اللاهوت الدفاعي

الفصل العاشر



الفصل العاشر

الفصل
العاشر

المسيح
صورة الله

المقدّمة

في
زمن ردّدنا فيه شعار اليوبيل الكبير (المسيح، أمس، اليوم وإلى الأبد)، نشعر مع
الكنيسة جمعاء بحاجتنا القصوى إلى تعميق إيماننا بالمسيح الذي (استكنّت فيه جميع
كنوز الحكمة والمعرفة)، فهو (سر الله) كما يقول القديس بولس في رسالته إلى أهل
قولسي 2: 2-3. في نهاية مسيرته الرسوليّة، من سجن روما الذي كان يسمح له بمتابعة
التبشير بالإنجيل، كتب بولس رسالته إلى أهل قولسي، وهي مع الرسالة إلى أهل أفسس
والرسالة إلى فيلمون ترجع إلى زمن واحد، وتعبّر عن تقدّم فكر بولس في مواضيع شتّى
تخصّ الايمان والحياة المسيحيّة. كعادته، يكتب القدّيس بولس رسالته بدافع غيرته
الرسوليّة ومساعدة المسيحيّين على فهم إيمانهم وتمييز ما هو مناسب لحياتهم
المسيحيّة، إذ يتعرّضون لأخطار عديدة تهدّد نقاوة الإيمان بالمسيح. لا نريد خوض
مسألة الأزمة في جماعة قولسي، والتي نتبيّن معالمها في الفصل الثاني من الرسالة،
ونكتفي بالقول إنها دفعت الرسول، بوحي من الروح القدس، إلى إعطائنا أجمل وأعمق ما
كُتب عن المسيح في النشيد الوارد في 1: 15-20، الذي يؤلّف مع مقدّمة إنجيل يوحنا
قمّة ما كُتب في العهد الجديد عن المسيح.

في
مرحلة أولى نحاول قراءة النصّ وتفسيره، ومن ثمّ نتوقّف عند أحد المواضيع المهمّة
في النشيد، موضوع المصالحة وهو ختام النشيد وقمّته، لنختم أخيرًا مع عودة إلى
البداية، إلى عنوان النشيد ولقب (الصورة). نظرًا لأهميّة النصّ في الكرستولوجيا
(الدراسة عن يسوع المسيح) وفي العهد الجديد عامة، كُتب الكثير عنه، وما نعرضه الآن
ليس سوى محاولة متواضعة ومحدودة لقراءته وتفسيره وتأوينه، انطلاقًا من وضع النص في
سياقه الأساسي: الرسالة إلى أهل قولسي، رسائل بولس والكتاب المقدّس عامة.

 

1
– النّص

هو
صورة الله الذي لا يُرى

بكرُ
كلّ خليقة.

ففيه
خُلقَ كلُّ شيء

ممّا
في السّموات وممّا في الأرض

ما
يُرى وما لا يُرى

أأصحاب
عرش أم سيادة

أم
رئاسة أم سلطان

كلّ
شيء به وله خُلقَ؛

وهو
قبل كلّ شيء

وبه
كلّ شيء يبقى معًا

وهو
رأس الجسد، أي الكنيسة.

هو
البدء، البكر من بين الأموات

ليكون
في كلّ شيء الأوّل.

فقد
حسُن لديه (الله) أن يسكن فيه كله الملء

وأن
يصالح به ومن أجله كله شيء

ممّا
في الأرض وممّا في السّموات

صانعًا
السّلام بدم صليبه

2
– النوع الأدبي، سياق النّص والبنية

من
المتّفق عليه بين علماء الكتاب المقدّس أنّ هذا النّص هو نشيد. ذلك لأنه يتضمّن
صفات الشعر في الكتاب المقدّس وبنوع خاص التوازي والإعادة. في العهد الجديد لدينا
عدد من الأناشيد الكرستولوجيّة: فل 2: 6-11؛ عب 1: 3-4؛ 1 طيم 3: 16؛ 1 بط 2:
22-25 وقول 1: 15-20. هذه الأناشيد تتكلّم عن المسيح حسب الضمير الغائب وتبدأ
كلّها باسم موصول (
pronom relatif:
o6
) له معنى الضمير المنفصل
ويرجع إلى المسيح حسب النص السابق. من الواضح أنّ المعنى بالنشيد هو (ابن محبّته)
أي يسوع المسيح ابن الله.

لهذا
النشيد طابع الاعلان العقائدي رغم أنّه لا يتضمّن خلاصة لاهوتيّة عن المسيح، ولا
كرازة (
Kérygme)، إنّه إعلان إيمان بالمسيح بأسلوب شعريّ. ومن خلال قراءتنا
للرسالة نفهم أنّ النشيد له هدف جدليّ. هناك مشكلة أساسيّة كُتبت من أجلها الرسالة
وتعبّر أصدق تعبير عن الهموم الرسوليّة للقدّيس بولس الذي يطرح الأسس الإيمانيّة
لتصحيح معتقدات وتصرّفات أبناء قولسي. كل مرّة يراد القدّيس بولس أن يعالج مشكلة
إيمانيّة أو حياتيّة، ينطلق دائمًا من الأساس والمركز، أي المسيح. فالنشيد هو قبل
كل شيء كرستولوجيّ ولكنّه يتضمّن ولو بشكل غير مباشر صفة الإرشاد. كأني بالكتاب
يوجّه الأنظار إلى المسيح لينير إيمان وحياة جماعة قولسي.

يدخل
النّص بشكل متناسق في السياق: 1: 3-23. بولس يرفع الشكر دائمًا إلى الله من أجل
ثمار الانجيل (1: 3-8)؛ يصلّي ويسأل ليعرف أهلُ قولسي بشكل تامّ مشيئة الله،
فيسيروا سيرة جديرة بالرّبّ (1: 9-11)؛ ويدعوهم ليشكروا الله من أجل عمله الخلاصيّ
بابنه الحبيب (1: 12-14)؛ هو صورة الله الغير منظور وبكر الخلائق والبكر من بين
الأموات. وأخيرًا يعطي الرسول تأوينا لكنيسة قولسي حيث تتمّ المصالحة (1: 21-23).

بالنسبة
لبنية النّص هناك عدّة آراء. ولكن ننطلق من التوازي الأساسي في النّص بين 15 أ
و18ب وبين 16أ و19:

15أ:
هو.. صورة الله

16أ:
ففيه.. خلق

18ب:
هو.. البدء

19:
ليكون.. في كلّ شيء الأول.

لدينا
هنا توازي بين جملة تبدأ باسم موصول له معنى ضمير غائب (هو الذي) وجملة سببيّة
تعلّل معنى الجملة الأساسيّة. هذه البنية نجدها في بداية المقطع الأوّل وبداية
المقطع الثاني. لذلك يكون تقسيم النّص كما يلي:

الجزء
الأول: 1: 15-18أ. الابن هو بداية وغاية كل المخلوقات.

الجزء
الثاني: 1: 18ب-20. الابن هو بداية ونهاية الخلق الجديد.

هذه
البنية دافع عنها (ألاتي)(1) في أطروحته عن النص. ولكن هناك ملاحظة مهمّة تسهم في
فهمه وتقسيمه إلى ثلاث أجزاء، وقد عبّر عنها (بنوا)(2)، و(بوشامي)(3) وآخرون:
17أ-18أ يؤلّف مقطعًا متوسّطًا وأساسه حرف العطف الذي يبدأ الآيات الثلاث:


17أ: وهو قبل كلّ شيء


17ب: وبه كلّ شيء يبقى معًا


18أ: وهو رأس الجسد، أي الكنيسة.

رغم
تفضيلي للتقسيم الثنائي الذي يعطي للفقرة المتوسّطة 17أ-18أ دورًا انتقاليًا فقط،
ويقوي ما ذُكر سابقًا، ويعطيه بعدًا شاملاً لأوليّة المسيح في الخلق وفي الكنيسة
ويحضر للتطوّر في المقطع الثاني ليصل إلى القمّة في المصالحة الكونيّة، رغم
تفضيلي، هذا أودّ أن أذكر شيئًا مهمًا في النص يساعدنا على فهم، ربّما أعمق،
لأسلوب الكاتب ومن خلاله لهدفه الأساسي من النشيد.

كثيرون
أعطوا أهميّة بنيويّة للكلمات المردّدة في النشيد، أعني الحضور الكثيف للضمير (هو)
auto6؟
(12
مرّة) (الكل)
pa6؟ (8 مرات). هذا الترداد لا يعني أبدًا إعادة نفس الفكرة. بل
يُظهر بشكل شعري، لا بل تأمّلي أيضًا، تطوّرًا للفكرة الأساسيّة نحو إبعاد أكبر.
فالمسيح يصبح الأول في كل شيء، وفيه أسكن الله كلّ الملء. وكأني بالإعادة تسير بنا
نحو الملء في المسيح. إنه الأسلوب الذي ينطلق من جملة بحد ذاتها كاملة ليزيد عليها
أولاً وثانيًا وثالثًا، جملاً متّصلة، ليعبر عن الفكرة الأساسيّة بشكل مطرد ومتنام
نحو قمّة ما. وما يبدو لي قمّة في النشيد هو المصالحة الكونيّة، أي السلام الذي
تمّ بموت المسيح على الصليب كما في 1: 20.

 

3
– تفسير النشيد

المقطع
الأول 1: 15-18أ: المسيح، صورة الله وبكر كل الخلائق

-1:
15أ: هو صورة الله الذي لا يُرى

هذه
الآية تبدأ بأسلوب تفخيم حيث الضمير يعبّر عن (ابن محبّته)، أي المسيح الذي به
نلنا غفران الخطايا. والعبارة تعني (هو الذي) أو (ذاك الذي). واللقب الأول هو
(صورة الله الغير منظور). كلمة (صورة) لا تعبّر فقط عن تمثيل للحقيقة، ولكن يمكن
أن تكون بمثابة إشعاع وظهور واقعيّ لها. في العهد القديم فقط الانسان هو صورة الله
(تكوين 1: 26؛ 5: 1؛ 9: 6). وبهذا تكريم للانسان لأنه علامة سلطة الله على
المخلوقات. فالصورة تعني مشاركة الانسان في كيان الله. في قولسي 1: 15 (الصورة) هي
حقيقة الله التي تظهر في العالم. هناك مستويات في تمثيل الحقيقة. وحده المسيح
الصورة الكاملة للّه الذي لا يُرى: المسيح يُظهر الآب بشكل تام.

(هو
صورة)
eikwn. العبارة تعني ديمومة في الزمن، إنّه زمن الحاضر. لدينا لقب
للمسيح يخصّ زمن الحاضر وبهذا يعبّر ليس فقط عن المسيح الذي تألّم (فكان لنا فيه
الفداء) (قول 1: 14)، بل أيضًا عن القائم من بين الأموات. إنّه اليوم بحضوره الحيّ
يفتح عيون إيماننا لنرى فيه وبه حقيقة الله الذي لا يُرى. وباعتقادي، هذا اللقب هو
عنوان النشيد. ولقب (البكر) في المقطعين الأول والثاني ليس سوى خبر له. الابن
الحبيب يُظهر الله من حيث إنه بكر الخلائق والبكر من بين الأموات، الوسيط الوحيد
للخلق وللخلق الجديد. وبهذا اللقب،لقب (الصورة)، هو مرادف للابن.

-1:
15ب: بكر كلّ خليقة

البكر
هو الثمرة الأولى، حيوانًا كان أو انسانًا، هو فاتح الرحم. هذا هو المعنى الأساسي
لهذه الكلمة البيبليّة ذات الفوارق المختلفة. من الناحية الدينيّة، البكر يُقدّس
للرّبّ (خر13: 1-2). وللبكر قيمة مميّزة من حيث إنّه الثمرة الأولى لرجوليّة الأب
(تك 49: 3؛ مز 78: 51). وهو بذلك الأفضل والمميّز (حز 44: 30). كما تحمل الكلمة في
ثناياها عمق العاطفة. فالبكر هو الحبيب، وميزة الشرف، لأنّه يمارس حقّ البكريّة
ويشارك في سلطة الأب. لذلك، فالبكر هو الوحيد والمختار والحبيب (راجع مز 89: 28).
ومن الجدير بالذكر أنّ الكلمة لا تعني بالضرورة علاقة مع الاخوة أي الأول في
القائمة. في العهد الجديد(4) الكلمة في المفرد ترجع إلى المسيح وحده. وباستثناء
لوقا 2: 27 حيث ترد الكلمة بالمعنى الحقيقيّ، (بكر) لها معنى مجازيّ وتعبر عن
المقام والأوليّة (روم 8: 29؛ رؤيا 1: 5). الابن هو بكر كلّ خليقة، هو سيّدها وله
أوليّة زمنيّة ومقام يسمو عليها كلّها. فيه خُلق كلّ شيء (1: 16).

فالآية
15 تُعلن سرّ المسيح في علاقته مع الله ومع الخلائق: إنّه الأيقونة التي تُظهر
الله مؤسّسًا الكلّ، بما فيهم الكائنات السماويّة، في وضع الخليقة. خلفيّة هذا
التأكيد نجدها في شخصيّة الحكمة (راجع أمثال 8: 22).

-1:
16: ففيه خُلق كل شيء

ندخل
هنا في شرح علّة الأمور. هذه الآية تُظهر دور المسيح في الكون، مسلِّطة الأضواء
على سرّ شخصه من حيث إنّه إله خالق. في العقليّة اليونانيّة (خلق –
ktizw)
تعني
تأسيس مدينة بإرادة الملك. فالسيّد يبعث المدينة بكلمته وإرادته مؤمّنًا الطاعة.
في العهد القديم (خلق – برأ) فعل يُنسبُ إلى الله وحده، فريد بنوعه، حيث تعانق
الكلمة فعل الخلق (تكوين 1). مفهوم الخلق يوضع أولاً بعلاقته مع كلمة الله للتنويه
عن قدرته الفائقة وسمّوه المطلق على الخلائق (راجع أشعيا 41: 4؛ 48: 13 ومزمور
33)؛ ومن ثمّ بعلاقته مع (حكمة الله) لرفع شأن فكره. والحكمة في دورها الكوني تدلّ
على سابق وجودها ودورها الأقنوميّ والوسيط (أمثال 8: 22-31).

في
العهد الجديد أيضًا، (الخلق) هو حصرًا عمل إلهيّ. أما دور الوسيط فيُنسب إلى
المسيح، وموضوع الحكمة يُستعمل كخلفيّة لشرح عمل المسيح في الخلق.

(فيه
خُلق): الخلق تمّ في الماضي. والمجهول هو الله الآب الخالق. من الجدير بالذكر أنّ
صانع الخلق الأول والخلق الجديد يبقى في الخفيّة في النشيد، لأن الكاتب يصبو إلى
تبيان دور المسيح الوسيط.

والقول
(فيه) يكشف عن المسيح الفاعل والسبب والوسيط في الخلق. وإذا ما نظرنا إلى المعنى
المكاني، (فيه) تعبّر عن مجمل أسباب وجود الأشياء. بعيدًا عن المسيح وبدون عمله
الخلاّق هناك العدم. في لحظة الخلق كان المسيح الحكمة والالهام: لقد شاهد الله في
المسيح، كما في مرآة، مخطّط الكون (راجع أمثال 8: 22؛ أيوب 28: 23-27). بهذه الآية
يُعلن المسيح حكمة الله، المتعالي فوق كلّ الخلائق، وهي تجد فيه وحده الوجود لأنه
مشروع الله للخلق. هناك تنويه لتعلّق الكائنات المطلق بالمسيح وخاصة تلك التي يلي
تعدادها. كما نرى بذلك أنّ بكورة المسيح قد ظهرت في لحظة الخلق.


كلُّ شيء ممّا في السّموات وممّا في الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، أأصحاب عرش أم
سيادة أو رئاسة أم سلطان

(كلّ
شيء) –
ta panta: في الفكر اليونانيّ هذه العبارة تعني الكون. في علم الكون
اليونانيّ لا مكان لإله خالق وشخصيّ. أما العهد القديم فيستعمل عبارة مثل (السّماء
والأرض) للتعبير عن الكون بأسره (تكوين 1: 1). والعهد الجديد يتبع القديم في هذا
الأسلوب. وفي النّص (كلّ شيء) تصبح مرادفًا ل (كلّ خليقة) في 1: 15.

(ما
يُرى وما لا يُرى): ليست فقط الكائنات المرئيّة هي مخلوقات، بل أيضًا الغير
مرئيّة، وبنوع خاص الطغمات الملائكة. والتعداد الذي يلي هو بكل بساطة تحديد
للكائنات التي لا تُرى: من بين كلّ المخلوقات يُنوّه فقط عن تلك التي يُمكن أن
يكون لها دور خصاميّ مع المسيح أو على الأقلّ تكرّم بشكل يضع أوليّة المسيح في
الظلّ. فالتعداد يُبرز الفرق بينه وحيدًا وبين الباقي بما فيهم المراتب
الملائكيّة، بين وحدة المسيح وتعدّد الكائنات المخلوقة.


كلّ شيء به وله خُلقَ

الفعل
هنا (خُلقَ) في زمن يعبّر عن عمل بدأ في الماضي ولم ينته، أي إنّ فعل الخلق لم
ينته كما في 1: 15. عمل المسيح في الخلق يدوم منذ الأزل. فالله لم يدعُ فقط
الكائنات من العدم إلى الوجود، بل يعطيها باستمرار نعمة الحياة. بعد دعوة
المخلوقات من العدم إلى الحياة، يُحيي الله خلائقه بعنايته. يُبقيها في الوجود.
(به)، بالمسيح سبب بقائها. فالمسيح ليس بأداة غير فاعلة لأنّه مثل الحكمة (مهندسة
كلّ شيء) (حكمة 7: 21؛ 8: 6 وأمثال 8: 30)(5).

(وله
خُلق كلّ شيء) أي إنّ المسيح هدف الخليقة. فالكائنات خُلقت وتبقى في الوجود من أجل
المسيح. هي تنتقل باستمرار إلى ملكوت ابن محبّته (1: 13)، ذلك الملكوت الذي نرى في
الكنيسة علامة له. ففكرة الغائية تسبق الابعاد الخلاصيّة لما يلي في 1: 18-20. إذن
بكر كلّ خليقة هو مصدر وعناية وهدف الخليقة. وفكرة الغائية في المسيح تشبه تلك
التي نجدها في أفسس 1: 10: (ليسير بالأزمنة إلى تمامها فيجمع تحت رأس واحد هو
المسيح كلّ شيء ما في السّموات وما في الأرض). مما يعني أنّ الابن المتجسّد هو منذ
الخلق حاضر في مخطّط الله، هو وحده غاية الخلق. فالمسيح هو الألف والياء، الأول
والآخر، والبداية والنّهاية (رؤيا 22: 13).

-1:
17: وهو قبل كلّ شيء وبه كلّ شيء يبقى معًا

المسيح
يسبق بكيانه الكامل وديمومة حضوره كلّ الكائنات وبذلك أيضًا له الأسبقيّة
والأوليّة. (وبه كلّ شيء يبقى معًا): الفعل يذكّر بوضوح بفلسفة أفلاطون
والرواقيّين حيث يُحكى عن نفس العالم، تلك القوّة الكونيّة التي تحافظ على تماسك
العالم حتى لا يرجع إلى الخواء. وفيلون أيضًا يقول إنّ الكلمة الالهيّ، والله نفسه
يُبقي على الكلّ في الوحدة. أما في العهد القديم فهذا الدور يُعطى لكلمة الله
(سيراخ 43: 26). كذلك أيضًا الروح الذي هو الحكمة، يملأ الكون فتبقى الكائنات
موحّدة (راجع حكمة 1: 7). فالمسيح هو وسيط الخلق والبقاء في الوجود في عالم
متناسق. وما ينير هذه الآية هو ما نقرأه في يشوع بن سيراخ 42: 24-25:

(كلّ
الأشياء جُعلت اثنين اثنين

كلّ
واحد بإزاء الآخر

ولم
يصنع شيئًا ناقصًا.

بل
الواحد يُبرز الآخر

فمن
الذي يشبع من رؤية مجده؟).

فالمسيح
هو الذي يحقّق هذا التماسك، إنّه مركز الوحدة الذي يعطي للعالم قيمته ووحدته
ومعناه وبالتالي حقيقته.

-1:
18: وهو رأس الجسد، أي الكنيسة

(كنيسة
ekklhsia. كلمة يونانيّة مصدرها فعل يتضمّن معنى الدعوة. الكنيسة في
العهد القديم (ق ه ل – راجع تثية 9: 10) هي جماعة الرّب المدعوّة إلى سماع كلامه
وخدمته في العبادة. العهد الجديد يستعمل الكلمة بمعناها حسب العهد القديم بالإضافة
إلى التحديد الجديد: (بالمسيح يسوع) (1 تسالونيكي 1: 1؛ 2: 14). كنيسة الله بيسوع
المسيح هي ثمرة حدث الفصح. والكنيسة هي أيضًا الجماعة، أي المؤسّسة المدعوّة
والمتّحدة في اجتماع أولئك الذين دعاهم الله واهبًا إيّاهم الإيمان ليحيوا حياة
جديدة أساسها المعموديّة (راجع روما 6: 3).

أمّا
كلمة (جسد) –
swma، في مار بولس، فتتضمّن هي أيضًا المعنى البيبلي لعبارة (دم
ولحم) للدلالة على أوصال القرابة (راجع 2 صموئيل 5: 1). وصورة الجسد المعطاة
للمجتمع حسب الفكر الهليني لا تناسب قصد القديس بولس. فصورة الجسد تشمل وحدة
حقيقيّة بين الكنيسة والمسيح القائم من بين الأموات، وحدة تنمّيها الأسرار. ولكن
هذه الوحدة لا تعني أنّ جسد المسيح في الافخارستيّا مثلاً وجسد المسيح الكنيسة هي
حقيقة واحدة. فالكنيسة هي (الأنا الآخر) للمسيح –
alter ego
إذا صحّ التعبير كما كانت حواء بالنسبة لآدم حسب تكوين 2: 21-24: (وهذه المرّة هي
عظم من عظمي ولحم من لحمي)(6). الآية 1: 18 تعبّر عن هذا الرباط من خلال كلمة
(جسد)، وتنوّه بواسطة عبارة جديدة بالنسبة للرسائل الكبرى عن الفرق بين المسيح
والكنيسة.

(وهو
رأس الجسد): الرأس هو القائد والسيّد وبنوع خاص هو مصدر حياة الجسد. المسيح هو
الرّب ورأس الخليقة من حيث إنّه بكر كلّ الخلائق. والكنيسة هي أيضًا جسد المسيح،
وسلطتُه تتجلّي بالحياة التي يهبها إيّاها. فالقدّيس بولس ينصح أهل قولسي قائلاً
في 2: 18-20: (ولا يحرمنّكم أحد إيّاها (الحقيقة).. غير متمسّك بالرأس الذي به
الجسد كلّه، بما فيه من أوصال ومفاصل يلتحم بها، ينمو النموّ الذي يأتيه من الله)
(راجع قول 2: 16-19). أمّا خلفيّة هذا المعنى، فنجدها في تكوين 2: حواء أُخذت من
آدم فأصبح الرأسَ، وهذا المعنى يجد في مفهوم سرّ الزواج عند بولس مرجعًا أكيدًا.
يكفي أن نراجع أفسس 5: 22-23.

وأخيرًا
الرأس هو أيضًا البدء. فالمسيح هو بداية الكنيسة ومصدرها.

المسيح
هو السيّد الوحيد، وسيط الخلق وهدفه الأسمى وبنوع خاص هو ربّ الكائنات السّماويّة
وهو أيضًا رأس الكنيسة. هذا هو معنى المقطع الأول. فعلى الكنيسة التي تنشد المسيح
إيقونة الله أن تشهد لسيادة المسيح الوحيدة والمطلقة. فهو أعلى بكثير من الكائنات
السّماويّة التي لا تستطيع بأيّ حال أن تعطي الملء الذي في المسيح (راجع قول 2:
9-10).

المقطع
الثاني 1: 18ب-20: المسيح هو البدء والبكر من بين الأموات

-1:
28ب: هو البدء، البكر من بين الأموات

البدء
يعني ما يبدأ في الزمن كما يعني المصدر والعلّة والقدرة والسلطان. المعنى الزمني
نجده في العهد القديم (راجع أشعيا 37: 26). ولدينا أيضًا البدء ذو المكانة السامية
والأوليّة (مز 110: 10). والبكر من بين الأموات هو المسيح القائم العائد من مملكة
الأموات والذي يفتح بقيامته الخلق الجديد ذا البعد الأخيريّ. فالكنيسة التي تُنشد
المسيح القائم من بين الأموات تعلن في نفس الوقت الخلاص التّام والنهائيّ
بالمسيح(7).

-1:
18ي: ليكون في كلّ شيء أول

في
كلّ شيء أي في تدبير الخلق وفي تدبير الخلاص والمصالحة. في هذه الآية نتأمّل مخطّط
الله منذ البدء وهدفه الأسمى في أن يجعل من الابن، وهو يسوع المسيح، الأوّل
والهدف. ففي هذه الأوليّة تلخيص لكلّ الألقاب السابقة في النشيد: الصورة والبكر
والبدء. والنشيد يعطي الفعل في زمن الحاضر معلنًا بدء مرحلة جديدة في تاريخ
الخلاص، أي إنّ المسيح وهو مركز العالم وهدف مخطّط الله قد بدأ يحتلّ الأوليّة
المطلقة على كلّ الأصعدة. لقد كان في البدء البكر، وهو الآن بكر كلّ الخلائق،
واليوم بعد قيامته هو الربّ المخلّص الوحيد، ليس في الكنيسة فقط، إنّما أيضًا في
الكون بأسره كما يوضح لنا المقطع الثاني من النشيد. لذلك تكون القيامة بدء هذه
الأوليّة المطلقة للمسيح حسب إرادة الآب السّماويّ.

-1:
19: فقد حسن لديه (الله) أن يُسكن فيه كلّ الملء

الآيتان
19 و20 تبرّران الألقاب الواردة في آ 18 وتفسّرهما. أمّا الفاعل فهو الله الآب،
الذي حسن لديه أن يُسكن الملء في المسيح. والسكنى تعيد إلى الأذهان الحكمة التي
يسكن فيها ملء الخيرات الالهيّة (راجع أمثال 8: 12-14)، والهيكل حيث يتجلّى مجد
الله (راجع أشعيا 25: 10؛ زكريا 1: 16 ي؛ مزمور 68: 17). والرضى عند الآب لا بدّ
أن يذكّرنا برحمة الله تجاه شعبه (مز 44: 4) ولاهوت الاختيار (أشعيا 42: 1؛ مرقس
1: 10-11). وعندما نرجع إلى شخص النشيد، ألا وهو (إبن محبّته) (1: 13)، نفهم البعد
الخاص لهذه الآية، بمعنى أنّ الرضى هو مرادف لمحبّة الآب التي تجلّت في الزمن، في
حياة يسوع، ابن الانسان.

الآية
19 تعني إذًا أنّ ملء المحبّة والقدرة الإلهيّة التي تقدّس، في كلّ أبعادها وسعتها
وشموليّتها، تعمل وتتحقّق في شخص المسيح. فالنشيد يترنّم بالمسيح الذي يملك كلّ
الخيرات والنعم التي يبحث عنها البشر. لذلك هنالك إمكانيّة مصالحة (الكلّ) (آ 20).
ومن خلال قراءتنا للآية 2: 3 نفهم أنّ الملء الذي في المسيح هو (جميع كنوز الحكمة
والمعرفة). والآية التي تعيد ما سبق بوضوح هي 2: 9: (ففيه يحلّ كمال الألوهيّة
حلولاً جسديًا، وفيه تكونون كاملين. إنّه رأس كلّ صاحب رئاسة وسلطان). في المسيح
يسوع، أي ابن الله الذي وُلد من مريم البتول ومات على الصليب (1: 20) وقام من بين
الأموات (1: 18)، تسكن دائمًا ملء قدرة الله ليحبّنا ويقدّسنا به.

-1:
20: وأن يصالح به ومن أجله كلّ شيء، ممّا في الأرض وممّا في السّموات، صانعًا
السّلام بدم صليبه

لقد
رضي الله أن يصالح العالم به ومن أجله. هذه الآية تكمّل ما سبق من إعلام عن رضى
الله الذي يحبّنا ويقدّسنا بالمصالحة الكونيّة بابنه الحبيب ومن أجله. الله الآب
هو الفاعل والمسيح هو الوسيط والهدف. بذلك يكون المسيح غاية الخلق الأول والخلق
الجديد.

الفعل
(صالح) –
apokatallassw: يعني عامّة كما في الفكر اليوناني، المصالحة بين شخصين،
تلتقي إرادتهما من أجل اللقاء والصداقة بعد الانفصال والعداوة. ولكن مار بولس(8)
يستعمل هذا الفعل حسب خصوصيّة تدبير العهد الجديد. فالمصالحة هي قبل كلّ شيء
مبادرة إلهيّة تنبع من محبّته (راجع روما 5: 8). وفي النشيد تنبع من رضى الله.
فالبشر كانوا أعداء الله كما تقول الرسالة في 1: 21. كانوا خطأة وبعيدين عن الله عندما
وهب السّلام والمصالحة بموت ابنه الفادي. فالمصالحة توازي التبرير. ولكنّها ليست
فقط حلاً من الخطيئة بل دعوة للمحبّة (راجع روما 5: 5). فالانسان مدعو للاستجابة
بحريّة لعمل الله المجّاني بالإيمان والمحبّة (راجع 2 قورنتس 5: 20). وفي قولسي 1:
20، ترتدي المصالحة بعدًا جديدًا، من حيث، أنّها تشمل كلّ الخلق.

المصالحة
تتمّ بعمل السّلام، الذي يعني حسب مفهوم الكتاب المقدّس في العهد القديم، الخلاص
نفسه والمرتبط بشخص المسيح الآتي (أشعيا 9: 5-6؛ 53: 5). السّلام هو الخير والأمان
والخلاص الشامل كهبة من الله. في رسائل بولس، السّلام مرتبط بالمصالحة، وهو
السّلام مع الله وبين البشر (أفسس 2: 14-17). ومع السّلام يعطي الله الفرح (روما
15: 13).

إذن
المصالحة تخصّ قبل كلّ شيء البشر ومن ثمّ الخليقة، ليكون المسيح سيّد الكون. حالة
العداوة في المخلوقات هي نتيجة للخطيئة. عندما خلق الكون، رأى الله أنّ ما صنعه هو
حسن (راجع تكوين 1). والخطيئة أدخلت العداوة والموت في المخلوقات. أتى المسيح
وصالح العالم بدمه ليضع السّلام في قلب البشر وفي بيتهم، أي في الكون بأسره، ليكون
هذا البيت، من جديد وأكثر بكثير من الخلق الأول، بيت الله، فالذي يه تنشد الكنيسة
نشيدًا أزليًا للمسيح. حدث الصليب، دم العهد الجديد، كل هذا يشمل الكون بأسره بعمل
المصالحة. سلام المسيح يحلّ قبل كلّ شيء في قلب البشر، كما يقول بولس في التطبيق
الذي يلي في 1: 22-23 ومنه ينتشر في المخلوقات كلّها.

لذلك
تكون نهاية النشيد قمّته التي تحتوي على كلّ ما سبق: المسيح هو (المكان) الذي ظهر
فيه الله الغير منظور ليحقّق به ومن أجله الخلق الجديد من خلال المصالحة والسّلام.
وبذلك يصبح الابنُ الوسيطَ الوحيد للخلق الأول والجديد.

لدينا
في النشيد الكثير من المواضيع المهمّة وكلّها تصبّ في نظرتنا إلى يسوع المسيح.
يكفي التوقّف عند ألقاب المسيح لنكتشف عمق إيمان القدّيس بولس ومن خلاله إيمان
كنيسة العهد الجديد. يمكننا أن نتوقّف عند هذه الألقاب: (الصورة)، البكر، رأس
الكنيسة والبدء. ولكن أودّ التوقّف عند الآية الأخيرة من النشيد وهي قمّة النشيد
ومنها يأخذ الكاتب التطبيق في حياة المسيحيّين، كما يلي في النشيد.

 

4
– المصالحة الكونيّة

الزمن
الذي يلي حدث الفصح هو الزمن الأخير. والكنيسة هي جماعة أخيريّة، وكل الخليقة
تتجدّد لتحضن الانسان الذي صالحه الله. لقد تحقّقت سكنى الله النهائيّة في وسط
شعبه وفي الكون بأسره (راجع موضوع (الملء) في آ 19) من أجل التجديد الشامل في
نهاية التاريخ. المصالحة الكونيّة هي مخطّط الله الذي يحقّقه بالمسيح انطلاقًا من
موته على الصليب والذي يصبو إلى إظهار أوليّة الابن المطلقة (1: 18).

يكلّمنا
كاتب النشيد عن المصالحة دون أيّ تفسير سابق. فالمصالحة تفترض اضطرابًا ما في
الكون، بل تفسخًا. فالخطيئة لم تُبعد الانسان عن الله فقط، بل جعلت الكون في حالة
عداوة معه كما يعلّم سفر التكوين (1-3). لذلك عندما يبرّر الله الانسان، يُحلّ
السّلام في الكون. فالعالم الماديّ يتأثّر بوضع الانسان أمام الخالق. المصالحة ليس
لها بُعد أخيريّ فقط، بل كونيّ أيضًا. لذلك يقول القدّيس بولس في الرسالة إلى أهل
روما: (فالخليقة تنتظر بفارغ الصبّر تجلّي أبناء الله. فقد أُخضعت للباطل، لا
طوعًا منها، بل بسلطان الذي أخضعها، ومع ذلك لم تقطع الرجاء، لأنها هي أيضًا
ستُحرّر من عبوديّة الفساد لتشارك أبناء الله في حريّتهم ومجدهم) (8: 20-21؛ راجع
تكوين 3: 17 و6: 20 وهوشع 4: 3). هدف الخلق هو المسيح. فالمخلوقات لها رسالة
تسلّمتها يوم دُعيت بكلمة الله إلى الوجود، وهي إظهار مجد الله. في الانجيل كما في
الأسرار، المادّة تصبح علامة حضور المسيح ومكان لقاء مع الله. أمّا الانسان الخاطئ
فيبتعد عن الله ويصبح جاهلاً لا يعرف دور الكائنات فيؤلّهها أو يُخضعها لأنانيّته
ومصالحه الماديّة.

ولكن
ما يهمّ بولس هو المصالحة بين البشر. فما يقوله في التطبيق اللاحق يخصّ أبناء
قولسي الذين صالحهم الله الآن في جسد ابنه البشريّ (1: 22). فالانسان الخاطئ مدعوّ
للتوبة والصداقة مع الله، وهذه تنعكس إيجابًا على المخلوقات لتحقّق رسالتها.

حاول
البعض(9) أن يفسّر الآية 20 من خلال 2: 14-15: (ومحا ما كان علينا من صكّ وما فيه
من أحكام وأزال هذا الحاجز مسمّرًا إيّاه على الصليب، وخلع أصحاب الرئاسة والسلطان
وشهّرهم فسار بهم في ركبه ظافرًا). مما يعني أنّ مصالحة ما في السّماء وما على
الأرض هو تجريد هؤلاء الكائنات السماويّة من سلطتهم، إذ كانوا حراس الشريعة. طبعًا
يدعو هؤلاء المفسّرون إلى الانتباه إلى ما ورد في 2: 18 عن خطأ أهل قولسي في
التعبّد للملائكة. ولكن إذا ما أخذنا في الاعتبار هدف النشيد الأساسيّ نرى أنّ
المصالحة تتمّ بالمسيح وحده، ولا يحقّ لأهل قولسي أن يعطوا دورًا كهذا لأي من
أصحاب الرئاسة والسلطان. لا يمكن أن يعطي المسيحيّون دورًا خلاصيًا لأيّ من
المخلوقات فهي خُلقت للمسيح ولا تنال الحياة والخلاص إلاّ به.

هنا
نذكر ما تنبّأ به الأنبياء عن السّلام الذي يحقّقه المسيح الآتي، ابن داود. نذكر
بنوع خاص أشعيا 11: 1-9. وفي أشعيا الثالث تصبح عطيّة السّلام الإلهيّ خلقًا
جديدًا: (هكذا أخلق سموات جديدة وأرضًا جديدة) (أشعيا 65: 17).

هذا
السّلام الذي يحقّقه المسيح الآتي حسب الأنبياء، قد تحقّق كليًا في المسيح، بدم
الصليب. ولكنه يحافظ على طابعه الأخيريّ، لأنّ الناس مدعوّون لقبوله. من هنا دعوة
بولس إلى المؤمنين في رسالته الثانية إلى أهل قورنتس (5: 20). وما يتوق إليه
الكاتب من النشيد هو تبيان أوليّة المسيح في كلّ شيء كما في المصالحة والسلام الذي
يَنشده كل بشر.

 

الخاتمة

في
نهاية الخوض في قراءة النشيد، وما عُرض ليس سوى تعرّف سريع على النصّ وما يقدّمه
من مواضيع، أودّ الرجوع إلى البدء، إلى نقطة الانطلاق، إلى المسيح إيقونة الله
الذي لا يُرى. هذا اللقب هو عنوان النشيد، ويفتح الآفاق على فهم شخص المسيح ودوره
الخلاصيّ. انطلاقًا منه، يبيّن النشيد مقام المسيح الإلهيّ من خلال لقب البكر، بكر
الخلائق والبكر من بين الأموات ليعانق البداية والنهاية، الألف والياء. فالمسيح هو
ابن الله، لأنه يُظهر بشكل تام وجهَ الآب في علاقته الفريدة معه: هو ابن محبّته،
وسكنى رضاه، وهو بذلك سكنى الخيرات الالهيّة كلّها، راسمًا للملء وجه الآب الذي
يحبّ فيخلق ويخلّص به وله. وحدث الصليب المذكور في نهاية النشيد هو علامة طاعة
الابن للآب بدافع المحبّة. ودم الصليب يفتح الطريق أمام المصالحة الشاملة والسّلام
الكونيّ، هدف ترقّب نبوءات العهد القديم، لا بل هدف كلّ المخلوقات.

الابن،إيقونة
الآب هو ذروة (
climax) كلّ موجود، لأنّه الألف والياء، الأول والآخر، والبداية والنهاية
(رؤيا 22: 13).

كيف
يتمّ ذلك وما هي رسالة النشيد الواقعيّة بالنسبة لحياة المؤمن والكنيسة؟

لقد
رأينا كيف أنّ المصالحة الكونيّة تجد في مصالحة البشر، التطبيقَ المباشر. والمسيح،
إيقونة الآب، يدعونا لأن نصبح أبناء بالابن فنصلح صورة الانسان المشوّهة بسبب
الخطيئة حسب صورة الابن الحبيب (راجع 1 قورنتس 15: 49 و2 قورنتس 3: 18 و4: 4). في
2 قورنتس 4: 4، نجد الانجيل والمسيح في علاقة مع الإيقونة، بمعنى أنّ المسيح يكشف
الله للبشر. وبمعرفته ينال كل انسان السّلام والحياة. هنا نرى كيف أنّ المعرفة
تدفع إلى الحياة، والاثنان مرتبطان حسب عقليّة الكتاب المقدّس. في بداية الرسالة
إلى أهل قولسي قال بولس: (ونسأله تعالى أن تمتلئوا من معرفة مشيئته في كلّ شيء من
الحكمة والإدراك الروحيّ لتسيروا سيرة جديرة بالربّ ترضيه كلّ الرضا وتثمروا في
كلّ عمل صالح وتنموا في معرفة الله) (1: 9-10). إنّها مقدّمة الرسالة والنشيد.

عندما
تنشد الكنيسة هذا النشيد، وتعلن للملأ إيمانها بالمسيح إيقونة الله الذي لا يُرى،
مشروع محبّة الآب منذ الأزل، تقدّم لانسان كلّ الأجيال هذه الصورة لبناء عالم
يسوده السّلام والمصالحة وتدعو أبناءها ليذكروا دعوتهم الأساسيّة حسب العماد بكلام
بولس الرسول: (فقد خلعتم الانسان القديم وخلعتم معه أعماله، ولبستم الانسان
الجديد، ذاك الذي يُجدّد على صورة خالقه ليصل إلى المعرفة) (3: 9-10). المسيح هو
مشروع الآب منذ الأزل، ليكون صورة الله الذي لا يُرى، ليكون أيضًا مشروع الكنيسة
والبشر لترميم صورة الانسان والكون بالمصالحة والسلام.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى