علم

المناظرة الرابعة العشرون



المناظرة الرابعة العشرون

المناظرة
الرابعة العشرون

الإماتة
للأب إبراهيم

 

1-
مقدمة (الاشتياق نحو العودة إلى مدينتنا)

 هذه
المناظرة الرابعة والعشرون التي للأب إبراهيم، حصلنا عليها بنعمة المسيح، وقد شملت
تقاليد وآراء الآباء الشيوخ. وبانتهاء هذه المناظرة بصلواتكم نكون قد انتهينا من الرقم
الرمزي (24) الوارد في سفر الرؤيا عن الأربعة وعشرين قسيسًا الذين يقدمون أكاليلهم
للحمل (رؤ 4: 4). وإنني بهذا أكون، كما أظن، قد أوفيت بوعودي لكم. وعندما يتوهج
هؤلاء الآباء (الذين لهم المناظرات) بالمجد بسبب تعاليمهم، فإنهم يحنون رؤوسهم
للحمل المذبوح من أجل خلاص العالم. فهو وحده الذي من أجل اسمه قد وُهبت لهم تلك
المشاعر السامية، وأعطوا تلك الكلمات التي نحتاج نحن إليها لنتعرف على الأفكار
العالية العميقة…

يجدر
بنا أن ننسب استحقاقات العطية لواهب كل صلاح، وإذ نحن مدينون له بها يلزمنا أن
نردها إليه (بتنفيذ ما جاء في عطيته، أي كلماته التي وهبنا إياها على ألسنتهم، ومن
جانب آخر نحدث الآخرين بها من أجل اسمه).

أخبرنا
الأب إبراهيم بما في داخل فكرنا، معترفين له أننا في كل يوم نجد فينا باعثًا يحثنا
على العودة إلى مدينتنا والرجوع إلى أقربائنا… وأننا على الدوام نفكر في أن نربح
صلاحًا أكثر خلال غيرتهم، إذ يخدموننا بسرور في كل ما نحتاج إليه مما يجعلنا لا
ننشغل بإعداد الطعام أو أية اهتمامات جسدية. بجانب هذا كنا نطعم أرواحنا على رجاء
الفرح، إذ حسبنا أننا سنربح صلاحًا أعظم بحديثنا مع كثيرين (عند العودة إليهم)،
فيعودون إلى طريق الخلاص خلال اقتدائهم بنا وإنصاتهم لتعاليمنا.

هذا
بجانب أننا هناك نكون في نفس المنطقة التي كان يقطنها أجدادنا السابقون، فيرتسم
أمام أعيننا الفرح المبهج الذي لأقربائنا حينما انسحبوا إلى البرية بسرور ولياقة
وتوغلوا في أعماق الغابات…

إذ
شرحنا ذلك للشيخ السابق ذكره بطريقة مستقيمة حسب إيمان ضمائرنا، وأظهرنا بدموع
غزيرة عدم قدرتنا على مقاومة هذا الدافع ما لم تتدخل نعمة الله لإنقاذنا، عندئذ
صمت الأب وقتًا طويلاً، وأخيرًا تنهد تنهدًا عميقًا وقال…

 

2-
زهد الراهب في المشاعر الجسدية

 إن
ضعف أفكاركما يُظهر أنكما إلى الآن لم تزهدا الرغبات العالمية، ولا مارستما إماتة
شهواتكما السابقة. لأن رغباتكما الهائمة تكشف عن كسل قلبيكما، مع احتمالكما من جهة
الجسد فقط. فيلزم دفن كل هذه الأمور ونزعها من قلبيكما تمامًا، إن كنتما قد
أمسكتما بالزهد الحقيقي وبالسبب الرئيسي للوحدة التي نحياها.

هكذا
أراكما ساقطين تحت هذا الضعف من الكسل الذي يصفه سفر الأمثال: “نفس الكسلان
تشتهي ولا شيءَ لها”، وأيضًا “شهوة الكسلان تقتلهُ” (أم 4: 13؛ 25:
21). لأنه لا يليق بنا أن نستريح من جهة احتياجاتنا الزمنية مادامت هذه الاحتياجات
ضرورية ومتناسبة مع دعوتنا. فإذا ظننا أننا نستطيع أن نقتنى لنا ربحًا عظيمًا من
تلك المباهج التي تنبع عن المشاعر الجسدية فلا ننزع عنا سلوان أقاربنا، أما يصدنا
قول مخلصنا الذي يستبعدنا عن كل ما ينسب إلى حاجات الجسد قائلاً: “إن كان أحد
يأتي إليَّ ولا يبغض (يترك) أباهُ وأمهُ وامرأتهُ وأولادهُ واخوتهُ وأخواتهِ.. فلا
يقدر أن يكون لي تلميذًا” (لو 26: 14)؟

إن
كنا قد تخلصنا من حماية والدينا، فإنه يلزمنا أيضًا ألا نحتاج إلى خدمات
الرؤساء[1] الذين بكل شكر يبتهجون بتقديمهم احتياجاتنا مجانًا. فإننا إذ نقتات
بغناهم نتحرر من الاهتمام بإعداد الطعام، لكن ترعبنا لعنة النبي القائل: “ملعون
الرجل الذي يتكل على الإنسان” (إر 5: 17) و”لا تتكلوا على
الرؤَساءِ” (مز 3: 146).

على
أي الأحوال لو أننا أقمنا قلالينا على ضفاف النيل لكي ما نحمل المياه إلى أبوابها
(بغير تعب)، فلا نحملها على أكتافنا بأنفسنا مسافة أربعة أميال، أمَا يوبخنا قول
الرسول الذي يطلب منا الاحتمال بغير كلل بل بفرح، قائلاً: “ولكن كلُّ واحدٍ
سيأخذ أجرتهُ بحسب تعبهِ”1كو8: 3؟

لعلنا
نجهل أنه حتى في مدينتنا توجد مخازن مملوءة بما لذّ وطاب، وثمار وفيرة وحدائق غناء
وأرض خصبة تمدنا بما نحتاج إليه من طعام بأقل مجهود جسدي، لكننا نخشى لئلا نوبخ
بما وُجه إلى الغني المذكور في الإنجيل: “اذكر أنك استوفيت خيراتك في
حياتك” (لو25: 16). لكننا إذ نحتقر كل هذه الأمور ونزدرى بها تمامًا مع كل
مباهج الحياة، نبتهج بالصحراء القاحلة البعيدة أكثر من كل الملذات إذ لا نطلب
نفعًا زمنيًا للجسد، إنما مكافأة أبدية للروح…

لأنه
قليل على الراهب أن يقوم بالزهد مرة واحدة فقط، محتقرًا العالم الحاضر في أيامه
الأولى وحدها (عند خروجه للدير)، إنما يلزم أن يستمر في زهده كل يوم… لهذا يقول
الرب في الإنجيل: “إن أراد أحد أن يأتي ورائِي فلينكر نفسهُ ويحمل صليبهُ
كلَّ يومٍ ويتبعني” (لو23: 9).

 

 3-
نوع الأماكن التي تناسب النساك

من
اختبر الاهتمام المقلق لنقاوة إنسانه الداخلي، لا يطلب الأماكن الخصبة الكثيرة
الثمر، حتى لا تستميل ذهنه بفلاحتها، ولا تجذبه عن البقاء في قلايته صامدًا ثابتًا،
إنما يلزمه أن يقوم ببعض الأعمال في الهواء الطلق، وهكذا فإن أفكاره تنسكب كما
بغير ضابط لتنتشر في الهواء وتفقده تركيز ذهنه وصفاء رؤيته لهدفه.

هذا
الأمر لا يمكن أن يتطلع إليه إنسان أو يراعيه إلا من يحفظ جسده ونفسه محبوسين على
الدوام بين حوائط القلاية، فيكون كصياد سمك ماهر يطلب طعامه بالفن الرسولي، فإنه
بشغف يبقى بغير حركة لكي يصطاد حشود الأفكار السابحة في الأعماق كما من على صخر
عال. بهذا يستطيع أن يقرر بحذاقة وفطنة ما يلزمه أن يصطاده لنفسه بواسطة صنّارته
المنقذة، وما يليق به أن يهمله من أفكار ويتركه بكونه سمكًا رديئًا.

 

4-
الأعمال التي تناسب المتوحدين

كل
من يثابر على الدوام ساهرًا ينفذ ما أوضحه حبقوق النبي قائلاً: “على مرصدي
أقف وعلى الحصن أنتصب، وأراقب لأرى ماذا يقول لي؟ وماذا أجيب عن شكواي؟” (حب1:
2). ويظهر بوضوح كيف أن هذا صعب ومضني وذلك من خبرة الذين يقطنون صحراء[2]
Clamus أو Porphyrion. فمع كونهم منفصلين عن كل المدن ومساكن البشر بمسافة بعيدة في
الصحراء أكثر مما لوحشية منطقة الإسقيط حيث يحتاج الوصول إليهم إلى السير سبعة أو
ثمانية أيام في وسط برية قاحلة… لكنهم لما انشغلوا بالزراعة في حدود غير ضيقة…
صارت الأفكار المقلقة تشوش أذهانهم، حتى صاروا كأناس مبتدئين في الرهبنة، أو كمن
ليس لهم خبرة في الوحدة، ولم يعودوا يحتملون السكون والبقاء في القلالي والسلام
الذي فيها، إنما أجبروا على تركها كمن هم تحت التمرين بلا خبرة، لأنهم لم يتعلموا
كيف يوقفوا حركات الإنسان الداخلي، ويخمدوا عواصف أفكارهم بالعناية اللازمة
والجهاد بمثابرة. إنما كانوا يقضون يومهم في الهواء الطلق في تعب منطلقين في
العراء، ليس من جهة جسدهم بل وقلبهم أيضًا، إذ كانوا يتحدثون بأفكارهم علانية
أينما ذهبوا. بهذا لم يراعوا غباوة ذهنهم من جهة اشتياقاتهم لأمور كثيرة، ولم
يتمكنوا من ضبط تفكيرهم الهائم. وإذ لم يكونوا قادرين على احتمال حزن الروح كانوا
يحسبون أن السكون الدائم أمر لا يُطاق، وأن من لا ينشغل بأعمال مجهدة… يكون
مضروبًا بالصمت ومنهك القوى بسبب طول فترة راحته.

 

5-
عدم الخروج من القلاية كعلاج للقلق

ليس
بالأمر العجيب أن من يعيش في قلاية يجمع أفكاره كما في محبس ضيق، فإذا خرج من
قلايته تضايقه حشود كثيرة من الأمور المقلقة، فتجعله يجول هنا وهناك كحصان جامحٍ…
لكن إذ يعود بسرعة إلى قلايته فإن الأفكار تعود إلى مكانها المناسب لها. أما من
يسمحوا لها بالجولان بطريقة دائمة، فإنهم يصيرون إلى حالة أشر. فإن العاجزين عن
معرفة كيفية الصراع ضد استفزازات خيالاتهم، إذ يتراخون في القانون الصارم، ويسمحوا
لأنفسهم بالخروج من قلاليهم، يصيرون بما يحسبونه علاجًا في حالة أكثر مرضًا…
هؤلاء يشبهون أناسًا يتخيلون أنهم قادرون على قمع الحُمَّى الداخلية بشربهم ماءً
مثلجًا، وهم لا يدرون أنهم بهذا يُلهبون نيرانها بدلاً من إخمادها…

 

6-
كيف يضبط الراهب أفكاره؟

 يجدر
بالراهب أن يوجه كل اهتمامه إلى جانب واحد، وأن يضبط كل أفكاره التي تثور فيه
وتدور في ذهنه، موجهًا إياها إلى هذا الاتجاه، أي إلى تذكر الله. وذلك كما
الإنجيلي لوقا كان إنسانًا يرغب في بناء قبوْ عالٍ على شكل قوس دائري يلزمه أن
يرسم بدقة خطا دائريًا حول المركز… لأنه الإنجيلي لوقا حاول أن يُنفذ هذا العمل من
غير أن يحدد مركز الدائرة فإنه مهما بلغت دقته ومهارته في فنه يستحيل عليه أن يحفظ
محيط الدائرة بغير أن يخطئ أدنى خطأ…هكذا أيضا أذهاننا إن لم يَدُر العمل فيها حول
حب الرب وحده كمركز ثابت لها غير متحرك، فإن أعمالنا وتقاليدنا – بسبب الظروف –
تنحرف عن بالاستنارة السامية… هذا الحب، الذي بدونه لن يقوم التركيب الخاص بالبناء
الروحي الذي مهندسه بولس مهما كانت المهارة ممتازة، ولا تستطيع أن تمتلك المنزل
الجميل الذي اشتاق إليه الطوباوي داود في قلبه لكي يقيمه للرب قائلاً: “يا
ربُّ أحببتُ محلَّ بيتك وموضع مسكن مجدك” (مز8: 26).

بدون
الحب يقيم الإنسان في قلبه، بغير بصيرة، منزلاً غير جميل لا يليق بالروح القدس،
ولا يكون له شرف استقبال القدوس الذي يقطن (في القلب) إنما يسقط في الحال، وينهدم
البناء في بؤس.

 

7-
سؤال بخصوص ابتعاد الرهبان عن أقربائهم

 جرمانيوس:
حقًا إنه قانون نافع وضروري تقدمه بخصوص نوع الأعمال الواجب القيام بها في القلالي…
لكن الأمر الغامض بالنسبة لنا هو: لماذا يلزمنا تجنب أقربائنا تجنبًا تامًا، إذ
ترفض ذهابنا إليهم رفضًا باتًا، مع أننا نراكم هنا وأنتم بلا عيب تسلكون في كل طرق
الكمال، ليس فقط ساكنون في بلدكم بل منكم من لم يخرج خارج قريته، فلماذا هذا الأمر
لم يضركم؟

 

8
– إبراهيم

أحيانًا
نرى أمورًا رديئة تُؤخذ من أمور صالحة، لأنه متى تمثل إنسان بآخر فقام بنفس فعله
ولكن ليس بنفس الفكر ولا ذات الغاية أو بنفس الصلاح يسقط للحال في شباك الخداع
والموت، خلال نفس الأمور التي بها ربح الآخرون ثمار الحياة الأبدية. ذلك مثل الصبي
الذي حارب مع رجل الحرب الجبار (جليات)، فإذ لبس حلة شاول الحربية الثقيلة وجدها
تتناسب مع الرجال وحدهم بينما تضر الشاب الغض. أليس بتمييز مملوء حكمة اختار الشاب
السلاح المناسب مع صبوته، مسلحًا نفسه ضد عدوه الغبي لا بترس ولا درع كالآخرين، بل
بالسلاح الذي يمكنه هو أن يستخدمه؟ لذلك يجدر بكل إنسان منا أن يأخذ في اعتباره
قياس طاقاته حسب حدوده، حتى يختار النظام الذي يسره. لأنه وإن كانت كل الطرق صالحة،
لكنها ليست كلها تناسب الجميع.

فإن
كانت حياة النساك حسنة، فهذا لا يعنى أنها تناسب الكل. فإن كثيرين شعروا أنها غير
نافعة لهم، بل ومضرة. ليس لأننا محقون في اختيارنا نظام الشركة… أن نعتبر أنه
يلزم على كل أحد أن يسلك نفس الطريق. هكذا أيضًا الاهتمام بإضافة الغرباء أمر نافع
جدًا، لكنه ليس لائقًا بالجميع… لهذا يجدر بنا أن نزن نظم هذه المنطقة ونقارن كل
نظام بالآخر، ونقدّر قوة الناس من صنعهم للفضيلة أو الرذيلة بصورة دائمة… لأن ما
هو صعب بالنسبة لإنسان من أُمَّة معينة قد يكون بالنسبة لأُمة أخرى عادة ألزمتهم
بها الطبيعة.

مثال
ذلك نجد بين الأمم اختلاف في الطقس، مما يجعل البعض يقدر على احتمال البرد القارس
والحر اللافح دون أي غطاء يأوون تحته أجسادهم، بينما لا يحتمل غيرهم هذا الجو قط
مهما كانت قوتهم… هكذا فإننا لو كنا نراكما متساويين في الفضيلة والمثابرة (مع
الرهبان الساكنين في قراهم هنا) فإنه لا حاجة لنا أن نطلب منكم الانعزال عن
اخوتكما وأقاربكما.

 

9-
ولكي ما تستطيعا أن تقيسا قوتكما باختبار دقيق

سأشير
عليكما بما حدث مع ذلك الشيخ، أي الأب أبولوس، حتى إذا ما فحصتما قلبيكما سريًا
وتقرران أنكما لستما أقل منه في هدفه وصلاحه، عندئذ يمكنكما أن تتجاسران وتبقيان
في مدينتكما، وتعيشان بجوار أقربائكما من غير أن ينحرف هدفكما أو يصيبكما ضرر من
هذا السلوك…

لقد
جاءه أخوه يومًا مترجيًا إيَّاه أن يأتي معه بالقرب من ديره جدُا لكي يساعده في
إنقاذ ثوره إذ سقط في بركة عميقة ولا يقدر أن ينتشله بمفرده. عندئذ أجابه الآب
أبولوس بحزم قائلاً: “لماذا لم تسأل أخاك الأصغر الذي هو أقرب إليك مني؟ وإذ
ظن الأخ أن الأب نسى موت أخيه الذي انتقل منذ زمن بعيد، ظانًا أنه بسبب كثرة زهده
ونسكه الدائم ضعفت ذاكرته أجابه: “كيف أطلب ذلك من إنسان مات منذ خمسة عشر
عامًا؟” سأله الآب أبولوس: “أما تعلم إنني أنا أيضا قد مُت عن العالم
منذ عشرين عامًا، ولا أقدر أن أخرج من مقبرتي التي في قلايتي لكي أساعدك في أمور
تخص شئون الحياة الحاضرة؟! إن المسيح لا يسمح لي، ولو إلى قليل، أن أتراخى في هدفي
في الإماتة التي دخلت فيها، بأن أذهب لأخرج ثورك، هذا الذي لم يسمح لدفن والد ذاك
الذي دُعي، ودفن الأب أليق من إخراج الثور!”

هكذا
هل تبحثان أسرار صدريكما وتتأملان باهتمام إن كنتما تثابران على الدوام بهذه الدقة
من جهة ارتباطكما بأقربائكما؟ فإن رأيتما أنكما تشبهانه في الإماتة، عندئذ يكون
جواركما لأقربائكما وأخوتكما غير مضرّ لكما. أقصد أنه عندما تتمسكان بهذا فإنكما
وإن اقتربتما منهم جدًا، تموتان عنهم بطريقة لا تسمحان فيها أن تساعدوهم (في
الشئون الزمنية) ولا أن تعطلا عملكما بسببهم.

 

10-
هل يقبل الراهب معونة أقربائه؟

جرمانيوس:
…كيف يصيب نظامنا ضرر إن تحررنا من كل اهتمام خاص بهذه الحياة تاركين لأقربائنا
أن يهيئوا لنا الطعام ونتفرغ نحن للقراءة والصلاة، حتى إذ نزيل عنا العمل الذي يشغلنا
الآن نُكرس بأكثر غيرة للاهتمامات الروحية وحدها؟

 

11-
إبراهيم:

إنني
لا أقدم لك رأيي الخاص، إنما أذكر رأي الطوباوي أنطونيوس الذي أخزى به كسل راهب
معين غلبه اللامبالاة… لأنه إذ جاءه إنسان وقال إن نظام النسك هذا غير كامل،
معلنًا أنه يطلب للإنسان فضيلة أعظم، ممارسًا ما يخص الحياة الكاملة وحدها بطريقة
أكثر مما يليق بالنسبة لسكان البرية، عندئذ سأله أنطونيوس المبارك عن مكان سكناه،
وعندما قال له أنه ساكن مع أقربائه، مفتخرًا بمساعدتهم له متحررًا من كل اهتمام
وعمل يومي، مكرسًا حياته للقراءة والصلاة بغير انقطاع من غير تشتيت روح، للحال قال
له الطوباوي أنطونيوس: أخبرني يا صديقي العزيز، هل تحزن لأحزانهم ومصائبهم، وتفرح
لأفراحهم؟ اعترف الرجل بأنه يساهم معهم في ذلك، عندئذ قال له الشيخ: “يلزمك
أن تعرف أنك ستُدان في العالم الآتي عن الجماعة التي تعيش معها هكذا مشتركًا معهم
في ربحهم وخسارتهم، فرحهم وحزنهم”.. وإذ لم يقتنع بهذا أردف الطوباوي
أنطونيوس قائلاً: هذا النوع من الحياة وهذه اللامبالاة ليس فقط تدفع بك إلى
الخسارة السابق ذكرها (ولو أنك لا تشعر بها الآن، كما جاء في سفر الأمثال: “ضربوني
ولم أتوجع. لقد لكأُوني ولم أعرف” (أم 35: 23)، وجاء في النبي: “أكل
الغرباءُ ثروتهُ وهو لا يعرف، وقد رُشَّ عليهِ الشيب وهو لا يعرف” (هو 9: 7)،
وإنما أيضا يسحبون ذهنك بغير انقطاع نحو الأمور الزمنية، ويغيرونه حسب الظروف.
كذلك إذ يقدمون ثمار أيديهم لك ويمدونك بالمئونة، بهذا يحرمونك من تنفيذ وصية
الرسول المبارك لأنه عندما قدم آخر وصية لرؤساء كنيسة أفسس أكد لهم أنه بالرغم من
مشغوليته بواجباته المقدسة الخاصة بالكرازة بالإنجيل إلا أنه كان يعمل من أجل
احتياجاته واحتياجات الذين يعملون معه في الخدمة قائلاً: “أنتم تعلمون أن
حاجاتي وحاجات الذين معي خَدَمَتهْا هاتان اليدَان” (أع 34: 20). ولكي ترى
كيف أنه فعل هذا كمثال لنا يقول في موضع آخر: “إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن
يُتَمثل بنا لأننا لم نسلك بلا ترتيبٍ بينكم… ليس أن لا سلطان لنا بل لكي نعطيكم
أنفسنا قدوةً حتى تتمثَّلوا بنا” (2 تس7: 3،9).

 

12-
أهمية العمل في حياة الراهب

بفضل
الزهد في كل غنى نختار الحصول على قوتنا اليومي بعمل أيدينا دون أن نعتمد على غنى
أقربائنا، لئلا نميل إلى التأمل في الكتاب المقدس مع كسل، فتصير قراءتنا عقيمة.
لكن الأفضل أن يكون لنا الفقر العامل. حقا لو أن الرسل علمونا هذا بمثالهم أو رأينا
هذا في قوانين آبائنا لكان هذا مبهجًا لنا.

هذا
ويجدر بك أن تعلم أن هناك خطر آخر لا يقل عن السابق، وهو أنك تقتات بمعونة الغير
وأنت سليم الجسد قوى البنية، وهذا لا يليق إلا بالضعفاء… لذا يلزم بالكل أن
يعيشوا بالعمل اليومي الذي من أيديهم، ويجدر بنا أن نعود إلى وصية المحبة التي
أوصانا بها الرسول الذي يمنع مساعدة الأغنياء للكسالى قائلاً: “فإننا أيضًا
حينَ كُنَّا عندكم أوصيناكم بهذا أنهُ إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل
أيضًا” (2 تس 10: 3).

هذه
هي كلمات الطوباوي أنطونيوس التي نطق بها مع هذا الإنسان، وقد علمنا الطوباوي هذا
بمثاله…

 

13-
سبب آخر لعدم عودة الراهب إلى أهله

لكنك
إذ تترجى أن تخلص آخرين أيضًا، وأنت شغوف بالعودة إلى مدينتك لنوال ربح أعظم، اسمع
القصة التي رواها الأب مقاريوس…

كان
في مدينة ما حلاق ماهر جدًا، اعتاد أن يحلق للفرد مقابل 3 فلسات، وفي آخر النهار
يشتري حاجياته الضرورية، ويدخر الباقي. لكنه سمع أن أجرة الحلاق في بلد آخر أغلى
بكثير فذهب هناك وكسب كثيرًا جدًا. لكن في آخر اليوم ذهب إلى الجزار دفع هناك كل
ما كسبه لشراء اللحم من غير أن يتبقى له شيء… فقال في نفسه إنني أعود إلى مدينتي
واكتفي بالمكسب المعتدل الذي يكفي حاجاتي، وأدخر الباقي لشيخوختي، لأنه وإن بدى
قليلاً وزهيدًا لكنه بتجمعه معًا لا يصير مبلغًا هينًا… هكذا من الأفضل لنا أن
نثابر على الدوام نحو هدفنا، مقتنين ربحًا معتدلاً في البرية حيث لا يوجد فيها
اهتمامات عالية وارتباطات تشتت الفكر ولا كبرياء ولا مجد باطل وتكون الاهتمامات
بالضرورات اليومية أقل… هذا خير من أن نطلب ربحًا عظيمًا خلال التحدث مع الآخرين
حديثًا قيمًا للغاية، لكننا ننهمك في مطالب الحياة العلمانية المملوءة بالارتباطات
اليومية. لأنه يقول سليمان: “حفنة راحة خير من حفنتَي تعب وقبض الريح”
(جا6: 4).

في
هذه الحبائل يسقط الضعفاء… إذ بينما هم غير مبالين بخلاصهم، وفيما هم محتاجون
تعليم الآخرين وإرشادهم، ينخدعون بحيل الشيطان تحت ستار إرشاد وحث الآخرين على
التوبة. هكذا إذا ما حصلوا على ربح من حديثهم مع الآخرين يفقدون صبرهم في الأمور
اللازم اقتنائها. وهكذا يصير لهم ما قاله حجي النبي: “زرعتم كثيرًا ودخَّلتم
قليلاً. تأكلون وليس إلى الشبع، تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأُون. والآخذ
أجرةً يأخذ أجرةً لكيسٍ مثقوب” (حج 6: 1). لأنه بالحقيقة الإنسان الذي يضع
أجرته في كيس مثقوب يخسر كل ما بدا أنه قد ربحه من حديثه مع الآخرين، بسبب فقدانه
لضبطه نفسه، ولارتباكه الذهني كل يوم. وتكون النتيجة أنه بينما يظن أنه يقدر أن
يقتني ربحًا عظيمًا بتعليمه للغير، إذ به في الحقيقة يحرم نفسه من النمو، لأنه
“يُوجَد مَن يتغانَى ولا شيءَ عندهُ ومَن يتفاقر وعندهُ غنًى جزيل”،
“الحقير وله عبد خير من المتمجّد ويعوزهُ الخبز” (أم 7: 13، 9: 12).

 

14-17
أمراض النفس

سأل
جرمانيوس عن حيل الشيطان في حربه معنا، فأجابه الأب إبراهيم أن المرض ولو أنه يصيب
أجزاء مختلفة من جسمنا ويسمى بأسماء متغايرة إلا إنه هو مرض في كل الأحوال، هكذا
يصوِّب الشيطان سهامه بطرق مختلفة إلى أجزاء متباينة من النفس (3 أجزاء)، وذلك
حسبما يجد مكان ضعفنا… وقد هاجم العدو الرب يسوع في الجوانب الثلاثة كسائر البشر
لكنه فشل. بهذه الروح توقع الشيطان أن يغلب الرب يسوع، مجربًا إياه في الثلاث
نواحي الوجدانية التي للنفس، حيث يعلم أنه في هذا قد أُسرت البشرية كلها، لكن
العدو لم يفلح بشباك مكره في شيء. فقد اقترب إلى الذهن من الجانب الذي يخضع
للرغبات عندما قال له: “قل أن تصير هذه الحجارة خبزًا” (مت3: 4). واقترب
إلى الجانب الخاص بالغضب عندما حاول أن يثيره ليطلب عظمة الحياة الزمنية وممالك
هذا العالم (لأن محبتنا للعالم هي التي تثير الغضب). وأيضًا اقترب إلى الجانب
الخاص بالإدراك عندما قال له: “إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه
مكتوب أنهُ يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك”
(مت6: 4).

في
هذا لم تأت خداعاته بشيء، لأنه لم يجدفيه شيئًا فاسدًا كما كان يظن… لذلك لم
يخضع أي جانب من الجوانب التي في نفسه للعدو عندما جربه، إذ قال: “لأن رئيس
هذا العالم يأتي وليس لهُ فيَّ شيء” (يو30: 14).

 

22-
استفسار عن القول: “حملي خفيف ونيري هيِّن”

 جرمانيوس:
إنك إذ تهبنا بنعمة الله علاجًا لكل الأوهام (الأضاليل) وحيل الشيطان التي تربكنا،
شارحًا لنا ذلك بتعليمك، فإننا نسألك أن تشرح لنا هذه العبارة الواردة في الإنجيل:
“لأن نيري هيِّن وحملي خفيف” (مت30: 11)، لأنه يبدو حمله ثقيلاً ومضادًا
لقول الرسول: “وجميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع
يُضطَهدون” (2تى12: 3). فكيف يكون خفيفًا وهو مفعم بالاضطهادات التي لا يمكن
أن تكون سهلة وخفيفة؟!…

 

23-
إبراهيم:

يمكننا
من خبراتنا أن نؤكد بسهولة أن قول مخلصنا حقيقي تمامًا، وذلك إذا ما اقتربنا من
طريق الكمال كما يليق حسب إرادة المسيح، وبإماتة كل رغباتنا، ونزع كل الشهوات
المضرَّة، دون أن نسمح لشيء ما من أمور هذا العالم أن يبقى فينا… وأن نعرف أننا
لسنا سادة لأنفسنا بل بالحقيقة ننطق بكلمات الرسول القائل: “فأَحيا لا أنا بل
المسيح يحيا فيَّ” غلا 20: 2).

لأنه
أي شيء يكون ثقيلاً وصعبًا على من احتضن بكل قلبه نير المسيح، متأسسا على الاتضاع
الحقيقي، مثبتًا أنظاره على آلام الرب على الدوام، فرحًا بكل ما يصيبه قائلاً: “لذلك
أسرُّ بالضعفات والشتائِم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حينما
أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قوىّ” (2كو10: 12).

إنني
أسأل: أية خسارة يمكن أن تصيب ذاك الذي يُسر بالزهد الكامل محتقرًا بإرادته، من
أجل المسيح، كل مباهج هذا العالم، ناظرًا إلى كل ملذات هذا العالم كنفاية من أجل
ربحه المسيح، متأملاً على الدوام في وصايا المسيح… “لأنهُ ماذا ينتفع
الإنسان لو رَبِح العالم كلَّه وخسر نفسهُ؟! أو ماذا يُعطي الإنسان فداءً عن
نفسهِ؟!” مت26: 16؟! أية خسارة يمكن أن تضايق ذاك الذي يعرف أن كل ما يأخذه
من الغير لا يمكن أن يبقى في ملكيته، معلنًا بجسارة لا تنهزم: “لأننا لم ندخل
العالم بشيءٍ وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيءٍ” (1تي7: 6)؟! أية
احتياجات يمكن أن تهزم شجاعة ذاك الذي يعرف أنه يعمل من غير أن يقتنى “ذهبًا
ولا فضَّةً ولا نحاسًا في مناطقكم. ولا مِزوَدًا للطريق ولا ثوبَين ولا أحذية ولا
عصًا” (مت9: 10،10)؟

كيف
يمكن لأي جهاد أو أية وصية صعبة للآباء أن تقلق سلام ذاك الذي ليست له إرادة ذاتية،
إنما بصبر، بل بفرح يقبل ما يأمرونه به، ويتمثل بمخلصه الذي يطلب إرادة الآب لا
إرادته قائلاً: “ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” (مت39: 26)؟

أية
مضايقات أو اضطهادات يمكن أن ترعب أو تنزع فرح ذاك الذي على الدوام يفرح مع الرسل
عندما جلدوهم، مشتاقًا أن يُحسب أهلاً لأن يحتمل العار من أجل المسيح؟

 

24-
ولكن الحقيقة أنه بالنسبة لنا يبدو كأن نير المسيح ليس هينًا ولا خفيفًا كقول غير
المؤمنين، محاربين إيانا باعتراض غبي ضد وصية أو نصيحة القائل: “إن أردت أن
تكون كاملاً فاذهب وبِعْ كل (تخلى عن) أملاكك… وتعال اتبعني” (مت 21: 19)،
وهذا لأننا نحتفظ بمقتنيات هذا العالم.

إذن
كيف تصير حلاوة نير المسيح العجيبة مُرة إلا بسبب مرارة شرنا؟ كيف يصير الحمل
الإلهي الخفيف للغاية ثقيلاً، إلا لأننا في وقاحتنا العنيدة نستهين بالرب الذي به
نحمل حمله، خاصة وأن الكتاب المقدس بنفسه يشهد بذلك بوضوح قائلاً: “الشرير
تأخذهُ آثامهُ وبحبال خطيتهِ يُمسَك” (أم 22: 5، حك 11: 16)؟

أقول
إنه من الواضح أننا نحن الذين نجعل من طرق الرب السهلة السليمة طرقًا متعبة، وذلك
بسبب حجارة شهواتنا الرديئة الثقيلة، إذ بغباوة نجعل الطريق الملوكي محجرًا، ونترك
الطريق الذي وطأته أقدام كل القديسين، بل وسار فيه الرب نفسه، باحثين عن طريق ليس
فيه آثار لمن سبقونا، طالبين أماكن مملوءة أشواكًا، فتعمينا اغراءات المباهج
الحاضرة، ويتمزق ثوب العرس بالأشواك في الظلام… وقد تغطى الطريق بقضبان الخطايا،
حتى أننا ليس فقط نتمزق بأشواك العوسج الحادة، وإنما ننطرح بلدغات الحيات المميتة
والأفاعي المتوارية هناك، لأنه: “شوك وفخاخ في طريق الملتوي” (أم 5: 22).

يقول
الرب في موضع آخر بالنبي: “لأن شعبي قد نسيني… وقد أعثروهم في طرقهم في
السبل القديمة ليسلكوا في شُعَبٍ في طريق غير مسهل” (إر 15: 18). ويقول
سليمان: “طريق الكسلان كسياج من شوك” (أم 19: 15). هكذا إذ يضلون الطريق
السماوي الملكي، يعجزون عن الوصول إلى المدينة التي وجهت إليها نظرتنا. وقد عبر
عنها سفر الجامعة بصورة رمزية قائلاً عنها أنها أورشليم… (جا 15: 10). بمعنى أنها
“أورشليم العليا التي هي أمُّنا (جميعًا) فهي حرَّة” (غل 26: 4).

أما
الذي يترك هذا العالم بحق ويحمل نير المسيح ويتعلم منه، ويتدرب يوميًا على احتمال
التعب، لأن الرب “وديع ومتواضع القلب” (مت 29: 11)، فإنه يبقى على
الدوام بغير اضطراب من كل التجارب، وبالنسبة له “كل الأشياءِ تعمل معًا
للخير” (رو 28: 8). فكما يقول النبي (ميخا) أن كلمات الله صالحةً نَحْوَ مَنْ
يَسْلُكُ بِالاِسْتِقَامَة (مي 2: 7).

 

25-
فائدة التجارب

في
وسط التجربة ننال بواسطة الصراع نعمة المخلص المترفقة التي تهبنا مكافآت عظيمة…
لأن علامة الفضيلة السهلة العظيمة هي أن تبقى غير مزعزعة عندما تحدق بها المضايقات
والمحن، فتبقى في إيمان وشجاعة محتمية في حصون الله. وفي الهجوم تتسلح كما لو كانت
مع جيوش الفضيلة التي لا تُقهر، فتنتصر على عدم الصبر، وتنال قوة أعظم لأن: “القوة
في الضعف تكمل”. ويقول الرب: “هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود
حديدٍ وأسوار نحاس على كل الأرض… فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأني أنا معك يقول
الرب لأنقذك” (إر18: 1،19).

بحسب
تعليم الروح الواضح نجد أن الطريق السماوي الملوكي سهل وبسيط حتى لو شعروا به
صعبًا وعنيفًا، وذلك لأن الذي يخدمونه بتقوى وإيمان يحملون نير الرب ويتعلمون منه،
ذاك الذي هو وديع ومتواضع القلب، وللحال يلقون عنهم طرق الشهوات الأرضية الصعبة،
ولا يجدون تعبًا بل راحة لنفوسهم بواسطة عطية الرب. ويشهد الرب بنفسه على لسان
ارميا النبي قائلاً: “قفوا على الطرق وانظروا واسأَلوا عن السبل القديمة أين
هو الطريق الصالح وسيروا فيهِ فتجدوا راحة لنفوسكم” (إر16: 6). لأنه بالنسبة
لهم “كل وطاءٍ يرتفع وكل جبل وأكمة ينخفض ويصير المعوج مستقيمًا والعراقيب
سهلاً” (إش4: 40) وبالتالي “ليس عوز لخائفيه (لمتَّقيهِ)” (مز9: 34).

عندما
يسمعون المسيح يعلن في الإنجيل: “تعالوا إليَّ يا جميع المُتعَبين والثقيلي
الأحمال وأنا أريحكم”، للحال يلقون عنهم ثقل خطاياهم، ويتحققون ما قد جاء بعد
ذلك: “لأن نيري هيّن وحملي خفيف” (مت 28: 11،30).

إذن
طريق الرب مريح لمن يحفظ وصيته. لكننا إذا كنا ببعض السهو المتعب نجلب لأنفسنا
أحزانًا وأتعابًا فإننا نبذل جهدًا عظيمًا تابعين طريقًا معوجًا لحفظ وصايا العالم،
وفي هذا الطريق نجعل نير المسيح ثقيلاً وحمله صعبًا، وذلك كقول العبارة: “حماقة
الرجل تعوّج طريقهُ وعلى الرب يحنق قلبهُ” (أم 3: 19). وإذ يقال “ليست
طريق الرب مستوية” يجيب “أَطريقي هي غير مستوية أَليست طرقكم غير
مستوية؟!” (حز 25: 18).

في
الحقيقة تستطيع أن تتبين كيف أن نير المسيح أسهل وحمله أخف جدًا إذا ما قارنت زهرة
البتولية الحلوة العطرة الرائحة ونقاوة الطهارة بالنسبة لحمأة الشهوة الدنسة
الكريهة الرائحة، وقارنت هدوء الرهبان وسكونهم وابتعادهم عن المخاطر والخسائر التي
تشغل أذهان الناس في العالم باهتمامات الغنى واضطراباته القارضة المملوءة قلقًا…

 

26-
هل يتحقق وعد الرب بالمائة ضعف في هذا العالم؟

بالأحرى
إن جزاء المكافأة التي وعد بها الرب هو مائة ضعف في العالم بالنسبة للذين زهدهم
كامل، إذ يقول: “وكلُّ مَن ترك بيوتًا أو اخوةً أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًا أو
امرأَةً أو أولادًا أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعفٍ ويرث الحياة
الأبدية” (مت 29: 19). يتحقق هذا بحق وصدق، ولا يضطرب إيماننا لأن كثيرين
استغلوا هذا النص كفرصة لبلبلة مفاهيم البعض قائلين بأن هذه الأمور (المائة ضعف)
تتحقق جسديًا في الألف سنة[3]… لكن الأمر المعقول جدًا والواضح وضوحًا تامًا أن من
يتبع المسيح تخف عنه الآلام العالمية والملذات الأرضية، متقبلاً اخوة وشركاء له في
الحياة ارتبط بهم ارتباطًا روحيًا. فيقتني حتى في هذه الحياة حب أفضل مائة مرة عن
(الحب الناتج عن الرباط الدموي). فبين الآباء والأبناء والاخوة والزوجات والأقارب
يقوم الرباط على مجرد علاقات القربى، لذا فهو قصير الأمد وينحل بسهولة. أما
الرهبان فيحتفظون بوحدة باقية في ألفة، ويملكون كل شيء في شركة عامة بينهم، فيرى
كل إنسان أن ما لاخوته هو له، وما له هو لاخوته. فإذا ما قارنا نعمة الحب التي لنا
هكذا بالنسبة للحب الذي يقوم على مجرد الرباطات الجسدية، بالتأكيد نجده أعذب وألذ
مائة ضعف.

هكذا
أيضا نقتني من العفة الزيجية (حيث ترتبط النفس بالرب يسوع كعريس لها) سعادة تسمو
مئات المرات عن السعادة التي تتم خلال وحدة الجنس.

وعوض
الفرح الذي يختبره الإنسان بملكيته حقل أو منزل، يتمتع ببهجة الغنى مئات المرات
بكونه ابن لله يملك كل ما يخص الآب الأبدي واضعًا في قلبه وروحه مثال الابن
الحقيقي القائل: “كلُّ ما للآب هو لي” (يو 15: 16). إنه يربح لنفسه كل
شيء، منصتًا كل يوم لإعلان الرسول: “كل مالي هوٍ لكم” (1 كو 22: 3).

هكذا
يتحقق لنا المائة ضعف عن طريق تقبلنا لأمور من نوع أعظم في القيمة… فلو أعطينا
عوض وزن معين من النحاس أو الحديد أو أي معدن شائع وزنه ذهبًا، بهذا يكون قد رد
لنا ما هو أكثر من مائة ضعف. وهكذا عوض المباهج المزدرية والعواطف الأرضية يُوهب
لك فرح روحي وسعادة الحب الثمين للغاية، ولو بنفس الكمية، لكنه أفضل منها مائة ضعف
وأكثر.

لكي
ما أوضح هذا بمثال أقول: قد كان لي زوجة من أجل إشباع عاطفة شهوانية، والآن صارت
لي في تقديس مبارك وحب المسيح الحقيقي. فالمرأة كما هي واحدة، لكن محبتي لها قد
تضاعفت مائة مرة من حيث النوع.

وإذا
ما استبدلت الغضب المثير والحنق بالوداعة الدائمة والصبر، وعوض الإجهاد المقلق
والتعب أخذت السلام والتحرر من الاهتمام، وعوض الاضطراب الأرضي العقيم نلت ثمار
الحزن المبارك، وعوض بطلان الفرح الزمني أخذت غنى المباهج الروحية، أما ترى أنك
بذلك تكون قد كوفئت عن المشاعر التي تتركها بمائة ضعف؟!… وإذا ما استبدلنا لذة
الخطية الوقتية الزائلة ببركات الفضائل المضادة، فإننا نكون قد نلنا مباهج أفضل
مائة ضعف…

الآن
لنترك التأمل في طبيعة الأمور التي يعوضنا بها المسيح في هذا العالم مقابل
احتقارنا الربح الزمني، خصوصًا ما ورد في إنجيل مرقس القائل: “الحقَّ أقول
لكم ليس أحد ترك بيتًا أو اخوةً أو أخواتٍ أو أبًا أو أمًا أو امرأَةً أو أولادًا
أو حقولاً لأجلي ولأجل الإنجيل إلاَّ ويأخذ مائة ضعفٍ الآن في هذا الزمان بيوتًا
واخوةً وأخواتٍ وأمهاتٍ وأولادًا وحقولاً مع اضطهاداتٍ وفي الدهر الآتي الحياة
الأبديَّة” (مر29: 10،30). لأن ذاك الذي من أجل اسم المسيح يزدري بمحبة أب أو
أم أو طفل ويسلم نفسه للحب النقي لكل الذين يخدمون المسيح، فإنه ينال مائة ضعف من
الاخوة الأقرباء، ويصير له آباء كثيرون، ويرتبط برباط أخوة أشد حرارة في حب عجيب.
ويغتني بأملاك كثيرة فتصير كأن كل الأديرة له، أينما ذهب في العالم يجد له مكانًا…
في نفس الوقت لا يختطف ملكوت السموات من كان كسلانًا أو مهملاً أو مترفًا أو
مدللاً إنما يختطفه الغاصبون. ومن هم الغاصبون؟ هم بالتأكيد الذين لا يقسون على
الآخرين بل على أنفسهم، نازعين عنهم مباهج الحياة الحاضرة بقوة ممدوحة، معلنين
بنعمة الرب أنهم غاصبون ممتازون، وبهذا يسرقون ملكوت السماوات بقوة، إذ يقول الرب:
“ملكوت السماوات يُغصَب، والغاصبون يختطفونهُ” (مت 12: 11).

هؤلاء
بالتأكيد يستحقون المديح كغاصبين يغتصبون العنف لهلاك ذواتهم… أو بالتأكيد
“هلاك تنفيذ شهواتهم ورغباتهم”. وذلك لما كان الإنسان يسحب هذه الشهوات
والرغبات ويميتها، فإنه يبث عنفه لأجل هلاكه، أي هلاك لذاته ورغباته التي تنتهرها
الكلمة الإلهية بالنبي قائلة: “ها إنكم في يوم صومكم تُوجِدون مسرَّةً وبكل
أشغالكم تسخرون… إن رددت عن السبت رجلك عن عمل مسرتك” (إش 3: 58،13). وقد
أضاف النبي التطويب الموعود به لمن يترك مسرته ويمسك بمسرة الرب قائلاً: “فإنك
حينئذٍ تتلذَّذ بالرب وأُركبك على مرتفعات الأرض وأُطعمك ميراث يعقوب أبيك لأن فم
الرب تكلم” (إش 14: 58).

يعطينا
ربنا ومخلصنا نفسه مثالاً لنزع إرادتنا قائلاً: “لأني قد نزلت… ليس لأعمل
مشيئَتي بل مشيئَة الذي أرسلني” (يو38: 6). يظهر هذا النوع الجيد من ترك
الإرادة في حياة السالكين في نظام الشركة تحت قيادة الآباء، حيث لا يصنعون شيئًا
بغير مشورة الأب…

بمثل
هذه العبارات ناقش الأب إبراهيم أصل الخداعات المملوءة مكرًا التي يقترحها الشيطان
علينا، ملهبًا فينا الشوق نحو الإماتة الحقيقية، حيث نرجو أن نرى كثيرين أيضا
يلتهبون بهذا، ولو أننا كتبنا هذه الأمور في صورة مختصرة…

 

ملخص
المبادئ

·       
ينبغي على الراهب أن يموت عن علاقات القرابة
البشرية ليحب البشرية كلها في الرب يسوع.

·   
يجدر بالراهب ألا ينشغل بالأعمال الكثيرة، وفي
نفس الوقت لا يعتمد على أقربائه أو غيرهم في المئونة الضرورية له، لأن من لا يعمل
لا يأكل.

·       
لا يجوز علاج القلق وغيره من الأمراض الروحية
بطرق خارجية كالهروب من القلاية والانشغال بالعمل المادي.

·       
حمل المسيح الخفيف ونيره هين بالنسبة لمن تأسس
على حياة الاتضاع الحقيقي، مثبتًا أنظاره على آلام الرب على الدوام.

·       
خطايانا هي التي جعلت حمل المسيح بالنسبة لنا
ثقيلاً لا يُحتمل.

·       
الله يرد لنا كل ما نتركه مائة ضعف في العالم
وحياة أبدية في الدهر الآتي.

_____________

[1]
أي الذين هم في مناصب كبيرة ويودوا أن يقدموا للرهبان خدمات لأجل راحتهم… فانه
لا يليق بالرهبان أن يتكلوا عليهم في كسل.

[2]
المؤسسات 24: 10.

[3]
للأسف يفسر البعض الألف سنة، على أن السيد المسيح سيملك ألف سنة مع المؤمنين على
الأرض، وهذا يخالف روح المسيح، لكن المسيح حاليًا يملك على قلوبنا ملكًا روحيًا.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى