علم المسيح

إيمان المرأة الفينيقية



إيمان المرأة الفينيقية

إيمان المرأة
الفينيقية

 

«ثُمَّ
قَامَ مِنْ هُنَاكَ وَمَضَى إِلَى تُخُومِ صُورَ وَصَيْدَاءَ، وَدَخَلَ بَيْتاً
وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ لا يَعْلَمَ أَحَدٌ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ، لأَنَّ
ٱمْرَأَةً كَانَ بِٱبْنَتِهَا رُوحٌ نَجِسٌ سَمِعَتْ بِهِ، فَأَتَتْ
وَخَرَّتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ. وَكَانَتْ ٱلْمَرْأَةُ أُمَمِيَّةً، وَفِي
جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً – فَسَأَلَتْهُ أَنْ يُخْرِجَ
ٱلشَّيْطَانَ مِنِ ٱبْنَتِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهَا:
«دَعِي ٱلْبَنِينَ أَوَّلاً يَشْبَعُونَ، لأَنَّهُ لَيْسَ حَسَناً أَنْ
يُؤْخَذَ خُبْزُ ٱلْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلابِ». فَأَجَابَتْ وَقَالَتْ
لَهُ: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ! وَٱلْكِلابُ أَيْضاً تَحْتَ ٱلْمَائِدَةِ
تَأْكُلُ مِنْ فُتَاتِ ٱلْبَنِينَ». فَقَالَ لَهَا: «لأَجْلِ هٰذِهِ
ٱلْكَلِمَةِ ٱذْهَبِي. قَدْ خَرَجَ ٱلشَّيْطَانُ مِنِ
ٱبْنَتِكِ». فَذَهَبَتْ إِلَى بَيْتِهَا وَوَجَدَتِ ٱلشَّيْطَانَ قَدْ
خَرَجَ، وَٱلٱبْنَةَ مَطْرُوحَةً عَلَى ٱلْفِرَاشِ» (مرقس 7:
24-30).

 

كانت
المرأة الفينيقية وشعبها يحتقرون اليهود، ولكنها سجدت عند قدمي المسيح، وصرخت
باحترام قائلة: «يا سيد». ربما فهمت أنه أشرف عائلة عند اليهود، أو علمت أن مسيح
اليهود يكون ابن داود، فظنت أنها تعظّمه وتسرُّه بمناداتها إياه: «يا سيد، يا ابن
داود». لكن لو صَدَقَ ظنُّ اليهود عنه أنه ابن داود فقط، والمسيح الذي تصوروه، فلن
ينفعها بشيء، لأنه يكون مخلصاً سياسياً عالمياً لا يبالي إلا باليهود، ويرفض جميع
الأمم، عبدَة الأصنام نظيرها، لأنه يعتبرهم كالكلاب المكروهة المطرودة، فطلبت منه
الرحمة. لكنها لم تقل: ارحم ابنتي بل «ارحمني». لأن ابنتها المجنونة لا تشعر ولا
تهتم لمصيبتها. لكن الأمومة جعلت مصيبة الأم جسيمة جداً.

 

أكرمت
المرأة الفيقيقية المسيح وسجدت له، واستنجدت به بحرارة، لكنه لم يجبها بكلمة. وظهر
أنه خرج من البيت متوجّهاً إلى مكان آخر، فتبعته مكررة صراخها وهو لا ينتبه إليها،
لكنها لم تيأس. لعلها رأت فيه ما حقَّق لها على رغم سكوته أن صيته في الحنوّ ليس
كاذباً، وأنها تحصل بواسطة اللجاجة على بركة منه. ولعل سكوته ناتج من اشتغال
أفكاره في أمور أخرى أهم من أمرها. يكفي أنه لم يضجَرْ من صراخها ولم ينتهره.
وتضايق التلاميذ من إلحاحها، فطلبوا من المسيح أن يعطيها طلبها، لكنه قال لهم: «لم
أُرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة».

 

لكن
كيف يخصص مخلص العالم ذاته لخراف بيت إسرائيل فقط؟ الجواب: أن المسيح قرر أن يبدأ
خدمته بتبشير اليهود، لأن عندهم مواعيد الله. ولو خرج المسيح للكرازة بين الأمم،
لرفض اليهود الإصغاء إليه. ولم يشأ أن يخدم اليهود والأمم معاً، لأن الفرصة ضيقة
لا تكفي لتبشير اليهود والأمم أيضاً. كما أنه كان يدرب تلاميذه ليحملوا بشارته
للجميع من يهود وأمم.

 

قيل
حقاً إن الريح التي تطفئ الفتيلة، تزيد الحريق الكبير اضطراماً، فالصدمة التي تطفئ
الإيمان الضعيف تزيد الإيمان القوي قوة. فنرى هذه المرأة تتقدم وتجدد استنجادها،
كأن الرفض يزيد قوة إيمانها، فسجدت ثانية وصرخت: «أعنّي». كان مفعول هذه الكلمة
الواحدة البسيطة الصادرة من قلب ملتهب، أعظم من كل الصلوات الفصيحة التي تقدمت في
الهيكل العظيم في ذلك اليوم. أفلا يترأف الآن هذا السيد الصارم؟ ألا يكفي هذا
القدر من احتراق قلبها؟ لأن هذا الرؤوف يريد أن يعطيها مجداً أعظم، بعد تزكية
إيمانها بامتحان جديد أمرّ من الأول، إذ قال لها: دعي البنين أولاً يشبعون. ليس
حسناً أن يؤخذ خبز البنين ويُطرح للكلاب؟ ألا يشك من يقرأ هذا الجواب أنه من
اختلاق وتزوير أحد مبغضي المسيح؟ أيحتمل أن يخرج كلامٌ كهذا من فم ذلك الذي أحب
العالم بأسره كبيره مع صغيره، وأميره مع فقيره، صالحه مع شريره حتى بذل نفسه عنهم
جميعاً؟

 

الإجابة:
كلا! فقد أراد المسيح بهذه الكلمات أن يفتح عيني هذه السيدة إلى حقيقة روحية خفيت
عنها. نظرت هذه المرأة إليه كابن داود. ومسيح اليهود وحدهم، وإذ ذاك لا نصيب لها
مطلقاً في عطاياه وبركاته. ولا يقدر أن يجعل لها هذا النصيب إلا بعد أن تعرفه
وتعترف به مسيحاً للأمم أيضاً. ففتح لها بجوابه القاسي باباً تصل منه إلى هذه
المعرفة وهذا الاعتراف.

 

ففي
تواضعها العظيم مع احتياجها الكبير، عادت تطالبه بإلحاح. ألم يقل لها: «دعي البنين
أولاً يشبعون؟» إذاً الكلاب تأخذ دورها بعد البنين! فجعلت المسيح بوضعه إياها بين
الكلاب، يعترف أن لها حقوقاً، لأن أب البنين حول المائدة، هو أيضاً رب الكلاب تحت
المائدة. فإنْ كانت هي من الكلاب، فللكلاب أرباب، وهو إذاً ربها. ولها الفتات
الفاضلة عن البنين.

 

في
إيمانها هذا أعطت مثالاً يوضح شيئاً عن الإيمان. لو كان إيمانها الإيمان العقلي
فقط – نظير إيمان كثيرين، لأقنعتها معاملة المسيح أن تتركه وأن لا نصيب لها عنده.
لكن لأن إيمانها قلبي، نظر إلى وراء الظواهر، وتأكد أن المسيح لا يردّ طلب مستغيث
ولو أجَّل الإغاثة، فإذا به يلبّي طلبها اللجوج بقوله: «يا امرأة، عظيم إيمانك.
ليكن لك كما تريدين. ولأجل هذه الكلمة اذهبي. قد خرج الشيطان من ابنتك». هذا
المسيح العظيم الذي لم يرضخ البتة في كل مناقشاته مع فلاسفة اليهود بل كان يلجمهم
بأجوبته السديدة، ويريهم بُعدهم عن ملكوت الله، يتنازل الآن ويرضخ بحِلْم عجيب
لهذه المسكينة في احتياجها إليه، ويبيّن قُربها لهذا الملكوت.

 

فائدة
للتلاميذ

نلاحظ
أيضاً أن التلاميذ حصلوا على نتيجة في هذا الإمتحان، لأنهم رأوا أمامهم مثالاً
لخراف هذا الراعي العظيم، التي ليست من الحظيرة اليهودية (يوحنا 10: 16) بعضها
يفوق الخراف اليهودية في المواهب الروحية. قد تعوّدوا أن يسمعوا من المسيح تأنيباً
بقوله لهم مراراً: «يا قليلي الإيمان». ولما كاد بطرس يغرق وبّخه قائلاً: «يا قليل
الإيمان، لماذا شككت؟». فأيُّ خجل يغمرهم جميعاً إذ سمعوا سيدهم يقول مبتهجاً لهذه
الوثنية المعدومة الوسائط الدينية: «عظيم إيمانك. ليكن لك كما تريدين!»

 

استجابة
الصلاة

ويرينا
هذا الحادث أن استجابة الصلاة لا تتوقف على مقام الطالب كما يتوهم كثيرون، بل على
روحه في الطلب. ظهر هذا لما أتي للمسيح يوماً تلميذاه الممتازان يعقوب ويوحنا
الحبيب مع والدتهما، التي كانت ترافقهم وتخدمهم من مالها، وطلبوا منه شيئاً، فلم
يسمع لهما، أما الآن فاستجاب لهذه الفينيقية الغريبة العديمة المقام. قد رأينا
فيما سبق تلاميذ كثيرين في وطن المسيح يرتدُّون عنه. لكن تلك الخسارة – وإن كان
ظاهرها عظيماً – لا توازي ربحه هذه النفس النادرة المثال، التي انضمَّت إليه في
القرية الوثنية، في نواحي صور وصيداء.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى