علم

المناظرة الأولى

 

المناظرة
الأولى

نقاوة
القلب طريق الملكوت للأب موسى

1-
إقامتنا بالإسقيط

 في
صحراء الإسقيط حيث يوجد أعاظم الآباء الرهبان، ويترعرع الكمال، كنت مصطحبًا الأب
جرمانيوس هذا الذي كان ملازمًا لي منذ الأيام الأولي، ومنذ بداية الخدمة الروحية،
سواء ونحن في نظام الشركة أو في البرية. وتستطيع أن تلتمس مقدار وفاق صداقتنا
ووحدة هدفنا مما يقوله الكل عنا إننا قلب واحد وروح واحد في جسدين.

 وإذ
كنا في البرية بحثنا عن الأب موسى الذي يعتبر من أسمى تلك الزهور الرائعة في
البرية، متفوقًا لا في حياة العمل فحسب بل وفي حياة التأمل أيضًا.

 لقد
كنت شغوفًا لسماع تعاليمه، فطلبنا إليه سويًا بدموع أن يحدثنا لأجل بنياننا وذلك
لمعرفتنا عنه جيدًا أنه لا يفتح باب الحديث عن الكمال إلا مع الذين يبحثون عنه
بإيمان بقلوب تائبة. فهو يخشى الحديث عن تلك الأمور الهامة، ولا يكشفها إلا
للساعين نحو الكمال، غير متحدثٍ بها لغير المبالين أو الذين يتقبلون الكلام بغير
إيمان كامل مستخفين بها وهم غير مستحقين لها، وذلك لكي لا يكون في حديثه عرضة
للزهو الباطل أو بهذا يكون خائنًا لما قد أؤتمن عليه. أخيرًا غُلب بطلبتنا فبدأ
يتحدث.

 

2-
سؤال عن هدف المؤمن وغايته؟

 قال:
لكل العلوم والفنون أهداف وغايات يتطلع إليها المجاهدون في كل فن صابرين، محتملين
كل أنواع المتاعب والأخطار والخسائر بفرح ورباطة جأش.

 فالفلاح
لا يعبأ بحرارة الشمس أو بالصقيع وبرودة الجو… فيقوم بتقسيم الأرض وحراثتها مرة
فأخرى، متطلعًا إلى هدفه بلا ضجر. إنه يجاهد لتفتيت الأرض حتى تصير كالرمل الناعم
منقيًا إيّاها من العليق والأعشاب، مؤمنًا بأنه ليس هناك طريق آخر يبلغ به هدفه
اللامحدود إلا بحصوله على أفضل إنتاج وأكبر محصول، بهذا يمكنه أن يعيش وتتزايد
ممتلكاته. فإذ يمتلئ مخزنه يستعد ليفرغه ويلقي البذار في الأرض المحروثة مرة أخرى…
هذا كله من أجل المحصول المنتظر!

 كذلك
المنشغلون بالتجارة لا يبالون بعدم ضمان تحقيق الربح أو بمخاطر المحيطات، إنما
تحفزهم أمانيهم نحو تحقيق الربح.

 والطامحون
في الحياة العسكرية يتطلعون إلى هدفهم، أي نحو الشرف أو القوة، غير مبالين بالأخطار
والهلاك الذي يلاحقهم خلال عملهم… من أجل رغبتهم في نوال الشرف.

 ونحن
أيضًا لعملنا هدف أو غاية بسببه نحتمل كل صنوف الجهاد ليس بدون ضجر فحسب بل وبفرح.
فحرماننا من الطعام أثناء الصوم لا نعتبره ضيقًا، وأتعاب السهر تتحول إلى بهجة،
والقراءة والتأمل في الكتاب المقدس ليس فرضًا ثقيلاً. فلا يخيفنا الجهاد المتواصل
وإنكار الذات والحرمان من أمور العالم ومتاعب هذه البرية القاحلة.

 وأنتما
أيضًا إذ تستخفا بمحبة الأقرباء، أي بالعاطفة تجاههم بتركهم سالكين طريق الرهبنة،
تاركين مسقط رأسيكما ومباهج العالم، عابرين كل هذه المناطق لكي تأتيان إلينا نحن
البسطاء العائشين في حالة مضنية في البرية، ما هو هدفكما من هذا؟ وما هي غايتكما
التي دفعتكما لتتحملا كل هذه الأمور بفرح؟

 

3-
وإذ أصر على كشف الفكرة من إجابتنا على سؤاله، أجبناه قائلين: لقد تحملنا هذا كله
من أجل ملكوت السموات.

 

4-
أجاب حسنًا! لقد تحدثتما عن الهدف غير المحدود. لكن ما هو الهدف القريب، الذي إذا
ما عرفناه ووضعناه دائمًا نصب أعيننا نقدر أن نبلغ غايتنا؟

 وإذ
اعترفنا بجهلنا بصراحة أكمل حديثه قائلاً:

 كما
قلت أولاً أن لكل فن أو علم هدف يوضع أمام الذهن… فإذا لم يتمسك الإنسان به
بجهاد ثابت لا يصل إلى الغاية النهائية.

 فكما
قلت أن الفلاح يهدف إلى الحياة السعيدة والرخاء وتحقيق محصول وفير، وأما هدفه
الحالي فهو حفظ الحقل نظيفًا من الأحجار والأعشاب…

ونحن
أيضًا نهاية طريقنا في الحياة هو بلوغ ملكوت الله، ولكن ما هو الهدف الحالي الذي
يلزم أن نتساءل عنه؟ فإننا إن لم نعرفه نتعب أنفسنا دون جدوى، لأن من يسافر في
اتجاه خاطئ تضيع أتعابه سدى ولا ينتفع شيئًا من سفره.

 وإذ
دهشنا من هذا الحديث أكمل الشيخ قائلاً: إن هدف عملنا كما قلت هو “ملكوت
الله” أو “ملكوت السموات”. وأما الهدف الحالي فهو “نقاوة
القلب”، الذي بدونه لا نقدر أن نحقق الهدف النهائي.

 لنوجه
أنظارنا بثبات نحو هذا الهدف كعلامة ثابتة. ولنوجه سلوكنا نحوه مباشرة حتى إذا ما
انحرفت أفكارنا بعيدًا عنه نعيدها إليه ونضبطها نحوه بإتقان كما لو كان مقياسًا
دقيقًا. وبهذا تتحول جهودنا إليه، وبالتالي نستطيع أن نكتشف عما إذا كان عقلنا قد
انحرف ولو قليلاً عن الاتجاه المحدد له.

 

5-
هدفنا الحالي: نقاوة القلب

 قبل
الحرب يختبر الجنود مهارتهم بإطلاقهم السهام والرماح تجاه أهداف صغيرة محددة…
وهم يعلمون أنه بغير هذه الوسيلة لا يمكنهم نوال الجعالة التي يترجونها… وبغير
هذا لا يوجد ما يكشف لهم عن قدرة مهارتهم أو ضعفها…

 وبهذا
فإن الهدف النهائي الموضوع أمامنا هو “الحياة الأبدية”، إذ يقول الرسول:
“فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة أبديَّة” رو22: 6. وأما الهدف الحالي
فهو “نقاوة القلب” التي يعبر عنها الرسول بقوله: “ثمركم
للقداسة” والتي بدونها لا يتحقق الهدف النهائي (والنهاية حياة أبدية)…

 ويعلمنا
الرسول عن نفس الهدف قائلاً: “أنسى ما هو وراء وأمتدُّ إلى ما هو قدُّام،
أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا…” (في13: 3،14). بمعنى أنه
بهذا الهدف الذي به ينسى ما هو وراء، أي خطايا الحياة الأولي (عدم نقاوة القلب)،
يجتهد لبلوغ جعالة السماء.

 إذن
فلنهتم بالكشف عن هذه الفضيلة أي “نقاوة القلب” متجنبين كل معوقاتها،
لأنها خطيرة وضارة. فمن أجل نقاوة القلب ينبغي أن نفعل كل شيء، ونصبر على كل شيء،
ولا نتعلق بأقربائنا وأرضنا (ممتلكاتنا) وكرامتنا (الأرضية) وجاهنا ومباهج العالم
وكل أنواع الملذات…

 

6-
زهد بغير نقاوة قلب

 إننا
نرى بعضًا ممن زهدوا أمور هذا العالم، ليس فقط الذهب والفضة، بل والممتلكات الضخمة،
يتضايقون ويضطربون من أجل سكِّينة أو قلم أو دبوس أو ريشة، بينما لو وجهوا أنظارهم
نحو نقاوة القلب بلا شك ما كانوا يضطربون من أجل الأمور التافهة، فكما لا يبالون
بالغنى العظيم يتركون أيضًا كل شيء.

 ويخاف
البعض على كتبهم حتى أنهم لا يسمحون لأحد أن يحركها أو يلمسها… وهذا يكشف عن
حاجتهم إلى الصبر والحب العميق. فإذ تركوا كل غناهم من أجل محبتهم للسيد المسيح
إلا أنهم يحتفظون بطبيعتهم الأولي بالنسبة للأمور التافهة، فسرعان ما ينشغلون بها.
وبهذا يصيرون عقيمين بلا ثمر كمن هم بلا حب. هؤلاء يتحدث عنهم الرسول الطوباوي
متنبئًا بالروح قائلاً: “وإن أطعمت كلَّ أموالي وإن سلَّمت جسدي حتى احترق،
ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئًا” 1(كو3: 13).

 من
هذا يظهر بوضوح أن الكمال لا يتأتى لمجرد إنكار الذات أو ترك كل شيء أو الهروب من
الكرامة ما لم يصحبها المحبة التي وصفها الرسول بالتفصيل مظهرًا أنها ليست إلا
“نقاوة القلب” وحدها. لأنه إذ المحبَّة “لا تحسد”، “لا
تتفاخر”، “لا تُقبِح (تغضب)”، “لا تطلب ما لنفسها”،
“لا تحتدُّ”، “لا تظنُّ السوءَ” 1(كو4: 13،5)، هذا كله ماذا
يعني سوى أن نقدم قلبًا نقيًا كاملاً محفوظًا من كل اضطراب؟!

 

7-
أعمال صالحة بغير نقاوة قلب

 ينبغي
أن نصنع كل شيء أو نبحث عن أي شيء من أجل نقاوة القلب. فمن أجلها نطلب التوحد…
ومن أجلها نصوم ونسهر ونحتمل الأتعاب والعري والدراسة ونقتني كل الفضائل الأخرى،
لكي ما نهيئ قلوبنا ونحفظها من كل السموم الشريرة، وبهذا نصعد إلى كمال المحبة…

 فالأمور
التي تأتي في المرتبة الثانية في أهميتها كالصوم والسهر والزهد في العالم والتأمل
في الكتاب المقدس، هذه يلزمنا أن نفعلها ناظرين إلى الهدف الرئيسي وهو “نقاوة
القلب” التي هي “المحبة”. فعلينا ألا نفقد هذه الفضيلة الرئيسية
بسبب تحقيق فضيلة أخرى.

 فإذا
لم ننفذ إحدى هذه الفضائل الأخرى لسبب قهري لا يصيبنا أذى، طالما وجدت الفضيلة
الرئيسية. فلا يسوغ لنا أن ننفذ عملاً يكون من شأنه أن نفقد هذا الهدف موضوع
حديثنا، بل نجاهد من أجله مهما كلفنا الأمر.

 يشغف
الإنسان بالحصول على أدوات العمل، لا لأجل امتلاكها بلا غاية لأن هذا في ذاته لا
يحقق نفعًا… إنما باستخدامها يستطيع أن يضمن المعرفة العملية ويحقق هدفه المحدد،
أي نوال الغنى الذي يرغبه. هكذا الصوم والسهر والتأمل في الكتاب المقدس وإنكار
الذات وترك الممتلكات، هذه جميعها ليست كمالاً في ذاتها إنما تقود إلى الكمال. لأن
هدف العلم (الروحاني) لا ينحصر في اقتناء هذه الأمور، إنما بها نبلغ إلى الغاية.
فمن يكتفي بهذه الأمور على أنها الخير الأعظم يتممها بغير هدف، جاعلاً أُمنية قلبه
تحقيق هذه الأمور، دون أن تمتد جهوده لبلوغ الهدف الذي لأجله يمارس هذه الفضائل.
وهذا يكون مثله مثل من يمتلك أدوات ويجهل هدف فنه الذي يستخدمها فيه…

 

8-
مثال من الكتاب المقدس

 نقاوة
القلب هي موضوع جهادنا الرئيسي وغاية قلبنا الدائم، وهي تعني التصاق الروح بالله
وبالأمور السماوية. أما ما خلاف هذا، فإنه مهما بلغت قيمته يحتل المرتبة الثانية،
بل ويصير بلا قيمة وأحيانًا يكون ضارًا. وقد أوضح الإنجيل تفسيرًا رائعًا لهذا
الأمر في حالة مريم ومرثا. لقد كانت مرثا تخدم مقدمة عملاً مقدسًا بلا شك، وفيما
هي تخدم الرب وتلاميذه كانت مريم تهتم بتعاليمه الروحية فقط، جالسة عند قدمَي
السيد المسيح اللتين قبَّلتهما ودهنتهما بطيب الاعتراف الحسن. لقد التصقت بالرب
الذي شهد لها أنها اختارت النصيب الصالح الذي لا يُنزع منها. لأنه بينما كانت مرثا
تعمل مجتهدة وقد ارتبكت في الخدمة حتى شعرت بعجزها عن القيام بالخدمة بمفردها طلبت
من السيد المسيح أن تساعدها أختها قائلة: “يا ربّ أَما تبالي بأن اختي قد
تركتني أخدم وحدي. فقُلْ لها أن تعينني” (لو40: 10). لقد استدعت أختها لتعمل
عملاً ليس تافهًا بل يستحق الثناء، ومع هذا بماذا أجابها الرب؟ “مرثا مرثا
أنتِ تهتّمِين وتضطربين لاجل أمورٍ كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحدٍ. فاختارت مريم
النصيب الصالح الذي لن يُنزَع منها” (لو41: 10،42).

 لقد
رأيت كيف جعل الرب الخير الرئيسي ينصب في التأمل الإلهي…!

 لقد
رأيت كيف احتلت جميع الفضائل الأخرى المركز الثاني رغم تسليمنا بأهميتها وفائدتها
وسموّها، لأن هذه جميعها إنما تُصنع لأجل هدف واحد. فعندما قال الرب: “أنتِ
تهتّمِين وتضطربين لأجل أمورٍ كثيرة. ولكن الحاجة إلى واحدٍ” جعل الخير
الرئيسي لا يكون في الأعمال في ذاتها مهما بلغ شأنها، بل في التأمل في الرب، الذي
هو بالحقيقة الأمر الأول.

 هذا
القول يجب أن يكون موضع اهتمامنا جدًا، فقد قال لمريم إنها اختارت النصيب الصالح
من غير أن يلُم مرثا. فإن مدح الواحدة أظهر أن الأخرى أقل منها فحسب. وقوله
“الذي لن يُنزَع منها” كشف أن نصيب الأخرى يمكن أن ينزع منها، لأن
الخدمات الجسدية لا يمكن أن تبقى مع الإنسان إلى الأبد، أما اشتياق مريم فلن يكون
له نهاية.

 

9-
سؤال: كيف تزول الأعمال الصالحة؟

 …
ما هذا؟ هل الاجتهاد في الصوم والمثابرة في القراءة وأعمال الرحمة والبر والشفقة
والسخاء تنزع منا ولا تبقى مع فاعليها؟ مع أن الرب نفسه وعد بملكوت السموات لأجل
هذه الأعمال، إذ يقول: “تعالوا يا مباركي أبي رِثُوا الملكوت المعَدَّ لكم
منذ تأسيس العالم. لاني جُعْتُ فأطعمتموني، عطشتُ فسقيتموني…” (مت34: 25،35).
فكيف تُنزع الأعمال التي بها ينال صانعوها ملكوت السموات؟!

 

10-
موسى: إنني لم أقل بأن جزاء العمل الصالح يزول، فالرب نفسه يقول: “من سقى أحد
هؤلاءِ الصغار كأس ماءٍ بارد فقط باسم تلميذٍ، فالحق أقول لكم انه لا يُضِيع
اجرَهُ” (مت42: 10)، بل أؤكد أن فعل أي عمل سواء كان من ضروريات الجسد أو
لضبطه… كل هذه الأعمال رغم ضروريتها والالتزام بها لكنها ستنتهي.

 فالمثابرة
على القراءة والزهد في الصوم لهما أهميتهما في تنقية القلب وقمع الجسد في هذه
الحياة وحدها، طالما أن الجسد يشتهي ضد الروح (غل17: 5)، بل وأحيانًا تنتهي في هذه
الحياة وذلك كما في حالة إنهاك القوة بسبب التعب الشديد أو المرض الجسدي أو كبر
السن حيث لا يقدر الإنسان على تنفيذها، وبالأكثر تنتهي هذه الأعمال عندما يلبس هذا
الفاسد عدم فساد (1كو53: 15)، ويُقام الجسد الحيواني جسدًا روحيًا (1كو 44: 15)،
ولا يعود الجسد يشتهي ضد الروح.

 ويوضح
الرسول بولس ذلك بجلاء بقوله “لأن الرياضة الجسديَّة نافعة لقليل، ولكن
التقوى (وبالتأكيد يقصد بها المحبة) نافعة لكل شيءٍ، إذ لها موعد الحياة الحاضرة
والعتيدة” (1تى8: 4). فما قيل عنه إنه نافع لقليل هو ما لا نفعله كل حين
والذي لا يمكن به في ذاته الوصول إلى الكمال الأسمى، ففي قوله لقليل يقصد به أحد
معنيين:

 الأول:
من جهة قصر الوقت، فالرياضة الجسدية لا يمكن القيام بها في هذه الحياة الأرضية
والحياة العتيدة.

 الثاني:
قد يكون ذلك إشارة إلى أن الفائدة أقل من الثانية، فالرياضة الجسدية تؤدى بنوع ما
إلى بداية التقدم، ولكنها ليست مثل كمال المحبة التي وعد بها في هذه الحياة
والحياة العتيدة.

 إذن
الأعمال السابق ذكرها هامة، إذ بها نصعد إلى مرتفعات المحبة. فتكون الأعمال التي
ندعوها أعمال عبادة ورحمة ضرورية في هذه الحياة، حيث يوجد الظلم والجور بين البشر…
لكن لا وجود لها في الحياة العتيدة حيث يسود العدل، فيتحول البشر عن الأعمال
الصالحة إلى حب الله، والتأمل في السماويات في نقاء قلب دائم. وهذا الأمر اختاره
الذين كرسوا حياتهم للمعرفة ونقاوة القلب، باذلين كل جهدهم لكي يخضعوا له وهم بعد
في الجسد، وتكمل نقاوة قلبهم حينما ينزع عنهم الفساد وينالون وعد الرب المخلص
القائل: “طوبى للأَنْقِياء القلب، لأنهم يعاينون الله”.

 

11-
خلود المحبة أو نقاوة القلب

 لماذا
نندهش من أن هذه الأعمال السابق ذكرها ستبطل بينما يخبرنا الرسول الطوباوي أنه حتى
عطايا الروح القدس العظمى ستنتهي، مشيرًا إلى أن المحبة وحدها هي التي تبقى إلى
الأبد، إذ يقول “..وأمَّا النبوَّات فستبطل والأَلسِنَة فستنتهي والعلم
فسيُبطَل” (1كو8: 13). أما عن المحبة فيقول “المحبَّة لا تسقط أبدًا..”.

 فالعطايا
توهَب إلى حين من أجل الحاجة إليها لاستخدامها، فإذا ما انتهى عملها زالت، أما
المحبة فلا تسقط أبدًا، لأن المحبة لا يتوقف نفعها عند هذه الحياة بل يتعداها إلى
الحياة العتيدة، فإذ تزول أثقال احتياجات الجسد تستمر المحبة في نشاط أعظم وسعادة
أوفر، فلا تعود بعد تضعف بتأثيرٍ ما، بل بعدم فسادها الدائم تلتصق بالله بأكثر
نشاط وغيرة.

 

12-
أسئلة حول التأمل الدائم في الله

 جرمانيوس:
ومن يستطيع أن يبقى على الدوام في هذا التأمل وهو مثقل بالجسد الضعيف، دون أن يفكر
قط في وصول أخ أو زيارة مريض أو في عمل يدوي، على الأقل يهتم بالغرباء والزائرين؟!
ومن الذي لا يتعطل بإعالته جسده واعتنائه به؟ وبأي وسيلة يمكن للعقل أن يلتصق
بالله غير المنظور وغير المدرك؟ هذا ما نود أن نتعلمه.

 

13-
يستحيل على الإنسان وهو مازال في هذا الجسد الضعيف أن يلتصق بالله تمامًا ويلازم
التأمل فيه على الدوام (بلا انقطاع). لكن يلزمنا أن نعرف الهدف الماثل أمام أعيننا
والغرض الذي تسعى إليه نفوسنا، فنفرح قدر ما يتحقق، ونحزن ونتنهد عندما ننحرف عنه.

فإذا
ما اكتشفت النفس فشلها في التأمل في الله، تكون بذلك قد سقطت عن الخير الأعظم،
آخذة في اعتبارها أن ابتعادها عن التأمل في الرب يسوع ولو إلى حين يعتبر زنا، فإذا
ما انحرف نظرنا عنه ولو قليلاً نعيد إليه أنظار أرواحنا ثانية، متذكرين موضوع
تأملنا وشغلنا الشاغل.

كل
شيء يتوقف على عقلنا الداخلي، فإذا ما طُرد منه الشيطان لا يصير للخطية سلطان
علينا ويكون ملكوت السماوات فينا، إذ يقول الإنجيلي: “..لا يأْتي ملكوت الله
بمراقبةٍ. ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك لان ها ملكوت الله داخلكم” (لو
20: 17، 21).

ففي
“داخلكم” إما معرفة الحق أو جهله، الابتهاج بالفضيلة أو الرذيلة، وبهذا
نُعد قلوبنا لملكوت المسيح أو ملكوت الشيطان.

ويصف
الرسول الملكوت قائلاً: “لان ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا. بل هو برّ وسلام
وفرح في الروح القدس” (رو17: 14)، فإن كان ملكوت الله داخلنا وهو بر وسلام
وفرح، فإن من يتمم هذه يكون في ملكوت الله. وعلى العكس من يعيش في الشر والنزاع
والحزن الذي للموت يكون في ملكوت الشيطان وفي الجحيم والموت، بهذا يتميز ملكوت
الله عن ملكوت الشيطان.

فإذا
ارتفعنا بعقولنا إلى فوق لنتأمل القوات السمائية التي هي بالحقيقة في ملكوت
السماوات، ماذا نتصورهم سوى انهم في فرح دائم أبدي؟! فأي شيء يليق بالسعادة
الحقيقية مثل الهدوء الدائم والفرح الأبدي؟!

ينبغي
علينا أن نؤكد أن ما قلته ليس من ذاتي، بل حسب حكم الله الذي كشف بوضوح عن ذلك
بالقول: “لاني هانذا خالق سموات جديدة وأرضًا جديدة فلا تُذكَر الاولى ولا
تخطر على بالٍ. بل افرحوا وابتهجوا إلى الابد في ما أنا خالق..” (إش17: 65،18).
مرة أخرى يقول: “..الفرح والابتهاج يوجدان فيها. الحمد وصوت الترنم”
(إش3: 51). ويقول: “..ابتهاج وفرح يدركانهم . ويهرب الحزن والتنهُّد”
(إش10: 35).

وإن
أردت أن تعرف بأكثر وضوح عن الحياة التي في مدينة القديسين، أنصت إلى ما يعلنه صوت
الله عن أورشليم السمائية قائلاً: “..واجعل وكلاءَكِ سلامًا وولاتكِ برًّا.
لا يُسمَع بعد ظلم في أرضك ولا خراب أو سحق في تخومكِ بل تسمّين أسوارك خلاصًا
وأبوابكِ تسبيحًا. لا تكون لك بعد الشمس نورًا في النهار ولا القمر ينير لك مضيئًا
بل الرب يكون لك نورًا أبديًا وإلهك زينتك” (إش17: 60-19).

ولا
يتحدث الرسول عن الفرح بغير تمييز… بل يوضح مؤكدًا نوعه أنه “..في الروح
القدس” (رو17: 14)، إذ يعرف تمامًا الفرح الممقوت الذي نسمع عنه “..العالم
يفرح..” يو20: 16، “..ويل لكم أيها الضاحكون الآن لانكم ستحزنون
وتبكون” (لو25: 6).

يلزمنا
بالحق أن ننظر إلى ملكوت السموات من جوانب ثلاث:

ا
– إما أنه سيملكه القديسون حيث تخضع لهم الأمور، وذلك كالقول: “..فليكن لك
سلطان على عشر مدن… وكُنْ انت على خمس مدن” (لو17: 19،19)، وما قيل
للتلاميذ “..تجلسون أنتم أيضًا على اثني عشر كُرسيًّا تدينون اسباط اسرائيل
الاثنى عشر” (مت28: 19).

ب
– أو أن السموات تُملك بالسيد المسيح حيث كل الأشياء تخضع له “..يكون الله
الكل في الكل” (1كو28: 15).

ج
– أو أن القديسين سيملكون مع الله في السموات.

 

14-
أبناء الملكوت أحياء يتأملون ويسبحون الله حتى وإن ماتوا

من
ثم ليأخذ كل إنسان في اعتباره أنه سيكون له نصيب في ذلك، فلا يشك في أنه سيشارك في
الحياة الأبدية (الرب) الذي يخدمه… إذ يقول: “إن كان أحد يخدمني فليتبعني.
وحيث أكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي..” (يو26: 12).

وكما
أن ملكوت الشيطان يكون بقبول الخطية، فإن ملكوت الله يُنال بعمل الفضيلة في نقاوة
قلب وبمعرفة روحية, وأينما وجد ملكوت السماوات فبالتأكيد تكون الحياة الأبدية بفرح،
وحيثما وجد ملكوت الشيطان فبلا شك يوجد الموت والقبر. ومن يكون في ملكوت الشيطان
لن يقدر أن يحمد الله، إذ يخبرنا النبي قائلاً: “ليس الأموات يسبّحون الرب
ولا مَن ينحدر إلى أرض السكوت. أما نحن (الأحياء الذين نعيش للَّه وليس للخطية أو
للعالم) فنبارك الرب من الآن وإلى الدهر، هللويا” (مز 17: 115، 18). “لأنهُ
ليس في الموت ذكرك. في الهاوية (الخطية) مَنْ يحمدك” (مز 5: 6). فالإنسان ليس
كيفما كان، بل ولو دعي نفسه مسيحيًا آلاف المرات أو راهبًا لا يقدر أن يعترف بالله
إن كان يخطئ متمسكًا بخطيته.

من
يسمح لنفسه أن يصنع ما يكرهه الله لا يقدر أن يعترف بالله، أو يدعي نفسه أنه خادم
الله. لأن من يحتقر وصايا الله بحماقةٍ وطياشة يسقط في الموت الذي تسقط فيه
الأرملة المتنعمة الذي يقول عنها الرسول: “وأما المتنعمة فقد ماتت وهي
حية” (1تي6: 5).

على
هذا يوجد كثيرون أحياء بالجسد لكنهم أموات ولا يقدرون على التسبيح لله… وهناك كثيرون
قد ماتوا بالجسد لكنهم يسبحون الله بأرواحهم. إذ يقال: “باركوا الرب يا أرواح
ونفوس الصديقين..” (راجع دا 86: 3 – الأسفار القانونية الثانية)، “كل
نسمةٍ فلتسبح الرب” (مز 6: 150)، وفي سفر الرؤيا نجد نفوس الذين قُتلوا ليس
فقط تسبح الله بل وتطلب منه (رؤ 9: 6، 10). وفي الإنجيل يقول الرب للصدوقيين في
وضوح تام: “..أَفما قرأْتم ما قيل لكم من قِبَل الله القائل أنا إلهُ إبراهيم
وإلهُ اسحق وإلهُ يعقوب، ليس الله إله أموات بل إله أحياءٍ (لأن الكل يحيا
فيه)” (مت 31: 22-32). وعمن يتحدث الرسول قائلاً: “..لذلك لا يستحي بهم
الله ان يُدعَى إلههم لأنه اعدَّ لهم مدينةً” (عب 16: 11)؟! فانفصالهم عن
الجسد لا يجعلهم بلا عمل ولا يفقدهم الإحساس والشعور…

وإذا
تفهمنا بدقة الكلمات التي قيلت للص: “..اليوم تكون معي في الفردوس”
(لو43: 23)، لظهر بوضوح أن صفات النفس لا تلازمها فحسب بل ويصير للنفس في حالتها
الجديدة (بعد انفصالها عن الجسد) صفات تتناسب مع عملها واستحقاقها. فما كان الرب
يَعِد اللص بذلك لو أنه يعلم بأن نفسه تفقد تمييزها وإدراكها أو تتحلل بسبب
انفصالها عن الجسد. فالداخل إلى الفردوس نفسه وليس جسده. لذا يلزمنا على الأقل أن
نتجنب الأقوال التي توقف تمتع النفس بالميراث… ولقد كشف السيد المسيح أن النفوس
المنفصلة عن الجسد ليس فقط تزول عنها متاعب الجسد، بل تشعر بالأمل والفرح ولا يصير
بعد حزن أو خوف. إنها للحال تبتدئ تتذوق مما قد حفظ لها في يوم الدينونة العظيم،
إنها لا تتحلل إلى العدم عند انفصالها من الجسد كما يظن غير المؤمنين، بل تحيَ
الحياة الحقيقية ويزداد شغفها نحو التسبيح للَّه.

لنترك
البراهين الكتابية قليلاً ولننظر بقدر المستطاع إلى طبيعة النفس ذاتها. فإننا لا
نكون جهلاء بل متهورين ومملوءين حماقة إن كان لدينا شك في أن ذلك الجزء النبيل في
الإنسان، والذي يقول عنه الرسول الطوباوي، أنه على صورة الله ومثاله[1] يصير
عديمًا للحس عندما يُلقى عنه الجسد ويترك هذا العالم.

النفس
التي تهب الجسد العديم الحس أن يكون عاقلاً بمشاركته لها، خاصة إن اتبعها. والأمر
عينه من جهة العقل، الذي متى تأثر بثقل الجسد يهبط عملِه، لكن النفس تُعيد إليه
قُواه أحسن مما كان عليه…

وقد
نادى الرسول الطوباوي بذلك معلنًا صدق قولنا مشتاقًا إلى الانفصال عن الجسد حتى
يتمكن من أن يفرح بالله بأكثر غيرة، قائلاً: “..لي اشتهاء أن انطلق وأكون مع
المسيح، ذاك افضل جدًّا” (في23: 1). “..ونحن مستوطنون في الجسد فنحن
متغرّبون عن الرب… فنثق ونسرُّ بالأَولى أن نتغرَّب عن الجسد ونستوطن عند الربّ.
لذلك نحترس أيضًا مستوطنين كنا أو متغرّبين أن نكون مَرضيِيّن عندهُ” (2كو6: 5-9).
إنه يعلن أن بقاء النفس في الجسد هو تغرب عن الله وابتعاد عن المسيح، ويؤمن
إيمانًا كاملاً أن الابتعاد والانفصال عن الجسد فيه وجود في حضرة المسيح (وجهًا
لوجه).

مرة
أخرى يكشف الرسول بوضوح أن هذه الأرواح أكثر حيوية بقوله: “بل قد أتيتم إلى
جبل صهيون وإلى مدينة الله الحيّ أورشليم السماوَّية والى ربواتٍ هم محفل ملائكةٍ
وكنيسة أبكارٍ مكتوبين في السموات… وإلى أرواح أبرار مكمَّلين” (عب22: 12،23).
ويقول أيضًا عن هذه الأرواح: “ثم قد كان لنا آباءُ أجسادنا مؤَدّبين وكُنَّا
نهابهم، أَفلا نخضع بالأَولَى جدًّا لأَبي الأرواح فنحيا” (عب9: 12).

 

15-
كيف نتأمل في الله؟

يمكننا
التأمل في الله بطرق عدة. فلا نعرف الله فقط عن طريق اندهاشنا من جوهره المخفي غير
المدرك… لكن يمكننا أن نراه أيضًا في عظمة أعماله في الخليقة، وفي التطلع إلى
عدالته، والتأمل في معونة نعمته اليومية، وعندما نتأمل بعقل نقي في أعمال الله في
قديسيه عبر كل الأجيال، ونتأمل بقلوب مرتجفة لقوته التي بها يحكم كل الأشياء
ويوجهها وينظمها، أو نعجب من علو معرفته وعلمه لكل خفايا القلب. إن أخذنا في
اعتبارنا معرفته لعدد رمال البحر وموجات البحر، وقطرات الأمطار، وأيام أعمارنا
وساعاتها، وكل الأمور الماضية والمستقبلة هي حاضرة قدامه.

إننا
نتطلع في دهش أمام محبته التي بلا حدود ولا يُنطق بها، وطول أناته اللانهائية،
وغفرانه في كل لحظة لخطايانا التي نعترف له بها بلا حساب، ودعوته لنا رغم عدم
استحقاقنا السالف بل بنعمته ورحمته. كذلك فرص الخلاص التي يقدمها لنا بغير حدود،
واهبًا لنا التبني، متعهدًا إيانا منذ الطفولة بالنعمة ومعرفة نواميسه. ووهب لنا
أن نغلب به العدو (الشيطان) خلال إرادته الصالحة فينا، مقدمًا لنا السعادة الأبدية
والأكاليل الدائمة. كذلك تعهده بتدبير التجسد من أجل خلاصنا واتساع عجائب أسراره
التي يقدمها للأمم جميعًا.

وهكذا
تكون رؤيتنا للأمور العلوية بحسب صلاح حياتنا ونقاوة قلبنا، إذ يصير هذا القلب
الذي كعينين نقيتين نعاين به الله ونحتضنه. هذه الرؤيا بالتأكيد لا يمكن لأحد أن
يحتفظ بها ما دامت ميوله الجسدية قائمة، إذ يقول الرب: “..لا تقدر أن ترى
وجهي، لأن الإنسان لا يراني ويعيش” (خر20: 33)، أي من له ميول زمنية او أرضية
يفقد البصيرة الداخلية.

 

16-
سؤال: هل يمكن للإنسان أن يمنع الأفكار التي تشوش نقاء ذهنه، لينعم بالتأملات
الإلهية؟

جرمانيوس:
كيف تتسلل إلينا أفكار الكسل خفية رغم إرادتنا وعدم معرفتنا، حتى يصعب جدًا ليس
فقط طردها بل أيضًا مجرد معرفتها؟ هل يستطيع العقل أن يتحرر منها ولا يحارب قط
بمثل هذه الخداعات؟

 

17-
موسى: يستحيل على العقل أن يمنع اقتراب الأفكار إليه، لكن في استطاعة الإنسان
المجتهد أن يقبلها أو يرفضها. فظهور الفكر لا يعتمد على إرادتنا، لكن قبوله او
رفضه في مقدورنا.

إن
كنا قد قلنا بأننا لا نستطيع منع الأفكار من الاقتراب نحو العقل، فإنه ينبغي علينا
ألا نحتج بهجومها… متجاهلين حرية إرادتنا، وإلا لا يكون إصلاحنا في أيدينا.
لكنني أقول إلى حد كبير أنه في قدرتنا تمييز الأفكار التي تطرح علينا، هل هي أفكار
مقدسة روحية أو أفكار أرضية، هل نقبلها لتنمو في داخل قلوبنا أم ننزعها سريعًا
لئلا تفسدنا.

لهذا
الغرض نستخدم القراءة المستمرة، والتأمل الدائم في الكتاب المقدس كفرصة لتهيئة
القلب وانشغاله بالروحيات. وأيضًا التسبيح بالمزامير يقودنا للشعور بالندامة
باستمرار. كما أنه بحياة السهر والصوم والصلاة باجتهاد نسمو بالعقل عن الأمور
الأرضية متأملين في الأمور السماوية.

فإذا
ما أُهملت هذه الأمور وتُركت، بالتأكيد ينحرف العقل نحو الميول الجسدية، ويسقط في
دنس الخطية…

 

18-
تشبيه العقل بطاحونة الهواء

يليق
بنا مقارنة حركة القلب بعجلة طاحونة الهواء. فالمياه تندفع بسرعة… ولا يمكن
إيقافها مادامت العجلة تعمل… لكن في استطاعة الإنسان أن يوجه المياه في زراعة
الحنطة أو الشعير أو الزوان، وهذا يتوقف على اختيار الإنسان الموكل إليه العمل.

 بالرغم
من قوة تأثير تيارات الإغراءات في هذا العالم، التي تضغط على العقل من كل جانب،
حتى أنه لا يقدر أن يكون متحررًا من تدفق الأفكار، إلا أن نوع الأفكار التي تتسلل
إليه وتأتيه تتوقف على جهاده. فمتى كنا دائمي التأمل في الكتب المقدسة، موجهين
أذهاننا إلى الأمور الروحية، راغبين في بلوغ الكمال، مترجين السعادة العتيدة،
ترتفع أفكارنا الروحية، ويحي عقلنا فيما نتأمل فيه.

لكننا
إن غُلبنا بالكسل والإهمال وأضعنا وقتنا في فلسفة الكلام أو عاقتنا اهتمامات هذا
العالم ومباهجه الزائلة وغير النافعة، تظهر بعض أنواع الزوان وتضرّ قلوبنا، وكما
يقول إلهنا ومخلصنا بأنه حيث يوجد كنز أعمالنا أو هدفنا هناك بالتأكيد تكون قلوبنا
(مت21: 6).

 

19-
مصادر الفكر

يلزمنا
قبل كل شيء أن نعرف على الأقل أن هناك ثلاثة مصادر للفكر: الله، والشيطان، وذواتنا.

يأتي
الفكر من الله عندما يهبنا الله أن يفتقدنا بإنارة الروح القدس، رافعًا إيانا إلى
تقدم عظيم… ويقوم الله بتأديبنا تأديبًا نافعًا متى تباطأنا في النمو أو غُلبنا
بالكسل. إنه يكشف لنا أسرار السماوات، ويحوِّل أهدافنا إلى الأعمال الفضلى، وذلك
كما فعل بأحشويرش الذي أدبه الله، والذي حثه أن يسترجع ما قد كتب في الأخبار بخصوص
أعمال مردخاي العظيمة… كذلك يقول النبي: “أني اسمع ما يتكلم بهِ الله الرب..”
(مز 8: 85). ويخبرنا آخر: “فقال لي الملاك الذي كلمني..” (زك 14: 1).
ويقول الرب: “لان لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم”
(مت20: 10). ويقول الإناء المختار: “إذ انتم تطلبون برهان المسيح المتكلّم
فيَّ..” (2 كو 3: 13).

كذلك
تنبع سلسلة أفكار من الشيطان وذلك بسبب حسده لنا، راغبًا تدميرنا إما بمباهج
الخطية او بهجماته السرية فهو يخدعنا بحِيَله الخبيثة، مظهرًا الشر كما لو كان
خيرًا، ومعلنًا ذاته في صورة ملاك نوراني (كو 14: 11). ويخبرنا الإنجيلي: “فحين
كان العشاءُ وقد أَلقَى الشيطان في قلب يهوذا سمعان الإسخريوطي أن يسلّمهُ”
(يو2: 13). ويقول بطرس لحنانيا: “..لماذا ملأَ الشيطان قلبك لتكذب على الروح
القدس..” (أع 3: 5). وجاء في سفر الجامعة “إن صعدَتْ عليك روح المتسلط
فلا تترك مكانك..” (جا 4: 10). وهذا أيضًا ما قيل ضد آخاب في الكتاب الثالث
للملوك عن الروح غير المنظور “..اخرج وأكون روح كذبٍ في أفواه جميع أنبيائهِ..”
(1 مل 22: 22).

وتصدر
الأفكار من ذواتنا إذ بطبيعتنا نتذكر ما نفعله أو فعلناه أو سمعناه. ويقول عن ذلك
الطوباوي داود: “تفكرت في أيام القدم السنين الدهرية. اذكرُ ترنميْ في الليل.
مع قلبي أناجى وروحي تبحث” (مز 5: 77، 6). مرة أخرى يقول: “الرب يعرف
أفكار الإنسان أنها باطلة” (مز 11: 94)، “أفكار الصدّيقين عدل..”
(أم 5: 12). وفي الإنجيل يقول الرب للفريسيين: “لماذا تفكرون بالشرّ في
قلوبكم؟!” (مت 4: 9).

 

20-
تمييز الأفكار

يلزمنا
أن نراعى بكل حرص هذا الأمر المثلث الجوانب، فلنختبر الأفكار التي تهاجمنا ببصيرة
وحكمة، لندرك ما هو مصدر الفكر وأسبابه منذ بدايته. وبهذا يمكننا أن نأخذ في
اعتبارنا هل نخضع له وذلك حسب نوع مقترحه، فنكون كالصيارفة الحكماء كما يعلمنا
بذلك الرب. إذ هم بمهارتهم وخبرتهم يميزون الذهب النقي الخالص الذي تنقى بالنار
كما ينبغي، وبمهارتهم لا ينخدعون بقِطع النحاس المغشاة بطبقة خفيفة من الذهب والتي
تبدو ذات قيمة عظيمة… إنهم بذكائهم ومهارتهم يدركون تمامًا العملات المزيفة التي
يصكها كبار المخادعون…

هكذا
يلزمنا أولاً أن نختبر بكل حرص كل فكر يدخل إلى قلوبنا وكل تعليم نتلقنه لنرى ما
إذا كان قد تنقى بنار الروح القدس الإلهي السماوي، أو ينتمي إلى ضلال الهراطقة، أو
هو ثمرة كبرياء الفلسفة البشرية التي ليس لها إلا سطحيات التديّن.

نستطيع
أن نعمل هذا إن سلكنا بنصيحة الرسول القائل “أيها الأحباءُ لا تصدّقوا كلَّ
روحٍ بل امتحنوا الارواح هل هي من الله…” (1 يو1: 4). ينخدع البعض بهذا
النوع، فيغويهم حُسن التنسيق، والتعاليم الفلسفية التي تخدع لأول وهلة بما فيها من
بعض المعاني الورعة التي تتفق مع الدين، وذلك كما يخدع بريق الذهب ناظريه. هؤلاء
تجذبهم المظاهر، لكن سرعان ما يشعرون أنهم في الواقع قد خرجوا فارغي اليد، ويسقطون
في اليأس ويكونون كمن قد انخدعوا بالنقود النحاسية المغشوشة.

هذه
الأفكار أو التعاليم، إما أن تجذبهم إلى الانهماك في العالم، أو تسقطهم في أخطاء
الهراطقة، وتنحدر بهم إلى الكبرياء الباطل…

ومن
جهة أخرى يلزمنا أن نحرص لئلا يوضع أمامنا تفسير خاطئ للذهب النقي الذي هو الكتاب
المقدس فننخدع… وقد استخدم الشيطان هذه الوسيلة لكي يخدع بها سيدنا ومخلصنا الذي
بدا ربنا كأنه إنسان عادي، إذ بتفسيره (الشيطان) المضلل حاول أن يفسد ما يفهمه
الصالحون (مت4). لقد حاول أن يثبت تفسيره… فلفت أنظارنا إلى الأقوال القيِّمة
التي للكتاب المقدس محرفًا تفسيرها لنفهمها فهمًا خاطئًا يختلف كليةً عن المعنى
الحقيقي…

كذلك
يحاول أن يخدعنا بالتزييف، كأن يحثنا على الانشغال ببعض أعمال الرحمة (بطريقة غير
سليمة). وهو بهذا يظهر كأنه يتكلم بفكر الآباء الحقيقي، فيقودنا إلى الرذيلة في
شكل الفضيلة، فيخدعنا بالأصوام أو الأسهار الطويلة، أو الصلوات الزائدة عن الحد،
أو القراءات الغير مناسبة، وبهذا يجذبنا إلى نهاية سيئة.

وأيضًا
يغوينا بأن نسلم أنفسنا إلى الاعتناء بالآخرين والافتقاد الروحي، وهو بهذا ينتزعنا
عن وجودنا الروحي في الدير، ولينزع عنا سر الهدوء الملازم لنا، ويقترح علينا أن
نأخذ على عاتقنا الاهتمام بضيقات النساء المتدينات اللواتي في عوز وإشباع احتياجهن.
فإذا ما ارتبك الراهب وسقط في أمر كهذا يجعله قلقًا بهذه الأعمال والاهتمامات
الضارة.

كذلك
عندما يحرص الراهب أن يشتاق إلى وظيفة كهنوتية مقدسة، بحجة تعليم الناس وحبه لربح
النفوس، وهو بهذا يجذبنا بعيدًا عن التواضع والتدقيق في حياتنا.

هكذا
يقدم لنا كل الأمور التي تعترض خلاصنا ولا تتناسب مع عملنا، غير أنه يخفيها بغطاء،
أو يحجبها بحجاب من الشفقة والدين، لكي يخدع بسهولة من تنقصهم المهارة والحرص.

إنهم
يقلدون عُملة الملك الحقيقي، إذ يظهرون هذه الأعمال مملوءة شفقة، لكن لم يصكها
الذين لهم هذا الحق، أي لا تتفق مع فكر آباء الكنيسة الجامعة، ولا يحصلون عليها من
المكتب العام المخصص بتسليمها، إنما تصك خلسة بخداع شيطاني ويدسونها لغير الماهرين
والجهلاء…

وإذ
تبدو في البداية نافعة ولازمة، إلا أنه بعد ذلك تبدأ تتغلغل داخل سلامة عملنا
وتضعف كل كيان هدفنا بعدة أساليب. لذلك حسنٌ أن تقطع هذه الأفكار وتبعد عنا، وذلك
كما لو كانت عضوًا فاسدًا، الذي وإن بدا لازمًا لكنه مضر لنا. فإنه من الأفضل أن
نكون بدون هذا العضو من وصية ما، أي أننا لا ننفذها ونبقى في سلام وأمان وندخل
ملكوت السماوات هكذا عن أن نخطئ في كل الوصايا عن طريق خداع الشيطان الذي يقدم لنا
أن ننفذ وصية ما، وبواسطتها يحرمنا من نظامنا الدقيق وترتيبنا، وهكذا تصير لنا
خسارة تفوق في أهميتها أي ضرر لاحق، وتدفع بكل جهادنا السابق وكل جسد أعمالنا إلى
الحرق في نار جهنم (مت 8: 18).

قيل
عن هذه الأنواع من الخداع “تُوجَد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق
الموت” (أم 25: 16). وأيضًا “ضررًا يُضَرُّ من يضمن غريبًا..” (أم
15: 11). فالشيطان يخدعنا بأخذه مظهر القداسة…

 

21-
مثال: انخداع الأب يوحنا

 لقد
سمعنا عن الأب يوحنا الذي كان يقطن في[2]
Lycon، وقد انخدع منذ
فترة قصيرة. فقد أنهك جسده وأعياه، وإذ صام يومين وفي اليوم الثالث بينما كان
ذاهبًا ليأخذ بعض القوت ظهر له الشيطان في صورة سوداء قذرة وسقط تحت قدميه قائلاً:
“عفوًا. فإني سأقوم لك بهذا العمل”. فانخدع الرجل العظيم بمكر الشيطان
وحسب أن هذا العمل لا يتناسب معه بسبب زهده. فازداد في الصوم متظاهرًا بإنهاك قوى
جسده وصار في حالة ملل كان في غنى عنها، وهكذا أضر الرجل روحه وانخدع بالعملة
المزيفة…

كما
سبق أن أشرنا أنه يلزم على الصراف الحكيم أن يختبر وزن العملة فيتحقق الفكر الذي
يخطر علينا، ويضعه على ميزان قلبه ويزنه بميزان دقيق. فقد يكون العمل (الذي يبثه
الفكر) مملوء بالخير للجميع أو مثقلاً بمخافة الله ونقيًا وكاملاً في ظاهره، لكن
في باطنه تفاخر وزهو بشري أو غرور… يلزم وزن الفكر بالميزان العام أي اختباره
بأعمال وبراهين الرسل الأنبياء النقية كاملة الوزن، نابذين بكل تدقيق وجهاد
الأعمال غير الكاملة المزيفة ناقصة الوزن.

 

23-
طرد الأفكار المزيفة

قوة
التمييز هذه هامة لنا من جوانب أربعة من جهة موضوع حديثنا:

 أولاً:
أن ندرك إن كان معدنها ذهبًا نقيًا أم مجرد مغطاة بالذهب.

 ثانيًا:
يلزمنا أن نستبعد الأفكار التي تعهد إلينا بأعمال مزيفة خاصة بالدين، كما لو كانت
عملة مزيفة، صكت بغير حق، وتحمل صورة مزيفة للملك.

ثالثًا:
بنفس الطريقة يلزمنا أن تكون لدينا القدرة على تمييز تلك الأفكار التي تشرح ذهب
الكتاب المقدس الخالص، شرحًا خاطئًا وهرطوقيًا، فتظهر صورة مخادعة لا صورة الملك
الحقيقي.

رابعًا:
يجب علينا أن نرفض أيضًا الأفكار التي استنفذت وزنها وفقدت قيمتها بسبب الغرور،
فلم تعد بعد تصلح في ميزان الآباء بكونها عملات خفيفة جدًا وزائفة… لذلك يلزمنا
أن نتجنب ما قد حذرتنا منه الشريعة الإلهية بكل قوتنا حتى لا نخسر جزاء كل أعمالنا.
“لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون
ويسرقون” (مت19: 6). فإن قمنا بعمل ما ناظرين إلى المجد البشرى، فإننا نعلم
أنه كما يقول الرب نكنز لأنفسنا كنزًا على الأرض، وبالتالي نخفيه في الأرض وندفنه
فيها، فيهلكه الشيطان، ويتلف بصدأ المجد الباطل أو يفسد بسوس الكبرياء فلا ننتفع
منه بشيء.

يلزمنا
أن نفتش باستمرار كل غُرفنا الداخلية في القلب، ونقتفي آثار كل ما يدخل فيها،
وندقق في بحثها لئلا تدخل إحدى الحيوانات المفترسة. إنني أنطق بهذا خشية أن يدخل
أسد أو تنين خلسة تاركًا آثارًا خطيرة وتكشف لغيرها طريق الدخول إلى مخابئ قلبنا،
وذلك بسبب إهمالنا في تمييز أفكارنا.

لذا
يجب أن نقلب أرض قلبنا بمحراث الإنجيل يوميًا، بل كل ساعة، أي أن نتذكر صليب
المسيح على الدوام، فنحطم في قلوبنا كل عرين للحيوانات المفترسة المهلِكة ونزيل
موضع اختباء الثعابين السامة.

 

23-
وعده بأن يحدثنا عن “التمييز”

وإذ
رأي الشيخ اندهاشنا والتهاب قلبنا بكلمات حديثه، وشوقنا المتزايد، توقف قليلاً عن
الكلام… ثم أضاف قائلاً: “يا أولادي. أنه من أجل غيرتكم في سماع النقاش
الطويل وبسبب شغفكم كانت تلك النار تمدكم باللذة والاشتياق نحو مناظرتنا. ومن هذا
أتبين بوضوح تعطشكم نحو التعلم عن الكمال. إنني أود أن أحدثكم شيئًا عن عظمة
“التمييز”، والنعمة التي تحكم الإنسان وتجعله يقتني كل الفضائل، غير
مبرهن عليها بالأدلة اليومية إنما بتأملات الآباء وفكرهم.

وإنني
أتذكر أنه عندما كان يسألني أحد بتنهد ودموع للحديث عن هذا الأمر، كنت أنا نفسي
أجد شوقًا للحديث معه عن بعض التعاليم التي لم يكن في استطاعتي أن أنظمها… وبهذا
رأينا بوضوح أن نعمة الله تلهم المتحدث بالكلام حسب احتياج السامعين وغيرتهم.
والآن لا أستطيع إلا أن أنهي حديثي لأن الليل كاد ينتهي، تاركًا الحديث من أجل أن
تستريح أجسادكم… ولنترك تكملة ترتيب المناظرة إلى النهار أو الليل المقبل…

 

ملخص
المبادئ

1
نقاوة القلب تعني ملكية القلب للَّه وحده، أي حبنا للَّه وانشغالنا به وتأملنا فيه
على الدوام. وهو الترمومتر الدقيق لقياس مدى إخلاص العبادة وتزييفها.

2
العبادة من صوم وصلاة وصدقة ونسك… غايتها نقاء القلب الذي هو طريق الملكوت. وكل
وسيلة من وسائل العبادة – مهما بلغ قدرها – تفقد كيانها بل وتضلل الإنسان وتخدعه
إذا لم يكن هدفها نقاوة القلب.

3
الإنسان في هذا الجسد الضعيف يبغي كمال النقاوة، يفرح روحيًا قدر ما يقترب منها،
ويلزمه أن يحذر لئلا ينحرف عنها، وذلك بفضل عمل الروح القدس الساكن فيه والذي يهبه
روح الحكمة أو التمييز (الإفراز) مع الجهاد في خطوات عملية منها:

 

ا-
الاهتمام بحياة التسبيح للَّه والشكر لأن هذا هو عمل أبناء الملكوت.

ب-
التأمل في عظمة الخالق ومحبته وعنايته بنا.

ج-
التأمل في الصليب كينبوع لا ينضب نرى فيه حب الله اللانهائي واهتمامه بنا.

د-
القراءة المستمرة والتأمل الدائم في الكتاب المقدس.

ه-
السهر والصوم والصلاة بقصد رفع العقل عن الأرضيات.

 و-
التمييز بين مصادر كل فكر، لأن أفكارًا كثيرة تبدو مقدسة وهي مضللة، مثال ذلك: أفكار
تحث الراهب على الخدمة في العالم وخاصة أثناء الصلاة، وتشوق الكاهن المتزوج
للرهبنة، انشغال الإنسان بخطيته بصورة تفقده سلامه الداخلي وتجعله قانطًا كئيبًا
مدفوعًا نحو اليأس، والتفكير في مراحم الله وحنانه أثناء استهتارنا وجعل ذلك
ستارًا لعدم التوبة…

____________________________

[1]
راجع 1كو7: 11، كو10: 3

[2]
Lycon أو Lycopolis ليكوبوليس وتدعى حاليًا أسيوط في الجنوب الشرقي لهرموبوليس
(المنيا).

 

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى