اللاهوت الروحي

11- دوافع اليقظة



11- دوافع اليقظة

11-
دوافع اليقظة

لابد لكل غافل أن يستيقظ..

مقالات ذات صلة

والكنيسة تعلمنا أن نقول في صلاة نصف الليل
(انظرى يا نفسى، لئلا تثقلى بالنوم، فتلقى خارج الملكوت) (تفهمى يا نفسى ذلك اليوم
الرهيب واسيقظى، واضيئى مصباحك بزيت البهجة) (ربما أن الديان حاضر، اهتمى يا نفسى
وتيقظى، وتفهمى تلك الساعة المخوفة..) إنها دعوة من الكنيسة لليقظة، ولكن..

كيف يمكن للنائم روحيا أن يستيقظ؟

وكيف استيقظ الخطاة من قبل؟ وكيف تحول بعضهم،
ليس فقط من خطاة إلى تائبين، وإنما من خطاة إلى قديسين؟ ما هى الوسائل والدوافع
إلي يقظة الإنسان، سواء كانت ذاتية أو خارجية؟ هذا ما نود أن نتحدث عنه الآن.

إن الله لا يترك الإنسان في غفلته..

لأنه يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق
يقبلون (1 تى 2: 4) فالإنسان الغافل عن خلاص نفسه، لا تظنوا أن الله يغفل أيضا عنه،
بل على العكس يسعى إلى إيقاظه، بأنواع وطرق شتى، لعل في مقدمتها أعمال محبته.

محبة الله للخاطئ

رفض الله للخاطئ

رفض الكنيسة أو عزلها للخاطئ

الضيقات والضربات

الفشل والمذلة وشماتة الأعداء

تدخل القديسين

الذكريات المقدسة القديمة

تأثير وسائط النعمة

التأثر بموت الآخرين

السقطة الكبيرة غير المحتملة

 

12- محبة الله لنا

الناس كثيرون استيقظوا بسب محبة الله لهم.. فعلى
الرغم من تركهم له، ونسيانهم له، وجدوا أن محبته تحصرهم بشدة، وعطفة يتزايد عليهم،
ويده تقرع على أبوابهم. وأحس هؤلاء بالخجل من محبة الله الذي نسوه، فرجعوا.

 

أحيانا يخجل الإنسان من محبة له، وعنايته به،
على الرغم من كثرة خطاياه. فتهز هذه المحبة أعماق نفسه، فيستيقظ ضميره.. ويخجل من
الله الذي ما زال يعطف عليه وهو في عمق سقوطه! فيقول له (أنا يا رب مكسوف منك. أنت
عاملتنى بطريقة أخجلتنى أمام نفسى. إننى أخجل من أن أخطىء إليك مرة أخرى. نبلك
يخجلنى)

 

من ضمن الذين أيقظتهم محبة الله: زكا العشار.

كان غارقا في الظلم والقسوة. وذهب ليرى المسيح،
لا حبا ولا إيمانا، إنما بقصد الفرجة على شخص مشهور تزحمه الجماهير. كل ما كان
يريده أن يرى المسيح ولو من بعيد، وكفى.. من أجل هذا تسلق شجرة ليرى.. وإذا به
يفاجأ بأن هذا الرجل العظيم صاحب المعجزات المبهرة، يقف عنده، يلتفت إليه التفاته
خاصة، من دون هذه الآلاف المحيطة به وأكثر من هذا يناديه بإسمه. ويستضيف نفسه عنده،
قائلا له – أمام هذه الجموع التي تحتقر العشارين – (يا زكا، أسرع وانزل، لأنه
ينبغى أن أمكث اليوم في بيتك) (لو 19: 5).

 

وإذا بزكا تأسره هذه المحبة وهذا النبل، من جانب
السيد المسيح، الذي من أجله احتمل تذمر الناس عليه بقولهم (إنه دخل ليبيت عند رجل
خاطئ).. وهذه اللفتة

 

الكريمة والمحبة الخاصة، أسرت قلبه فاعترف
بخطاياه التي لم يعيره بها المسيح.. وتاب عنها وقال: (ها أنا يارب أعطى نصف أموالى
للمساكين. وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف) ونجحت محبة الرب في إيقاظ زكا،
و(حصل خلاص لهذا البيت)..

 

ومثال ذلك أيضا تلميذ أهمل دروسه جدا، لدرجة
اليأس الكامل من النجاح. ثم ألقى نفسه أمام الله وبكى، وهو في حياة خاطئة بعيدة عن
الله. ولكن الرب عامله برحمة عجيبة، ولم يتخل عنه بسبب خطاياه وبسبب إهماله، ونجح
بشبه معجزة.. فلم يستطيع أن ينسى جميل الرب وتاب.. أو شخص أنقذه الله من فضيحة
تحطم حياته، وستر عليه، وهو في عمق السقوط، فإذا بمحبة الله تعصر قلبه ويقول: محال
أن ابعد عن الله الذي عاملنى بهذا الحب العجيب، وسترنى.. وكما أن البعض أيقظتهم
محبة الله، وهناك من أيقظهم رفضه لهم فشعروا بالضياع الذي يعيشون فيه، واستيقظوا..

 

13- رفض الله

ولعل أبرز مثل لذلك: مريم القبطية..

كانت تعيش في فساد كامل، وفى كل يوم تكون سببا
في إسقاط كثيرين. واستمرت على هذا الوضع سنوات طويلة، لا تفيق لنفسها، بل تتمادى.

ثم ذهبت الى القدس للزيارة، لا لتنال بركة، إنما
لتمارس فسادها في الزحام..

ولما سارت نحو الأيقونة المقدسة، شعرت إنها قد
تسمرت في مكانها، ولم تستطيع أن تتقدم كالباقين.

وبذلت قصارى جهدها فلم تفلح، كانت كأنها مربوطة
إلى الأرض.

ولم يسمح لها الرب أن تنال البركة كغيرها..

وإذ شعرت برفض الله لها، تذكرت خطاياها، وخجلت
من نجاساتها، وافاقت من تخدير الخطية لها، وتشفعت بالسيدة العذراء، ونذرت أن تتوب
وتحيا في طهارة وهنا فقط شعرت بأنها تتقدم بلا مانع..

 

وكانت النتيجة أن حياتها تغيرت كلية، وترهبت،
وعاشت في نسك عجيب، منفردة في البرارى في حياة السواح، وصارت قديسة عظيمة صنع الله
بها عجائب وتبارك منها القديس الأنبا زوسيما القس وكتب لنا سيرتها.

 

إن لطف الله إنما يقتاد إلى التوبة. ولكن إن كان
البعض يستغل محبة الله استغلالا رديئا، ويحيا في استهتار ولا مبالاة فهذا قد يوقظه
الرفض أو التجربة أو الضربة الشديدة، وقد يأتى الرفض من الله مباشرة كما في مثال
مريم القبطية، وقد يأتى من الكنيسة..

 

14- رفض الكنيسة

ومن أمثلة الذين أيقظهم رفض الكنيسة: القديسة
مرثا.

كانت إمرأة خاطئة أيضا، تعمل في الملاهى، وتصادق
الأمراء والأثرياء. ولما ذهبت إلى الكنيسة، منعها الإيبدياكون من الدخول لأنها
إمرأة خاطئة لا تستحق دخول الكنيسة. فلما تجادلت معه، وسمع الأب الأسقف صوت
الخصومة، خرج فاشتكت إليه، فأفهمها إن بيت الله مقدس لا يدخله من يعيش في الخطية.
فتأثرت جدا، وقالت له: (يا سيدى، ما عدت أخطىء). فقال لها: إن كنت صادقة في هذا،
أحضرى كل غِناك إلى هنا. فذهبت وأحضرت كل ملابسها وتحفها ومظاهر ثرائها. فأمر
الأسقف بحرق هذا كله، (لأنه لا يجوز أن تدخل أجرة زانية إلى الكنيسة، حسب تعليم
الكتاب. (تث 23: 18) فتخشعت مرثا جدا، وضربها قلبها بشدة. وقالت لنفسها: إن كانوا
قد فعلوا بك هكذا على الأرض، فكم يكون جزاؤك في السماء؟! وكان هذا الرفض من
الكنيسة سببا ليقظتها فتابت وصارت من القديسات.

 

ومن الأمثلة المشابهة أيضا: خاطئ كورنثوس.

طبق عليه القديس بولس مبدأ (اعزلوا الخبيث من
بينكم) (1كو 5: 13). وقال لأهل كورنثوس (لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا) (1 كو 5:
11) بل أنه أمر أن (يسلم مثل هذا للشيطان لإهلاك الجسد، لكى تخلص الروح في يوم
الرب) (1 كو 5: 5) ولما عزل هذا الخاطئ، وأحس أنه منبوذ من الجميع، وأنه غير مستحق
أن يوجد في جماعة المؤمنين، أحس بالخزى، واستيقظ إلى نفسه، وحزن جدا على ما وصل
إليه من خطية وتاب توبة حقيقية، حتى أن القديس بولس في رسالته إلي أهل كورنثوس،
أمرهم أن يمكنوا المحبة لذلك التائب المعزول منهم، وان يستامحوه ويعزوه (لئلا
يُبتلع مثل هذا من الحزن المفرط) (2 كو 2: 7: 8).

 

لأجل ذلك وضعت الكنيسة في عصورها الأولى قوانين
لمعاقبة الخطاه، لمنفعتهم الروحية.. ونظمت ترتيب خوارس الكنيسة تبعا لذلك. وما
كانت تسمح لكل أحد بالتقدم إلى الأسرار الإلهية. وكان هذا المنع يوقظ الضمائر، إذ
يشعر فيه الخاطئ بثقل خطاياه ونتائجها المؤلمة. وينبغى في هذه الأمثلة أو غيرها،
أن تعرف حقيقة هامة من جهة رفض الله للخطاه، أو رفض الكنيسة لهم، أو عزلهم عن
جماعة المؤمنين، وهى:

إنه رفض مؤقت، وللمنفعة الروحية، وتعمل فيه
النعمة لإرجاعهم.

 

إنه مجرد إشعار للخاطئ بأنه فى حالة دنسة، لا
تسمح له بالإندماج في قدسية الكنيسة. وذلك لكى يصحو إلى نفسه ويغير مسلكه، أو كما
قال الرسول (لكى تخلص الروح).. أيضا من دوافع اليقظة الروحية، الضيقات والضربات:

 

15- الضيقات والضربات

هناك أناس لا توقظهم المحبة، ولا التوبيخ الهادئ،
وإنما يحتاجون إلى لطمة قوية توقظهم، فيرجعون إلى الله كإنسان في حالة سكر، لا
يمكن أن يفيق بأن تربت على كتفه في وداعة وتدعوه أن يصحو.. أو مثل فرعون الذي
احتاج إلى ضربات شديدة، فكان يفيق ويقول:

 

(أخطأت إلى الرب.. صليا إلى الرب إلهكما، ليرفع
عنى هذا الموت) (خر 10: 16) (أخطأت.. الرب هو البار، وأنا وشعبى الأشرار) (خر 9: 270)
ومشكلة فرعون إنه كان يعود فيغلبه طبعه، ولم تكن يقظته نابعة من توبة حقيقية.

 

ولعل اخوة يوسف، مثال للذين ساعدتهم الضيقة على
اليقظة.

لقد تآمروا على أخيهم يوسف، وباعوه كعبد، وخدعوا
أباهم يعقوب وادعوا أن وحشا قد افترس يوسف. وفى كل ذلك لم يتوبوا، ولم يفيقوا
لأنفسهم. ولكنهم لما وقعوا في ضيقة شديدة عند شراء القمح، وأتهمهم الحاكم بأنهم
جواسيس، وحبسهم ثلاثة أيام، وأمرهم بإحضار أخيهم الصغير (بنيامين) ليثبتوا صدق
كلامهم. حينئذ أفاقوا بسبب هذه الضيقة، وتذكروا خطيتهم إلى يوسف (وقالوا بعضهم
لبعض: حقا أننا مذنبون إلى أخينا الذى رأينا ضيقة نفسه لما استرحمنا ولم نسمع.
لذلك جاءت علينا هذه الضيقة.. وأجابهم رأوبين قائلا: ألم أكلمكم قائلا لا تأثموا
بالولد، وأنتم لم تسمعوا؟ فهوذا دمه يطلب) (تك 42: 21، 22) كذلك لما دبر يوسف أن
يوجد طاسه الفضى في متاع بنيامين الصغير الذي ضمنوه لأبيهم الشيخ، وقرر يوسف أن
يأخذ منهم بنيامين، قال يهوذا ليوسف (ماذا نتكلم؟ وبماذا نتبرر؟ الله قد وجد إثم
عبيدك) (تك 44: 16) بالضيقة تذكروا ذنبا مرت عليه سنوات طويلة.. كم من شخص كأخوة
يوسف، إذا أصابته ضيقة يستيقظ ضميره، ويقول (هذا ذنب فلان الذي ظلمته أو ذنب فلان
الذي صرفته والدمع في عينيه، ولم أشفق..؟!).

 

ومن أمثلة الذين أيقظتهم الضيقات، الإبن الضال:

لم يستيقظ ضميره وهو حياة المتعة، ينفق ماله
بعيش مسرف، ويلهو مع أصحابه.. ولكنه لما افتقر واعتاز، وأشتهى الخرنوب الذي تأكله
الخنازير ولم يجد.. حينئذ أمكن لهذه الضيقة أن توقظه. فيقول الكتاب إنه (رجع إلى
نفسه) وقال (كم من أجير عند أبى يفضل عنه الخبز وأنا هنا أهلك جوعا؟! أقوم وأذهب
إلى أبى..) (لو 15: 17). وهكذا قادته الضيقة إلى اليقظة وإلى التوبة، وعاد إلى
أبيه.

 

مثال آخر أيقظته الضيقة، هو يونان النبى.

لقد هرب من وجه الرب، ولم يطعه في الذهاب إلى
نينوى.. كل هذا وضميره لم يحركه. وحتى عندما ركب سفينة إلى ترشيش، وهاجت الأمواج
على السفينة حتى كادت تنكسر، وصرخ ركاب السفينة كل واحد إلى إلهه.. على الرغم من
كل هذا لم يتحرك ضمير يونان، بل (نزل إلى جوف السفينة واضطجع ونام نوما ثقيلا)
(يون 1: 5) مما اضطر رئيس النوتية إلى أن يوبخه قائلا (مالك نائما. قم أصرخ إلى
إلهك، عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك). ولكن يونان لم يصرخ إلى إلهه. متى
استيقظ إذن وصرخ إلى إلهه؟ حدث هذا حينما وقع في الضيقة الكبرى، وابتلعه الحوت،
فاكتنفته المياه، وأحاط به الغمر، وأعيت فيه نفسه حينئذ (صلى يونان إلى الرب إلهه
من جوف الحوت) وصرخ إلى الرب، ونذر، وقال للرب الخلاص (يون 2).

 

هناك من لا توقظه الضيقات الصغيرة، بل ضيقة مرة
توقظه.

كما حدث ليونان النبى، الذي لم تكن الأمواج
الشديدة كافية لإيقاظه، فاحتاج إلى حوت يبلعه لكى يفيق إلى نفسه. ولو أننا نلاحظ
في قصة يونان أن اليقظة التي سببها ابتلاع الحوت له، لم تكن يقظة كاملة أو دائمة.
فعلى الرغم من أنه أطاع الرب بعدها وذهب إلى نينوى، إلا أن طبعه عاد فغلبه، واحتاج
إلى عمل الهى آخر!

 

ومن أمثلة الضيقات التي توقظ الضمير أحيانا: الأمراض
والأحداث:

إن ساعة واحدة مؤلمة من مرض قاس مستعصى، قد توقظ
الخاطئ وترده إلى الله، أكثر من ألف عظة، وبخاصة المرض الذى يهدد بالموت، أو المرض
الذي يطول ويبدو أن الأطباء

 

قد عجزوا عن علاجه.. فى المرض يشعر الإنسان
بضعفه، فيلجا إلى الله. وهنا يبدأ التفكير في أن يصطلح مع الله. فيستيقظ من غفوته،
ويعود إلى الله مصليا، طالبا منه العون والشفاء وسواء في ذلك: المرض الذي يصيب
الشخص نفسه، أو المرض الذي يصيب واحدا من أحبائه..

 

ولعل هذه اليقظة من الأسباب التى لأجلها سمح
الله بالأمراض..

 

مارأوغريس البنطي ST EVAGRIS المرشد الروحى العظيم.. وتدخل في نطاق الأمراض أيضا الأوبئة
الفتاكة، التي تهلك بالمئات والآلاف، فيغشى كل فرد منها على حياته، ويشعر أن دوره
في الموت ربما يأتى اليوم أوغدا..وهكذا يصحو إلى نفسه ويتوب مستعدا لأبديته. ولعل
البعض يذكر وباء الكوليرا الذي أصاب إن الخاطئة التي ادعت على القديس مقاريوس أنه
أخطأ معها، وأنها حملت منه: هذه لما تعسرت جدا في الولادة، واشتدت الأوجاع عليها
حتى قاربت الوفاة، عرفت أن هذه الضيقة إنما هى ضربة لها من الله، فاستيقظت لنفسها،
واعترفت إنها ظلمت ذلك البار، وأخبرت باسم الشاب الذي أخطأ إليها بالحقيقة. وتوجد
حوادث أخرى مماثلة قد سجلها التاريخ..

 

ولعل الله قد سمح لهذه الخاطئة وأمثالها بآلام
الجسد، لكى تخلص الروح في يوم الرب، كما القديس بولس الرسول عن خاطئ كورنثوس (1كو
5: 5). ولعل من القصص المعروفة في التاريخ: المرض المستعصى الذي أصاب الشماس
أوغريس، وفشل كل أنواع العلاج فيه. وأخيرا قالت له القديسة ميلانيا (إنى أرى يا
ابنى، أن هذا المرض ليس مثل باقى الأمراض. فاخبرنى ما هو سببه في حياتك) وهنا صحا
أوغريس إلى نفسه وصارح القديسة بمشكلته الروحية. وقاده هذا المرض ليس فقط إلى
اليقظة الروحية، وإنما وصل به أيضا إلى الرهبنة فصار من آبائها ومرشديها المعروفين.
وتحول من أوغريس الذي تتعبه الخطيئة، إلى القديس مصر سنة 1948.. حقا كان في أيامه
سبب يقظة لكثيرين وما نقوله عن الأمراض، يمكن أن نقوله أيضا عن بعض الأحداث الأخرى
التى يتعرض لها الإنسان، ويحتاج فيها إلى معونة من فوق، كما قال الرب (ادعنى في
وقت الضيق، أنقذك فتمجدنى) (مز 50: 15).

ومن الضيقات التي توقظ الإنسان الخاطى، نوع آخر
هو: الفشل والمذلة والشماتة.

 

16- الفشل | المذلة | الشماتة

فقد يكون الفشل في بعض الأحيان ضربة يسمح بها
الله للخاطئ لكى يصحو إلى نفسه. وفى ذلك يقول الرب في سفر التثنية، ضمن حديثه عن
لعنات الخطية: (لا تنجح في طرقك، بل لا تكون إلا مظلوما مغصوبا كل الأيام وليس
مخلص.. بذارا كثيرة تخرج إلى الحقل وقليلا تجمع، لأن الجراد يأكله.. يكون لك زيتون
في جميع تخومك، وبزيت لا تدهن، لأن زيتونك ينتثر.. ولا تأمن على حياتك. في الصباح
تقول يا ليته المساء، وفى المساء تقول ياليته الصباح) (تث 28: 29 – 67)

 

فإن أحس الإنسان أن فشله يرجع إلى عدم رضى الرب
عليه وإلى تخلى النعمة عنه، يرجع إلى نفسه.

 

يحدث ذلك عندما يجد الفشل يلاحقه.. كل باب يطرقه،
يجده مغلقا في وجهه! وكل مشروع يبدا فيه، ينتهى إلى الضياع.. فيدرك أن بركة الرب
قد خرجت من حياته، ويفيق لكى يصطلح مع الله، إذ قيل عن الرجل البار إن (كل ما
يعمله ينجح فيه) (مز 1) حقا إن الله بأنواع وطرق شتى، يوقظ الخاطئ من غفلته.

 

ولعل من أمثلة الفشل والمذلة، ما حدث لشمشون
الجبار..

هذا القديس العظيم، الذي حل عليه روح الرب وصنع
به انتصارات عجيبة، لما وجد أن نعمة الله قد فارقته، فضاعت قوته وضاعت هيبته،
وأذله أعداؤه، حينئذ ندم على ما فعله واستيقظ، واصطلح مع الله، فأعاد إليه قوته..
وقد ضرب الرب لنا مثلا آخر عن الفشل الذي هو نتيجة لتخلى الرب، والذى يقود إلى
اليقظة الروحية، بمثال:

 

فشل جيش يشوع أمام قرية عاي الصغيرة..

وكان ذلك الفشل المخجل، بعد الإنتصار العظيم على
أسوار أريحا.. حينئذ أحس يشوع أن هناك خطية وخيانة سببت الفشل. وبدا يوقظ الشعب
كله، لكى يعزل الخبيث من وسطه، لترجع بركة الرب إليه. وهكذا انكشف موضوع عخان بن
كرمي. وبالتخلص من تلك الخطيئة، رجعت بركة الرب (يش 7) ما أسهل أن ترن في الآذان،
خلال مرارة الفشل، عبارة (فى وسطك حرام يا إسرائيل) (يش 7: 13)

 

(فاعزلوا الخبيث من وسطكم) (1كو 5: 13) إصحوا
لأنفسكم. إستيقظوا لا تمسوا نجسا. إرجعوا إلى، فأرجع إليكم. وهكذا تكون اليقظة
الروحية علاجا للفشل، بالصلح مع الله.

 

على أن هناك –للأسف الشديد – من يقودهم الفشل
إلى مزيد من الخطأ..

 

هؤلاء بدلا من أن يقودهم الفشل إلى اليقظة
فالتوبة، نراهم في الفشل يتضجرون، ويتذمرون ويفقدون أعصابهم، وربما يجدفون على الله
أيضا، ويصفونه بالقسوة والظلم!! والبعض منهم قد يغرقون أنفسهم في ملاذ الجسد، وفى
الخمر والمخدرات، لكى ينسوا ما هم فيه من ضيق والبعض قد يلجأ إلى السحر والشعوذة
والأرواح، متوهمين أن سبب فشلهم هو (عمل) من الشيطان..! والله قد يصبر على هؤلاء
جميعا، حتى تفشل كل طرقهم البشرية في إنقاذهم من الفشل.. وبدلا من التجديف على
الله، يدخلون معه في عتاب. وحينئذ تستيقظ قلوبهم ويرجعون إلى الله

 

فإن كنت أيها الأخ تشكو من فشل يتابعك في حياتك،
إرجع سريعا إلى نفسك، وفتش داخلك جيدا، وانزع الخبيث من وسط محلتك، واصطلح مع الله..
وهكذا تعود إليك البركة، فتحيا وتنجح.. إن وجدت كل الأبواب مسدودة أمامك، فارجع
إلى الله يفتح ولا أحد يغلق (رؤ 3: 7) إن الله يستخدم كل الطرق لإيقاظنا سواء كانت
ضيقة أو ضربة، أو مرضا، أو مذلة، أو فشلا، لكى نصحو إلى أنفسنا

 

ولكن لماذا ننتظر ضربات الرب لكى نصحو؟! لماذا
لا نصحو من الآن؟ ولا نلجئ الله إلى استخدام الشدة معنا!

 

إن الضيقات التي يسمح بها الله لإيقاظنا، على
نوعين: إما ضيقة طبيعية، أى هى نتيجة طبيعية لأخطائنا وخطايانا.. أو هى ضيقة
أرسلها الله من نعمته، بنوع من التخلى المؤقت

وكلاهما للخير إن أحسنا استخدامهما، لنستيقظ
ونتوب..

ومن الضيقات التي يسمح بها الرب أحيانا، شماتة
الأعداء..

ونلاحظ أن الإنسان ربما يحتمل الضيقة أو الفشل،
ولكنه قد لا يحتمل فرح أعدائه في ضيقته وشماتهم بما أصابه من فشل أو سقوط. وفى ذلك
قال أحد الشعراء:

كل المصائب قد تمر على الفتى فتهون غير شماتة
الأعداء

وإذ يتألم الإنسان من شماتة الأعداء، يجد أنه
تلقائيا يرجع إلى الله، ليصطلح معه ويقول له (..لا تشمت بى اعدائى) (مز 24)،
(الذين يحزنوننى يتهللون إن أنا سقطت) (مز 12) إن شماتة الأعداء قاسية، ومن قسوتها
أيقظت كثيرين..

 

ولعل من الذين أيقظتهم شماتة العدو، القديس
يعقوب المجاهد..

هزا هذا القديس بالشيطان، وأراد الشيطان أن
ينتقم لنفسه بإسقاط القديس. وهكذا دبر له حيلة ماكرة، إستطاع بها أن يسقط القديس
أخيرا في خطية الزنا. ثم أسقطه في الكذب لكى يغطى على هذا الزنا، ثم جعله يخلف
كذبا لعله يثبت ما ذكره من كذب. وبعد هذا السقوط الثلاثى ظهر الشيطان للقديس، وهزأ
به في سقوطه، ومضى ضاحكا فرحا. وهذه الشماتة من الشيطان جعلت القديس يعقوب يستيقظ
من سقطته، ويصحو لنفسه، ويقدم توبة عجيبة، حبس نفسه في مقبرة لمدة 17 سنة في بكاء
ودموع، وهو يقول لنفسه إنه لا يستحق أن يرى الناس ولا يرى النور.. إلى أن تحنن
الله عليه أخيرا، واظهر له بمعجزة أنه قد قبل توبته. إن الله يعين الخاطئ على
اليقظة الروحية إما بعوامل داخلية، داخل قلبه، أو بعوامل خارجية لعل من تدخل
القديسين.

 

17- تدخل القديسين

قد يتدخل القديسون الأحياء بصلواتهم لإنقاذ نفس
خاطئة، مثلما اجتمع قديسو برية شيهيت، ورفعوا صلوات من أجل القديسة بائيسة في
سقتطها. وقد يتدخل قديسو الكنيسة المنتصرة في السماء، فيشفعون إحدى النفوس لتستيقظ
كما فعلت القديسة العذراء لما تشفعت في مريم القبطية فأيقظتها..

وقد يتدخل القديسون الأحباء تدخلا عمليا لإيقاظ
نفس وهدايتها:

 

ا- مثلما فعل القديس بيصاريون لإنقاذ القديسة
تاييس:

ذهب إليها في مكان عارها، وحدثها عن الله
والدينونة، فتخشعت من كلامه وارتعدت، وهو يقول لها (إن كانت هناك دينونة، فكيف
تتسببين في هلاك هذا العدد الكبير من النفوس، لأنه من أجل هذه النفوس الكثيرة
سيكون عقابك أكثر من مجرد عقابك على سقوطك) ولفزع تاييس من جدية كلام القديس
وتأثرها به، سقطت على الأرض وانفجرت باكية. وأمكن أن يقودها القديس إلى التوبة
والخروج من أماكن الآثم، حيث قضت حياتها كقديسة.

 

ب- وقصتها تشبه قصة خاطئة أخرى أنقذها القديس سرابيون
الكبير:

ذهب إليها القديس لكى يختطف نفسها من النار.
ودخل مكان عارها. وظل يتلو مزاميره وفى نهاية كل مزمور، كان يصلى قائلا (إرحم يارب
هذه المسكينة وردها إلى التوبة فتخلص)

 

وكانت هذه الخاطئة تسمع صلواته، وهى واقفة إلى
جواره ترتعد خوفا وخجلا. وأخيرا خرت على قدميه طالبة إليه أن يخلصها. فأرشدها إلى
طريق الله، وأخرجها من بيت الخطية إلى بيت للعذراى حيث عاشت حياة توبة..

 

ج- ومن هذا النوع أيضا قصة القديس يوحنا القصير،
وسعيه لخلاص نفس القديسة بائيسة:

وهذه كانت قد بدأت حياتها بداية طيبة. كانت غنية
جدا، وكريمة جدا، وطاهرة جدا. وكانت تنفق أموالها على الغرباء والمساكين، وعلى
الأديرة والكنائس. ومع ذلك استطاع الشيطان أن يضلها فانحرفت إلى الفساد وعاشت في
أعماقه. وسمع بأمرها الشيوخ القديسون في شيهيت، وأقاموا الصلوات لأجلها. ولم
يكتفوا بالصلاة وحدها، بل أرسلوا إليها القديس يوحنا القصير لكى يختطف نفسها من
الجحيم. فذهب إليها هذا القديس العظيم في مكان عارها، وهو يرتل قول المزمور (إن
سرت في وادى ظل الموت فلا أخاف شرا لأنك أنت معى) نظر إليها القديس وقال لها
(لماذا استهنت بالسيد المسيح بهذا المقدار؟.. كيف أضلك الشيطان حتى بعت المسيح
بهذا الثمن الرخيص؟ وأحنى القديس رأسه وبكى بكاءا مرا وتأثرت بائيسة من توبيخه لها،
وتأثرت من بكائه، واستيقظ ضميرها.. وقالت للقديس (هل لى توبة؟) فأجابها (نعم، ولكن
ليس في هذا المكان) إقتنعت، وسلمت نفسها لهذا الذي أتى من أجل خلاص نفسها وخرجت
التائبة بائيسة مع القديس إلى البرية. ولما أدركهما الليل، تركها تنام في ناحية،
وانفرد في مكان آخر يصلى، ورأى في رؤيا نورا عظيما يمتد بين السماء والأرض،
والملائكة صاعدين بروح بائيسة، فذهب إلى حيث كانت فوجدها قد ماتت.. وسمع صوتا يقول
(إن توبتها قد قبلت في ساعتها التي تابت فيها، أكثر من الذين قضوا سنين كثيرة في
التوبة ولكن ليست بنفس الحرارة.. ورجع القديس يوحنا القصير إلى شيهيت، وأخبرا
الآباء القديسين بتوبة بائيسة ونياحتها وقبول الله لها. وكتبت قصتها في سنكسار (2
مسرى) وهكذا كان تدخل القديسين له عمقه في إيقاظ الخطاة.

 

وأنت يا أخى، لعل القديسين لهم دور في يقظة نفسك..

ربما في الأوقات التي تصحو فيها نفسك بعد غفوة
معينة، يكون سبب ذلك صلوات قديسين قد رفعت من أجلك، فأرسل لك الله نعمة خاصة توقظك.
وهكذا لا يجوز لنا أن نيأس من خلاص الخطاة، لأن قديسين كثيرين يعملون لأجلهم
ويذكرونهم أمام الله في السماء.

 

أما على الأرض، فتعلمنا هذه القصص أهمية
الإفتقاد..

كم من نفس غافلة، تحتاج إلى افتقاد منك، من نوع
زيارة القديس يوحنا القصير لبائيسة بنفس الجدية والعمق، وبنفس الروح والتأثير..
وكما تفعل زيارة القديسين في إيقاظ الخطاة، هكذا أيضا تفعل الذكريات المقدسة في
زيارتها للعقل والقلب وتأثيرها عليهما.

 

18- الذكريات المقدسة القديمة

هناك خاطئة أخرى، لها قصة شبيهة، وقد أيقظتها
الذكريات المقدسة القديمة، التي أثارها فيها إفتقاد قديس لها، وهى:

مريم الخاطئة التي تابت بافتقاد عمها القديس
إبراهيم المتوحد لها.

كانت قد بدأت بحياة نسكية طيبة في مغارة مدى
عشرين عاما تحت رعاية عمها. ثم أغواها الشيطان، وسقطت وهربت، واستمرت في السقوط،
كأنها نسيت حياتها القديمة البارة.. ربما ليأسها من الرجوع إلى الله وبحث القديس
الأنبا إبراهيم عنها. وأخيرا عرف مكانها، وذهب إليها متنكرا. وجلس إليها.. ولما
لمحت المسوح التي كان يلبسها تحت ثياب تنكره، واشتمت منه رائحة عرق النسك، ثارت
فيها الذكريات القديمة، وبدأت تستيقظ. بينما كان القديس يصلى من أجلها. وتذكرت
مريم أيام عفافها ونسكها، وانفجرت باكية، وهى تقول:

 

(ويل لى، إننى أتعس كل بنى البشر) واستغل القديس
تأثرها، فقال لها (أيتها القديسة إبنة المسيح، هل أنت مقتنعة ومسرورة بما أنت فيه)..
وحدثها القديس عن ذكريات نسكها القديم. ومرت لحظات وهى جامدة أمامه من الخوف
والخزى، فأخذ القديس يعزيها ويقيمها من هوة اليأس. ثم أخذها وأخرجها من ذلك الفندق
وقادها إلى حياة التوبة مرة أخرى، ورجعت إلى مغارتها، تبكى خطاياها، ولكن في رجاء
التوبة.. وفى ساعة إنطلاقها من العالم، بعد سنوات في التوبة، كان وجهها يضئ
كالمصباح

 

إن الذكريات القديمة المقدسة قد هزت نفس القديسة
مريم وأيقظتها، ولم يكن عمها الأنبا إبراهيم محتاجا إلى مجهود كبير معها لإيقاظها.

 

وكم من أناس توقظهم ذكرياتهم القديمة المقدسة..

عندما يتذكر الإنسان محبته الأولى، وعمق حياته
الروحية في ماضيه.. عندما يتذكر أيامه الحلوة مع الله، والحرارة التي كانت له في
صلواته وفى خدمته، وعمل الله معه ما أسهل حينئذ أن يتحرك قلبه فيستيقظ، ويبكى على
ما هو فيه.. ربما تقع في يده مذكرة تأملات قديمة له.. وإذ يعاود قراءتها تهتز نفسه
من الداخل، فيصحو.. قد تصادقه صورة له مع أشخاص روحيين كانوا زملاءه في طريق الرب،
فتذكره هذه الصورة بأيام سعيدة مع الله، يشتاق قلبه إليها فيصحو.. وربما يزوره
صديق قديم، يحكى له ذكريات الخدمة، أو ذكريات رحلاته معه إلى الأديرة ومواضع
القديسين، فتتأثر نفسه ويستيقظ.. ياليتنا كلما نفتر، نعود فنتذكر ماضينا الحلو
فنصحو.. وليتنا أيضا نضع أمامنا قنوات ثابتة بيننا وبين الذكريات القديمة، نعيدها
إلي أذهاننا بين الحين والآخر، لنمتص عصارتها وتسرى في عروقنا فتنعشها..

من الأسباب التي تساعد أيضا على اليقظة الروحية:
تأثير وسائط النعمة.

 

19- تأثير وسائط النعمة

إن نعمة الله تعمل في قلب الإنسان لتوقظه، إما
بنخس مباشر للضمير، وإما عن طريق وسائط روحية تؤثر فيه، مثل قراءة روحية تهتز نفسه
هزا، أو عظة عميقة تستطيع أن تدخل إلى أعماقه فيستيقظ، أو قداس روحى يسمعه فيحمل
نفسه إلى أجواء أخرى غير أجواء الخطية، أو اجتماع روحى ينقله من جو الخطيئة الذي
يعيش فيه إلى جو مغاير فيصحو..

 

وما أكثر القصص التي فيها استيقظ خطاة بوسائط
النعمة..

 

فهكذا استيقظ أوغسطينوس، عندما قرأ حياة القديس
العظيم الأنبا انطونيوس، وشعر بلذة وعمق الحياة النسكية التى عاشها ذلك القديس
العجيب.. وتاب أوغسطينوس، وتحول إلى نبع من الروحيات إرتوى منه كثيرون..

 

وبيلاجية الممثلة والراقصة المشهورة في أنطاكية،
كيف استيقظت؟

 

لقد ذهبت إلى الكاتدرائية الكبرى في أنطاكية،
ربما للفرجة إذ كان عدد كبير من الأساقفة في زيارة لها. وتصادف أن القديس نونيوس
كان يعظ من كل قلبه عن الحياة الأخرى وما فيها من بركات للأبرار ودينونة للخطاة.
وكان يتكلم بالروح، بتأثير عميق في النفوس، بكلام بسيط ولكنه قوى نفاذ. وإذ بخوف
الله يدخل في قوة إلى قلب بيلاجية، فتصحو لنفسها، وإذا بدموعها تنهمر على الرغم
منها.. وتصر في داخلها على مقابلة القديس نونيوس بعد انصرافه من الكاتدرائية،
وتبدأ قصة توبة، تتحول بها إلى قديسة تصنع عجائب..

إن نفس التأثير الروحى أيقظ أيضا أفدوكيا
الخاطئة..

إلى أنها نالت عاشت في الخطية زمانا، قادها فيه
شيطان اليأس إلى الإستسلام وخدر ضميرها. ولكن كيف استيقظت؟ لذلك قصة: كانت في
بعلبك. وحدث أن راهبا قديسا يدعى جرمانوس زار صديقا له كان يقيم بيت مجاور لهذه
الخاطئة. وفى منتصف الليل كان الراهب يصلى صلوات عميقة، وكان يقرأ فصولا مؤثرة من
الكتاب المقدس ومن الكتب الروحية، وكان صوته مرتفع ربما ليطرد النوم عنه.. وكانت
هذه الخاطئة تتجسس بأذنيها أصوات جيرانها. فسمعت هذه الصلوات وهذه القراءات
الروحية، وتأثرت بها جدا وهزت مشاعرها، فأدركها الحزن على نفسها، واستيقظت روحها
داخلها. وفى الصباح ذهبت وقابلت القديس جرمانوس، الذي وعظها كثيرا وتأثرت جدا
بوعظه، وبدأت معها قصة توبة.. فتعمدت، والتحقت ببيت للعذارى، وارتفعت في حياة
الروح والنسك، حتى صارت أما لهذا البيت، وانتهى بها الأمر إكليل الشهادة، وتعيد
لها الكنيسة في اليوم الخامس من برمهات (باسم أود كسيا) حقا انه خطر على الإنسان،
أن يبقى في جو واحد فقط هو جو الخطية..

 

بحيث يؤثر عليه هذا الجو تأثيرا كاملا، ويسيطر
عليه، ولا يعطيه فرصة أن يتنفس هواء

 

جديد ا.. أما وسائط النعمة، فإنها تقدم تأثيرا
جديدا يقيم توزانا داخل قلب الإنسان، ويشعره بخطورة موقفه، فيستيقظ لنفسه.. كما
أنها تغرس فيه مشاعر من نوع آخر، تقربه إلى الله وحياة البر، وبخاصة إن كان الخاطئ
قد أتعبته الخطية، ولكنه بقى فيها إذ لم يجد غيرها، أولم يجد من يقوده خارجها..
وهكذا تؤدى الوسائط الروحية عملها في إيقاظ النفس الخاطئة..

هناك سبب آخر نقدمه في موضوع اليقظة الروحية وهو:
التأثر بموت الآخرين.

 

20- التأثر بموت الآخرين

الموت يهز النفس هزا، ويقلب جميع التأثيرات
المادية في قلب الإنسان، إن أمكن أن يستخدمه حسنا لخلاص نفسه. ربما إنسان خاطئ
يذهب إلى الكنيسة لمجرد تقديم العزاء لأحد أصدقائه في موت قريب له. وإذا بالموت
يحدث تأثيره.. فقد يتأثر من منظر الميت في صندوقه بلا حراك، أو قد يتأثر بلحن
حزاينى مثل آجيوس أو لحن آري باميفئى، أو يتأثر ببكاء الناس..

 

أو بالعظة..

ويخرج من الكنيسة وإذا هو شخص آخر، قد عزم على
التوبة بكل قلبه..

ولعل في قصة القديس الأنبا بولا مثالا لتأثير
الموت..

لم يكن يشغله سوى موضوع الميراث والمال. وكان
ذاهبا لكى يقاضى قريبه الذي اغتصب جزءا من ميراثه..وفى الطريق رأى جنازا ونعش ميت،
وسمع ما يقوله المشيعون..

 

وترك الموت تأثيره في نفس بولا، فزهد العالم،
وزهد الميراث والمال، ومضى إلى البرية، وتحول إلى القديس العظيم الأنبا بولا أول
السواح. ليتنا إذن نستفيد من مناظر الموت، ومن الحديث والقراءة عنه..

إنه يعطى يقظة للأصحاء الذين يرونه في آخرين،
ويعطى يقظة لمن ينتظرونه لأنفسهم..

وهناك سبب آخر لليقظة الروحية وهو السقطة
الكبيرة غير المُحتملة.

 

21- السقطة الكبيرة غير المُحتملة

مع أن الخطية هى الخطية، أيا كانت درجتها
ونوعيتها، إلا أن هناك خطايا يستطيع الضمير العادى أو الضمير الواسع أن يحتملها،
وأن يمررها بهدوء، ويجوز مقابلها دون أن يهتز..

 

وهناك خطايا تتحول إلى عادة، يمارسها الإنسان
كأنها جزء من طبعه أو طبيعته، ولا يشعر أنها تمثل شيئا شاذا في حياته يحتاج إلى أن
يقف عنده ليغيره..

 

بل هناك خطايا يفتخر بها الخطاة، ويتحدثون عنها
في زهو!

 

فى كل ذلك وأمثاله، لا يستيقظ الضمير. إلى أن
يقع الإنسان في الخطيئة بشعة، أو خطيئة أكبر من احتمال ضميره، أو خطيئة تسبب له
فضيحة وعارا، أو لها نتائج سيئة مخيفة..

وهنا فقط يستيقظ..!

تماما كالذى لا توقظه الضيقات البسيطة التي
يفتقده بها الرب وينتظر إلى أن تقع به الضيقة الكبيرة فيستيقظ.

ولكن طوبى للإنسان الذي لا ينتظر حتى يصل إلى
هذا الحد الخطير، بل له الضمير الحساس الذي يؤلمه من أولى خطوات

الخطية.. الضمير الحريص المدقق الذي يقول للخطية
من بدء طريقها:

(يا بنت بابل الشقية طوبى لمن يمسك أطفالك،
ويدفنهم عند الصخرة) (مز 136)

(والصخرة كانت المسيح) (1كو 10: 4)،

وأطفال الخطية هم براعمها الصغيرة..

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى