علم

قميص المسيح فى تفاسير آباء الكنيسة



قميص المسيح فى تفاسير آباء الكنيسة

قميص
المسيح فى تفاسير آباء الكنيسة

ميشيل
بديع عبد الملك

 

فى
تفسير المزمور 22 للعلامة ديديموس الضرير بحسب برديات طره (1) قال معلقًا على
الآية رقم 19 للمزمور المذكور: ” يقسمون ثيابى بينهم وعلى لباسى يقترعون
“:

(فى
هذا لا نريد أن نتوقف الآن عند مدلول الكلمة، لأنه سبق أن قيل أنه كان هناك الجنود
الذين قسموا (ثيابه) بينهم بعدما جعلوها أربعة أجزاء، وألقوا القرعة على اللُباس
الذى كان بدون خياطة ومنسوجًا قطعة واحدة من فوق. أقول الآتى: مثلما سُمى اجتماع
المؤمنين بحسب أحد التفاسير “جسد المسيح “، كما أشارت بذلك الأقوال
الرسولية، وقلنا إن العظام هى قوى هذا الجسد، هكذا نقول الآن إن الكتاب الموحى به
من الله هو جسد المخلص، أما عظام هذا الجسد فهى التفاسير الصحيحة والتأملات فى
التفاسير والتى هى أسمى من أى شئ آخر) (2).

 

بهذا
يصف ديديموس مفهوم الكتاب المقدس وتفسيره فى المعنى التالى: الكتاب الموحى به من
الله له دائمًا مفهوم عميق وروحى والذى يجب أن يُكتشف. فقد قيل هذا المفهوم
مجازيًا إنه (أى الكتاب) تَغَلَّف خلال ملابس الكلمات مثلما تُغَلِّف الملابس
الجسد.

 

ففى
التفسير الروحى للمزمور 19: 22 يتناول ديديموس بالشرح، مثل آباء الكنيسة الآخرين،
تفاصيل الأحداث ” حول ملابس المسيح ” والتى عولجت بالتفصيل فى الأصاح23:
1924 لإنجيل القديس يوحنا: ” بعد أن صلب الجنود يسوع، أخذوا ثيابه وجعلوها
أربعة أجزاء، لكل جندى جزء ؛ أيضًا أخذوا القميص. وكان القميص بغير خياطة منسوجًا
كله من فوق. فقال بعضهم لبعض لا نشقه بل نقترع عليه لمن يكون. ليتم الكتاب القائل:
اقتسموا ثيابي بينهم وعلي لُباسي ألقوا قرعة. هذا فعله العسكر “.

 

لقد
كان لآباء الكنيسة في العصور الأولي للمسيحية تفاسير مختلفة حول ” قميص
المسيح “. فكثير منهم رأى في القميص المنسوج قطعة واحدة صورة الكنيسة فى
وحدتها، والبعض الآخر التجأ إلى التفسير الرمزي، ومنهم من قارن قميص المسيح
بالملابس السائدة فى ذلك العصر حيث رأوا فيه (أي في القميص) صورة البساطة التى
تناسب حياة السيد المسيح على الأرض فى تواضعه وبساطته المثالية. ولهذا نستعرض فى
النقاط التالية التعاليم المتنوعة لآباء الكنيسة عن ” قميص المسيح “.

 

1
اكتمال نبوءة المزمور 19: 22 في العهد الجديد:

لقد
توسع لاهوتيو الكنيسة فى العصور الأولي للمسيحية فى فهم وشرح الأحداث المختلفة من
حياة السيد المسيح علي الأرض كإتمام لنبوءات العهد القديم. ولذلك نجدهم يشيرون بالتأكيد
علي أن ما جاء في مزمور 19: 22 حول تقسيم الملابس وإلقاء القرعة قد قيل عن شخص
المخلص يسوع المسيح. لهذا نجد أن يوستين (
Justin) الشهيد قد أكد أن
ما قيل في مزمور 19: 22 هو كلام المسيح عن نفسه حيث يعلق قائلاً: [عندما تجدون أن
كلمة الأنبياء وُضعت على فم شخص، فلا ينبغي أن تعتبروا أنها قد قيلت من الموحى
إليهم، ولكن من ذلك اللوغوس الإلهي الباعث لها. لأنه تارة يُعلن عن المستقبل
بطريقة الإعلان المُسَبَّق، وتارة يتكلم كما في شخص الله الذي هو رب وأب كل
الأشياء، وتارة أخرى في شخص المسيح، وتارة كما على فم الشعوب التي تستجيب للسيد أو
لأبيه. (..) لأن هذا لا يدركه اليهود الذين يملكون كتب الأنبياء، لأنهم لم يعرفوا
المسيح بحسب ظهوره(في الجسد)، لهذا فإنهم يكرهوننا لأننا نقول أنه أتي ونثبت أنه
صُلب منهم كما بُشر بهذا) (3).

 

وقد
طُبق هذا المفهوم الكتابي في رسالة برنابا (4): حيث يُعتبر أن العهد القديم يشير
إلى الخلاص في يسوع المسيح، وخصوصًا النبوات عن آلامه: (إنى أكتب بتواضع أنا عبد
الله لمحبتكم حتى تفهموا ماذا يقول النبي؟ ” زمرة الأشرار أحاطوا بيّ كالنحل
(مز 17: 22) وعلى ثيابي اقترعوا ” (مز19: 22). حيث إنه سيظهر وسيتألم بالجسد
فإن ألمه قد سبق وقيل عنه] (5). فالإعلانات النبوية هي عطايا الله والتي ينبغي أن
تُقابل من المؤمنين بالمديح والشكر: (افهموا إذًا يا أبناء الفرح، أن السيد الصالح
كشف لنا جميعًا كل شئ حتى نعرف إلى من نتوجه بالشكر والمديح) (6)، (علينا أن نعبر
عن شكرنا لله لأنه عرفنا الأمور الماضية وجعلنا حكماء فى الجيل الحاضر وأعطانا في
الجيل الآتي أن لا نكون غير متبصرين) (7).

 

فى
مقابل التفاسير التي تؤكد على أن ما هو مكتوب في الإنجيل هو اكتمال لنبوة العهد
القديم، ظهرت أقوال متضاربة. فنجد ماركيون (
Marcion)
فى اتجاهه الرافض لكل العهد القديم يعارض فى تعاليمه أن أقوال العهد القديم اكتملت
فى المسيح (8). ويذكر ترتليان (
Tertullian) فى كتابه ” ضد ماركيون ” (Adversus Marcionum) أن ماركيون فى ” إنجيله ” لم يقبل الحديث عن تقسيم
ملابس المسيح وإلقاء القرعة على القميص (9).

 

غير
أن الأسقف إيريناؤس (
Ireneus) من ليون كان يشدد على وحدة العهد القديم والجديد معًا، ليؤكد ضد
تعاليم كلٍ من ماركيون وأيضًا ضد الجماعات الغنوسية على وحدة الله كخالق وكمخلص فى
يسوع المسيح. علاوة على ذلك فإنه يؤيد الأقوال والنبوات عن يسوع فى العهد القديم
فيرى أن المسيح قُدم بطرق مختلفة من قِبل الأنبياء ونبواتهم عنه، فالبعض منهم رأى
المسيح فى مجده والبعض الآخر رأوه كإنسان ضعيف وبلا مجد. واستخلص إلى أن هذا
المسيح المتألم هو ذلك الذي قُسمت ملابسة وأُلقي القرعة على قميصه (10).

 

فى
عصور تالية فهم آباء كثيرون أن المزمور 19: 22 قيل عن المسيح وأن الحديث حول
القميص هو اكتمال لنبوات العهد القديم. فمثلاً نجد أن القديس كيرلس (
Kyrellos) الأسكندرى تحدث بطرق مختلفة عن القميص كما سنرى فيما بعد. فهو
يرى أن تقسيم الملابس وإلقاء القرعة وارتباطه بنبوة المزمور له معنيان: 1 فالنبوة
تقدم المسيح على أنه الإله الحقيقي. 2 تساعد المؤمنين على ” معرفة الحق
“. وفى هذا يقول القديس كيرلس فى شرحه لإنجيل يوحنا: (لقد قسموا الآن الثياب
المسلوبة إلى أربعة أجزاء، ولكنهم حفظوا القميص غير المنقسم والمنسوج. لأنهم لم
يزمعوا أن يمزقوه ولا أن يجعلوه كاملاً بدون جدوى لذلك ألقوا عليه قرعة. فالمسيح
لم يكذب عندما قال مع كلمات المرنم: ” اقتسموا ثيابى بينهم وعلى لباسى ألقوا
قرعة “. كل هذه الأشياء تُنُبِأَ بها بطريقة مثمرة لكى يمكننا عن طريق
مقارنتنا للأحداث الحقيقية مع كلمات الكتاب، أن نعرف أنه (أى المسيح) هو الذي بُشر
به وأنه أتى لأجلنا فى صورتنا ومنه يُنتظر أن يموت عن حياة الكل … فيمكننا أولاً
أن نعرف أنه الله ” بحسب الطبيعة ” وأنه كان له علم بالمستقبل، وثانيًا
وبخلاف ذلك لكي يمكننا أن نؤمن أنه هو المُعلن عنه بالحقيقة خلال أشياء كثيرة
وجليلة قد أتممها وتقود إلى معرفة الحق) (11).

 

2
التفسير الخريستولوجى لقميص المسيح

يميل
كثير من الكُتّاب الكنسيين إلى التفسير الخريستولوجى لقميص المسيح حيث يشيرون إلى
المسيح في تجسده وألوهيته. فنجد أن أوريجينوس قد فهم قميص المسيح على أنه يشير إلى
ناسوته واستند في هذا المفهوم إلى ما ذُكر في سفر اللاويين 4: 16 عن وصف رئيس
الكهنة، حيث قال: (” يلبس قميص كتان مقدسًا “. فالكتان ينبت من الأرض،
ويكتسي المسيح رئيس الكهنة الحقيقي بقميص مقدس من الكتان، حيث إنه أخذ طبيعة
الحياة الأرضية) (12).

 

أما
بالنسبة إلى ألوهية المسيح فكانت فى نظر بعض المفسرين مأخوذة من شرح ” القميص
” كما وجد في إنجيل يوحنا، لذلك نجد القديس يوحنا ذهبي الفم يقول: (لم تُضاف
العبارة “منسوجًا من فوق ” هكذا جزافًا، ولكن كما يقول البعض أنها بحسب
التفسير الرمزي (13) تشير إلى أن المصلوب لم يكن إنسانًا عاديًا ولكن كان متحدًا
باللاهوت الذي من فوق) (14).

 

ففى
إحدي العظات المنسوبة للقديس أثناسيوس عن آلام المخلص والتى من المرجح أن تكون من
أحد المحيطين به (15). يُقال: لقد حمل الرب [قميصًا غير مُخاط ومنسوجًا كله من فوق
حتى كان يمكن لليهود على الأقل أن يبلغوا الإيمان، مَنْ ومِن أين يكون المكتسي
هكذا: إنه لم يكن من الأرض ولكنه الكلمة الذى أتى من فوق) (16).

وتضيف
العظة مفهومين آخرين: أبعد من ذلك ينبغى على اليهود أن يتعلموا بإيمان أن الرب [هو
كلمة الآب غير المنقسم وليس المنقسم، وأنه تجسد، حيث لم يكن له جسد منسوج من رجل
وإمرأة، ولكن فقط من العذراء نُسج من خلال فن الروح (القدس)) (17).

 

إبيفانيوس
(
Epiphanias) أسقف قبرص فى معالجته لتعاليم أبولليناريوس (Apollinarios) الخريستولوجية قدم فى الجزء 77 من كتاب ال “Panarion ” أى ” خزانة الأدوية ” تعليمًا صحيحًا لأولئك
الذين لُدغوا من ثعابين الهراطقة السامة حتى يُشفوا بمضادات السموم. فقد استخدم
صورة ملابس المسيح مثلما فعل أوريجينوس منطلقًا من مادة هذه الملابس أي الكتان
والتي تشير إلى طبيعة المسيح الإنسانية (18)، وذلك في كتابه ضد تعاليم
أبولليناريوس. فقد أرادأن يوضح أن الدفاع لا يكون فقد عن ألوهية المسيح مثلما فعل
أبولليناريوس منكرًا بذلك إنسانية المسيح، (لأن كل شئ في المسيح كان كاملاً) (19).

 

في
إحدى الأجزاء باللغة الأرمنية ظهر الكلام عن القميص غير المنقسم ولكن في إطار
النزاعات الخريستولوجية حيث يتأسف الكاتب على ” المسيح المنقسم ” فيقول:
(لم يمزق الجنود قميص المسيح، بينما يحاول الهراطقة أن يقسموا ابن الله ويمزقوا
المسيح غير المنقسم وغير المفحوص إلى جزءين) (20). ربما الكاتب يشير هنا إلى هرطقة
نسطور واتباعه الذي كان يؤكد على فصل طبيعتي المسيح اللاهوتية والإنسانية عن
بعضهما البعض، ولذلك لم يقبل لقب ” والدة الإله ” للعذراء مريم، لأنه
كان يُعلم ” بمسيحين ” وقد أدينت تعاليمه فى مجمع أفسس المسكونى عام
431م.

 

وقد
وُجد تقليد آبائي قديم يوضح أن قميص المسيح يشير إلى التجسد الإلهي من العذراء
مريم. فنجد أن هيبوليتوس
Hypollytus يُقارن تجسد المسيح وعمل الخلاص من خلال ارتدائه للقميص وكيفية
صناعته (21). اما أوريجينوس فيتحدث في عظته عن سفر اللاويين قائلاً: (لقد كان قميص
جسد المسيح حقيقة مقدس، وهذا يعنى أنها (أى العذراء) لم توجد حبلى من زرع رجل بل
من الروح القدس) (22).

 

أما
القديس كيرلس الأسكندرى ففى تعليقه على إنجيل يوحنا23: 19 يذكر المفهوم الإفخارستى
لجسد المسيح فيقول: (فبينما قد قسموا ملابس المخلص إلى أربعة أجزاء لكنهم احتفظوا
فقط بقطعة واحدة غير منقسمة، لأن حكمة الوحيد الجنس غير الموصوفة قد دبرت الأمر
بحيث أن يكون هذا ” إشارة إلى التدبير السرى “، فبواسطة هذا خلصت أجزاء
العالم الأربعة. فكأن اجزاء العالم الأربعة قُسمت بينهم، حيث ظل الغير منقسم: الغلاف
المقدس للوغوس، أى جسده. فبالرغم من أن الوحيد الجنس يوزع بينهم قطعة قطعة وواحدة
فقط تُقدس كل نفس على حدة مع الجسد وذلك من خلال جسده الخاص، فقد ظل هو سليمًا
وغير منقسم فى وحدة كاملة وفريدة فوق الكل. حيث إنه كما يعلم بولس لا ينقسم على
الإطلاق (1كو13: 1)) (23). ففى شريعة العهد القديم يكشف القديس كيرلس عن علامة
مقارنة وذلك فى عرضه لقميص المسيح. فملابس المسيح وقميصه تكون بمفهوم القديس كيرلس
علامةلجسد الإفخارستيا الذى يوزع فى كل العالم لخلاص الإنسان ولكن يظل جسد المسيح
الواحد غير منقسم (24).

 

من
هنا نلاحظ أن هناك اختلافات فى اللاهوت الشرقى حول المعنى الخريستولوجى لقميص
المسيح. فبالعض يشير إلى إنسانية المسيح وألوهيته، والبعض الآخر يفهمون القميص
كعلامة على وحدة طبيعتي المسيح. أما أوريجينوس وهيبوليتوس فيشيران إلى أن قميص
المسيح ما هو إلاّ إشارة للتجسد من العذراء مريم. والقديس كيرلس الأسكندرى يشير
إلى أن قميص الرب غير المنقسم هو إشارة إلى الإفخارستيا.

 

3
قميص المسيح كإشارة إلى الكنيسة ووحدتها

عندما
نتكلم عن الثوب المقدس وعلاقته بحياة الكنيسة واللاهوت، نجد أنه يشير إلى الكنيسة
الواحدة والمسيحية الواحدة. جذور هذا المفهوم نجده عند آباء الكنيسة وبأكثر تحديد
عند كل من كبريانوس (
Cyprianus) أسقف قرطاجنة، وأغسطينوس (Augustinus) أسقف هيبو.

 

فى
القرن الثالث يصف كبريانوس ” قميص المسيح ” على أنه يشير إلى وحدة
الكنيسة. فنظرًا للانقسامات التى هددت هذه الوحدة فقد كتب كتابًا عن ” وحدة
الكنيسة الجامعة “، وأشار في الفصل السادس من هذا الكتاب إلى ترابط الوحدة
الكنسية والثالوثية: فبعيدًا عن إمكانية تمزق وحدة الآب والابن والروح القدس، إلاّ
أن هذا التمزق يكون ممكنًا بالنسبة للكنيسة (25).

 

وقد
تناول بالشرح هذا المفهوم فى الفصل السابع من الكتاب المذكور رابطًا إياه بصورة
” قميص المسيح”: [سر الوحدة هذا والذي يعرض رابطة الاتحاد غير المنحل،
نجده فى الإنجيل من خلال قميص الرب يسوع المسيح غير المنقسم ولا يتمزق على الإطلاق،
ولكن من خلال إجراء القرعة حول هذا الملبس يتحدد من الذي يمكنه الآن أن يلبس
المسيح، ويأخذ الملبس الذي لم يمس (بأذى) ويكون فى حيازته القميص الكامل غير
المنقسم) (26).

 

ثم
يوضح كبريانوس فكرة الوحدة الإلهية مستندًا إلى وصف إنجيل يوحنا في أن القميص كان
منسوجًا ” من فوق ” حيث فُهم هذا التعبير مجازيًا وقال: (كان (القميص)
في وحدته الذاتية والتي أتت من فوق، أى من السماء وقد أتت من الآب، وأنه كان لا
يمكن بأى حال أن ينقسم من مُستَقبِلَه ومالِكهِ ولكن حُفظ بدون انقسام بنوعٍ من
قوة التحمل الدائمة والكاملة) (27). فى هذا نجد أن اتجاه فكر كبريانوس يتلخص فى
أنه يفكر فى الإيمان والوحدة الإلهية المعطاة، كما عَبّرَ عنها في وصف القميص.

 

وقد
أشار إلى هذا أيضًا فى موضع آخر: فبينما مملكة وشعب سليمان قد انقسمت إشارة إلى
تمزيق أخائياس لمعطفه (1ملوك11) فإن هذا غير ممكن بالنسبة لشعب المسيح: (لقد مزق
النبى أخائياس معطفه عندما تمزقت قبائل إسرائيل الإثنى عشر. ولأن شعب المسيح لا
يمكن أن ينقسم، لذلك لم يُقسم قميصه المنسوج والمتصل من قبل مالكيه فالكلمات
” غير منقسم “، ” متصل “، ” مرتبط ” تصور الوحدة
المرتبطة لشعبنا حيث لبسنا المسيح؛ فسر وعلامة قطعة الملبس (أى القميص) يُظهر وحدة
الكنيسة) (28).

 

فوحدة
الكنيسة غير المنقسمة يُعبر عنها فى سلامة القميص. وهذه الوحدة الآتية من الله
تكون قوية بحسب مفهوم كبريانوس والذى كان عنده شعور بتهديد الوحدة الكنسية حيث ذكر
فى الفقرة الأولى الباب الثامن من كتابه عن الوحدة الكنسية: (من هو خبيث وخائن،
ومن هو مجنون حتى أنه من الحماقة والانقسام، يعتقد أنه يمكنه أن يمزق أو يُقدم على
تمزيق وحدة الله، ملبس الرب، كنيسة المسيح؟) (29).

 

أيضًا
نجد هيرونيموس (
Hieronymus) يشتكى فى خطاب موجه إلى البابا داماسوس (Damasus)
عن النزاعات الداخلية فى الكنيسة الشرقية فيكتب قائلاً: (لقد مزق الشرق قميص الرب
غير المنقسم والمنسوج من فوق إلى قطع) (30). فقد كانت هناك نزاعات لاهوتية وسياسية
كنسية شديدة فى كنيسة أنطاكية وذلك فى السنين قبل انعقاد مجمع القسطنطينية
المسكونى 381م، وعلى أثر ذلك توجه هيرونيموس برجاء إلى البابا داماسوس فى طلب
المساعدة لحل هذه النزاعات، وكان مفهوم ” قميص المسيح ” كصورة لوحدة
الكنيسة معروفًا فى ذلك الوقت. وبعد أن عمل هيرونيموس كسكرتير للبابا داماسوس فى
روما من عام 382 384م توجه إلى بيت لحم وكتب تفسيرًا عن بعض رسائل القديس بولس
الرسول، كان أهمها رسالة أفسس التى أظهر فيها المعنى الكنسي لقميص المسيح والذى
ذُكر أنه يشير إلى الكنيسة فى وحدتها وتظل سليمة بلا تمزق لأن هذه الوحدة تأتى
” من فوق ” (31).

 

بالنسبة
للطوباوى أغسطينوس أسقف هيبو فتوجد عنده معانى متنوعة حول قميص المسيح. فقد كانت
” الوحدة ” (
unitas) إحدى اهتماماته كأسقف على شمال إفريقيا وفى نفس الوقت كانت
الوحدة لها مفهوم كنسى بالنسبة له، لأن وحدة الكنيسة صارت من خلال ” المحبة
” (
Caritas). من هنا نجد الاصطلاحين: الوحدة، والمحبة يرجعان إلى فهمه لمعنى
القميص. فى هذا يقول:

(ماذا
يعنى القميص المنسوج من فوق عندما لا تكون هناك المحبة؟ ماذا يعنى القميص المنسوج

من
فوق عندما لا تكون هناك الوحدة؟) (32).

 

معنى
القميص عند أغسطينوس يظهر فى أعماله الكتابية وخاصة رقم 118 لإنجيل يوحنا حيث
يستخلص من قصة آلام السيد المسيح فى هذا الإنجيل أن تقسيم ملابس المسيح إلى أربعة
أجزاء يشير إلى انتشار الكنيسة فى كل اتجاهات السماء الأربعة،

 

أما
فى وصف القميص فى يو23: 19 على أنه ” من فوق ” ” بدون خياطة ”
” منسوجًا كله ” فتكون بالنسبة لأغسطينوس عبارة عن علامات تُشخِّص
المحبة والوحدة. فالكلمة ” من فوق ” (
desuper)
ينسبها أغسطينوس إلى خواص المحبة الثلاثة، هذه الخواص تكون ” فائقة ” (
supereminens): أنها طريقٌ أفضل (راجع 1كو31: 12)، كمحبة المسيح الفائقة
المعرفة (أف19: 3) ومن المسيحيين فهى تعتبر رباط (الكمال) (
super omnia) وفوق كل الوصايا الأخرى (راجع كو14: 3):

(عندما
تكون المحبة أنها طريق أفضل وفائقة المعرفة وتفوق جميع الوصايا، فقد صُوِّر القميص
بصدق والذى أُشير من خلاله بالمحبة، ” أنه منسوج من فوق “) (33). أما أن
القميص يكون غير ” مخاطٍ ” (لأن المحبة لا تنحل بالمرة). وكلمة
“كله” تعنى بالنسبة لأغسطينوس أنه لا يستثنى أحد من الوحدة لأنها تخص
الجماعة، لذلك تسمى الكنيسة ” الجامعة ” (34).

 

فالقميص
بالنسبة لأغسطينوس هو إشارة للمحبة غير المنقسمة، هكذا فى إحدى عظاته يسمى قميص
يسوع ب (قميص المحبة) (35). وفى إحدى تفاسير مزمور 30 يقول أن القميص (يشير إلى
أبدية المحبة) (36). ولكن كان ماثلاً أمام أعين أغسطينوس أن المحبة ووحدة الكنيسة
يمكن أن تتعرض للخطر وهنا يتساءل (أحقًا بعد أن حفظ الجلادون قميص المسيح، أن
تنقسم الكنيسة؟) (37). ثم يشير إلى تهديد وحدة الكنيسة من الداخل قائلاً: [الجلادون
لم يمزقوا القميص، ولكن المسيحيين يقسمون الكنيسة) (38).

 

مفهوم
” قميص المسيح ” كإشارة إلى وحدة الكنيسة المقدمة من الله بحسب تفاسير
كل من كبريانوس وأغسطينوس استمر عند الآباء اللاتين فى القرون التالية. فكان عند
آباء الكنيسة شعور بإمكان حدوث تمزق فى قميص المسيح، أى فى وحدة الكنيسة. وقد
اقتنعوا بأن هذه الوحدة لا يمكن أخيرًا أن تتمزق والضامن فى هذا هو ما يرونه فى
القميص غير المنقسم، لأن هذه الوحدة لا تكون بطريقة سحرية، ولكن لأن هذه الوحدة قد
أُعطيت ” من فوق “.

 

أما
فى الشرق فقد كان معروفًا أيضًا استخدام إشارة قميص المسيح كعلامة لوحدة الكنيسة.

 

وابتدأ
هذا المفهوم ينتشر فى كنيسة الأسكندرية وذلك فى القرن الرابع على أثر بدء النزاع
حول ميليتيوس (
Meletios) أسقف ليكوبوليس (أسيوط) والكاهن الليبى آريوس واللذان هددا وحدة
الكنيسة. وعلى أثر رؤية للبابا بطرس أسقف الأسكندرية من عام 300 311 م ظهرت فكرة
القميص المنقسم. وقد ذُكرت هذه الرؤية فى قصة ” استشهاد القديس بطرس ”
وذلك عندما حاول آريوس أن ينال منه الصفح مدعيًا توبته عن بدعته (39).

 

فبينما
كان بطرس أسقف الأسكندرية يصلى فى حجرة سجنه ظهر له شاب فى مقتبل العمر مُضيئ
الوجه وكان بثوب ممزق من فوق حتى القدمين. فعرفه بطرس وسأله متعجبًا ” يا رب
من الذى مزق القميص إلى نصفين؟ ” فأجاب: ” آريوس قسمني. والآن احترس أن
تقبله فى الجماعة “. هنا فى هذه الرؤية نرى مفهومًا آخر للقميص، فالقميص
الممزق هنا هو إشارة إلى الكنيسة المنقسمة، إشارة إلى النزاع الميليتى فى
الأسكندرية فى زمن البابا بطرس أو فى وقت متأخر أثناء النزاع الآريوسى. لأن البابا
بطرس حذر خلفاءه من قبول آريوس فى شركة الكنيسة ولكنه بحسب المؤرخ الكنسي
سوزومينوس (
Sozominus) فقد قُبل ثانية فى الشركة من أرخيللاس (Archillas).
وعلى ضوء هذا فيكون القميص المُمزق إشارة إلى التمزق فى الثالوث حيث فصل آريوس
الابن عن الآب (40).

 

لقد
بدأ النزاع الآريوسى فى زمن البابا ألكسندروس (
Alexandros) والذى كان أسقفًا للأسكندرية فى عام 312 328 م. لأنه كتب فى عام
324م خطابًا دوريًا محذرًا من آريوس واتباعه وذلك بعد إدانة آريوس وتعاليمه فى
مجمع الأسكندرية وقبل انعقاد مجمع نيقية المسكونى بقليل (41). فقد أدان ألكسندروس
الآريوسيين: ” لأنهم ينكرون ألوهية مخلصنا ويعلمون أنه يُشبه المخلوقات
” (42).

 

ففى
تعاليمهم ضد المسيح والكنيسة أقدموا على ” تمزيق قميص المسيح غير المنقسم
والذى لم يرد الجلادون أن يمزقوه ” (43).

 

حينما
وصل النزاع الآريوسى إلى قمته عقدت الكنيسة مجمعًا مسكونيًا فى نيقية عام 325م
وقطعت آريوس من شركتها، ولكن سريعًا ما أُعيد تحت حماية إمبراطور القسطنطينية.

 

بعد
نياحة البابا ألكسندروس خلفه القديس أثناسيوس الرسولى فى الفترة من 328 373م وكانت
له كتابات قوية ضد الآريوسية بالإضافة إلى دوره الهام فى مجمع نيقية المسكونى
والذى أدى إلى دحر آريوس وأتباعه. وكان يكتب خطابات فصحية تحدد ميعاد الاحتفال
بالفصح. وفى عام 333م كتب الرسالة الفصحية الخامسة وقد احتوت على توجيهات رعوية
وحذَّر المسيحيين الذين يحتفلون بالفصح كالوثنيين واليهود، ثم أشار إلى صورة قميص
المسيح محذرًا الجماعة أن تتجاوز معه أولئك الذين يصنعون الإنشقاقات حيث كتب
قائلاً: (نحن لا نقسم قميص المسيح لأننا فى منزل واحد (راجع خر26: 12) نأكل فصح
الرب فى الكنيسة الجامعة) (44).

 

وفى
الرسالة الفصحية السادسة ذكر: كما أن اليهود ” يظلون بلا عيد ” فإن
الهراطقة وفاعلي الانقسامات يكونون محرومين من احتفال الفصح [ذلك لأنهم قتلوا
اللوغوس وبهذا مزقوا الثوب](45).

 

أما
فى الرسالة الفصحية العاشرة والتى كتبها القديس أثناسيوس أثناء النفى وهو فى ترير
والتى كانت نهاية المملكة الرومانية وقد استهلها بالقول: ” من نهاية الأرض
“. وأظهر فى هذه الرسالة التحالف بين أتباع ميليتيوس والآريوسيين: (باعتبارهم
اخوة أشقاء ارتبطوا مع بعضهم البعض، ولأنهم تعلموا أن يقسموا ملبس الله غير
المنقسم، فلا يعتبرون أنه من غير اللائق أن يقسموا الابن غير المنقسم عن الآب)
(46).

 

من
هذه الشواهد الثلاثة للخطابات الفصحية للقديس أثناسيوس نرى بحسب مفهوم أثناسيوس
القميص فى إشارته إلى الكنيسة الواحدة، إلاّ أنه من خلال الهراطقة وفاعلي
الانقسامات يمكن لهذه الوحدة أن تنقسم.

 

فى
الكنيسة السريانية فُسِّر قميص المسيح بأنه إشارة إلى الكنيسة والوحدة والإيمان.
فأوسابيوس من حمص وهو أحد تلاميذ المؤرخ الكنسي أوسابيوس القيصرى يقول: [من يُقسم
سيُقسَّم، ومن يُفرق سيُفرَّق. قميص المسيح لم يُمزق وبهذا لن تنقسم الكنيسة](47).

 

أما
القديس إفرام السرياني فيفهم قميص المسيح مثل أمبروسيوس كإشارة إلى إيمان الكنيسة:
[قميصه الرائع الذي لم يُقسم منكم هو صورة الإيمان الذى بشر به الرسل فى العالم
بدون أن يقسموه. غير أن الملابس الأخرى التى قسموها تشير إلى الانشقاقات التى تحدث
فى رعية المسيح. فالمؤمنون الحقيقيون سيطوبون من خلال سر القميص، أما صانعى
الانقسامات سيدانون خلال ملابسه المقسمة](48).

 

بالنسبة
للآباء الكبادوك

 

نرى
أن القديس باسيليوس الكبير يستند إلى قول بولس الرسول “البسوا المسيح ”
(رو14: 13، غلا27: 3) ويشير إلى أن القميص يوضح وحدة الكنيسة والمسيح ذاته (49).

 

ولكن
القديس غريغوريوس النازينزى يسستخدم مفهوم القميص كإشارة لوحدة الجماعة فى ختام
حديثه بخصوص ” النزاع بين الرهبان والأب غريغوريوس أسقف نازينز “،
فيتأسف على الوحدة المنقسمة للكنيسة الشرقية فى نازينز ويقول: (جسد المسيح العظيم
والمكرم قد انقسم وتفرق (000)، والشر مزق القميص غير الممزق وغير المنقسم والمنسوج
كله) (50). ويرى غريغوريوس أن مُسبب هذا الانقسام هو الجماعة: (أمكن أن يحدث هذا
(الانقسام) خلالنا، ولكنه لم يحدث من خلال أولئك الذين صلبوا المسيح) (51).

 

من
الأقوال السابقة والمتنوعة عن قميص المسيح يتضح أن آباء الكنيسة كانوا يعانون من
الانشقاقات بين المؤمنين والتى كانت تهدد وحدة الكنيسة المعطاة من الله. فالقميص
غير المنقسم كان بالنسبة لهم إشارة إلى وحدة الكنيسة والتى تأتى ” من فوق
” من الله الواحد المثلث الأقانيم. لذلك كانوا يحذرون من التهديدات التى من
خارج الكنيسة ومن داخلها، وتمزق وحدتها.

 

4
قميص المسيح كقطعة عادية من الثياب:

بجانب
هذا العدد الكبير من آباء الكنيسة الذين يشيرون إلى أن قميص المسيح كتفسير رمزى
للكنيسة ووحدتها أو المسيح وتجسده ولاهوته، فإن بعض الآباء الآخرين وصفوا هذا
القميص على أنه قطعة عادية من الثياب.

 

من
هؤلاء الآباء يخبرنا القديس يوحنا ذهبى الفم بالآتى:

[البعض
يقولون إن الإنجيلى يصف شكل القميص القصير.فحيث إنهم فى فلسطين ينسجون الملابس عن
طريق تركيب قطعتين من القماش مع بعضهما البعض، إلا أنه على العكس من ذلك فإن يوحنا
يؤكد على أن القميص القصير هكذا صُنع، أى نُسج من فوق](52). فى هذا الشرح نجد
القديس يوحنا ذهبى الفم يستند فى تفسيره إلى آباء الكنيسة الذين يشددون فى
تفاسيرهم على المفهوم الكتابى للنص ويحاولون أن يضعوه فى سياق تاريخى. على هذا نجد
أنهم فى هذه الحالة يفرقون شكل قميص المسيح عن تلك الملابس الوطنية المعتادة فى
زمن المسيح. فمثلاً يكتب تيودور (
Theoder) أسقف هيراكليا (Heraclea) حول يو23: 19 [فبينما كان القميص الوطنى يُصنع من قطعتين صغيرتين
من القماش ويخاطا من فوق عند الأكتاف ثم يرتبطان مع بعضهما عند الأذرع، كان قميص
المخلص منسوجًا كله من فوق) (53).

 

ولكن
بعض الكُتّاب الكنسيين لا يتوقفون عند هذا الوصف البسيط عن قميص المسيح. فمثلاً
ذهبى الفم يجد أن المسيح بارتدائه تلك القطعة من الملابس للإشارة إلى بساطته (54).
وربما يكون هذا الوصف صادرًا بالذات عن يوحنا ذهبى الفم لأنه كان معروفًا ببساطته،
ليس فقط فى عظاته ولكن أيضًا لمعايشته لها بنفسه. فبساطة ثوب المسيح كانت عند بعض
الآباء إشارة إلى بساطة المسيح من ناحية ومن جهة أخرى تكون بالنسبة لهم مثال
لتبعيته.

 

5
مفاهيم أخرى حول قميص المسيح:

بخلاف
الإشارة إلى وحدة المسيح ووحدة الكنيسة من خلال معنى ” قميص المسيح ”
غير المنقسم والمنسوج كله من فوق بحسب وصف يوحنا الإنجيلى، فإن آباء الكنيسة
استخلصوا مفاهيمًا أخرى عن قميص المسيح والتى أوضحت مدى عمق فهمهم للكتاب المقدس
وعَبَّروا عن هذا الفهم من خلال التفاسير الكتابية المتنوعة. وعلى هذا كانت لهم
تأملات حول الملابس الموزعة بين الجنود والقميص غير المنقسم. ففى إحدى العظات عن
آلام المسيح يقال: [قميص المخلص لم ينقسم من الجلادين ولكنه بقى بدون انقسام. لذلك
يظل الإنجيل كل الزمان بدون انقسام](55).

 

وأشار
أمبروسيوس إلى ملابس المسيح المقتسمة بين الجنود بأنها تشير إلى ” الحديث عن
أفعاله أو نعمته ” (56).

 

أما
أوسابيوس القيصرى فيشير إلى الملابس الموزعة والقميص المقترع عليه إلى أنه ”
عالم اللوغوس، أى كلام الكتب الإلهية ” أو ” التعاليم المحرفة ”
للهراطقة (57).

 

وعند
كاسيودوروس (
Cassiodorus) من رجال القرن السادس نجد التأكيد على سوء استخدام الهراطقة
للكتاب المقدس: (تلك الملابس التى قُسمت تشير إلى كتب الأنبياء التى قسمها
الهراطقة من خلال التفاسير الخاطئة) (58).

 

أما
القديس إفرام السريانى فيشير إلى طرق أخرى عن أولئك الذين يقسمون القميص وبناء على
ذلك يقسمون الكتب الإلهية: [الصالبون أشفقوا على ملابسه بالرغم من أنهم لم يقدموا
على أن يقسموا قميصه. أما الجاحدون فخاطروا على فعل ذلك … وقسموه (أى القميص) حيث
محوا وكتبوا وأضافوا) (59). يقاوم هيرونيموس هذا السلوك من قِبَلْ الجاحدين وذلك
فى تفسيره الدقيق لكتاب الأمثال واستخدم فى ذلك صورة القميص غير المنقسم: (لقد كان
قميص المسيح منسوجًا كله من فوق ولم يُمزق من الصالبين … لهذا

 

نسعى
بأن لا نُمزق ملابس كتاب الأمثال ولصالح إرادتنا نضع الاحتمالات هنا وهناك، ولكن
ينبغى أن نحفظ وحدة النص ونتبع نفس المعنى والتناسق فيه) (60).

 

ربما
يشير هيرونيموس هنا إلى الآريوسيين الذين أساءوا فهم الآيات فى كتب الأمثال
وسخروها لتفسيراتهم الخاطئة. ولهذا نجد أن ديديموس الضرير يتكلم فى هذا الموضوع
حيث ذكر إحدى الآيات الكتابية والتى استخدمها الآريوسيون لتأكيد المعنى
الخريستولوجى حسب مفاهيمهم وفى هذا هاجمهم قائلاً: (لقد قسم الهراطقة والمعلمون
الجاحدون ملابس الكلمة فيما بينهم، ومزقوا الكلمة كما يريدون، وعلى سبيل المثال: ”
الرب قناني أول طريقه ” (أم2: 8). فالكلمة هى فقط ثوب الفكر. والآريوسيون
مزقوها كما يحلو لهم هنا وهناك وجعلوها فى ملكيتهم. أما رجال الكنيسة فقد فهموها
من ناحية أخرى هكذا: مثلما تحمل الكلمة الحكمة التى (أى الحكمة) تقول هذا وأشياء
أخرى. لذلك لا يمكن للمرء على الإطلاق أن يجد أن نفس الكلمة استعملت تقريبًا عند
كل الهراطقة بطريقة أخرى لأنهم وزعوها فيما بينهم وجردوا المعنى من الكلمة وسخروا
هذا المعنى لأغراضهم](61).

 

بالنسبة
لمستقيمى الإيمان فيكون شئ آخر: (المستقيم والمؤمن، فى الواقع يكون له كل قميص
يسوع لأنه لم يجعله فى حالة ممزقة، لهذا لا يلقى عليه أى قرعة لأنه يخصه بالكامل)
(62). فبحسب ديديموس يرى أن وحدة المعنى الروحى للكتاب لن تنقسم عن الكلمات. لأن
وحي الكتاب هو الأساس للمعنى الروحى للكتاب، وعلى هذا يرى ديديموس بحسب التفسير
الرمزى من خلال صورة القميص: كما أن القميص كان منسوجًا ” من فوق “،
هكذا الكتاب هو ” موحى به من الله ” (63).

 

بالنسبة
لأغسطينوس والذى استخدم صورة القميص ليشير إلى وحدة الكنيسة بطرق مختلفة، فقد أضاف
مفهومًا آخر أثناء الجدل العقيدى مع الدوناتيين (64) حول موضوع مفعول الأسرار. ففى
خطاب موجه إلى
Maximinus رفض أغسطينوس إعادة ممارسة المعمودية وأمره بالاعتراف بالمعمودية
الواحدة على اسم الآب والابن والروح القدس ثم سأله: (إذا كان ملبس (قميص) المعلق
على الصليب لم يُمزق من قبل الجلادين، فلماذا تُهدم أسرار ذاك الذى يملك

على
العرش فى السماء؟) (65). وفى إحدى عظاته عن الآلام يكون القميص إشارة إلى الإيمان،
بينما الملابس الأخرى المقسمة بين الجنود تشير إلى التعرض للأسرار (66).

 

هيرونيموس
فى خطاب موجه إلى إفستوخيوم (
Eustochium) ذكر قميص المسيح عند حديثه عن البتولية. ففى بداية الخطاب يحث
هيرونيموس إلى البقاء بإخلاص فى الحياة البتولية دون النظر إلى الخلف: (فلا ينبغى
النزول من السطح لأخذ ملابس أخرى بدلاً من قميص المسيح (راجع مت17: 24)) (67) وفى
الفصل ال19 من الخطاب يستخلص هيرونيموس من قصة الخليقة مقارنة بين حياة البتولية
والحياة الزوجية. فهو يفهم الزواج أنه تبع السقوط فى الخطية أما البتولية فهى حالة
” طبيعية “. فالإكتساء بأوراق التين (راجع تك7: 3) يشير بالنسبة
لهيرونيمو إلى ” الزواج ” (68).

طبقًا
لذلك يضيف قائلاً: (يرغب أولئك الذين أضاعوا هباءً القميص الآتى من فوق أن يخيطوا
ذلك القميص الغير مُخاط، فيكون لهم السرور عند صراخ الأطفال الصغار الذين يبكون
ويحزنون حالما يرون نور العالم لأنهم اُنجبوا. لقد عاشت حواء فى الفردوس عذراء،
ولكن بالثياب من الجلد بدأ الزواج) (69).

من
هذا الخطاب نرى أن قميص المسيح بالنسبة لهيرونيموس يشير إلى الحياة المفضلة له، أى
حياة البتولية. ولكن لا يُفهم من هذا أن هيرونيموس يميز البتولية كإهانة للزواج،
حيث يذكر: (إنه ليس إنقاصًا للزواج عندما يفضل أحد البتولية عنها. فلا أحد يقارن
الردئ بالجيد. أيضًا يمكن أن يتفاخر بالمرأة المتزوجة بالرغم من أنها تقف فى
المكانة الثانية بعد العذارى) (70).

 

من
هذا العرض الشامل عن قميص المسيح والذى قدمه لنا آباء الكنيسة بمفاهيم مختلفة حيث
عبروا عن مفهومهم الواضح للكتاب المقدس مستخدمين فى ذلك الطرق المتنوعة للتفسير
نقول على ضوء ذلك الآتى:

1
قميص المسيح غير المنقسم يشير قبل كل شئ إلى الوحدة: وحدة اللاهوت والناسوت فى شخص
المسيح، وحدة الكنيسة، وحدة الحياة الإفخارستية.

 

2
الملاحظة التى ذكرها يوحنا الإنجيلى إلى أن قميص المسيح كان ” منسوجًا من فوق
” فُسِّرت على أنها تشير إلى كل ما يأتى ” من فوق “: ألوهية الرب
يسوع وميلاده من العذراء وإيمان المسيحيين.

 

3
هناك مفاهيم متنوعة لقميص المسيح: وحدة الكتاب المقدس وتفاسيره، الأسرار وخاصة سر
المعمودية، بساطة المسيح، البشارة من خلال الأنبياء، هذا بالإضافة إلى أن القميص
وباقى قطع ملابس المسيح تشير إلى حياة البتولية.

===

*
المراجع الرئيسية لهذا المقال:

J. Danielou, Le psaume
21 dans La catechese patristique
، in:
MD 49, 1957
، 17 – 34 ; E. Sauser، Die Tunik Christi، in: T th Z 104، 1995, 81-105 ; M. Ghattas، Die Christologie Didymos Des Blinden Von
Alexandria den Schriften Von Tura
،
Marburg 1996; A. Aubineau
، La
Tonique Christ, Exegese Patristique De Jean 19, 23-24 in: Kyrakon
، Bd. 1، Munster 1970، 100-127 ; W. Bartz، Die Tunika des Herrn، in: Cath (M) 13, 1959، 304-311; W, Bienert، “ Allegoria “ “und Anagoge“ Berlin 1972.

 

(1)
راجع صفحة (28) من هذا العدد للتعرف على مخطوطات طره.

(2)
ديديموس الضرير: تفسير المزامير، بردية 19: 3925.

)
يوتسين الشهيد، الدفاع 36: 1 (
Apol.
1,36
).

(4)
لقد جرى أن يُطلق على هذه الرسالة اسم ” رسالة برنابا ” وهي رسالة مجهول
اسم صاحبها. وقد نسبها كل من كليمندس الأسكندرى وأيضًا أوريجينوس إلى برنابا رفيق
بولس الرسول. ولكن النقد الحديث أثبت عكس ذلك. وهى تُعد من الرسائل المنحولة. وقد
كُتبت قبل سنة 160 م، ويرجح أنها كُتبت ما بين سنة 80 130 م فى الأسكندرية. وقد
كُتبت هذه الرسالة إلى رعية مسيحية مجهولة سبق أن بشر فيها بالإنجيل.

(5)
رسالة برنابا: 5: 67.

(6)
رسالة برنابا 1: 7. (7) رسالة برنابا 3: 5.

(8)
A. von Harnack، Marcion. Das Evangelium vom fremden Gott، Leipzig 1924، S. 284- 290

(9)
ترتليان: ضد ماركيون 42: 4: 4.

(10)إيريناؤس:
الهراطقة 3: 4: 10، 11،12.

(11)
كيرلس الأسكندرى: ” شرح إنجيل يوحنا 12 =

(12)
أوريجينوس: عظة على سفر اللاويين 2: 9.

(13)
التفسير الرمزى: أنظر مقالة آباء الكنيسة والكتاب المقدس فى هذا العدد.

(14)
يوحنا ذهبي الفم: عظة على إنجيل يوحنا، 1: 85 (
PG 59, 461 AB).

(15)
V. Hugger: Mai’s Lukaskommentar
und der Traktat De passione Athanasisches Gut
، in: ZKTh 43 (1991)، 728-741.

(16)
عظة عن الآلام 21
PG 28, 221D)) “
Homilia de passione et cruce Domini
“.

(17)
المرجع السابق.

(18)
إبيفانيوس، ” ضد الهراطقة ” 17: 77: 4.

(19)
المرجع السابق 18: 77: 12.

(20)
فقرة بالأرمنية 2: 2، نشرها باللاتينية مع ترجمة بالفرنسية العالِم
B.J. Pitra في باريس عام 1883 بعنوان:

Analecta sacra
Spicilegio Solesmensi parata
، IV:
Patres antenicaeni
.

(21)
هيبوليتوس: ” ضد المسيح ” 4.

(22)
أوريجينوس: عظة عن سفر اللاويين 2: 9.

(23)
القديس كيرلس: شرح إنجيل يوحنا، (راجع الملاحظة رقم 11 من نفس المقال)، فقرة 11: 89
22.

(24)
المرجع السابق، فقرة 19: 88 21، 2: 89 10.

(25)
كبريانوس: عن وحدة الكنيسة الجامعة 160: 6162.

(26)
المرجع السابق: 163: 7168.

(27)
المرجع السابق: 171: 7174.

(28)
المرجع السابق 183: 7189.

(29)
المرجع السابق 190: 8192.

(30)
هيرونيموس: الرسالة 1: 15.

(31)
هيرونيموس: الرسالة إلى أفسس 26: 4 (
PL
26, 513A
).

(32)
أغسطينوس تفسير إنجيل يوحنا 13: 13 (
CC
36, 138: 23-25
) ؛ عظة 6: 265 (PL 38، 1222).

(33)
أغسطينوس: تفسير إنجيل يوحنا 4: 118 (
CC
656, 15 – 17
).

(34)
المرجع السابق: (
CC 657: 27-30). (35) رسالة 1: 76 (CDEL
34, 2, 325: 16
).

(36)
أغسطينوس: مز2: 30 ؛ وعظة 13: 2 (
CC
38, 211: 19
).

(37)
أغسطينوس: مز16: 145 (
CC 40, 2116:
8
، 2117: 9).

(38)
أغسطينوس: تفسير إنجيل يوحنا 13: 13 (
CC
36, 138: 28
).

(39)
بالنسبة لرؤية البابا بطرس توجد المرجع التالية:

G. Millet: La vision de
Pierre d’ Alexandrie, in: Melanges Charles Diehl, Bd. 2
، Paris 1930, 99-115; T. Vivian: St. Peter of Alexandria. Bishop and martyr (= studies in Antiquity and
Christianity),
Philadelphia 1988، 64 –78.

(40)
راجع المرجع السابق
G. Millet، ص 103 105.

(41)
H.G. Opitz، Athanasius Werke 3،1. Urkunden zur Geschichte des arianischen
Streites 318 – 328, Berlin Leipzig 1934, 19-29
.

(42)
Opitz، s. 20: 7

(43)
Opitz، s. 20:
16
.

(44)
أثناسيوس الرسالة الفصحية 5 نُشرت من قِبل العالم

F. Larsow: Die Fest-
Briefe des heiligen Athanasius Bischofs von Alexandria. Aus dem Syrischen
uebersetzt und durch Anmerkungen erlaeutert
، Leipzig/ Gottingen 1952.

(45)
الرسالة الفصحية 6 المرجع السابق ص 90.

(46)
الرسالة الفصحية 10 المرجع السابق ص 111

(47)
عظة رقم 35: 13 ونُشر من قِبَلْ العالم:

E. M. Buytaert: Eusebe
d’Emese, Discours conserves en latin. Textes en partie inedits. 1: La
collection de Troyes
، Lowen
1953, s.318: 19
.

(48)
القديس إفرام السريانى: القصيدة 6 القطعة 6 وقد نقلها عن النص السريانى العالم:

T.J. Lamy: Sancti
Ephraem Syri. Hymni et Sermones 1, Mechelen 1882, s. 687
.

(49)
عظة القديس باسيليوس الكبير(
PG31، 596 D).

(50)
غريغوريوس النازينزى: الحديث 1: 6 (
PG
35, 721A
).

(51)
عظة 1: 6 (
PG35, 721 B).

(52)
يوحنا ذهبى الفم: عظة على إنجيل يوحنا (
PG 59, 461: 31-35).

(53)
تيودور: قطعة على إنجيل يوحنا نشرها العالم:
J. Reuss: Johannes – Kommentare aus der griechischen
Kirche (= TU89),
Berlin 1966, Fragm. 391, s. 165.

(54)
يوحنا ذهبى الفم: عظة عن إنجيل يوحنا (
PG 59,461: 35-38).

(55)
عظة عن الآلام منسوبة للقديس أثناسيوس الرسولى: (
PG 28,221C).

(56)
أمبروسيوس: عظة على إنجيل لوقا19: 10 (
CC14,379).

(57)
أوسابيوس القيصرى:
GCS 23,487: 30-488:
2
.

(58)
كاسيودوروس: شرح المزمور 19: 21 (
CC97,201:
452
).

(59)
إفرام السريانى: قصيدة شعرية ” ضد الهراطقة ” 5: 38.

(60)
هيرونيموس: تفسير سفر الجامعة 7: 5: 8 (
CC72,293: 89-95).

(61)
ديديموس الضرير: تفسير المزامير، بردية 29: 3940.

(62)
المرجع السابق: بردية 11: 4014.

(63)
ديديموس الضرير، تفسير المزامير:
PG
39: 1281D
.

(64)
وهى إحدى الهرطقات التى ظهرت فى كنيسة إفريقيا نسبة إلى دوناتوس. وقد حوربت هذه
البدعة أولاً من أوبتاتوس ومؤخرًا من القديس أغسطينوس. وقد كانوا متشددين ويقولون
إن كنيسة القديسين يجب أن تبقى مقدسة وأن الأسرار ذات الصبغة التقليدية لا أساس
لها من الصحة (أى باطلة). راجع:

G.G. Willis، Saint Augastine and the Donatist Controversy، 1950 ; S.L. Greenslade, Schism in the Early
Church
، 1953; ed. 2, 1964.

(65)
أغسطينوس: الرسالة 4: 23.

(66)
أغسطينوس: عظة 8: 218.

(67)
هيرونيموس: الرسالة 2: 1: 22.

(68)
هيرونيموس: عظة 2: 19.

(69)
هيرونيموس: عظة 3: 19.

(70)
هيرونيموس: عظة 1: 19.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى