علم

نجم المشرق



نجم المشرق

نجم
المشرق

يوحنا
ذهبي الفم

مقدمة

بين
القديس يوحنا الذهبي الفم والرسول بولس

العظتان
اللتان بين أيدينا هما تعليقات القديس يوحنا الذهبي الفم على قصة مجيء المجوس
وسجودهم للرب يسوع مُقدِّمين له الهدايا، وهي الواردة في إنجيل معلمنا متى الإصحاح
الثاني.

 

يُوضِّح
فيهما القديس يوحنا مدى كرامة هؤلاء المجوس الذين لقَّبهم ب “السابقين لآباء
الكنيسة” ومَدَحَ إيمانهم، إذ قد جاءوا من بلادٍ بعيدة ليسجدوا للسيد المسيح
وهو بعد طفل مُقمَّط في مذود. كما عََقدَ القديس يوحنا مقارنة بين إيمان هؤلاء
المجوس وحماقة وكبرياء اليهود الذين كان عندهم نبوات عن السيد المسيح منذ مئات
السنين ومع ذلك لم يؤمنوا به. ثم أوضح الذهبي الفم مدى إعجاز أحداث الميلاد وكيف
أنَّ النجم الذي ظهر للمجوس ليس (مجرد نجمٌ عادي) بل كان قوة إلهية عظيمة.

 

وأخيرًا
ختم القديس يوحنا كلامه مُقدِّمًا وصايا عملية لنا جميعًا، إذ كان هذا هو منهجه
دائمًا أن يستخلِص من أحداث الكتاب المقدس وصايا عملية تعيشها الكنيسة مُعتبِرًا
أن الكتاب المقدس والمسيحية هما حياة مُعاشة يجب أن تكون موجودة في كل مسيحي. لذلك
فقد دعا الجميع إلى التشبُّه بالمجوس الذين جاءوا من أقاصي الأرض ليسجدوا للسيد
المسيح وأن يتركوا عنهم الكسل والتراخي، مُثبِّتين أنظارهم على وليد المذود
ومُتجنِّبين أمور العالم الزائلة.

 

ُترجِمَت
هاتان العظتان عن الترجمة الإنجليزية التي ُنشِرت في:

Nicene &
Post-Nicene Fathers

Series II, Volume X

St. Chrysostom,
Homilies on the Gospel of St.Matthew

Homilies VI, VII

 

العظة
الأولى

“ولما
وُلِدَ يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد
جاءوا إلى أورشليم. قائلين أين هو المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق
و أتينا لنسجد له” (مت 1: 1 و2)

 

١.
ما أحوجنا إلي الكثير من الانتباه والصلاة، حتى َنصِل إلي تفسير هذا الَنص الذي
بين أيدينا، فلكي نفهم مَنْ هم المجوس؟ ومَنْ كانوا؟ ومن أين جاءوا، وكيف أتوا؟
ومَنْ الذي أقنعهم بالمجيء؟ وما هو ذلك النجم الذي ظهر لهم؟ دعنا نبدأ إذن بما
يتردد على ألسنة أعداء الحق، الذين ضربهم الشيطان حتى أنَّهم يتسلَّحون ضد كلمة
الله الصادقة.

 

فما
الذي يدَّعيه هؤلاء المعاندون؟ إنَّهم يقولون: “هوذا قد ظهر نجم في السماء
عند ميلاد المسيح نفسه، وهذا دليل على أنَّه باستطاعتنا الاعتماد على التنجيم.”
ونحن نرد عليهم بقولنا: “إذا كان السيد المسيح قد سمح لميلاده بالحدوث طبًقا
لناموس الفلك والنجوم، فلماذا إذن قد حقَّر من شأن التنجيم ونفى مسألة القدر أو
الحظ؟ ولماذا إذن قد سَدَّ أفواه الشياطين وطرح الشر إلي أسفل ورفض ممارسة
السحر؟” ولكن، ما الذي َتعلَّمه المجوس من النجم في حد ذاته؟ هل عرفوا من
خلاله أنَّ المولود هو ملك اليهود؟ بالطبع لم يعرفوا من النجم أنَّ المولود هو ملك
اليهود، وإنْ كان الرب يسوع لم يكن مجرد ملكاً لليهود، بل كما قال لبيلاطس: “مملكتي
ليست من هذا العالم” (يو ١٨: ٣٦). فهو على أيَّة حال
لم يقم بأيَّة استعراضات من هذا النوع، فلم يكن له حراس مُدجَّجين بالحراب والدروع،
ولم يركب الخيل، ولا العجلات التي تجرها البغال، ولم يُحِ ْ ط نفسه بأي شيء آخر من
هذا القبيل. بل عاش حياته بما فيها من فقر وإتضاع، وكان يرافقه أينما ذهب اثنا عشر
رجل من طبقة اجتماعية متواضعة.

 

وحتى
لو عرف المجوس أنَّه ملك، فماذا كان الغرض من قدومهم؟ فمن المُؤكَّد أنَّ عمل
المُنجِّمين ليس أن يعرفوا المواليد من َتتبُّع نجومهم، بل أنْ يتنَّبأوا عما
سيحدث لهم وذلك بمعرفة الساعة التي تَتِمُّ فيها الولادة (1)، وهذا هو ما نعرفه عن
المُنجِّمين والفلك. إلا أنَّ هؤلاء الرجال لم يكونوا حاضرين مع أُم الصبي في آلام
المخاض، ولم يعرفوا الوقت الذي وُلِد فيه الصبي. كما أنَّهم لم يَحسِبوا، اعتمادًا
على حركة النجوم وعلى توقيت ميلاد الصبي، ما الذي يتوقَّعون حدوثه في حياته. بل
على العكس من ذلك تمامًا، فقد رأى هؤلاء الرجال قد رأوا نجمًا يظهر في بلادهم
البعيدة قبل ذلك بزمنٍ، والآن إذا بهم يأتون لرؤية المولود. إنَِّ هذا الموقف يثير
في حد ذاته مشكلة أكبر من المشكلة الأولى. ُترى ما السبب الذي دفعهم للسجود لذلك
المولود الذي كان ملكاً على بلاد بعيدة كل البُعد عن وطنهم، وما المكاسب التي
كانوا يتوقَّعون الحصول عليها من هذا السجود؟ لو كان هذا الملك سوف يحكم بلادهم،
لأمكننا بكل تأكيد الوصول إلى تفسير مُقنِع لهذه الحالة. ومما لا شك فيه أنه لو
كان قد وُلِد في قصور ملكية، ولو كان أبوه نفسه ملكاً وحاضرًا إلي جانبه، لأمكننا
القول أنهم سجدوا للطفل المولود أم ً لا منهم في كسب ود والده العظيم، ومن َثمَّ
يدَّخِرون لأنفسهم مُبرِّرًا قويًا لحصولهم علي الرعاية والاهتمام في المستقبل.
أمَّا وأنَّهم لم يكونوا يتوقَّعون مطلًقا أن يكون هذا الطفل ملكاً عليهم، بل
ملكاً على أمَّة غريبة بعيدة كل البُعد عن بلادهم. وبما أنَّهم لم يروه وقد كبر
وأصبح رجل يُعتَّد به، فلماذا إذن تراهم قد أقدموا على مثل هذه الرحلة الطويلة،
مُقدِّمين هدايا للصبي مع علمهم بأنهم حتمًا كانوا سيواجهون أخطارًا ُتهدِّد
قصدهم؟ فهيرودس، من ناحية، كان في أشد حالاته اضطرابًا عند سماعه لتلك الأخبار،
كما كان الشعب كله أيضًا في حالة من الارتباك عندما وصلت إلى مسامعهم هذه الأخبار.

 

فهل
هؤلاء الرجال لم يتوقَّعوا ما حدث؟! بلى، فإنَّ ذلك ليس أمرًا معقولاً، لأنَّه
مهما كانت حماقتهم، فإنهم بالطبع يعرفون أنَّه عند مجيئهم إلى مدينة تحت حُكم ملك
قوي، وعند مناداتهم بوجود ملك آخر، فلا شك أنَّهم يجلبون الموت على أنفسهم ألف مرة
ومرة.

 

٢.
ثم لماذا يسجدون في الأصل لمولودٍ في أقمطة؟ لأنَّه لو كان رج ً لا مُكتمِل السن،
لأمكننا القول أنَّهم كانوا يتطلَّعون إلى المعونة التي يحصلون عليها منه، الأمر
الذي جعلهم يَزُجُّون بأنفسهم في أخطار كانوا يعرفونها مُسبًَّقا. إلا أنَّ هذا
التفسير أبعد ما يكون عن المعقول، حيث أنَّه من غير المُتوقَّع أنْ يَقبَل الفرس
أو غيرهم من الأمم الذين لا يشتركون مع اليهود في أي شيء على الإطلاق بمغادرة
ديارهم، والتخلِّي عن بلادهم وذويِّهم وأصدقائهم، ويذهبون للخضوع لمملكة أخرى.

 

إذا
اعتبرنا هذا السلوك ضربًا من ضروب الحماقة، فإنَّ ما يترتَّب عليه هو أكثر حماقة.
فما معنى أنهم بعد إقدامهم على مثل هذه الرحلة الطويلة، وسجودهم للمولود،
وتسبُّبهم في حيرة المواطنين، تراهم يرحلون عائدين إلى بلادهم بمثل هذه السرعة؟
وما هي علامة المُْلك التي رأوها عندما أوصلتهم أرجلهم إلى حظيرة، ومذود، وطفل في
أقمطة، وأُمٍ فقيرة؟.. ولمَنْ قدَّموا هداياهم؟ وماذا كان غرضهم؟ هل كان أمرًا
شائعًا ومُعتادًا أنْ يُقدَّم كل هذا التقدير للملوك المولودين في أي مكان؟ وهل
كان هؤلاء الرجال يواظبون على السفر في جميع أنحاء العالم، مُقدِّمين السجود
للأطفال الذين يعلمون بأنَّهم سوف يَصيرون ملوكاً ويعتلون عروشهم على الرغم من
ولادتهم في طبقات اجتماعية متواضعة؟ مرة ثانية نقول كلا، وما من أحد يمكن أن يوافق
على هذا الرأي.

 

ثم
لأي غرض تراهم سجدوا له من الأساس؟ إن كان لأمور حاضرة، فما هو هذا الشيء الذي
كانوا ينتظرون الحصول عليه من طفل رضيع وأُم فقيرة؟ وإنْ كان لأشياءٍ آتية، فمَنْ
ذا الذي أعلمهم أن الطفل الذي كانوا قد سجدوا له وهو في الأقمطة سوف يتذكَّر
صنيعهم في مُستقبَل الأيام؟ هل كانت أمه ستذكره؟ إنَّها لو فعلت ذلك، لما أصبح
هؤلاء الرجال أهلاً للإكرام، بل بالحري للعقاب؛ لكونهم عَرَّضوا المولود لخطر لابد
وأنَّهم قد توقَّعوه. ففي تلك الآونة كان هيرودس مضطربًا، فبحث بالتدقيق، وتجسَّس،
واعتزم أن يقتل الصبي. وبالطبع فإنَّ كل مَنْ يُخبِر بالمَلِك الآتي، مُعَتبِرًا
إياه ذو شأن عظيم وهو لا يزال طف ً لا، إنما يكشف عن الصبي مُقدِّمًا إياه للَذبْح،
ومُشعِ ً لا ضده حربًا لا تنطفئ.

 

لعلَّك
الآن تدرك هذه الخرافات الكثيرة، والتي سرعان ما تتضح لنا إذا ما سلَّطنا الضوء
على هذه الأحداث من وجهة النظر البشرية والتقاليد المُتعارَف عليها. فباستطاعتنا
الحديث عن أمور أخرى كثيرة تحتوي على مضمون يُثير تساؤلات أكثر مما ذكرنا حتى الآن.
ولكن لئلا نُحيِّرك بما ننسجه من تساؤلات متواصلة، دعنا نبادر الآن بالحديث عن
تفسير تلك الأمور التي تساءلنا عنها، على أن نبدأ حديثنا عن التفسير بالنجم نفسه.

 

٣.
فإن كان باستطاعتك أن تعرف ما هو النجم وما هو نوعه، وما إذا كان أحد النجوم
العادية، أم نجمًا جديدًا ومُختلًفا عن باقي النجوم، وما إذا كان نجمًا بالطبيعة
أَم أنَّه كان نجمًا بالظاهر فقط. فإذا تسنَّى لك معرفة ذلك، فسوف يَسهُل عليك
معرفة باقي الأمور أيضًا. ولكن كيف تتضح لنا كل هذه الأشياء؟ يُمكننا أنْ نجد
الإجابة على ذلك بإمعان النظر فيما هو مكتوب (الآيات الواردة في بداية الَنص).

 

أولاً:
لم يكن النجم أحد النجوم العادية المعروفة، أو أنَّه لم يكن نجمًا على الإطلاق–
كما يبدو الأمر لي على الأقل– إنما كان عبارة عن قوة خفية أخذت مظهر النجوم، وهو
ما يبدو جل
يا من مسار هذا النجم. فالواقع يُخبرنا بأنَّه
لا يُوجَد أي نجم يتحرَّك على هذا النحو. ولكنك إذا كنت تتحدث عن الشمس أو القمر
أو باقي النجوم الأخرى، فإننا نراهم يتحركون من الشرق إلى الغرب. أمَّا هذا النجم
الفريد فقد كان مُنطلًِقا من الشمال إلى الجنوب، تمشِّيًا مع موقع فلسطين بالنسبة
لبلاد الفرس.

ثانيًا:
يمكننا التوصل إلي حقيقة أنَّ هذا النجم لم يكن نجمًا عاديًا من خلال زمان ظهوره.
فإنَّ هذا النجم لم يظهر في الليل، بل في منتصف النهار والشمس ساطعة. وهو أمر ليس
في مقدرة النجوم أو القمر، حيث أن القمر الذي يفوق الجميع لا يكاد يلمح أشعة الشمس
إلا ويختبئ مُسرِعًا، مُخَتفِيًا عن الأعيُن. أما هذا النجم فقد فاق بهائه كل شيء
حتى أشعة الشمس نفسها، وظهر لامعًا برَّاًقا أكثر منها، وساطعًا بضياء أكثر عظمة
وتفوًُّقا.

ثالًثا:
لابد لنا من تأمُّل أمر ظهور النجم واختفائه من تلقاء نفسه مرة ثانية. فالنجم يظهر
لهؤلاء الرجال على امتداد طريقهم وحتى وصولهم إلى فلسطين وكأنه يقودهم، أمَّا بعد
دخولهم أورشليم فيُخفي نفسه. ثم بعد أنْ يتركوا هيرودس وقد أخبروه عن سبب قدومهم،
وبعد أنْ كانوا على وشك الرحيل، إذا بالنجم يعاود ظهوره. كل هذا يختلف تمامًا عن
حركات النجوم، بل قد تمَّ بقوة حباها الله بكثير من العقل والمنطق. فإنَّ هذا
النجم لم يكن له مسار خاص على الإطلاق، بل كان يتحَّرك عندما يتحَّركون، ويقف
عندما يقفون، وفق ما اقتضت الحاجة، كما كان عمود السحاب يقود اليهود بالتوقف تارة،
وباليقظة والاستعداد تارة أخرى، حسب ما كانت الضرورة تدعو.

رابعًا:
أيضًا يمكننا التأكُّد بمنتهى الوضوح من حقيقة أنَّ هذا النجم لم يكن نجمًا عاديًا
من طريقة الإعلان عن مكان الصبي. فنجمنا هذا لم يفصح للمجوس عن مكان المولود وهو
باقٍ بعيدًا في العلاء، لأنَّه في تلك الحالة يكون من المحال بالنسبة لهم التأكد
من المكان المشار إليه. ولكن النجم نزل إليهم مُؤدِّيًا هذه المهمة وهو على مقربة
منهم. ولعلَّنا نعرف جيدًا أنَّه من المحال أنْ ُتستخدَم النجوم للإشارة إلى موقع
أو مكان نقطة صغيرة الأبعاد على هذا النحو، لا تزيد عن مساحة حظيرة، أو بالحري عن
الحيز الذي يشغله جسد طفل رضيع، فإنَّ الارتفاع الشاهق للنجم يجعل من المُتعذِّر
عليه تمييز نقطة صغيرة ومحصورة بالدقة المطلوبة، ويجعل من الصعب جدًا إيضاح هذه
النقطة لمَنْ يرغبون في رؤيتها. أمَّا القمر فالجميع يستطيعون الاهتداء بضوئه
لرؤية الأشياء. حيث يظهر نوره فائًقا على ضوء النجوم، ويبدو لجميع الساكنين في
العالم والمنتشرين علي نطاق واسع علي ظهر الأرض وكأنه قريب من كل واحد منهم.
أخبرني إذن كيف أشار النجم إلى تلك النقطة المحصورة، التي لا تزيد عن مساحة المذود
والحظيرة، إلا إذا كان النجم قد نزل عن ارتفاعه الشاهق، ووقف عند رأس الصبي؟ ولعل
ذلك هو ما كان البشير يشير إليه بقوله:

“وإذا
النجم الذي رأوه في المشرق يتقدَّمهم حتى جاء ووقف فوق، حيث كان الصبي.” (مت
2: 9).

 

٤.
هل تأكدت الآن من كل هذه الدلائل والإثباتات كيف أنَّ هذا النجم لم يكن يظهر كأحد
النجوم، وأنَّه لم يَسِر َتبِعًا لنظام الخليقة المنظورة؟ وهل عرفت السبب الكامن
وراء ظهوره؟ لقد ظهر لتوبيخ اليهود، وحرمانهم من أيَّة فرصة لتبرير جهلهم العنيد.
فبما أنَّ الآتي كان سيضع نهاية للنظام القديم، داعيًا العالم كله إلى عبادته
والسجود له في كل مكان، بحرًا كان أم برًا. ها هوذا منذ البداية يفتح الباب أمام
الأمم بنفسه، واعظاً خاصته في الوقت نفسه من خلال الغرباء. ولمَّا كان أنبياء
العهد القديم قد تحدَّثوا عن مجيئه بلا انقطاع، ومع ذلك لم يعبأ بهم شعبه، لذا
فلقد سمح لأُناس أمميين بالقدوم من بلاد بعيدة بحًثا عن الملك الذي كان في وسط
شعبه ولم يشعروا به.

 

فالآن
أصبح على اليهود أنْ يسمعوا من لسان فارسي ما لم يخضعوا لسماعه بفم الأنبياء. فمن
ناحية نقول أنَّه لو كان لديهم أدنى استعداد للأمانة، لكان لهم الدافع الأقوى
للطاعة. ومن الناحية الأخرى ُنؤكِّد أنَّهم إذا كانوا من أهل التحزُّب والعناد،
فليس لهم أي عذر. فما الذي يمكنهم قوله وقد رفضوا السيد المسيح بعد كل ما جاءهم من
أنبياء، ورؤيتهم للمجوس الذين لمَّا نظروا نجمًا واحدًا، َقبِلوا المولود وجاءوا
ساجدين له. فإنَّ هذا هو أقرب ما يكون إلى ما فعله الله مع أهل نينوى عندما أرسل
إليهم يونان النبي. وهو أمر قريب الشبه أيضًا بالمرأتين السامرية والكنعانية.
ولهذا السبب أيضًا نسمعه يقول “رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل
ويدينونه” (مت 12: 41) و”ملكه التيمن ستقوم في الدين مع هذا الجيل
وتدينه” (مت 12: 42). فإنَّ جميع أولئك آمنوا بما هو أقل، بينما لم يؤمن
اليهود بمَنْ هو أعظم.

 

وقد
يتساءل أحد قائلاً: “ولكن لماذا جذب الله المجوس بمثل هذه الرؤيا؟”
وَنرُد نحن بقولنا: وماذا كان عليه أن يفعل؟ أيُرسِل لهم الأنبياء؟ حسًنا، ولكن
المجوس ما كانوا ليخضعون لهم. أيُرسِل لهم صوًتا من السماء؟ كلا، فما كانوا
لينصتون. أيُرسِل لهم ملاكاً؟ ولكنهم ما كانوا ليعبأوا بالملائكة. وهكذا لم يلجأ
الله إلى أيٍّ من هذه الوسائل، بل هوذا يدعوهم، بتواضع شديد، من خلال الأشياء
المألوفة لديهم. ولذا فهو يُشرِق عليهم ههنا بنجمٍ كبير وغير عادي، لعلَّهم يلتفتون
بسبب دهشتهم من ضخامة حجمه وجمال منظره وطريقة تحرُّكه.

 

وقياسًا
على ذلك، فعندما تحدَّث بولس الرسول مع قومٍ من اليونانيين غير المؤمنين الذين
يتعبَّدون على مذبح وثني، استشهَد بنصوص من شعرائهم (2). وعندما تحدَّث مع اليهود
أثار موضوع الختان، وجعل من موضوع الذبائح مُقدِّمة لتعليمه الذي يُوجِّهه إلى
مَنْ يعيشون تحت الناموس. فبما أنَّ كُلاً منَّا يعتز بما أَلِفه واعتاد عليه،
فإنَّ الله نفسه والأنبياء الذين أرسلهم يعتمدون على هذا المبدأ أثناء عملهم لخلاص
العالم. ولذلك فلا يجب عليك الاعتقاد بأنَّه لم يكن من اللائق أنْ يستخدم الله
نجمًا، حيث أنَّك إنْ اعتقدت بذلك، فسوف تجد جميع طقوس اليهودية أمور غير لائقة
أيضًا سواء الذبائح، أو التطهيرات، أو رؤوس الشهور، أو تابوت العهد، أو حتى الهيكل
نفسه. حيث أنَّ هذه الأشياء نفسها قد اشُتقَّت من أصول أممية. ومع ذلك كله، ومن
أجل خلاص جميع الذين كانوا يعيشون في الضلال، احتمل الله وَقبِل أنْ ُتقدَّم له
الخدمة من خلال تلك الأشياء، مع أنَّ الذين هم من خارج كانوا يستخدمونها في تقديم
الخدمة للشياطين. إلا أنَّ الله غيَّرها قليلاً حتى يجتذب الأمم شيئًا فشيئًا
بعيدًا عن عاداتهم، لكي يقودهم نحو الحكمة العليا. إنَّ هذا هو ما فعله الله في
حالة المجوس، غير مزدرٍ أنْ يدعوهم برؤية نجم، لكي يرفعهم أكثر فأكثر فيما بعد. من
هنا، فبعد أنْ اقتادهم الله وأمسك بأيديهم ووضعهم عند المذود، ليس بنجمٍ بعد
يتكلَّم الله معهم الآن بل بواسطة ملاك. من هنا يُمكِن القول أنَّ هؤلاء الرجال قد
ارتقوا إلى الأفضل.

 

وهذا
هو ما حدث أيضًا في أشقلون وغزة إذ كانتا من المدن الخمس التي ضُرِبت بوباء فتَّاك
عند مجيء تابوت الرب (3)، ولم تجد لها خلاصًا من الشرور التي كانت َتئنُّ تحت
نيرها، عندئذ نادى أهل تلك المدن على أنبيائهم، واجتمعوا معهم في محاولة لاكتشاف
المَخرَج والمفر من هذا التأديب الإلهي. عندئذٍ أَمَرَهم أنبياؤهم أنْ يربطوا
بالتابوت بقرتين مرضعتين ولم يَعُلهما نير (أي غير مُروَّضتين)، ويطلقوهما في
طريقهما وبدون قيادة من أي إنسان حتى يكون ذلك دليلاً على ما إذا كان الوباء من
عند الرب أم مجرد حادث عارِض، ذاك الذي ابتلاهم بهذا المرض العضال. وقال الأنبياء:
“إذا مزَّقت البقرتان النير لقلة خبرتهما أو مالتا في الاتجاه الذي يأتي منه
صوت ثغاء عجولهما الصغار، فمعنى ذلك أنَّ الوباء كان بمحض الصدفة. إما إذا اتجهتا
في طريقهما مباشرة ولم تخطئا الطريق، ولم تتأثرا بثغاء الصغار أو بجهلهما بالطريق،
يكون من الواضح أن يد الله هي التي ضربت تلك المدن”. وأنا أقول لكم أنَّ أهل
هذه المدن سمعوا كلام أنبيائهم وأطاعوه ونفَّذوه، بل أنَّ الله نفسه عمل َتبِعًا
لمشورة أولئك الأنبياء، مُبديًا تواضعًا عظيمًا في هذه الحالة أيضًا، ولم يحسب
تنفيذه لتوقُّعات أولئك الأنبياء بمثابة إقلال من شأنه، بل جعلهم يظهرون أهلاً
للثقة فيما تكلَّموا به. ولَِما لا، طالما أنَّ الخير الذي تحقَّق كان أعظم بكثير،
وهو أنَّ أعداء الله أنفسهم شهدوا بقوته. نعم فلقد خرجت أقوال معلميهم مُصدِّقة
ومُؤيِّدة لقوة الله. وما أكثر الأمور التي يتمجَّد فيها الله على هذا النحو…

 

ولنعاود
الحديث الآن عن النجم. لقد ذكرنا أمور كثيرة، ويمكنكم أنتم أن تذكروا ما هو أكثر؛
إنَّه مكتوب: “أعطِ حكيمًا فيكون أوَفر حكمة” (أم ٩: ٩).
وإنَّه يتحتَّم علينا الآن الرجوع إلى ما بدأنا بالحديث عنه.

 

٥.
وما هي البداية؟ “ولمَّا وُلِدَ يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام هيرودس
الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم”. في الوقت الذي َقبِل فيه
المجوس بالسير وراء نجم، لم يؤمن اليهود بالأنبياء الذين كادوا يصرخون في آذانهم.
ولكن لماذا يُخبِرنا الله بزمان ومكان مجيئه قائلاً: “في بيت لحم”،
و”في أيام هيرودس الملك”؟ ثم لماذا يُضيف منصب هيرودس؟ السبب هو أنَّه
كان يُوجَد هيرودس آخر في ذلك الزمان، وهو هيرودس الذي قطع رأس يوحنا المعمدان،
ولكن قاتِل يوحنا كان مجرد رئيس رُبع، أمَّا هيرودس هذا فكان ملكاً على اليهودية
كما أنَّه يُحدِّد المكان والزمان ليُذكِّرنا بنبوات قديمة جاءت إحداها على فم
ميخا النبي عندما قال: “وأنتِ يا بيت لحم أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء
يهوذا” (مي ٥: ٢)، والنبوة الثانية من أب الأسباط يعقوب، الذي
حدد لنا الزمان بكل وضوح وذكر لنا علامة مجيء الرب، وذلك عندما قال يعقوب: “لا
يزول قضيب من يهوذا ومُشَترِع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع
شعوب”. (تك ٤٩: ١٠).

 

ويَجُرنا
هذا إلى التساؤل من جديد: متى بدأ المجوس يفكِّرون في أمر المولود، ومَنْ الذي
حرَّك قلوبهم؟ فالأمر لا يبدو لي على أنَّه عمل النجم وحده، بل عمل الله أيضًا،
الذي، حرَّك نفوسهم، وهو نفس ما فعله في حالة الملك كورش (4) عندما جعله يُطلِق
سراح اليهود. ومع ذلك فإنَّ الله لم يفعل هذا الأمر لحرمانهم من إرادتهم الحرة.
والدليل على ذلك أنَّه عندما نادى الله بولس بصوت من السماء، فقد جعل ذلك فرصة
لإظهار نعمته من ناحية وطاعة بولس وخضوعه من الناحية الأخرى.

 

وقد
يتساءل المرء: ولكن لماذا لم يُظهِر الله هذا الأمر لجميع المجوس الذين في الشرق؟
والإجابة هي أنَّ الجميع ما كانوا ليؤمنوا، بل كان هؤلاء الرجال أكثر استعدادًا من
الباقين. قِسْ على ذلك أنَّ الله أرسل نبيًا إلى أهل نينوى وحدهم، بينما هلكت أمم
أخرى كثيرة لا حصر لها. ومع أنَّه كان هناك لصَّان مصلوبان مع السيد المسيح، إلا
أنَّ واحدًا منهما فقط هو الذي َ خُلص دون الآخر. وأخيرًا يمكنك أنْ ُتدرِك َقدْر
هؤلاء الرجال، ليس فقط بسبب قدومهم، بل لشجاعتهم في الكلام. فحتى لا يكونوا كاذبين
أو تحت ُ شبهة الكذب، تراهم يُفصِحون عن طول رحلتهم وعمَنْ هداهم في الطريق. وإذ
هم قد جاءوا بالفعل، تراهم يُبدون شجاعة في الحديث ويُصرِّحون عن سبب مجيئهم
قائلين: “لأننا أتينا لنسجد له.” وهم لم يخافوا من غضب الشعب، ولا من
طغيان الملك. ومن َثمَّ فإنني على قناعة بأن هؤلاء الرجال كانوا مُعلِّمين في
بلادهم؛ لأن الذين لم يخافوا من التكلُّم في بلاد غريبة، لابد وأنهم أكثر جرأة على
التحدُّث في بلادهم، لا سيِّما وقد حصلوا على إرشاد الملاك وشهادة النبي.

 

العظة
الثانية

“فلمَّا
سمع هيرودس الملك اضطرب وجميع أورشليم معه. فجمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب،
وسألهم: “أين يولد المسيح؟” فقالوا له: “في بيت لحم اليهودية. لأنه
هكذا مكتوب بالنبي. وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا. لأن
منكِ يخرج مُدبِّر يرعى شعبي إسرائيل.” (مت 2: 3-6)

 

مخارجه
منذ القديم، منذ أيام الأزل

١.
هل تبيَّن لك الآن أنَّ جميع الأشياء قد تمَّت لإدانة اليهود؟ فلعلَّك أدركت كيف
أنَّ الحسد لم يكن قد تملَّكهم بعد قبل أن يروا المولود، ولذلك أخذوا يشهدون له
بالحق. ولكنهم عندما شاهدوا المجد المُصاحِب لمعجزات ميلاده، وجدنا أنَّ روح
البُغضة تستحوذ على كيانهم، فأخذوا ينكرون الحق، بدلاً من الشهادة له.

غير
أنَّ الحق كان يزداد علوًا في كل شيء، بل ويزداد وضوحًا حتى من أفواه الأعداء
والمعاندين. انظر معي في حالة ميلاد الرب يسوع مثلاً: ما أعظم ما تحقَّق، وما
أبعده عن توقُّعاتنا! فكلٌّ من الأمم واليهود قد عرفوا المزيد والمزيد من بعضهم
البعض، بل وقد علَّموا بعضهم البعض في نفس الوقت أيضًا. فمن جانب، سمع اليهود من
المجوس عن إعلان النجم عن المولود حتى في أرض فارس. ومن جانب آخر، سمع المجوس من
اليهود أنَّ الشخص الذي أعلن النجم لهم عن مجيئه كان هو نفسه موضوع حديث الأنبياء
منذ زمن بعيد.

 

وسرعان
ما تحوَّلت رغبة الفريقين في التساؤل عن زمن ميلاد المسيح إلى فرصة للوصول إلى
إرشاد أكثر وضوحًا وكمالاً عن شخصه. واضطرَ أعداء الحق – على عكس إرادتهم – أن
يقرأوا ما ُ كتِب في الأسفار المقدسة شهادًة للحق، ويُفسِّروا أقوال الأنبياء
تفسيرًا صحيحًا، وإن لم يكن كاملاً. فعلى الرغم من حديثهم عن بيت لحم وكيف أنَّه
لابد أن يخرج منها مَنْ هو مُزمِع أنْ يحكم إسرائيل، إلا أنهم لم يذكروا ما هو
مكتوب بعد ذلك، والسبب بالطبع رغبتهم في مجاملة هيرودس الملك. ولكن ما هو ذلك الذي
لم يذكروه خوًفا من الملك؟ إنه قول الكتاب عن المولود: “ومخارجه منذ القديم،
منذ أيام الأزل” (مي 5: 2).

 

شهود
كثيرون

٢.
ولكن قد يتساءل أحد: “لماذا وهو مُزمِع أنْ يأتي من أرض يهوذا، تراه قد عاش
في الناصرة، مُزيدًا على النبوة غموضًا وإبهامًا؟” ونحن نقول: كلا، فإنَّه لم
يجعل النبوة غامضة، بل كشفها وجعلها غاية في الوضوح. فلقد كانت أُم الصبي تعيش في
موضع ما طوال حياتها، ثم اضطرت لأنْ تضع طفلها في مكانٍ آخر، وهذا في حد ذاته دليل
على وجود تدبير إلهي خفي. ثم دَعني أُضيف أنَّ الصبي بقى في موضع ولادته أربعين
يومًا كاملة قبل أنْ ينطلق من هناك، مُفسِحًا المجال أمام الراغبين في التحرِّي
عنه والاستقصاء عن جميع أموره بمنتهى الدقَّة.

ففي
واقع الأمر كانت هناك أمور كثيرة تدفع البعض إلى التساؤل والاستفسار، ولا سيِّما
في حالة المُهتَّمين بمتابعة كل ما كان يحدث آنذاك. هكذا نقرأ أنَّه عند مجيء
المجوس، اضطربت المدينة كلها شعبًا وملكاً، واجتمع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب، و
تمَّ الرجوع إلى النبوة. وكم من أشياء أخرى كثيرة حدثت في المدينة وأوردها القديس
لوقا البشير في أدَّق تفاصيلها. أقصد الأمور المتعلَِّقة بحّنه النبية وسمعان
الشيخ وزكريا أبي يوحنا المعمدان وكذلك الأمور المتعلَِّقة بالملائكة والرعاة.
إنَّها الأمور التي تكفي في حد ذاتها لكي يتأكَّد منها المُتابِع والمُدقِّق عن سر
ما كان يحدث آنذاك. فلو كان المجوس الذين جاءوا من بلاد فارس البعيدة يعرفون مكان
ولادة الصبي، لكان من الأولى بسكَّان المنطقة أن يكونوا هم أنفسهم على عِلم بجميع
هذه الأمور.

فلقد
أظهر نفسه منذ البداية بالعديد من المعجزات، ولكنهم عندما لم يرغبوا ولم يريدوا أن
يروا، فإذا به يُخفِي نفسه بُرهةً من الزمان (5)، حتى يظهر مرة ثانية في صورة
بداية جديدة أكثر مجدًا، ولكن في هذه المرة، لم يكن الإعلان من المجوس، ولا من
النجم، بل الآب من السماء أعلن عنه عند نهر الأردن، والروح أيضًا نزل عليه،
مُوجِّهًا انتباه الجميع إلى أنَّ الصوت الذي سُمِعَ كان يخصُّ الشخص المُعمَّد.
أما يوحنا فقد صاح بكل ما يحمله القول من وضوح، بل وأخذ ينادي في اليهودية كلها،
حتى امتلأت أحياؤها المعمورة والمهجورة على حدٍ سواء بتلك الدعوة. بل إنَّ الأرض
والبحر والخليقة كلها نطقت بصوت واضح، شاهدًة له من خلال تلك المعجزات. لكنني أرجع
فأقول أن أشياء عديدة قد حدثت عند وقت ميلاده، وقد ارتبطت جميعها وفي هدوء تام
بكونها إشارات عن ذاك الذي كان مُزمِعًا أنْ يأتي.

وهكذا
ولكي لا يتعلَّل اليهود بقولهم: “ولكننا لم نكن نعرف موعد أو مكان
ولادته”، جاء المجوس يعلنون اهتمامهم بتلك الأمور التي كانت عناية الله قد
رتَّبت للكشف عنها، وليس موعد ومكان الولادة فقط بل جميع ما تحدَّثنا عنه من قبل،
هذا كله لكي لا يكون لهم عذر يدَّعون به أنَّهم لم يكن لهم عِلم مُسبَّق بجميع ما
حدث من أمور.

 

بيت
لحم مدينة المخلص

والآن
تأمَّل معي في دِقَّة النبوة. فالنبي لا يقول: “أنَّه سيعيش” في بيت لحم،
بل “إنَّه سيخرج منها.” أي أنَّ هذا الأمر كان عنصر آخر في النبوة يشير
إلى أنَّ بيت لحم كانت فقط مكان الميلاد وليست مكان المعيشة.

غير
أنَّ بعضهم، ممَنْ لا يعرف الخجل طريقه إليهم، يقولون في جرأة أنَّ هذه الأقوال
تخصُّ زَرُبابل لا المسيح. فكيف يُمكِن أنْ يكون كلام هؤلاء صحيحًا؟! فنحن نعلم يقينًا
أنَّ مخارج زَرُبابل لم تكن “منذ القديم، منذ أيام الأزل”. كما أنَّ قول
الكتاب الذي جاء قبلاً عن بيت لحم: “لأنه منكِ يخرج مُدبِّر يرعى شعبي
إسرائيل” لا ينطبق على زَرُبابل، الذي لم يُوَلد في اليهودية، بل في بابل
التي استمد منها اسمه “زرع بابل”، ولِما لا وقد استمد أصوله وجذوره
منها؟ وبالإضافة إلى كل ما قيل، كان الوقت الذي انقضى كافيًا لترسيخ شهادة الأنبياء.
فماذا يقول أيضًا؟: “لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا”. ثم يُضيف سبب علو
مكانة بيت لحم قائلاً: “لأنَّ منكِ يخرج”. والحقيقة أنَّه ما من شخصٍ
آخر غيره جعل لبيت لحم هذه المكانة وتلك الرِفعة. فعلى سبيل المثال، منذ ذلك
الميلاد لا يزال الزائرون يأتون من جميع أنحاء العالم ليشاهدوا المذود ومكان
الحظيرة، وهو ما تنبَّأ به ميخا النبي من قبل، عندما صاح قائلاً: “لستِ
الصغرى بين رؤساء يهوذا”، أي أنَّ بيت لحم ليست أقل شأًنا بين جميع عشائر
يهوذا، بما في ذلك أورشليم نفسها. غير أنَّ اليهود لم يهتموا بذلك، على الرغم مما
يحمله لهم من بشرى وامتياز. ولهذا السبب، نرى أنَّ النبوات لا ُتركِّز في البداية
على مقدار كرامة المولود، بقدر ما تؤكِّد على الامتيازات التي تحقَّقت للشعب
والمكان بسبب ولادته.

 

وهكذا
عندما كانت العذراء على وشك الولادة، جاء الملاك وقال لها: “وتدعو اسمه
يسوع” (مت ١: ٢١)، ثم يذكر السبب قائلاً: “لأنَّه
سيُخلِّص شعبه من خطاياهم” (مت ١: ٢١). وكذلك المجوس أيضًا
لم نسمعهم يقولون: “أين هو ابن الله؟” بل قالوا “أين هو المولود
ملك اليهود؟” (مت٢: ٢) لاحظ أيضًا أنَّ النبوة لم تقل: “لأنَّه
يخرج منكِ ابن الله” بل “مُدبِّر يرعى شعبي إسرائيل”. لأنَّه كان
من الضروري أن يبدأ الحديث مع الشعب أولاً، وأنْ يكون الحديث بلهجة شديدة التواضع،
لئلا يشعروا بالإهانة. وكان من اللازم الحديث عن الأمور المُختصَّة بخلاصهم، لعل
ذلك يُسهِّل من إمكانية اجتذابهم.

 

وعلى
أيَّة حال، فإنَّ جميع النبوات التي ُذكِرَت سابًقا، والتي قد تحقَّقت بالميلاد،
لا تذكر شيئًا عن علو مكانة الصبي أو ورفعة شأنه، وذلك على العكس من الشهادات التي
وردت بعد حدوث جميع المعجزات التالية للميلاد. فالنبوات السابقة للميلاد ُتركِّز
على الشعب وما له من امتيازات، والشهادات التالية للميلاد ُتركِّز على مكانة ورفعة
المولود. فالأطفال على سبيل المثال، بعدما سمعوا عن كل ما حدث من معجزات، إذا بهم
يُرنِّمون له ويُسبِّحون إيَّاه مُتِّبعين قول النبي: “من أفواه الأطفال
والرضَّع أسست سُبحًا” (مز ٨: ٢)، ويقول النبي أيضًا: “السموات
ُتحدِّث بمجد الله والفلك يُخبِر بعمل يديه” (مز ١٩: ١)،
وهي كلمات ُتؤكِّد على كونه الخالق الوحيد للكون كله. ثم أنَّ النبوة التي تحدَّثت
عنه بعد الصعود ُتؤكِّد على مساواته للآب، حيث تقول: “قال الرب لربي اجلس عن
يميني” (مز ١١٠: ١)، وإشعياء نفسه يقول: “القائم
ليسود على الأمم عليه سيكون رجاء الأمم” (رو ١٥: ١٢).

ولكن
كيف يقول النبي مُخاطِبًا بيت لحم: “لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا”؟
بينما قرية بيت لحم صارت معروفة في العالم أجمع وليس في فلسطين فقط؟ ولماذا يُضيف
النبي قائلاً: “يرعى شعبي إسرائيل” بينما هو قد أحاط العالم كله
بالرعاية، وليس شعب إسرائيل وحده؟ فكما ُقلت من قبل، إنَّ الوحي لم يرغب في إغاظة
اليهود من خلال الحديث عما يعتزم الله قوله وفعله مع الأمم.

 

ولكن
كيف لأحد أن يقول أنَّ الله لم يرعَ شعب إسرائيل؟ فأنا أبادر إلى الإجابة قائلاً: إنَّ
رعاية الله لشعب إسرائيل قد تحقَّقت بالفعل (6). فاستخدام لفظة
“إسرائيل” في هذا الموضع هو استخدام مجازي، يُشير إلى مَنْ آمنوا به من
بين اليهود جميعهم. ولعل هذا هو ما يُفسِّره بولس الرسول بقوله: “لأنَّ ليس
جميع الذين من إسرائيل هم إسرائيليون” (رو ٩: ٦)، بل كل الذين
وُلِدوا بالإيمان والموعد. وإنْ لم يكن قد رعاهم جميعًا، فإن الخطأ خطؤهم، واللوم
يقع عليهم لا عليه. لأنَّه بينما كان يتعَّين عليهم السجود له مع المجوس، وتقديم
المجد لله لأنَّ الوقت قد حان إذ قد جاء المسيح، وبدلاً من أن يتخلُّوا عن جميع
خطاياهم إذ لم َترِدْ إليهم كلمة واحدة عن الدينونة أو الحساب، بل عن مجيء راعٍ
وديع ولطيف، بدلاً من أنْ يفعلوا ذلك، إذا بهم يتصرفون على عكس ما هو مُتوقَّع
تمامًا، فيرتبكون ويضطربون، ولا يَكفُّون عن نسج الحيل والمؤامرات دون َتوقُّف.

 

هيرودوس
الماكر وحماقته:

٣.
“حينئذ دعا هيرودس المجوس سرًا، وتحقَّق منهم زمان النجم الذي ظهر.” (مت
2: 7).

كان
هيرودس يحاول قتل الصبي الذي وُلِِد عِلى الرغم من أنَّ ما قيل وما حدث أمامه كان
كافيًا لمنعه من التمادي في هذه المحاولة. فلم تكن كل هذه الأحداث بطرق بشرية. ألم
يفهم أن كل هذه الأحداث لم تكن بشرية أو عادية؟ نجمٌ يدعو المجوس من العلاء…
وأمميون يَتحمَّلون مَشقَّة هذا السفر البعيد لكي يسجدوا لطفل ملفوف في أقمطة
وموضوع في مذود… وأنبياء تكلَّموا وأعلنوا عن مجيئه منذ القِدَم! لقد سمع هيرودس
بهذه الأمور جميعها، بل وغيرها أكثر بكثير مما يُمكِن أنْ يحدث بين البشر، ومع ذلك
لم يُردِعه أيٌّ منها. فإنَّ هذا الجنون هو شر في حد ذاته، وهو شر يسعى دائمًا نحو
كل ما هو مستحيل. تأمَّل في حماقة هذا الرجل. فإذا افترضنا من ناحية أنَّه كان
يُؤمِن بالنبوة ويُصدِّقها، وبالتالي أنَّه كان مُقتنِعًا بعدم إمكانية َتغيُّرها
أو تغييرها، فمعنى ذلك أنَّه كان يسعى وراء المستحيل. أمَّا إذا افترضنا أنَّه لم
يكن مُقتنِعًا بالنبوة، وأنَّه لم يتوقَّع مُطلًقا أن تتحقَّق تلك الأحداث، فعندئذ
لا يكون هناك أي داعٍ لخوفه وانزعاجه، ولما أَقدَم على نسج أيَّة مؤامرة للَتخلُّص
من المولود. من هنا يَتضِّح لنا أنَّ جميع أعماله كانت في غير محلها.

 

كذلك
فقد كان من فرط حماقته أنْ يعتقد أنَّ المجوس سوف يَهتَّمون به أكثر مما يهتَّمون
بالصبي المولود، ذلك الصبي الذي قطعوا من أجله وحده كل هذه الرحلة الطويلة. فإن
كان المجوس قد التهبوا بالشوق إليه قبل أنْ يروه، فكم وكم تكون مشاعرهم بعد أن
رأوه بعيونهم، وبعد أن تأكَّدوا من شخصه بشهادة النبوة؟ كيف إذن كان هيرودس يأمل
في إقناعهم بأن يُسلِّموا الصبي المولود إلى يده الغاشمة؟

 

ومع
ذلك، وعلى الرغم من جميع الأسباب التي كانت يجب أن تمنعه من التفكير في هذا العمل،
إلا أنَّه أخذ يسعى ويحاول، “فاستدعى المجوس سرًا وتحقَّق منهم زمان
النجم”، اعتقادًا منه أنَّ اليهود سيكونون أكثر حرصًا على الصبي. ولذلك فإنه
لم يتوقع مُطلًقا أنْ يكون اليهود أنفسهم أغبياء إلى الحد الذي يجعلهم على استعداد
لتسليم مُخلِّصهم إلى يد أعدائه، أو أنْ يتآمروا ضد المُخلِّص الذي جاء ليعطي
الخلاص لأمتهم. ومن هذا المُنطَلق، فقد قام هيرودس باستدعاء المجوس سرًا، وسألهم
عن الزمان، ليس زمان ميلاد الصبي، بل زمان النجم. وهو بذلك ركَّز على الهدف الذي
كان يسعى وراءه أي زمان النجم، لكي يَصِلْ من خلاله إلى ما هو أبعد من ذلك أي زمان
ميلاد الصبي. لأنني أعتقد أنَّ النجم قد ظهر قبل ذلك بزمنٍ طويل، أي أنَّ المجوس
أمضوا زمًنا طويلاً في رحلتهم إلى أرض فلسطين. ولكي يظهر المجوس بعد ولادة الصبي
مباشرة، حيث كان من اللائق أن يُقدَّم السجود للصبي وهو بعد مُقمَّطاً، وكان من
اللائق أيضًا أن تتحقَّق جميع هذه الأحداث الفائقة للطبيعة، لذا فقد كان يجب أنْ
يتراءى النجم قبل ميلاد الصبي بوقت طويل. لأنَّه لو كان النجم قد ظهر للمجوس لحظة
ميلاد الصبي في فلسطين وليس قبل ذلك، لمَّا استطاعوا أنْ يروا النجم في بلادهم
البعيدة في المشرق، ثم يقطعون تلك الرحلة الطويلة وما تستغرقه من وقت كثير ومع ذلك
يَصِلون في الوقت المناسب لكي يروا الصبي وهو لا يزال رضيعًا مُقمَّطاً. أمَّا عن
َذبْح هيرودس للأطفال من سن عامين فما دون، فليس هناك ما يدعو إلى العجب؛ لأن غضبه
وخوفه ورغبته في التأمين الكامل لعرشه جعله يُبالِغ كثيرًا في عمر الأطفال، حتى لا
يفلت أحد منهم.

وبعد
أنْ استدعى هيرودس المجوس، قال لهم:

“اذهبوا
وابحثوا بالتدقيق عن الصبي… وأنا أيضًا اسجد له” (مت 2: 8).

 

هل
اتضَّحت لك حماقته الشديدة؟ فلو كان هيرودس صادًقا ومُخلِصًا فيما يقوله، فلماذا
يسألهم سرًا إلا إذا كان عازمًا على التآمر ضد الصبي المولود؟ وكيف لم يفهم أن
سؤاله للمجوس سرًا سيجعلهم يُدرِكون قصده الماكر؟ ولكنني قد أجبت على مثل هذه
التساؤلات من قبل: إنَّ النفس التي وقعت في أسر الخطية والشر تصير نفسًا غير عاقلة
أكثر من كونها أي شيء آخر.

 

كذلك
لم يَُقلْ هيرودس للمجوس “اذهبوا واستعلموا عن المَلِك” بل “عن
الصبي”. أي أنْ هيرودس لم يكن يتحمَّل مجرد مناداته أو تسميته للمولود
بالألفاظ المُعبِّرة عما له من سلطان.

 

٤.
غير أنَّ المجوس لم يفهموا ذلك بسبب َفرْط خشيتهم من هيرودس، لأنَّه لم يكن قد خطر
ببالهم أنْ يكون الملك قد أمعَن في الشر إلى هذا الحد، أو أنَّه يسعى إلى نسج
المؤامرات ضد هذا التدبير الإلهي الإعجازي. لقد غادروا المكان لأنهم لم يشعروا
بالراحة إذ أحسوا داخل نفوسهم بما يمكن أن يفعله البشر والطبيعة البشرية.

 

النجم
العجيب

وإذا
النجم الذي رأوه في المشرق يتقدَّمهم” (مت 2: 9).

لقد
كان النجم مُختبِئًا برهة وجيزة، حتى إذا ما وجد المجوس أنفسهم بلا مُرشِد، يضطرون
إلى الاستفهام من اليهود، ومن َثمَّ يتم الإعلان عن الميلاد للجميع. أمَّا الآن،
وبعد أن استفسر المجوس عن مكان ولادة الصبي وحصلوا على المعلومات التي كانوا
يحتاجونها من أعدائه، إذا بالنجم يعاود ظهوره من جديد. ثم تأمَّل معي في عظمة
ترتيب الأحداث. فهُمْ في بادئ الأمر شاهدوا النجم، ثم تقابلوا مع اليهود، ثم الملك،
ثم أدَّى بهم ذلك إلى الَتعرُّف على النبوة (7) التي َفسَّرت أمر النجم الذي ظهر
لهم في المشرق. وها هم يرتحلون في سفر قصير من أورشليم إلى بيت لحم في ظل إرشاد
النجم… نفس النجم الذي سافر معهم تلك المسافة البعيدة من بلاد المشرق. لعلَّك
الآن قد تأكَّدت أنَّ هذا النجم لم يكن نجمًا عاديًا، لأننا لا نعرف نجمًا آخر
يعمل هكذا أو له مثل هذه الطبيعة. ثم أنَّ النجم لم يكن يتحرَّك فقط بل “كان
يتقدَّمهم” أي يُرشِدهم ويقودهم في وَضَح النهار.

 

وقد
يتساءل أحد قائلاً: “ولكن ما حاجتهم بعد إلى النجم بعد أن تأكَّدوا من
المكان؟” لقد كان القصد من ذلك أن يقتادهم النجم إلى رؤية الصبي وليس مجرد
المكان، إذ لم يكن هناك ما يُظهِره لهم، وخصوصًا أنَّ البيت لم يكن ظاهرًا، ولم
تكن أمه من المشاهير أو حتى المعروفين. لذلك كانت الحاجة تقتضي أنْ يأخذهم النجم
ويَصِل بهم إلى ذلك المكان مباشرًة. هذا إذن هو سبب ظهور النجم للمجوس مرة أخرى
وسيره معهم من أورشليم إلى بيت لحم، وعدم توقُّفه قبل وصوله بهم إلى موضع المذود.

 

وجاءت
المعجزة تلو الأخرى؛ لأنَّ الأمرين كانا غريبين ومعجزيين: سجود المجوس للصبي،
ومُضي النجم قدَّامهم. وهما أمران يكفيان للتأثير في الحجارة، فما بالك في البشر.
فلو كان المجوس قد قالوا أنهم سمعوا أنبياء يتحدَّثون عن تلك الأمور أو أنَّ
ملائكة تحدثوا معهم في الخفاء، لما صدَّقهم أحد. ولكن الآن، لمَّا ظهر النجم في
العلاء، سُدَّت أفواه المُتبجِّحين الذين لا يخجلون.

 

الأكثر
من ذلك هو أنَّ النجم توقَّف عن مسيره عندما استقر فوق الصبي، وهذا أيضًا أمرًا
يفوق قوة وقدرة النجوم. فهذا النجم يختبئ تارًة، ويظهر تارًة أخري، يسير تارًة،
ويتوقَّف تارًة أخري، من هنا ازداد المجوس إيماًنا كما أنَّهم ابتهجوا لكونهم
وجدوا ما كان يبحثون عنه، ولكونهم صاروا رُسلاً للحق. ولِما لا يفرحون وهم يرون أن
رحلتهم الطويلة لم تكن بلا ثمر. لقد أشبع الله أشواق قلوبهم الحارة بلقاء المسيح
المولود. فلقد جاء النجم أو ً لا ووقف فوق رأس الصبي، مُظهِرًا أنَّه مولود إلهى.
ثم أنَّ توقُّف النجم في هذا الموضع تحديدًا كان بمثابة دعوى للمجوس لكي يسجدوا
للمولود. والمجوس في هذه الحالة ليسوا مجرد أميين، بل أكثر الناس حكمة في بلادهم.

 

لعلَّك
الآن قد تعرَّفت على مَقدِرة النجم وروعته فالمجوس بعد ما سمعوا النبوة وتفسيرها
من رؤساء الكهنة والكتبة، ظلَّت عقولهم مُتعلِّقة بالنجم.

 

معاندوا
الإعلان

٥.
عارٌ عليك يا مركيون! عارٌ عليك يا بولس الساموساطي! (8) لكونكما رفضتا رؤية ما
رآه هؤلاء المجوس الذين سبقوا آباء الكنيسة. نعم أنني لا أخجل من أن أدعوهم سابقين
لآباء الكنيسة. فليخجل ماركيون لأنه رأى المجوس يسجدون لله الظاهر في الجسد.
وليخجل بولس الساموساطي إذ رآهم يسجدون له ليس كمجرد إنسان. فمن جهة تجسُّده، كانت
العلامة الأولي هي الأقمطة والمذود. وأما من حيث سجودهم له ليس كمجرد إنسان، فلقد
أعلنوا عن ذلك عندما قدَّموا له في هذه السن المبكرة تلك الهدايا التي لا تليق إلا
بالله وحده. وليخجل اليهود معهما أيضًا، إذ قد سبقهم الأمميون والمجوس، ولم يعد
لهم إلا أن يكونوا مجرد تابعين. فالذي حدث آنذاك كان نموذجًا من الأمور المُزمِع
أن تتحقَّق مُستقبَلاً، وظهر منذ البداية أنَّ الأمم سوف يسبقون الأمة اليهودية في
الإيمان.

 

ولكن
قد يتساءل أحد قائلاً: “لماذا تأخَّر قول الرب اذهبوا وتلمذوا جميع
الأمم” (مت ٢٨: ١٩)؟ ولماذا لم يأتِ هذا الأمر منذ
البداية، أي منذ مجيء المجوس؟”

السبب
في ذلك هو أنَّ ما حدث كان مثالاً – كما قلت سابًقا – للأمور المُزمِعة أنْ تحدث
مُستقبَلاً، ونوع من الإعلان عنه مُسبًَّقا. فقد كان الترتيب الطبيعي أنْ يأتي
اليهود إلى المسيح أولاً. ولكن هم أنفسهم وبمحض اختيارهم الشخصي تخلَّوا عن
امتيازهم، وبذلك انقلب نظام وترتيب الأمور. لأنَّه لم يكن من اللائق حتى في هذه
المرة أنْ يسبق المجوس اليهود، ولا أنْ يصل إليه أناس جاءوا من مسافة بعيدة قبل
أولئك الساكنين معه في نفس المدينة. ولم يكن من اللائق لأناسٍٍ لم يسمعوا نبوة
واحدة أن يتخطُّوا اليهود الذين تغذُّوا على العديد منها.

 

ولكن،
َلمَّا كان اليهود في جهل بما لديهم من نِعَم، سمح الله للمجوس القادمين من بلاد
فارس أن يسبقوا الساكنين في أورشليم. ولعلَّ هذا هو ما يقصده بولس الرسول بقوله: “كان
يجب أن ُتكلَّموا أنتم أولاً بكلمة الله ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنَّكم غير
مستحقين للحياة الأبدية هوذا نتوجه إلى الأمم” (أع ١٣: ٤٦).
فمع أنَّهم أخطأوا إذ لم يطيعوا الكلمة قبلاً، إلا أنَّه كان عليهم أن يُسرِعوا
إلى الإيمان عندما سمعوا بالكلمة من المجوس، ولكنهم لم يسمعوا. وهكذا، بينما
يتغافل اليهود، يركض الأمم وراء الإيمان بالمسيح.

 

على
خُطى المجوس

٦.
والآن دعنا نتبع المجوس مرة أخرى، ولنتحرَّر من عاداتنا العالمية، ولنبتعِد عنها
بعيدًا، لعلنا نرى المسيح. لأنه لو لم يكن المجوس قد نظروا من بلادهم البعيدة جدًا،
لما كانوا قد أبصروه. دعنا نبتعد عن الأمور الأرضية. فالمجوس عندما كانوا في فارس،
لم يروا إلا النجم، ولكنهم بعد أن ارتحلوا من بلادهم، إذا بهم يشاهدون شمس البر.
أو ُقلْ بالحري أنَّه ما كان لهم أن يروا أكثر من النجم، لو لم يكونوا مستعدين
للنهوض ومتابعة المسير. فلننهَض نحن أيضًا، مهما اضطرب الجميع، دعنا نركض إلى موضع
الطفل الرضيع. مهما حاول الملوك والطغاة والأمم أنْ يعترضوا طريقنا، لن نسمح
لأشواقنا أنْ َتخمُد. بل سوف ندفع بعيدًا عنَّا جميع الأخطار التي تحاصرنا لأن
الجميع أيضًا لم يقدروا على الهروب من خطر هيرودس، إلا الذين رأوا وجه الطفل
الرضيع.

 

والمجوس
أنفسهم قبل أن يشاهدوا الصبي، كانت المخاوف والأخطار والاضطرابات تضغط عليهم من كل
جانب. ولكنهم بعد أن سجدوا له، امتلأت قلوبهم بالأمان والسكينة. ولم يعد نجم هو
الذي يتقدَّمهم، بل ملاك (9). بل إنَّهم صاروا كهنة من حيث ممارستهم لطقس السجود،
وفيما قدَّموه من هدايا.

 

هل
تأتي معي أنت أيضًا تاركاً الأمة اليهودية والمدينة المُضطربة، وهيرودس الطاغية
المُتعطِّش إلى الدماء، وبريق هذا العالم؟ هل تترك كل هذا وُتسرِع معي إلى بيت لحم،
إلى مَس َ كن الخبز الروحي؟ (10) فإن كنت مجرد راعي بسيط وأتيت إلى هنا، فسوف ترى
الصبي في مذوده. ولو كنت ملكاً ولم تقترب إلى ههنا، فلن ينفعك رداؤك الأرجواني.
وإن كنت أحد المجوس الغرباء، فلن يمنعك ذلك من الاقتراب. فقط اجعل قصدك من المجيء
هو أن ُتقدِّم الكرامة والسجود لابن الله، بدلاً من أن ترفضه وتزدري به. وليكن
مجيئك إليه بفرح ورعدة، لأنه من الممكن أن يتزامَن الشعوران.

 

ولكن
احترس لئلا تكون مثل هيرودس وتقول في قلبك: “لكي آتي أنا أيضًا وأسجد
له”، ثم إذا بك تسعى إلي ذبحه. فكل الذين يتناولون من الأسرار بدون استحقاق
يتشبَّهون بهيرودس، ويقول عنهم الكتاب أنَّهم “مُجرِمين في جسد الرب
ودمه” (١كو ١١: ٢٧). فداخل كل واحد منهم يُوجَد
هيرودس جديد يحزن لتأسيس ملكوت المسيح، أشر من هيرودس القديم العابد للمال.
فهيرودس القديم لم يهتَّم إلا بسلطانه، إذ أرسَل رعيته لتقديم السجود والولاء
الظاهريين. وفي الوقت الذي يسجدون فيه، ينهال عليهم ذبحًا وقتلاً. فلنخف إذن لئلا
يكون لنا مظهر التوسُّل والعبادة، بينما تكون قلوبنا علي العكس تمامًا.

 

ولنلقِ
كل ما في أيدينا عندما نسجد له. وحتى لو كان ما في أيدينا ذهبًا، دعنا ُنقدِّمه له
بدلاً من أن ندفنه. فإذا كان أولئك المجوس قد أعطوه المجد والإكرام، فكيف يكون
حالك أنت يا من لا تعطيه ما يطلبه منك؟ إذا كان أولئك المجوس قد جاءوا من بعيد لكي
يروه بعد ولادته مباشرًة، فما العذر الذي ستقدِّمه أنت لعدم تخليك عن طريقك مرة
واحدة لكي تزوره وهو مريض أو محبوس؟ (11) بل إنَّك قد تشفق علي أعدائك أنفسهم
عندما يكونون مرضي أو أسرى، فلماذا تبخل بالإشفاق على ربِّك الذي أنعم عليك؟ هم
قدَّموا له ذهبًا، وأنت لم ُتقدِّم خبزًا. هم رأوا النجم وابتهجوا، وأنت ترى
المسيح نفسه غريبًا وعرياًنا، ولكنك لا تتأثر.

 

لأنَّه
مَنْ منكم يا من حصلتم على نِعَمه التي لا ُتعَد يستطيع أن يتحمَّل من أجل المسيح
عناء هذه الرحلة البعيدة كما تحمَّلها أولئك المجوس، الذين هم أحكم الحكماء بين
الفلاسفة. ولماذا أقول رحلة بعيدة جدًا، بينما نساء كثيرات لديهم من الرقة ما
يجعلهن لا يرغبن في عبور شارع واحد ليرونه في مذوده الروحي (أي الكنيسة)، إلا إذا
حملتهم المركبات التي تجرها البغال. وآخرون يقوون على السير، ولكنهم يفضِّلون
البقاء في مواضعهم لمتابعة عمل ما أو تجارة ما أو مشاهدة مسرحية ما. وبينما قطع
أولئك المجوس رحلة طويلة هكذا من أجله قبل أن يروه، فلماذا لا تحاول أنت التشبُّه
بهم بعد أن رأيته، بل تتركه، وتجري بعيدًا، لكي ترى المُمثِّلين. وأنت بعدما رأيت
المسيح نائمًا في مذوده، إذا بك تتركه وتذهب لمشاهدة النساء علي المسرح (12).

 

وصايا
عملية

٧.
حدِّثني مثلاً إذا أمكن لأي إنسان أنْ يقتادك إلى داخل أحد القصور، ويُريك الملك
على عرشه، هل ُتفضِّل في هذه الحالة أنْ تذهب لمشاهدة المسرح بدلاً من الَتطلُّع
إلى ما يذخر به القصر الملكي من أشياء؟ بل وحتى الأشياء الموجودة داخل القصر
الملكي ليست ذات قيمة مقارنةً بما هو موجود ههنا في الكنيسة حيث تجد نبع روحي من
النيران التي تتدفق من مائدة الرب، ومع ذلك فإنَّك تتركها وتهرول إلى المسارح
لرؤية النساء وهن يَسبَحنَ. وهكذا تنحط طبيعة الإنسان بالخزي، تارك ً ة السيد
المسيح وحده جالسًا عند البئر.

 

نعم
فهو الآن أيضًا، وكما كان قبلاً، لا يزال يجلس عند البئر، لا ليتكلَّم مع المرأة
السامرية بل إلى مدينة بأسرها أو ربما تراه يجلس مُتحدًِّثا مع امرأة سامرية
بمفردهم. فإنَّك الآن لا تجد أحدًا معه: البعض ذهبوا وراء أجسادهم، والبعض الآخر
ذهبوا إلى ما هو أبعد من ذلك. غير أنَّه لا يبتعد مطلًقا، بل يبقى يسأل عنَّا، لكي
يسقينا قداسةً لا ماءًا، قائلاً إنَّ “الُقدسات للقديسين”. فهو لا
يعطينا ماءًا من هذا النبع، بل دمًا حيًا، ومع أن الدم في الأصل هو رمز للموت، إلا
أنَّه قد أصبح سببًا للحياة.

 

ولكنك
يا مَنْ تترك نبع الدم والكأس المخوفة، ويا مَنْ تذهب في طريقك وراء نبع الشيطان
لمشاهدة امرأة وهي َتسبَح في مسرحية مُمثََّلة، فإنك تسعى إلى إغراق سفينة نفسك
وتحطيمها. فإنَّ هذا الماء هو بحر الشهوات، وهو لا يُغرِق الأجساد، بل يُحطِّم
النفوس. وبينما َتسبَح النساء بأجسادهن العارية، يَغرَق المشاهدون في ُلجَج الشهوة
والخطية. لأن هذه هي شبكة الشيطان. وهي شبكة لا تؤدِّي إلى إغراق من ينزلون في
الماء فقط، بل أيضًا الذين يجلسون من فوق ويشاهدون، الذين هم في حال أخطر ممن
يتمرَّغون في الوحل وهي ُتغرِق وَتخُنق كل من يتعرَّض لها غرًقا أكثر خطورة مما
حدث لفرعون الذي غرق مع جميع خيوله ومركباته. ولو كان بالإمكان رؤية النفوس، لكنت
قد أريتكم العديد منها وهي تطفو فوق سطح مياه الخطية، كأجساد المصريين في ذلك
الزمان.

 

غير
أنَّ الأمر المُؤسِف حًقا هو أنَّهم يدعون هذا التدمير الكامل للنفوس سعادًة
وسرورًا، ويعتبرون بحر الهلاك وسيلة للمتعة واللذة. والواقع المُؤكَّد هو أنَّ
الإنسان قد يأمن على نفسه أن يجتاز البحار الهائجة، أيسر من أن يتطلَّع لمثل هذه
المشاهد. فباديء ذي بدء، يسارع الشيطان إلى الاستحواذ على نفوسهم طوال ليلة كاملة
بتخيُّلهم لما سيشاهدونه على المسرح، ثم بعد أن يُريهم ما توقَّعوه وتخيَّلوه، إذا
به يُعجِّل بتقييدهم، فيجعلهم أسرى. فلا تظن بأنَّك بريء أو خالٍ من الخطية لأنك لم
تتصل بالزانية، حيث أنَّ مجرد وجود الغرض داخل قلبك يعني أنك قد فعلت كل شيء.

 

وإذا
تملَّكتك الشهوة، تكون قد أضرمت النيران إلى أعلى وأعلى. أما إذا كنت لا تشعر أو
تتأثر من أي شيء مما تراه، فإنك تستحق عقابًا أشد، لأنك صرت مُحرِّضًا للآخرين، إذ
تشجِّعهم على مشاهدة مثل هذه المناظر، ولأنَّك تُدنِّس بصرك ونفسك معًا… صحيح أن
مدينتنا قد ُتوِّجت قبلاً بتسمية أهلها بالمسيحيين، إلا أنَّ أهلها أصبحوا لا
يخجلون من أنْ يحتَّلوا مراتب متأخرة جدًا في التسابق نحو العِفة والطهارة، أو أنْ
تسبقهم في ذلك أحقر المدن وأحطَّها.

 

٨.
ولكن قد يقول قائل: “حسًنا! فما هو طلبك منَّا؟ أنْ نسكن الجبال ونعيش
كالرهبان؟” إن مثل هذا الكلام هو ما يجعلني أتنهد، أنَّكم تظنون أنَّ
المعنيين بالحشمة والطهارة هم الرهبان وحدهم، بينما المؤكد هو أنَّ السيد المسيح
جعل وصاياه للجميع وعندما يقول: “كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها” (مت
٥: ٢٨)، فإنَّه لا يتكلَّم إلي غير المُتزوِّجين، بل أيضًا
للمُتزوِّجين.

فالحقيقة
هي أنَّ جبل الموعظة كان في ذلك الوقت ممتلئ بجميع أنواع وأشكال البشر. ضَعْ إذن
في عقلك صورة لذلك المسرح وحاول أن تكرهها لأنها صورة للشيطان. كذلك لا تتَّهمني
بالقسوة في كلامي، فأنا لا أمنع أحد عن الزواج، ولا أحول بين أحد وسعادته أو متعته،
فقط أريد أن يتمَّ كل شيء بطهارة دون أن يجلب علينا العار أو التعيير، أو نقع تحت
حساب لا ينتهي. إنَّني لا أضع قانونًا أمام أحد أنْ يسكن الجبال والبراري، بل أنْ
يسلك حسنًا ويراعي الطهارة، حتى لو كان يسلك في قلب المدينة. والرهبان أنفسهم
خاضعون لكل ما عندنا من قوانين، فيما عدا الزواج بالطبع. ففي أمر الطهارة يأمرنا
بولس الرسول بأن نضع أنفسنا جميعًا في مستوى واحد، قائلاً: “لأن هيئة هذا
العالم تزول” (١كو ٧: ٣١)، ولذلك يجب أن “يكون
الذين لهم نساء كأن ليس لهم” (١كو ٧: ٢٩).

 

ولذلك
فأنا لا أطالبكم بالسكن في أعالي الجبال. صحيح أنَّني أتمنى ذلك، لأن المدن الآن
تتشبَّه بما كان يحدث قديمًا في سدوم. ولكنني لا أمركم بذلك. بل عيشوا، وليكن لكل
منكم بيت وزوجة وأطفال. فقط لا تهين امرأتك، ولا تجعل أطفالك محلاً للخزي، ولا
تجلب إلي بيتك العدوى من المسرح. ألا تسمع بولس الرسول يقول: “ليس للمرأة
تسلُّط علي جسدها بل للرجل، وكذلك الرجل أيضًا ليس له تسلُّط علي جسده بل للمرأة.”
(١كو ٧: ٤). ألا تعلم أن هذه القوانين موضوعة للجميع، الرجل
والمرأة علي حدٍ سواء؟ لماذا تتشدد في لوم زوجتك إذا تكرَّر ظهورها في الاجتماعات
والمحافل العامة؟

ومع
ذلك تسمح لنفسك بالبقاء أيامًا كاملة في العروض المسرحية العامة، دون أن َتحسِب
نفسك مُستحِقًا للوم. وعندما يتعلَّق الأمر باحتشام امرأتك، تصبح أنت متشدِّدًا
أكثر مما تحتمه الضرورة والعُرْف…

 

الآن
ولحين أن ألتقي بكم ثانيةً، سأنتهي من حديثي معكم حتى لا أُثقِل عليكم. ولكن إنْ
استمرت أفعالكم هكذا، سأجعل السكين أكثر حِدًة، والجرح أكثر عمقًا. ولن أتوقف عن
هذا حتى أُحطِّم مسرح الشيطان، وأُنقِّي الكنيسة، إذ أنه هكذا سنتخلَّص من هذا العار
القائم، ونحصد ثمر الحياة الآتية بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح من نحو الإنسان،
هذا الذي له المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد. آمين.

———————-

(*)
الشماس سامح سمير (أسرة القديس ديديموس الضرير للدراسات الكنسية)

(1)
هذا الأمر يُشبِه إلى حد كبير فكرة معرفة مستقبل الشخص من خلال
“الأبراج”،وهي شبيهة أيضًا بما يُنشَر في الجرائد والمجلات.

(2)
(أع ١٧: ٢٨)

(3)
1صم 6

(4)
آورش هو ملك فارس الذي سمح بعودة اليهود المسبيين إلى أرضهم سنة
٥٣٨ ق.م.

(5)
هنا يَقصِد القديس يوحنا الفترة ما بين الميلاد وما صاحبه من معجزات، وبين بداية
خدمته عند سن الثلاثين من عمره.

(6)
هنا يُجاوب القديس يوحنا على تساؤل قد يطرحه أحد قائلاً كيف تحقَّقت النبوة
“يرعى شعبي إسرائيل” على الرغم من أنَّ شعب إسرائيل قد رُفِض لأنه لم
يُؤمِن بالسيد المسيح؟ فأوضح القديس يوحنا أنَّ المقصود ب “إسرائيل” في
هذه النبوة هم اليهود الذين آمنوا بالسيد المسيح والذين بالتالي دخلوا في رعاية
الله ومن هنا تحقَّقت فيهم النبوة.

(7)
نبوة ميخا النبي المُشار إليها سابقاً.

(8)
مركيون كان من هراطقة القرن الثاني، أمَّا بولس الساموساطي فكان من هراطقة القرن
الثالث. وكلاهما أنكر أنَّ المولود من العذراء هو الإله المُتجسِد بل هو مجرد
إنسان عادي. ولهذا وجَّه القديس يوحنا الذهبي الفم توبيخه لهما في مقابل مَدْحه
للمجوس الغرباء الذين سجدوا للإله المُتجسِد وهو بعد طفل مُقمَّط في مذود.

(9)
ذكر الإنجيل أنَّهم أثناء رجوعهم من مقابلة الطفل يسوع “أوحي إليهم في حلم..”
(مت ٢: ١٢). فربما قَصَدَ القديس يوحنا الذهبي الفم بقوله
“ملاك” أنَّ ملاكاً ظهر لهم في الحلم وأرشدهم.

(10)
“بيت لحم” باللغة العبرية تعني “بيت الخبز”.

(11)
يقصد القديس يوحنا هنا ما ذكره الرب نفسه في إنجيل متى، “بما أنَّكم فعلتموه
بأحد أخوتي هؤلاء الأصاغِر فبي فعلتم” (مت ٢٥: ٤٠).

(12)
يتحدث القديس هنا عن هؤلاء الذين لا يذهبون للكنيسة نتيجة الكسل والتراخي أو بدعوى
الانشغال بالعمل أو بمختلف أمور الحياة وهو ما نراه للأسف في عصرنا الحالي أيضًا.
ثم يتحدث القديس في الأجزاء التالية عن المسارح وهي على ما يبدو كانت في عصره
أماكن للمجون والخلاعة إذ كانت تُنصَب فوقها أحواض للسباحة لكي تسبح فيها النساء
وهنَّ شبه عاريات. إلا أننا نجد الكثير مما تحدَّث عنه ذهبي الفم له ما يماثله في
عصرنا الحديث. فلا يزال الكثير من الأعمال الفنية تعتمد على الإغراء والخلاعة
لاجتذاب الناس لمشاهدتها.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى