اللاهوت الطقسي

الفصل الثامن



الفصل الثامن

الفصل الثامن

أهمية دراسة خيمة الاجتماع

أولاً:
الخيمة مثال لمسكن الله السمائي:

فقد أمر
الله موسى أن يصنعها “بحسب جميع ما أنا أريك من مثال المسكن ومثال
جميع آنيته” (خروج 25: 9)
، ثم عاد وقال له: “وانظر فاصنعها على
مثالها الذي أُظهر لك في الجبل” (خروج 25: 40و 26: 30). وهذا ما شهد
به القديس الشهيد إستفانوس (أعمال الرسل 7: 44): “أن يعملها على
المثال الذي كان قد رآه” وكذلك القديس بولس الرسول في رسالته للعبرانيين (8:
5)
: “أنظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي أُظهر لك في الجبل”.

وقد تأكد
هذا المعنى أيضاً عندما صلى سليمان صلاته التي نطق بها في حفل تدشين الهيكل
مخاطباً الرب إله إسرائيل، فرغم أنه أقر بأن السموات وسماء السموات لا تسعه إلا
أنه طلب من الرب أن يسمع من موضع سكناه في السماء إلى كل من يدعوه من البيت
الذي كان قد بناه سليمان للرب الإله (أخبار الأيام الثانى 6: 18-20). ثم
نجد في سفر رؤيا القديس يوحنا ما يؤكد هذه الحقيقة، إذ يقول واصفاً ما قد رآه:
“ثم بعد هذا نظرت وإذا قد انفتح هيكل خيمة الشهادة في السماء” (رؤيا
يوحنا 15: 5).

فالخيمة،
إذاً، كانت تصويراً منظوراً للمسكن السمائي الذي أراه الله لموسى في الجبل فصنع كل
شيء على مثاله.

 

ثانياً:
الخيمة مثال لتجسد الله الكلمة:

“والكلمة
صار جسداً وحل بيننا” (يوحنا 1: 14). هكذا عبًّر القديس يوحنا الرسول
عن تجسد الله الكلمة بهذا القول مستخدماً التعبير المترجم حل بينناوهو
في أصله باليونانية: نصب خيمته
بيننا”
Tabernacled
وهو نفس التعبير المشار به إلى نصب خيمة الاجتماع.

فالخيمة،
إذاً، هي رمز للرب يسوع نفسه في أيام تجسده. فكما كانت الخيمة هي مكان سكنى يهوه
في وسط شعبه إسرائيل في البرية، هكذا كان المسيح هو “عمانوئيل الذي تفسيره
الله معنا” (متى 1: 23). فالخيمة في جملتها وفي أجزائها تشير إلى شخص
الرب يسوع وأعماله حينما كان بيننا هنا على الأرض:

1- أول ما
يُلفت نظرنا في الخيمة هي أنها لم تكن شيئاً ابتدعه بنو إسرائيل بتفكيرهم أو حتى
موسى بحكمته وفطنته، ولكنها كانت في فكر الله منذ الأزل وبرسم الله نفسه وتدبيره
في كل دقائقها ومقاييسها وطقس العبادة فيها ونظام خدمتها. فهو الذي أمر بصنعها حسب
المثال الذي أراه لموسى لتكون مَقْدِساً يسكن فيه وسط شعبه.

فهي من هذا
الوجه تنطبق كل الانطباق على تجسد الله الكلمة، الذي كان في فكر الله منذ الأزل.
فالخيمة إذن هي واحدة من إعلانات الله التي مهّد بها لإظهار سرّ تجسده في ملء
الزمان بأمثال ورموز ونبوات ملأت أسفار العهد القديم ورسمت كل معالم حياته
وشخصيته. فهو “السر المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع
المسيح” (أفسس 3: 9)، هذا السر الذي قال عنه القديس بولس الرسول:
“عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد” (تيموثاوس الأولى 3: 16).

2- كما أن
الرب لما شاء أن يصنعوا له مَقْدِساً ليسكن في وسطهم، طلب من موسى أن يكلم بني
إسرائيل لكي يأخذوا له تقدمة “من كل من يحثه قلبه”، “ذهب
وفضة ونحاس وأسمانجوني وأرجوان وقرمز وبوص وحجارة جزع وحجارة ترصيع للرداء
والصدرة”.

هكذا أراد
الرب أن يشترك كل الشعب بعطاياهم التي يقدمونها كفعل عبادة بمحض إرادتهم
وبمسرة قلوبهم، في بناء المسكن الذي شاء الرب أن يكون له مَقْدِساً ليسكن في
وسطهم.

3- كان الخيمة
مسكناً مؤقتاً لله في وسط شعبه المرتحل في البرية، فقد كانت مجرد خيمة
وليست مبنى ثابتاً مستديماً كالهيكل. بل كانت نصباً مؤقتاً يناسب الانتقال
والترحال من مكان لآخر أثناء رحلة بني إسرائيل في البرية. هكذا كان ربنا المبارك
عندما نصب خيمته بيننا، فقد كانت إقامته قصيرة – أقل من أربعين سنة- وكان دائم
التنقل والترحال، متغرباً على الأرض منذ ولادته وحتى دفنه، وفي أيام خدمته
“لم يكن له أين يسند رأسه” (لوقا 9: 58)، بل كان يجول يصنع خيراً
ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس، كارزاً بالملكوت السماوي لجميع الشعب.

4- كانت الخيمة
حقيرة ومتواضعة في مظهرها الخارجي، فلم يكن يُرى في خارجها سوى جلود الكباش
المحمَّرة وجلود التخس الخشنة. أما داخلها فكان مزيناً بالذهب والفضة والأسمانجوني
والأرجوان والقرمز صنعة حائك حاذق، وكان الله يتجلى فيها بمجده ويملأها ببهائه
ويغطيها بسحابة حضرته. هكذا كان المسيح في تجسده “لا منظر (له) فنشتهيه،
محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد
به” (إشعياء 53: 2و3). فقد كان جلاله الإلهي مختفياً خلف حجاب جسده،
“الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه
آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس” (فيلبى 2: 6و7).

5- كانت
الخيمة مكان لقاء الله مع الإنسان ودُعيت أيضاً بالعبرية أهل موعد”
ohel moed أي خيمة الاجتماع، لا بمعنى أن يجتمع الناس معاً لممارسة العبادة
داخلها، بل هي محل اجتماع الله بشعبه.. وهكذا قال الرب لموسى: “وأنا أجتمع
بك هناك وأتكلم معك
(خروج 25: 22).

ونلاحظ أن
الخيمة كمكان للقاء الله مع الإنسان أتاحت لبني إسرائيل أن يعاينوا مجد الله كل
يوم في الليل والنهار حالاً على الخيمة بعمود النار والسحاب. أما في المسيح الذي
كانت الخيمة رمزاً لحلوله بيننا ورؤيتنا لمجده “مجداً كما لوحيد من الآب
مملوءاً نعمة وحقاً” (يوحنا 1: 14).

6- قدس
الأقداس في الخيمة يرمز بصفة خاصة إلى سر التجسد.
فهو الجزء الوحيد في
الخيمة الذي كان يحل فيه الله حلولاً منظوراً. وكان يُدعى أيضاً القبة الثانية أو
المسكن الثاني ويقابل الهيكل في الكنيسة المسيحية. ويفصل قدس الأقداس عن باقي
الخيمة حجاب لا يُسمح باجتيازه إلا لرئيس الكهنة فقط مرة في السنة. هذا الحجاب كان
يرمز إلى جسد المسيح، فكما كان يختفى خلفه قدس الأقداس حيث تابوت العهد الذي يضم
لوحي الشهادة أي كلمة الله المكتوبة بإصبع الله، وحيث كان الله يتراءى فوقه بمجده
ويتكلم مع موسى النبي فماً لفم، هكذا جسد المسيح كان يحجب كلمة الله الأزلي الذي
تجسد من القديسة مريم بتوسط الروح القدس، إصبع الله. ولكنه لم يكن حجاباً يمنع
دخولنا الأقداس كحجاب الخيمة، بل صار لنا به “ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم
المسيح، طريقاً كرسه لنا حديثاً حياً بالحجاب أي جسده” (عبرانيين 10: 19)،
كما صار سبيلاً لإعلان نفسه وتعريف ذاته بأعماله بأنه كلمة الآب.

وقد شبَّه
آباء الكنيسة العذراء مريم أيضاً بقدس الأقداس، لأنها حملت في أحشائها ابن الله
الكلمة، فقال القديس كيرلس الكبير:
(السلام لمريم الهيكل غير المنهدم..
الموضع الذي احتوى غير المحوَى)

كما يرنِّم
القديس أفرام السرياني في تسبحاته قائلاً:

(طوبى للتي
كنت أنت في قلبها وعقلها، لأنها صارت مسكناً للملك بسببك يا ابن الملك. فأصبحت
بواسطتك قدس أقداس أيها الكاهن العظيم.) (التسبحة الثانية عشرة)

أما تسبحة
نصف الليل
في كنيستنا، فإننا نجد ثيئوتوكية الأحد تسترسل في ذكر الإشارات
والرموز التي تشير إلى العذراء في خيمة الاجتماع بصفة خاصة، وتسبِّح بها الله الذي
تمجد في قديسته العذراء مريم ووُلد منها، فتشبهها بقدس الأقداس، وتابوت العهد
المصفح بالذهب من داخل ومن خارج، وقسط الذهب النقي والمن مخفى فيه، والمنارة الذهب
النقي الحاملة المصباح المتقد كل حين، والمجمرة الذهب النقي حاملة جمر النار
المباركة، إذ ترى في كل هذه الأشياء المقدسة التي احتوتها رمزاً وإشارة إلى
العذراء القديسة مريم والدة الإله:

E فقدس الأقداس: يرمز إلى والدة الإله التي
حملت في أحشائها ابن الله الكلمة، كما تقول ثيئوتوكية الأحد في القطعة الأولى
منها:

(مدعَّوة
صديقة، أيتها المباركة في النساء، القبة الثانية، التي تدعى قدس الأقداس، وفيها
لوحا العهد، والعشر الكلمات، هذه المكتوبة بإصبع الله.. شبهوك بها يا مريم
العذراء، القبة الحقيقية التي في داخلها الله).

E أما تابوت العهد: الذي في قدس الأقداس،
فإنه يرمز أساساً إلى رب المجد في تجسده من العذراء المشتملة بمجد اللاهوت داخلاً
وخارجاً، لأن الروح القدس حلَّ عليها وقوة العلىَّ ظللتها وطهَّرتها من داخل، إذ
نرنم بالقطعة الثانية من ثيئوتوكية الأحد قائلين:

(التابوت
المصفح بالذهب من كل ناحية، المصنوع من خشب لا يسوِّس، سبق أن دَّلنا على الله
الكلمة، الذي صار إنساناً بغير افتراق، واحد من اثنين، لاهوت قدوس (يرمز إليه
الذهب) بغير فساد، مساو للآب، وناسوت طاهر (يرمز إليه الخشب)، بغير مباضعة، مساو
لنا، كالتدبير. هذا الذي أخذه منك، أيتها الغير الدنسة، واتحد به كأقنوم وأنت
أيضاً يا مريم العذراء متسربلة، بمجد اللاهوت داخلاً وخارجاً).

E أما غطاء التابوت: المظلَّل عليه بالكروبين، فهو رمز للّه
الكلمة الذي تجسد من العذراء، كما أن الكروبين المظلَّلين للغطاء هما رمز لقوة
العليَّ التي ظللت على العذراء كقول الملاك المبشر: “الروح القدس يحل عليك
وقوة العليَّ تظلَّلك” (لوقا 1: 35). لذلك نسبَّح في القطعة الثالثة
من نفس الثيئوتوكية قائلين:

(الغطاء
المظلَّل عليه بالكروبين المصوَّرين، أي الله الكلمة، الذي تجسد منك، أيتها التي
بلا عيب، بغير تغيير، وصار تطهيراً لخطايانا، وغافراً لآثامنا.. وأنت يا مريم،
ألوف ألوف، وربوات ربوات (الملائكة) يظللون عليك، مسبَّحين خالقهم، وهو في بطنك،
هذا الذي أخذ شبهنا، ما خلا الخطية والتغيير).

E وقسط المن أيضاً: تشبهه القطعة الرابعة من
ثيئوتوكية الأحد بالعذراء والده الإله، إذ نسبح بها قائلين:

(يليق بك أن
يُدعى اسمك، قسط الذهب المخفى فيه المن، فذاك وُضع في القبة شهادة لبني إسرائيل،
من أجل الخيرات التي صنعها معهم الرب الإله، في برية سيناء، وأنت أيضاً يا مريم،
حملت في بطنك المن العقلي، الذي أتى من الآب، وولدته بغير دنس، وأعطانا جسده ودمه
الكريمين، فحيينا إلي الأبد).

E المنارة الذهب النقي الحاملة المصباح المتقد كل حين: تشبهها القطعة الخامسة من نفس الثيئوتوكية بالعذراء القديسة مريم
الحاملة للنور الحقيقي، شمس البر الذي أضاء لكل إنسان آت إلى العالم:

(كل الرتب
العلوية، لم تقدر أن تشبهك، أيتها المنارة الذهبية، حاملة النور الحقيقي.. والذي
في بطنك يا مريم العذراء، أضاء لكل إنسان آتٍ إلى العالم، لأنه هو شمس البر، ولدته
وشفانا من خطايانا).

E المجمرة الذهب النقي الحاملة جمر النار المباركة، تشبهها القطعة السادسة من نفس الثيئوتوكية أيضاً، بالعذراء القديسة
مريم الحاملة جمر اللاهوت، والبخور المرفوع منها هو ذبيحة المسيح الذي قدم نفسه
قرباناً ومحرقة لأجلنا على الصليب:

(حينئذ
بالحقيقة لا أخطىء في شيء، إذا ما دعوتك المجمرة الذهب، فتلك يُرفع فيها البخور
المختار أمام الأقداس، ويرفع الله هناك خطايا الشعب، من قبل المحرقات ورائحة
البخور، وأنت أيضاً يا مريم حملت في بطنك غير المنظور كلمة الآب، هذا الذي أصعد
ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى