعة المسيح لا يختلف عليها أحد على الإطلاق. وهذه
المجامع وغيرها لم يناقش فيها موضوع الكتب الأبوكريفية على الإطلاق.

(6) خلط الكاتب، عمداً أو جهلاً، بين رفض مجمع
نيقية لكتابات آريوس الهرطوقية وما سماه بالأناجيل التي قررت إحراقها!! دون وجود
أي إشارة تاريخية أو دليل على هذه الأقوال المدلسة الكاذبة!! وحاول إيهام القاريء
أن رفض كتابات آريوس هو رفض لأناجيل غير مرضي عنها!! بل وحاول جهلاً أو عمداً أن
يوحي للقاريء أنه كان لدى آريوس أناجيل أخرى رفضها جمع نيقية وأمر بإحراقها!! وهذا
يدل أما على جهل أو تدليس متعمد. وسنناقش ذلك في نهاية هذا الفصل.

(7) استخدم، جهلا أو عمداً، أقوال بعض الكتاب
المسيحيين عن وجود الكتب الأبوكريفية وانتشارها بين أفراد الفرق الهرطوقية التي
ألفتها كدليل على انتشارها بين أيدي المسيحيين جميعا في القرون الأولى!! وذلك دون
أن يجهد نفسه في بحث هذه الكتابات الأبوكريفية وقراءتها ومعرفة محتواها، فهي
موجودة ومنشورة في عشرات بل مئات المواقع على النت، باللغة الإنجليزية، ولو كان هو
أو أمثالة قد فعلوا ذلك لكانوا قد أدركوا أن هذه الكتابات مليئة بالأفكار الخرافية
والوثنية والفلسفية التي تقول بملايين الآلهة وأن خالق الكون هو إله الشر وأن
الملائكة كانوا شركاءه في خلق الإنسان!! وأنها كانت مع الفرق الهرطوقية فقط.

(8) تحدث عن وجود آلاف الأخطاء في المخطوطات وزعم،
جهلا أو عمداً، أنها أخطاء يستحيل علاجها!! وراح يزايد على ما كتبه تشيندروف مكتشف
المخطوطة السينائية، دون فهم أو علم بكيفية حدوث هذه الأخطاء وكيفية تصحيحها
وسهولة الوصول للنص الأصلي بناء على دراسات علمية وقواعد استنبطها علماء المخطوطات
والنقد النصي. فهناك ما يسمى بالنقد النصي الكتابي الذي يقوم بدارسة هذه
المخطوطات، وقد توصل بعد دراسات علمية ومراجعة جميع المخطوطات المتاحة سواء باللغة
اليونانية، اللغة التي كتب بها العهد الجديد، أو الترجمات القديمة مثل القبطية
والسريانية واللاتينية 00 الخ مع ما اقتبسه آباء الكنيسة في القرون الأولى من آيات
ونصوص، إلى حقيقة جوهرية كما قال فريدريك كنيون الخبير في هذا المجال: ”
ويمكن للمسيحي أن يمسك بالكتاب المقدس كله في
يده ويقول بدون خوف أو تردد أنه يمسك بكلمة الله الحقيقية التي سلمت عبر القرون من
جيل إلى جيل بدون أن يفقد شئ من قيمتها
“.

 

3 – التعليق العلمي والكتابي
على ما جاء في مقدمة القديس لوقا:

(أ) يقول نص الآية حسب الترجمة البيروتية (فانديك): ” إِذْ كَانَ
كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ في الأُمُورِ
الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ
الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ، وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ
قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ،أَنْ أَكْتُبَ عَلَى
التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ
الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ “.

(ب) وحسب ما جاء في الترجمة اليسوعية: ” لَمَّا أَن أَخذَ كثيرٌ مِنَ
النَّاسِ يُدَوِّنونَ رِوايةِ الأُمورِ الَّتي تَمَّت عِندنَا، كما
نَقَلَها إلَينا الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ
صاروا عامِلينَ لها، رَأَيتُ أَنا أَيضاً، وقَد تقَصَّيتُها جَميعاً مِن أُصولِها،
أَن أَكتُبَها لَكَ مُرَتَّبَةً يا ثاوفيلُسُ المُكرَّم، لِتَتَيَقَّنَ صِحَّةَ ما
تَلَقَّيتَ مِن تَعليم “.

(ج) وحسب ما جاء في الترجمة المشتركة: ” لأنَّ كثيرًا مِنَ النّاسِ
أخَذوا يُدَوِّنونَ رِوايةَ الأحداثِ الّتي جَرَت بَينَنا، كما نَقَلَها
إلَينا الّذينَ كانوا مِنَ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ وخدّامًا للكَلِمَةِ، رأيتُ أنا
أيضًا، بَعدَما تتَبَّعتُ كُلَّ شيءٍ مِنْ أُصولِهِ بتَدقيقٍ، أنْ أكتُبَها إليكَ،
يا صاحِبَ العِزَّةِ ثاوفيلُسُ، حسَبَ تَرتيبِها الصَّحيحِ، حتّى تَعرِفَ صِحَّةَ
التَّعليمِ الّذي تَلقَّيتَهُ “.

وعند دراستنا لهذه الآيات والنصوص دراسة كتابية ولغوية وعلمية ولاهوتية
يتضح لنا الآتي:

1 – يقول القديس لوقا هنا ” إِذْ كَانَ “، أو ” لما أن
” أو ” لأن “. وهنا يستخدم كلمة ”
evpeidh,perEpeideeper ” والتي تستخدم مرة واحدة فقط في العهد الجديد،
هنا فقط، ككلمة مركبة من “
epe ” وتعني ” since حيث
أو بما أن “، وكلمة ”
dee ” وتعني ” كما هو معروف جيداً – as is
well known
” وكلمة ” per ” وتعطي معنى التأكيد، وتشير إلى حقيقة معروفة
جيداً وهي ” بقدر ما هو كائن “. وتأتي هنا سببية لما سيقوم به القديس
لوقا. وبهذا الاصطلاح يُنبيء القديس لوقا أنه نوى أن يستخدم ما قام به الكثيرون من
قبل إيجابياً ليعزز ما سيقوله هو، مؤكدا أن دقته مع هذه الكثرة ستأتي بالجديد
الكامل. فالكلمة هنا تعني التأكيد.

ثم يقول ” قَدْ أَخَذُوا ” أو ” أَخذَ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ ” وترجمتها
الحرفية في الإنجليزية “
Have taken in hand “، وهي في اليونانية ” evpecei,rhsanepecheireesan ” وهي اصطلاح كان يستخدم في اللغة الطبية بكثرة
ويحمل معنى المهمة الصعبة التي تكلل بالنجاح الكامل مثل التعبير المستخدم في أعمال
فشرع قوم ” (أع19: 13)، أي شرعوا في
مهمة صعبة ولكنها ستكلل بالنجاح.

ثم يكمل حديثه بقوله: ” بِتَأْلِيفِ ” أو ” يُدَوِّنونَ ” والتي ترجمت في الإنجليزية
To set forth in order
” وهي في اليونانية ”
avnata,xasqai
anataxasthai
“، ولم تستخدم في العهد الجديد سوى هنا فقط، وهي مكونة من مقطعين ”
tassoo
” والذي يعني يرتب أو يوضع مرتباً و ”
ana ” والذي يعني ” up ” ومن ثم تعني الكلمة ” draw up “؛ ” يرتب ” أو ” يصنف “،
وتفيد التجميع والترتيب. والتجميع هنا لمقولات وروايات شفهية ومكتوبة وهذا يؤكد
دقة التسليم الشفوي والمكتوب الذي تم تسليمه من رسل المسيح للمؤمنين الأول في
الكنيسة الأولى.

” قِصَّةٍ ” أو ” رِوايةِ ” والتي تترجم في الإنجليزية
account ” أو ” narrative
“، وهي في اليونانية “
dih,ghsin dieegeesin ” وتتكون من
dia
” وتعني ” خلال –
through ” و ” heegeomai ” وتعني ” يقود الطريق إلى ” ومن ثم
فقد ترجمت ” رواية –
narrative “، أي يروي رواية متصلة. والكلمة كانت مستخدمة
طبيا بكثافة فقد استخدمها الطبيب اليوناني الشهير أبوقراط (
Hippocrates) أكثر من 73 مرة، ولم تستخدم في العهد الجديد سوى
هنا فقط. وهي هنا تفيد رواية التقليد الرسولي المسلم للكنيسة من رسل المسيح.

” الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ ” أو ” الأُمورِ الَّتي
تَمَّت “
والمترجمة في الإنجليزية ” Which are most surely
believed
” والتي جاءت في
اليونانية ”
peplhroforhme,nwnpeplhroforhme,nwn “. والمركبة من ” pleerees
” وتعني ” ملء – كمال –
full
” و ”
foreoo ” وتعني ” يحضر “؛ أي يأتي بالمقياس
الكامل أو التأكيد الكامل. كما تعني ملء الأقتناع، وهو هنا يقصد الأمور التي حدثت
والتي يعرفونها جيداً إلى أقصى ملء قياسها. كما يعني قوله
” عِنْدَنَا ” h`mi/n
hemin “أ أي عندنا نحن المؤمنين أعضاء الكنيسة، فقد
تمت بيننا وعشناها وحفظناها.

2 – ثم يقول “ كما سلمها إلينا الذين كانوا
منذ البدء معاينين وخداما للكلمة ” أو ”
كما نَقَلَها إلَينا
الَّذينَ كانوا مُنذُ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ لِلكَلِمَة، ثُمَّ صاروا عامِلينَ لها ” أو ” كما نَقَلَها إلَينا الّذينَ كانوا
مِنَ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ وخدّامًا للكَلِمَةِ
(لو 1: 2).
أي كما سلمها لنا تلاميذ المسيح ورسله الذين كانوا شهود عيان
لهذه الأحداث، وقد عاشوها بأنفسهم وكانوا قلبها وبؤرتها.

وكلمة ” كما kaqw.jjkathoos ” هنا تعني ” even asولا تعني هنا التساوي بل بمقتضى أو ” من واقع
“. وكلمة ” سلمها ” هي في اليونانية “
pare,dosan
paredoosan ” و ” لنا – h`mi/nheemin
“؛ ”
كَمَا
سَلَّمَهَا إِلَيْنَا
” أو ” كما نَقَلَها إلَينا “؛ وتعني هنا
التسليم الرسولي
وهي
مختصة في التقليد الرسولي بتسليم الأسرار فماً لأُذن.
وهذا ما صفه القديس
بولس بقوله:

+ ” حسب التعليم (التسليم) الذي أخذه منا
” (2تس3: 6).

+ ” وتحفظون التعاليم (التسليم) كما سلمتها
إليكم ” (1كو11: 2).

+ ” فاثبتوا إذا أيها الأخوة وتمسكوا
بالتعاليم (بالتسليم) التي تعلمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا ” (2تس2:
15).

+ وأيضاً قوله ” لأنني تسلمت من الرب ما
سلمتكم أيضا ” (1كو11: 23).

والتسليم هنا يعني التسليم الشفوي فماً لأُذن من أُناس رأوا وعاينوا (كانوا شهود عيان) وخدموا ” الكلمة – lo,gou
” من ”
lo,goj “، الرب يسوع المسيح. فالكلمة هنا ليست كلمة منطوقة؛ بل هو ”
الكلمة –
lo,goj ” الذي شاهدوه وعاينوه وكانوا خداما له. كما أن الكلمة المستخدمة هنا
” شهود عيان ” هي ”
auvto,ptai autoptai
” وهي كلمة يونانية قديمة ومصطلح طبي لم يستخدم في العهد الجديد سوى هنا فقط
ليعني المشاهدة بالعين مباشرة. وهذه الكلمة
بالذات تُستخدم الآن في فحص حالات بعد الموت
autopsy فتعطي
الانطباعات الشخصية عن الحالة. لذلك أردف الطبيب لوقا مع شهود العيان ”
خدَّام الكلمة “، بمعنى أنهم رأوه وفحصوه جيداً بمقتضى الوجود والتزامل
والخدمة، وهكذا أصبحت روايتهم واضحة وصادقة بكل يقين!!

كما يعني قوله ” الذين كانوا منذ البدء معاينين
وخداما للكلمة
” أو ” الّذينَ كانوا مِنَ البَدءِ شُهودَ عِيانٍ وخدّامًا للكَلِمَةِ “، الذين كانوا
مع المسيح منذ بداية رسالته كقول القديس بطرس عند اختيار بديلا ليهوذا ” فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا كل الزمان الذي فيه دخل
إلينا الرب يسوع وخرج منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا يصير واحدا
منهم شاهدا معنا بقيامته
” (أع1:
21و22).
و
” الكلمة ” هنا كما تعني شخص المسيح تعني أيضاً الرسالة الإنجيلية
بكاملها دون أي تغيير، حيث يقصد بها تسجيل كلام المسيح وأعماله وشخصه، كما أكد هو نفسه في بداية سفر أعمال الرسل ” الكلام
الأول أنشأته (دونته) يا ثاوفيلس عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلّم به إلى اليوم
الذي ارتفع فيه
” (أ1: 1-2).

ويعني قوله ” معاينين
أو شهود عيان
autoptaiauvto,ptai “،
كما أوضحنا أعلاه أنهم لا يتكلمون إلا بما رأوا بأنفسهم، أي يتكلمون عن معرفة
شخصية وخبرة عملية ومعايشة كاملة لما يتكلمون عنه،
أو كما يقول القديس يوحنا: ” اَلَّذِي
كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي
سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ
بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا
، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ
الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ
بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا.
الَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ
” (1يو1: 1-3). وكما
يقول القديس بطرس: ” لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ
عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا
مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ
. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللَّهِ الآبِ كَرَامَةً
وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهَذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى:
” هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ “. وَنَحْنُ
سَمِعْنَا هَذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ
إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي
الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ ” (2بط1: 16- 18).

وخلاصة الآيتين هنا هي؛ بما أن الكثير من المؤمنين قد شرعوا وقاموا بمهمة
صعبة ولكنها ستكلل بالنجاح، وهي ترتيب وتدوين الأحداث من واقع ما سلم لهم ونقل
إليهم عن طريق التسليم الرسولي، ما تسلموه من رسل المسيح وتلاميذه فماً لأذن،
الروايات الإنجيلية والتعاليم والمواعظ، التي تسلموها شفوياً من شهود العيان،
تلاميذ المسيح ورسله الذين عاشوها معه وكانوا واثقين ومتأكدين من حقيقة وصحة كل
كلمة فيه، فقد تمت أماهم وبينهم ومعهم وكانوا في قلبها وبؤرتها وذروتها فقد عاشوها
بأنفسهم ” كنا معاينين عظمته ” أو كما قال القديس بطرس ”
نحن
الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات
” (أع10: 43)، وكانوا متأكدين وواثقين
إلى ملء الثقة والاقتناع من صحة كل كلمة فيها.

3 – ثم يضيف ” رأيت أنا أيضا إذ قد
تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن اكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيلس

” (لو1: 3).
أو ” رأيتُ أنا أيضًا، بَعدَما تتَبَّعتُ كُلَّ شيءٍ مِنْ
أُصولِهِ بتَدقيقٍ، أنْ أكتُبَها إليكَ، يا صاحِبَ العِزَّةِ ثاوفيلُسُ، حسَبَ
تَرتيبِها الصَّحيحِ، حتّى تَعرِفَ صِحَّةَ التَّعليمِ الّذي تَلقَّيتَهُ
“.

وكلمة رأيت ” e;doxe kavmoi. edoxe kamoi ” هنا لا تفيد مجرد الرؤية فقط بل تعني استحسنت
it seemed good to me as well
“، أي استحسنت عمل أولئك الذين دونوا من قبلي لذا استحسنت أن أنضم إليهم بل
وأستفيد من عملهم. ثم يقول ”
إذ قد تتبعت ” وهنا يستخدم
الكلمة اليونانية ”
parhkolouqhko,ti
parhkolouqhkoti ” والتي تعني: تفحصت بدقة، تتبعت عن قرب. وهذا
الفعل استخدمه جالينوس الطبيب اليوناني المشهور لتشخيص وفحص أعراض الأمراض.

مِنْ أُصولِهِ بتَدقيقٍ ” أي من بدايته ومصدره فهو هنا يؤكد على
تتبعه لكل شيء من بدايته، أي رجع لكل شيء ودرسه وتفحصه من مصدره، فقد كان معه
التسليم الرسولي الذي تسلمه عن شهود العيان وخدام الكلمة، الرب يسوع المسيح، وكان
في إمكانه الرجوع إلى أكبر عدد منهم ليتحقق من صحة كل ما تسلمه، مثلما رجع للعذراء
القديسة مريم التي روت له أحداث البشارة والميلاد، سواء الخاصة بيوحنا المعمدان أو
الخاصة بالرب يسوع المسيح بكل دقة، وهذا واضح من تأكيده وقوله: ”
وأما
مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به
في قلبها
(لو2: 19)، ” وكانت أمه تحفظ جميع هذه
الأمور في قلبها ” (لو2: 51). فقد رجع لكل شيء كمؤرخ دقيق أجمع العلماء على
دقة كل حرف كتبه.

وكلمة ” اكتب على التوالي إليك
” ترجمت بدقة ” أنْ أكتُبَها إليكَ حسَبَ تَرتيبِها
الصَّحيحِ
“، وكلمة ” على التوالي ” هنا وردت في اليونانية
kaqexh/jkathexees، وهي اصطلاح فني
دقيق يعني ” بنظام وترتيب “.

مما سبق يتبين لنا أن الأحداث التي حدثت، أعمال الرب يسوع المسيح ومعجزاته
وتعاليمه وأقواله وشخصه، والتي سلمها لهم تلاميذ المسيح ورسله شهود العيان مباشرة،
فماً لأذن، كانت محفوظة عندهم وقد دونت وسجلت في شكل مكتوب وبترتيب دقيق، ولكن في
شكل شخصي وغير رسمي، كل يدون ويسجل بعض المذكرات التي أحتفظ بها عن أعمال وتعاليم
المسيح، لذا رأى القديس لوقا، بالروح القدس، أن يسجل هو أيضاً هذه الأمور، أعمال
وتعاليم وشخص الرب يسوع المسيح، حسب ترتيبها الصحيح وأن يرجع لأصحابها، شهود
العيان الذين عاشوها بأنفسهم وشاهدوها بأعينهم. وهنا أحب أن أؤكد على حقيقتين وهما:

(1) لم يكتب إي كتاب، سمي بإنجيل أو سفر أعمال أو رؤيا أو رسالة مرتبطة
بالعهد الجديد قبل تدوين الإنجيل للقديس لوقا سوى الإنجيل للقديس مرقس أو الإنجيل
للقديس متى أو كليهما، كما لم يكتب أي كتاب في القرن الأول سمي إنجيل أو سفر أعمال
أو رؤيا أو رسالة باسم أحد الرسل سوى أسفار العهد الجديد ال 27. ولم ينسب أي كتاب
لأحد من الرسل قبل سنة 150م وهذا ما اجمع جميع العلماء والنقاد، لأن جميع
الكتب الأبوكريفية كتبت فيما بين سنة 150 و450م، ولم يكتب أي كتاب منها قبل سنة
150م.

(2) أن الكثيرين الذين ذكرهم القديس لوقا، كما بينّا في دراستنا، أعلاه،
وكما برهنت أحدث الأبحاث والدراسات الكتابية، هم من المؤمنين الذين دونوا بعض
روايات وتعاليم الإنجيل الذي سبق أن تسلموه شفوياً، التسليم الرسولي، الذي كان
يعلم ويحفظ شفوياً قبل تدوين الإنجيل المكتوب. فمن دراسة تاريخ الكتابة عند بني
إسرائيل وعند الشعوب التي كانت لها حضاراتها العريقة مثل مصر واليونان والرومان
وما بين النهرين، سوريا القديمة، العراق وسوريا الحديثة، وجدوا أن الشعوب كانت
تعلم وتحفظ كل نصوصها الدينية شفوياً، وقبل أن توضع في شكل مكتوب. وكان من الطبيعي
أن يحفظ المسيحيين الأول نصوصهم الدينية بهذه الطريقة، باعتبار أن تلاميذ المسيح
ورسله ومعظم المؤمنين في السنوات العشر الأولى للكرازة المسيحية كانوا من اليهود
الذين قبلوا الإيمان والذين اعتادوا على حفظ نصوصهم الدينية بهذه الطريقة، وكذلك
بسبب اختلاطهم بالرومان الذين كانوا يحتلون بلادهم ويحكمونهم واليونانيين الذين
كانت ثقافتهم ولغتهم هي السائدة في ذلك الوقت في كل بلاد حوض البحر المتوسط. كما
برهنت الدراسة العلمية للإنجيل المكتوب على حفظ المؤمنين لأجزاء محددة من الإنجيل،
سواء شفويا أو بتدوينها في سجلات مثل التي ذكرها القديس لوقا، كما بينّا أعلاه،
فقد وجدوا أن سلسلة انساب المسيح في كل من الإنجيل للقديس متى والإنجيل للقديس
لوقا والموعظة على الجبل (متى ص 5 -7) وأمثال المسيح في مرقس (ص 4) وروايات
عشاء الفصح والعشاء الرباني وروايات المحاكمة والآلام وروايات الصلب وروايات
الدفن وروايات القيامة ورويات الصعود كانت مكتوبة في رقوق أو أوراق بردي وكان
يحتفظ بها الكثيرون من المؤمنين الذين دونوها ولما تم تدوين الإنجيل لم يعد هناك
حاجة إليها ولم يعد لها وجود.

أما ما زعم الكاتب بقوله: ” من الملاحظ أن لوقا قد كتب إنجيله حوالي
عام 60 ميلادي كما يذكر قاموس الكتاب المقدس / ص 823 وعليه فإن تلك السجلات
المفقودة تعود لذلك التاريخ وما قبله “.

وتساؤله: ” والسؤال الذي يطرح نفسه: أليس من الممكن أن تكون تلك
الأناجيل المندثرة قد احتوت ونقلت بعض الحقائق، كعدم صلب المسيح وانه بشر رسول ليس
أكثر وانه مبشر بالرسول الخاتم؟ “.

فهذا كلام يخلط فيه الكاتب الحق بالباطل والباطل بالحق، فقد بينّا أعلاه،
كيف أن هذه الكتابات التي أشار إليها القديس لوقا ما هي إلا سجلات صحيحة لأجزاء من
التسليم الرسولي كما سلمه رسل المسيح وتلاميذه للكنيسة الأولى وهي لا تختلف مع ما
كتبه القديس لوقا في شيء إنما هي سجلات، غير كاملة، كانت مدونة لبعض أعمال المسيح
له المجد وتعاليمه ولكن القديس لوقا تتبع هذه الأحداث والأقوال وتفحصها بدقة
متتبعا كل شيء من أصوله، كما رجع لشهود العيان أنفسهم الذين عاشوها وكانوا في
قلبها، شاهدوها بعيونهم وسمعوها بآذانهم ولمسوها بأيديهم مثل العذراء القديسة مريم
وبقية التلاميذ.

كما أن توهم كاتب المقال ومن تبعه وزعمهم أن هذه السجلات المذكورة والتي لم
يعد لها وجود، يمكن أن يكون فيها ما يضاد العقائد المسيحية مثل الزعم الباطل
والقول بعدم صلب المسيح ولاهوته فما هو إلا خيال مجانين لسبب بسيط هو أن حقائق صلب
المسيح ولاهوته حقائق ثابتة وراسخة في التاريخ المسيحي والتاريخ الروماني
واليوناني والسوري، بل وفي الأناجيل الأبوكريفية كما هي في الأناجيل القانونية
الموحى بها. كما أن القديس لوقا لم يشر إلى أي تناقض بينه وبين هذه السجلات بل ولم
يقل مطلقاً أنه خالفها، بل على العكس تماماً فقد أكد على دقتها وصحتها ومصداقيتها.
فقد كانت مذكرات وسجلات لأجزاء من الإنجيل الشفوي وقد أنتفت الحاجة إليها ولم يعد
لها وجود بعد تدوين الإنجيل المكتوب.

وأذّكر مثل هؤلاء وأقول لهم أن ما دونه وسجله هؤلاء المؤمنون يشبه، مع
الفارق، ما حدث عند جمع القرآن الذي كان محفوظاً في صدور الرجال ومكتوب على العسب
المصنوع من جريد النخل واللخاف المأخوذ من الأحجار والرقاع الجلدية والرقوق
والأكتاف المصنوعة من عظام أكتاف الشاة والأقتاب الخشبية التي كانت توضع على ظهور
البعير. وبعد تدوين القرآن في كتاب أنتفت الحاجة لوجود هذه المواد ولم يعد لها أي
قيمة تذكر فتلفت أو ضاعت.

1 – جاء في الإتقان في علوم القرآن للسيوطي (1: 164): ” وقد تقدم في
حديث زيد أنه جمع القرآن من العسب واللخاف وفي رواية والرقاع وفي أخرى وقطع الأديم
وفي أخرى والأكتاف وفي أخرى والأضلاع وفي أخرى والأقتاب فالعسب جمع عسيب وهو جريد
النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف
العريض واللخاف بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء جمع لخفة بفتح اللام وسكون
الخاء وهي الحجارة الدقاق وقال الخطابي صفائح الحجارة والرقاع جمع رقعة وقد تكون
من جلد أو رق أو كاغد والأكتاف جمع كتف وهو العظم الذي للبعير أو الشاة كانوا إذا
جف كتبوا عليه والأقتاب جمع قتب هو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه
“.

2 – وجاء في صحيح البخاري: ” حدثنا موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد
حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال
أرسل
إلي أبي بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي الله عنه
إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر
القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت
لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله (ص)؟ قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر
يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيد قال أبو بكر
إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله (ص) فتتبع القرآن
فاجمعه. فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع
القرآن. قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله؟ قال هو والله خير فلم يزل أبو
بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع
أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره { لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما
عنتم
}حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى
توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه “.

وهنا نسأل أصحاب هذه الأقوال عن الإنجيل ونقول لهم:

… هل أحتفظ الخلفاء بهذه
المواد التي جُمع منها القرآن؟

… وهل ما تزال موجودة
وأين هي الآن، أن كانت موجودة؟

… وهل نزعم مثلهم ونقول
لماذا لا تكون هذه المواد قد احتوت على مواد أخرى مخالفة
لما هو موجود بالقرآن الحالي؟

مع ملاحظة أنه ليس هناك أي أجزاء مفقودة من الإنجيل المكتوب، بل أن الكتب
المزعومة والمسماة بالأناجيل والتي رفضتها الكنيسة هي كتب كتبت ابتداء من منتصف
القرن الثاني (150م) وقد كتبها هراطقة وسنوضح حقيقتها لاحقاً.

كم نقول لواضع المقالة وأمثاله ومن سار على دربهم ما يلي:

1 – تعليقا على قوله ” أليس من الممكن أن تكون تلك الأناجيل المندثرة
قد احتوت ونقلت بعض الحقائق، كعدم صلب المسيح وانه بشر ورسول ليس أكثر وانه مبشر
بالرسول الخاتم؟ “

أولاً: أن
هذا الاحتمال المفترض غير موجود على الإطلاق ولا يمكن أن تبنى العقائد على مجرد
الاحتمالات حيث تقول القاعدة المنطقية ” الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط
به الاستدلال “.

ثانياً: أجمعت
الأناجيل القانونية، الموحى بها، وبقية أسفار العهد الجديد على الحقائق الإيمانية
الموجودة في العهد الجديد ككل وعلى رأسها حقيقة صلب المسيح وأن المسيح هو ختام
الإعلان الإلهي ” الله بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة
كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثا لكل شيء الذي به أيضا عمل
العالمين الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع
بنفسه تطهيرا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي صائرا أعظم من الملائكة
بمقدار ما ورث اسما أفضل منهم ” (عب1: 1-4).

ثالثاً: أجمعت
السجلات التاريخية المدنية الرومانية واليونانية والسورية وغيرها على أن المسيحيين
منذ فجر المسيحية كانوا يؤمنون بإله مصلوب صلبه اليهود على عهد بيلاطس البنطي،
وكانوا يسخرون من ذلك ولكن المسيحيين لم يأبهوا بسخريتهم واثقين ” أن كلمة
الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلّصين فهي قوة الله ” (1كو1:
18).

رابعاً: وعلى
عكس ما تصور كاتب المقال ومن سار على دربه فقد اعتقدت وأمنت وأجمعت جميع الكتب
الأبوكريفية بمسمياتها المختلفة من أناجيل وأعمال رسل ورؤى أو
ما تسمى برسائل على حقيقة لاهوت المسيح وصلبه
وقيامته وصعوده إلى السماء، فقد انطلقت هذه الكتب، كما يقول العلامة إيريناؤس
(175م) والذي درس هذه الكتب، جميعها، من الأناجيل الأربعة وبقية أسفار العهد
الجديد القانونية الموحى بها وكانت صدى لها، بل وتوسعت منها ولكن من منطلق غنوسي
هرطوقي وثني خلط بين الفكر المسيحي والفكر الوثني صور فيه المسيح كالإله المنبثق
من الإله غير المدرك والنازل من السماء في شكل وهيئة ظاهرية للإنسان دون أن يتخذ
الطبيعة الإنسانية الحقيقة، اخذ شكل وهيئة الإنسان في الظاهر فقط فكان، كما زعموا،
يبدو ملموسا في بعض الأحيان وغير ملموس في أحيان أخرى، وقالوا أنه صلب فعلا ومات
حقا ودفن في القبر وقام من الموت وصعد إلى السموات ولكن لأنه كان إنساناً في
الظاهر فقط، في الهيئة، اتخذ شبه جسد الإنسان ومظهره، لذا تألم في الظاهر فقط وشبه
للناس أنه صلب ومات ولكن لأنه إله ولم يكن له جسد مادي فقد كان ذلك في الظاهر
والهيئة والشكل فقط، شبه لهم أنه صلب وبدا لهم أنه مات في حين أنه هو الإله الذي
لا يموت.

2 – وتعليقا على قول المقالة ” وعلى ذلك لم تكن الأناجيل الأربعة التي
يتضمنها حالياً الكتاب المقدس هي الأناجيل الوحيدة التي كانت قد دُوِّنت في القرون
الأولى بعد الميلاد، فقد كان هناك الكثير من الأناجيل. وهذا هو السبب الذي دفع
لوقا أن يكتب رسالته إلى صديقه ثاوفيليس التي اعتبرتها الكنيسة فيما بعد من كلام
الله “. وما قاله القس السابق عبد الأحد داود، والذي ذكرناه أعلاه؛ نقول
لكاتب هذه المقالة ومن تبعه ومن سار على هداه ومن نقل كلامه وكأنه الحق المبين
وأتخذ منه مرجعاً في أمور يجهلونها جميعهم:

أولاً: كون
أن هناك كتباً منحولة سميت بالأناجيل أو الأعمال أو الرؤى في القرون الأولى لا
يعني أنها هي السجلات المذكورة في الإنجيل للقديس لوقا، بل كما يدل محتواها
وجوهرها، وكما أجمع العلماء، فقد كتبت، هذه الكتب المنحولة، ابتداء سنة 150 من
القرن الثاني إلى القرن الخامس
(2).
في الفترة التي خلط فيها أصحاب هذه الكتب ومن كتبوها بين الفكر المسيحي المسلم من
رسل المسيح وتلاميذه وبين الفكر الغنوسي الخليط من فكر أفلاطون ومن الفكر المصري
والكلداني واليوناني والزردشتي الفارسي.

ثانياً: تحاول
المقالة أن تضلل القاريء عمدا باستخدامها تعبير القرون الأولى في الحديث عن الكتب الأبوكريفية
وكذلك الربط بينها وبين ما جاء في مقدمة الإنجيل للقديس لوقا وتحاول أن توحي
للقاريء أن هذه الكتب الأبوكريفية هي التي قصدها القديس لوقا عما دونه المسيحيون
في عصره وقبل تدوينه للإنجيلّّ وذلك على عكس ما أوضحناه أعلاه.

3 – وتعليقا على قوله: ” أن المجامع الأولى قد حرمت قراءة الكتب التي
تخالف الكتب الأربعة والرسائل التي اعتمدتها الكنيسة فصار أتباعها يحرقون تلك
الكتب ويتلفونها، فنحن لا ثقة لنا باختيار المجامع البشرية لما اختارته فنجعله حجة
ونعد ما عداه كالعدم “.

نقول لكاتب هذه المقالة ومن تبعه بل وللجميع أن المجامع المسكونية أو
المكانية لم تناقش موضوع الكتب الأبوكريفية ولم تحرمها، بل أن الأناجيل القانونية
الموحى بها وبقية أسفار العهد الجديد قُبلت في الكنيسة بمجرد تدوينها لأنها كتبت
لمن تعلموها وتسلموها شفوياً وكتبت بناء على طلبهم، أما الكتب الأبوكريفية فقد
كتبت بعد انتقال تلاميذ المسيح ورسله وخلفائهم من هذا العالم، فقد كتبت فيما بين
سنة 150م و450م بإجماع العلماء، ولم يحرمها بل ولم يناقشها أي مجمع من المجامع
الكنسية في القرون الأولى، فقط قرأها وكتب عنها وشرحها آباء الكنيسة؛ إيريناؤس سنة
175م وترتليان حوالي 200م وهيبولتوس حوالي 220م وأبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص
حوالي 350م وقد تم اكتشاف معظمها في القرن العشرين وخاصة مكتبة نجع حمادي سنة
1947م وترجمت إلى لغات كثيرة، كما ترجمناها إلى اللغة العربية وقمنا بنشر الجزء
الأول منها ثم يليه الجزء الثاني 00الخ. وثبت من دراستها أنها شديدة الوثنية وتؤمن
بالعديد من الآلهة وترى أن خالق العالم هو إله شرير وليس هو الله الحقيقي!! ولكنها
لا تنفي لاهوت المسيح أو صلبه أو قيامته أو فداءه للبشرية.

 

4 – كيف قبلت الأسفار القانونية؟

أختار الرب يسوع المسيح من تلاميذه الذين آمنوا به وتبعوه مجموعة لتحمل
الإنجيل
وتكرز باسمه في كل
مكان في العالم، يقول الكتاب: ” ولما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم
اثني عشر الذين سماهم أيضا رسلا
” (لو6: 13)، ” وبعد ذلك عيّن
الرب سبعين آخرين أيضا وأرسلهم اثنين اثنين
أمام وجهه إلى كل مدينة وموضع حيث
كان هو مزمعا أن يأتي ” (لو10: 1). وكانوا شهوده في كل المسكونة ” لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون
لي شهودا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة والى أقصى الأرض
” (أع1:
8). وقد سلموا الإنجيل للمؤمنين أولا شفوياً وحفظه المؤمنون الأول في قلوبهم وأن
كان البعض قد دون أجزاء كثيرة مما تسلموه على أوراق بردي أو رقوق وجلود ولكن ومع
امتداد ملكوت الله وانتشار المسيحية في دول عديدة ومدن كثيرة وقرى لا حصر لها سواء
بواسطة الرسل أو بواسطة تلاميذهم مع انتشار اجتماعات العبادة الأسبوعية
والليتورجية والتي وجدت حيثما وجد المسيحيون، وذلك فضلاً عن رحيل بعض الرسل، شهود
العيان، من هذا العالم إلى العالم الآخر، ظهرت الحاجة للإنجيل المكتوب ليكون
المرجع الحي والباقي والدائم والثابت للمؤمنين في كل مكان وزمان إلى المجيء
الثاني، أي أن ضرورة تدوين الإنجيل كانت حتمية. ومن هنا طلب المؤمنون من الرسل أن
يدونوا لهم ما نادى لهم به معلموهم وما حفظوه شفوياً:

يقول أكليمندس الإسكندري: ” لما كرز بطرس بالكلمة
جهاراً في روما. وأعلن الإنجيل بالروح طلب كثيرون من الحاضرين إلى مرقس أن يدون
أقواله لأنه لازمه وقتاً طويلاً وكان يتذكرها. وبعد أن دون الإنجيل سلمه لمن طلبوه

“.

ويقول القديس أكليمندس الأسكندرى مدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية: حينما
أكمل بطرس كرازته في روما جهاراً وأعلن الإنجيل بالروح، فالحاضرون وكانوا كثيرين
ترجوا مرقس كونه كان مرافقاً لبطرس مدة طويلة ويذكر كل ما قاله أن يسجِّل لهم
كلماته. ومرقس عمل هذا وسلم إنجيله إلى الذين ترجوه (طلبوه). وحينما علم بطرس بذلك
لم يتحمَّس في ممانعة ذلك ولا هو شجَّع العمل
(3).

ثم يضيف: ” إن بطرس حينما سمع ما قد عمل
(مرقس) كما أعلن له الروح سُرَّ بغيرة

الأشخاص الذين طلبوا منه ذلك
وصادق على الكتابة لقراءتها في الكنائس
(4).

ويقول القديس جيروم: (حوالي 350م): ” أن مرقس- تلميذ بطرس ومترجمه – كتب بناء على طلب
الإخوة في رومية إنجيلاً مختصراً طبقا لما كان قد سمع بطرس يرويه. وعندما بلغ
بطرس ذلك، وافق عليه وأمر أن يُقرأ في الكنائس
(5).

وتقول الوثيقة الموراتورية التي ترجع لسنة 170م:
” الإنجيل الرابع هو بواسطة يوحنا أحد التلاميذ, إذ عندما توسل إليه
زملاؤه (التلاميذ) والأساقفة في ذلك قال: صوموا معي ثلاثة أيام ونحن نتفاوض مع
بعضنا بكل ما يوحي الله به إلينا. ففي هذه الليلة عينها أعلن لأندراوس أحد الرسل
أن يوحنا عليه أن يكتب كل شيء تحت اسمه والكل يصدق على ذلك
“.

أي أن المؤمنين الذين حفظوا الإنجيل وتسلموه، في
البداية، شفوياً، هم أنفسهم، المؤمنون، الذي طلبوا من الرسل أن يدونوه لهم في
أسفار مكتوبة وهم أنفسهم الذين تسلموا هذه الأسفار، الأناجيل، من الرسل الذين سبق
أن سلموها لهم شفوياً. ولم يكن هناك أي وقت أو مساحة زمنية للاختيار، بل تسلموا
الإنجيل المكتوب والذي كانوا يحفظونه جيدا، وقد دونوا بعض أجزائه على أوراق ورقوق،
من نفس الرسل الذين سلموه لهم شفويا وحفّظوه لهم. ونشر هذا الإنجيل المكتوب في
جميع الكنائس. أي أن الرسل أنفسهم هم الذين سلموا الكنيسة في كل مكان الإنجيل
الشفوي ثم الإنجيل المكتوب، وذلك بنسخ نسخ من الأصل وإرسالها إلى جميع الكنائس.

وقد دونت كل أسفار العهد الجديد، عدا ما كتبه القديس يوحنا الرسول، قبل سنة
70 ميلادية عندما كان معظم تلاميذ المسيح ورسله أحياء وقبلت الكنيسة هذه الأسفار
فور تدوينها واستخدمها الرسل في كرازتهم كالإنجيل المكتوب، فقد
كتبت بناء على طلب
المؤمنين الذين تسلموها من الرسل، الذين سبق أن سلموها لهم شفوياً، كتبت بناء على
طلبهم وتحت سمعهم وبصرهم وكانوا من قبل يحفظونها شفوياً،
فقد دونت بالروح القدس لهم وأمامهم وبمعرفتهم
ومن ثم قبلوها بكل قداسة ووقار ككلمة الله الموحى بها من الروح القدس. وكان الرسل
أنفسهم يقبلون ما يكتبه أحدهم بالروح القدس، واثقين بالروح القدس الذي فيهم، أنها
كلمة الله التي سبق أن تسلموها من الرب يسوع المسيح وتكلموا بها مسوقين من الروح
القدس كما وعدهم، ودونوها أيضاً بالروح القدس.
وعلى سبيل المثال فقد
أقتبس القديس بولس من
الإنجيل للقديس لوقا، كسفر مقدس وموحى به، ومن سفر التثنية بصيغة واحدة هي “
لأن الكتاب يقول
” والتي تعنى الكتاب المقدس ” لأن الكتاب يقول
لا تكم ثوراً دارساً
(تث4: 25) والفاعل مستحق أجرته ” (لو7: 10)
” (1تى18: 5). كما أشار القديس بطرس لوحي وانتشار كل رسائل القديس بولس فقال:
” واحسبوا أناة ربنا خلاصا كما كتب إليكم أخونا الحبيب بولس أيضا بحسب
الحكمة المعطاة له كما في الرسائل كلها
أيضا متكلما فيها عن هذه الأمور التي
فيها أشياء عسرة الفهم يحرفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضا
لهلاك أنفسهم ” (2بط15: 3،16). وأقتبس القديس يهوذا أخو يعقوب في رسالته من
رسالة القديس بطرس الثانية (2بط2: 3-3) بقوله ” وأما انتم أيها الأحباء فاذكروا
الأقوال التي قالها سابقا رسل ربنا يسوع المسيح. فإنهم قالوا لكم انه في الزمان
الأخير سيكون قوم مستهزئون سالكين بحسب شهوات فجورهم
” (يه18،19).

وكانت رسائل الرسل: مثل القديس بولس والقديس بطرس
والقديس يوحنا يمليها الرسل وتكتب بواسطة أشخاص معروفين للكنيسة، وهم تلاميذ الرسل
ومساعديهم وخلفاؤهم، وترسل لكنائس محددة بعينها عن طريق نفس مساعدي الرسل
وخلفائهم، كما كان هدفها معلنا وواضحاً. بل وكان القديس بولس يضع ختمه (توقيعه)
على كل رسالة يرسلها إلى الكنائس التي كرز فيها. يقول القديس يوحنا:
” وإما هذه (الإنجيل للقديس يوحنا) فقد كتبت
لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه ”
(يو20: 31). ويختم الإنجيل بقوله بالروح: ” وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع أن كتبت
واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة آمين ” (يو21: 25).
ويقول في رسائله:

…
كتبت
إليكم أيها الآباء لأنكم قد عرفتم الذي من البدء. كتبت
إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير ”
(1يو2: 14).

…
كتبت
إليكم هذا عن الذين يضلونكم ” (1يو2: 26).

…
كتبت
هذا
إليكم انتم المؤمنين باسم ابن الله لكي تعلموا أن
لكم حياة أبدية ولكي تؤمنوا باسم ابن الله ” (1يو5: 13).

…
كتبت
إلى الكنيسة ” (3يو1: 9).

ويؤكد القديس بطرس أنه كتب رسالته الأولى على يد سلوانس التلميذ الذي كان
معروفا جيداً في الكنيسة الأولى: ” بيد سلوانس الأخ الأمين كما أظن كتبت
إليكم بكلمات قليلة واعظا وشاهدا ” (1بط5: 12).

أما القديس بولس فيؤكد أنه كتب بنفسه، بيده عدة رسائل: ” أنا بولس
كتبت بيدي
” (فل1: 19)، وكان سلامة أو توقيعه يكتب بحروف كبيرة: ”
انظروا ما اكبر الأحرف التي كتبتها إليكم بيدي ” (غل6: 11). وكان يضع
توقيعه على كل رسالة يرسلها: ”
السلام بيدي أنا بولس الذي هو علامة في كل رسالة. هكذا أنا اكتب ” (1كو16: 21). أو أنه كان يكتب عن طريق
إملاء أحد تلاميذه ومساعديه الذين كانوا معروفين للجميع مثل فيبي وتخيكس وأنسيمس
وتيموثاوس: ” السلام بيدي أنا بولس. اذكروا وثقي. النعمة معكم. آمين. كتبت
إلى
أهل كولوسي من رومية بيد تيخيكس وأنسيمس ” (كو4: 18). وفي كل
هذه الرسائل كان يضع توقيعه على جميع رسائله:

…
كتبت
إلى أهل رومية من كورنثوس على يد فيبي خادمة كنيسة
كنخريا ” (رو16: 17).

…

كتبت
إلى
أهل كولوسي من رومية بيد تيخيكس وأنسيمس ” (كو4: 18).

…
كتبت
إلى أهل أفسس من رومية على يد تيخيكس
(أف6: 24).

…
كتبت
إلى أهل فيلبي من رومية على يد ابفرودتس
(في4: 23).

…
كتبت
إلى أهل كولوسي من رومية بيد تيخيكس وأنسيمس
” (كو4: 18).

…
إلى
فليمون كتبت من رومية على يد انسيمس الخادم ”
(فل1: 25).

…
إلى
العبرانيين كتبت من ايطاليا على يد تيموثاوس ” (عب13: 25).

وكانت تقرأ كل رسالة من هذه الرسائل في هذه
الكنائس المرسلة إليها ثم ينسخ منها نسخ وترسل للكنائس المجاورة وتستمر عملية
النسخ من كنيسة إلى أخرى أو إلى مجموعة من الكنائس. وبنفس الطريقة كانت تنسخ نسخ
الأناجيل وبقية أسفار العهد الجديد
وترسل للكنائس القريبة والمجاورة، وكانت كل كنيسة
تحتفظ بالسفر الذي كتب لها أصلاً، سواء كان هذا السفر إنجيلاً من الأناجيل الأربعة
أو رسالة من رسائل الرسل أو سفر الأعمال أو سفر الرؤيا، وتحتفظ بنسخ من الأسفار
التي كتبت أو أرسلت للكنائس الأخرى. يقول القديس بولس في رسالته إلى كولوسى:
ومتى قرئت عندكم هذه الرسالة فاجعلوها تقرا أيضا في كنيسة اللاودكيين
والتي من لاودكية تقراونها انتم أيضا
” (كو16: 4).

وكان هذا موقف الآباء الرسوليين، تلاميذ الرسل وخلفائهم الذين تسلموها منهم
ككلمة الله واقتبسوا منها واستشهدوا بها ككلمة الله. فقد اقتبس القديس أكليمندس
الروماني (حوالي 100م) من الأناجيل الثلاثة الأولى ومن خمس من رسائل القديس بولس
والرسالة إلى يعقوب واستخدم مضمون الإنجيل للقديس يوحنا وقال عن رسالة القديس بولس
الرسول إلى رومية: ” انظروا إلى رسالة بولس الطوباوي. ماذا كتب لكم في
بداية الكرازة بالإنجيل
؟ في الواقع فقد كتب لكم بوحي من الروح القدس رسالة تتعلق
به وبكيفا (أي بطرس) وأبولوس “.

وكانت تقرأ في اجتماعات العبادة الأسبوعية في الكنائس، خاصة في أيام الأحد،
ويؤكد سفر الرؤيا على ترتيب الكنيسة وطقسها في قراءة الأسفار المقدسة في
الاجتماعات والقداسات، وعلى حقيقة وحي السفر، فيقول ” طوبى للذي يقرا
وللذين يسمعون أقوال النبوة ويحفظون ما هو مكتوب فيها
لان الوقت قريب ”
(رؤ3: 1)، وتتكرر في السفر عبارة “ من له أذن فليسمع ما يقوله الروح
للكنائس
” سبع مرات (رؤ7: 2،11،17،29؛6: 3،13،22)، و” من له أذن
فليسمع
” (رؤ9: 13). ويقول القديس يوستينوس الشهيد في بداية القرن الثاني:
وفى يوم الأحد يجتمع كل الذين يعيشون في المدن أو في الريف معاً في مكان
واحد وتقرأ مذكرات الرسل (الأناجيل) أو كتابات الأنبياء بحسب ما يسمح الوقت

(6).

واقتبس القديس أغناطيوس الإنطاكي تلميذ القديس بطرس والرسل من الإنجيل للقديس
متى والإنجيل للقديس لوقا وسفر أعمال الرسل وخمس من رسائل القديس بولس الرسول،
وكذلك من مضمون الإنجيل للقديس يوحنا وأشار لوحي كل رسائل القديس بولس الرسول
وإيمان الكنيسة في عصره أنها كلمة الله فقال: ” وقد اشتركتم في الأسرار مع
القديس بولس الطاهر الشهيد المستحق كل بركة … الذي يذكركم في كل رسائله بالمسيح
يسوع
(7).

كما اقتبس القديس بوليكاربوس، تلميذ القديس يوحنا، 100 مرة من 17 سفراً من
أسفار العهد الجديد؛ منها الأناجيل الثلاثة الأولى وسفر أعمال الرسل وتسع من رسائل
القديس بولس ورسالة بطرس الأولى ورسالة يوحنا الأولى. كما أكد على وحي رسائل
القديس بولس ككلمة الله الموحى بها فقال: “ فلا أنا ولا أي إنسان آخر قادر
على أن يصل إلى حكمة المبارك والممجد بولس الذي كان قائماً يعلم بين الذين عاشوا
في تلك الأيام، وعلم الحق بدقة وثبات، وبعد رحيله ترك لكم رسائل إذا درستموها صرتم
قادرين على أن تبنوا إيمانكم الذي تسلمتموه
(8).

مما سبق يتضح لنا أن الكنيسة الأولى في القرن الأول، وفي حياة الرسل، لم
تتسلم سوى أسفار العهد الجديد ال 27 فقط: فقد كانت أسفار العهد الجديد السبعة
وعشرين هي وحدها التي سلمها الرسل للكنيسة وقبلتها الكنيسة، التي تسلمتها من يد
الرسل أنفسهم بعد أن كتبت أما بناء على طلب المؤمنين أو أرسلت إليهم كرسائل مختومة
وممهورة بتوقيع الرسل أنفسهم وكان يحملها ويوصلها إليهم تلاميذ الرسل ومساعدوهم
الذين كانوا معروفين للجميع، ككلمة الله المكتوبة بالروح القدس، ولم يكن هناك أي كتاب
منسوب للرسل غيرها، ولم يظهر أي كتاب من الكتب الأبوكريفية في حياة الرسل وحتى
منتصف القرن الثاني، فيما بين سنة 150 و 450م، وذلك بشهادة جميع العلماء والنقاد
بكل مدارسهم واتجاهاتهم الفكرية والنقدية. أي بعد انتقال الرسل وخلفائهم، الآباء
الرسوليين من العالم بعشرات ومئات السنين.
وفي منتصف النصف
الثاني من القرن الثاني وفي أوج وذروة وجود الهرطقة الغنوسية كان هناك
القديس إيريناؤس (120 – 202م)، أسقف ليون،
بفرنسا حاليا، وأحد الذين تتلمذوا على أيدي تلاميذ الرسل، خاصة القديس بوليكاربوس،
وكما يقول القديس جيروم ” من المؤكد أنه كان تلميذا لبوليكاربوس
(9)،
والذي كان حلقة الوصل بين الآباء الرسوليين تلاميذ الرسل ومن جاءوا بعده، وقد كتب
مجموعة من الكتب بعنوان ” ضد الهراطقة ” دافع فيها عن المسيحية وأسفارها
المقدسة وأقتبس منها حوالي 1064 اقتباسا منها 626 من الأناجيل الأربعة وحدها و325
من رسائل القديس بولس الرسول الأربع عشرة و112 من بقية أسفار العهد الجديد، منها
29 من سفر الرؤيا. وأكد على حقيقة انتشار الأناجيل الأربعة ككلمة الله والإنجيل
الوحيد، بأوجهه الأربعة، في كل مكان بقوله ” لقد تعلمنا خطة خلاصنا من
أولئك الذين سلموا لنا الإنجيل الذي سبق أن نادوا به للبشرية عامة، ثم سلموه لنا
بعد ذلك، حسب إرادة الله، في أسفار مقدسة ليكون أساس وعامود إيماننا … فقد كانوا
يمتلكون إنجيل الله، كل بمفرده، فقد نشر متى إنجيلاً مكتوباً بين العبرانيين
بلهجتهم عندما كان بطرس وبولس يكرزان ويؤسسان الكنائس في روما. وبعد رحيلهما سلم
لنا مرقس تلميذ بطرس ومترجمه، كتابة ما بشر به بطرس. ودون لوقا، رفيق بولس في سفر
الإنجيل الذي بشر به (بولس)، وبعد ذلك نشر يوحنا نفسه، تلميذ الرب والذي اتكأ على
صدره إنجيلا أثناء أقامته في أفسس في آسيا الصغرى
(10).

وقال عن وحدة الإنجيل ” لا يمكن أن تكون الأناجيل أكثر أو أقل مما
هي عليه الآن حيث يوجد أربعة أركان في العالم الذي نعيش فيه أو أربعة رياح جامعة
حيث انتشرت الكنيسة في كل أنحاء العالم وأن “عامود الحق وقاعدة ”
الكنيسة هو الإنجيل روح الحياة، فمن اللائق أن يكون لها أربعة أعمدة تنفس الخلود
وتحي البشر من جديد، وذلك يوضح أن الكلمة صانع الكل، الجالس على الشاروبيم والذي
يحتوى كل شيء والذي ظهر للبشر أعطانا الإنجيل في أربعة أوجه ولكن مرتبطة بروح واحد
… ولأن الإنجيل بحسب يوحنا يقدم ميلاده الأزلي القدير والمجيد من الآب، يقول
” في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله ” و
” كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان … ولكن الذي بحسب لوقا يركز على
شخصيته (المسيح) الكهنوتية فقد بدأ بزكريا الكاهن وهو يقدم البخور لله. لأن العجل
المسمن
(أنظر لوقا 23: 15)، الذي كان سيقدم ذبيحة بسبب الابن الأصغر الذي
وُجد، كان يعُد حالاً … ويركز متى على ميلاده الإنساني قائلاً ” كتاب ميلاد
يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم ” و ” وكان ميلاد يسوع المسيح هكذا
“. فهو إذا إنجيل الإنسانية، ولذا يظهر [ المسيح ] خلال كل الإنجيل كإنسان
وديع ومتواضع. ويبدأ مرقس من جهة أخرى بروح النبوة الآتي على الناس من الأعالي
قائلاً ” بدء إنجيل يسوع المسيح، كما هو مكتوب في اشعياء النبي ” مشيراً
إلى المدخل المجنح للإنجيل. لذلك صارت رسالته وجيزة ومختصره لمثل هذه الشخصية
النبوية
(11).

بل وأكد على وجود الإنجيل بأوجهه الأربعة وانتشاره في كل مكان حتى مع
الهراطقة الذين كانوا يبدأون منها، بالرغم من أنهم دونوا كتباً خاصة بهم وأسموها
أناجيل وأعمال رسل ورؤى ونسبوها للرسل ولبعض قادتهم، فقال ” الأرض التي
تقف عليها هذه الأناجيل هي أرض صلبة حتى أن الهراطقة أنفسهم يشهدون لها ويبدأون من
هذه الوثائق وكل منهم يسعى لتأييد عقيدته الخاصة منها
(12).

وكان في روما أيضا العلامة هيبوليتوس (170 – 235م)، الذي اقتبس واستشهد
بأسفار العهد الجديد أكثر من 1300 مرة وأشار إلى قراءتها في الاجتماعات العبادية
العامة
(13) كما أشار إلى قداستها ووحيها وكونها كلمة الله(14). وقد كتب أيضا كتبا ضد
الهراطقة فند فيها كل نظرياتهم وأفكارهم السرية الصوفية مؤكداً أنها لا تمت بصلة
لرسل المسيح أو خلفائهم ولا صلة لها بفكر المسيح. وفي القرن الخامس كان هناك
القديس ابيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص الذي كتب أيضاً ضد الهراطقة وفند أفكارهم
مؤكدا على ما سبق أن كتبه عنهم كل من إيريناؤس وهيبوليتوس. ولم يعقد أي مجمع
مسكوني لتحديد ما هي الأسفار القانونية الموحى بها ولا أي مجمع غيره لرفض الكتب
الأبوكريفية، كما لم تكن، الكتب القانونية ولا الأبوكريفية، مدرجة على جدول مجمع
نيقية أو غيره، ولم تكن مثار أي حوار أو جدال في أي مجمع فقد تسلمت الكنيسة من
الرسل وخلفائهم أسفار العهد الجديد، أما الكتب الأبوكريفية والتي خرجت من دوائر
الهراطقة فلم يقبلها أحد وصارت محصورة فقط داخل دوائرهم الخاصة، فقد اعتبروها هم
أنفسهم، كتباً سرية مكتوبة للخاصة فقط ولا يجوز للعامة قراءتها واندثرت باندثارهم.
كما كانت الكنيسة تنظر إليها من بداية ظهورها على أنها كتبا هرطوقية كما جاء في
الوثيقة الموراتورية وقانون البابا جلاسيوس والذي يشك أصلا في صحة نسبه إليه.

 

5 – الخلط بين هرطقة آريوس وبين الكتب الأبوكريفية:

وقد خلط الكاتب، عمداً أو جهلاً، بين رفض مجمع
نيقية لكتابات آريوس الهرطوقية وما سماه بالأناجيل التي قررت إحراقها!! دون وجود
أي إشارة تاريخية أو دليل على هذه الأقوال المدلسة الكاذبة!! وحاول إيهام القاريء
أن رفض كتابات آريوس هو رفض لأناجيل غير مرضي عنها!! بل وحاول جهلاً أو عمداً أن
يوحي للقاريء أنه كان لدى آريوس أناجيل أخرى رفضها مجمع نيقية وأمر بإحراقها!!
وهذا يدل أما على جهل أو تدليس متعمد. وراح يستخدم مراجع في غير محلها فنقل قول
المؤرخ وول ديورانت في كتابة قصة الحضارة
المجلد الثالث: ” وصدر مرسوم إمبراطوري يأمر بإحراق كتب آريوس جميعها، ويجعل
إخفاء أي كتاب منها جريمة يعاقب عليها بالإعدام “. وقول الكاتب المسيحي حبيب
سعيد: ” وبذلك فض المؤتمر النزاع القائم، وقرر إبعاد آريوس وأتباعه وحرق
الكتاب الذي أودعه آراءه الملحده “!!!

وهذا الخلط الذي عمله كاتب المقالة أما جهلاً ودون فهم أو وعي أو عمداً
ليظهر للقاريء غير العارف بأمور المسيحية أن الكنيسة أحرقت كتبها الأصلية، بما
يوحي للقاريء احتمال وجود العقائد المختلف عليها بين المسيحية والإسلام في هذه
الكتب!!!!

وهنا نسأله ما العلاقة بين كتب أريوس الذي كان يؤمن بأسفار العهد الجديد
السبعة والعشرين وبين هذه الكتب المنحولة؟؟!! فهذا مجرد تخبط وعدم فهم وخلط للأمور
فكتب أريوس كانت، كما نعرف مما نقله الآباء عنها في ردهم عليها ومما جاء في سجلات
مجمع نيقية ومن رسائله التي أرسلها إلى بطريرك الإسكندرية وإلى الإمبراطور
قسطنطين وصديقة يوسابيوس النيقوميدي، تنادي
بعكس الإيمان المستقيم ولكنها لا تنكر لا ألوهية المسيح ولا صلبه ولا فداءه
للبشرية ولا إيمانه بأسفار العهد الجديد السبعة والعشرين كما هي بين أيدينا، بل
ولم يستعن على الإطلاق بأي حرف من الكتب الأبوكريفية، فقد آمن آريوس أن الله غير
مرئي وغير مدرك ولا يمكن أن يمس المادة النجسة لذا لم يخلق الكون ولكنه خلق إلها
آخر وسط بينه وبين المادة، وأعطاه أن يخلق الكون وكل ما فيه، فهو الخالق الفعلي
للكون والبشر، وهو، المسيح، الذي يدير الكون ويدبره ويرعاه باعتباره خالقه، وعندما
أخطأت البشرية أخلى نفسه من مجده ولاهوته وتجسد وصلب ليقدم لها الفداء، وبالتالي
فالمسيح هو ختام الإعلان الإلهي الذي لا يمكن يأتي أحد بعده على الإطلاق!!!!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى