علم الله

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل الثالث

علامات
الكنيسة

أوّلاً-
الكنيسة واحدة

الكنيسة
واحدة لأنّ مصدر وجودها وينبوع حياتها إنّما هو حياة الله الواحد الآب والابن
والروح القدس. فالآب تبنّاها والابن أحبّها ومات لأجلها وقدّسها والروح القدس
يحييها

مقالات ذات صلة

1-
وحدة الكنيسة من وحدة الآب: جميع أعضاء الكنيسة هم أبناء الله

جميع
الناس هم أبناء الله الواحد، أشرارًا كانوا أم صالحين، وعليهم جميعًا يُطلع شمسه
وإليهم جميعًا يرسل المطر: “أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل
الذين يضطهدونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنّه يطلع شمسه على الأشرار
والصالحين، ويمطر على الأبرار والأثمة” (متى 5: 44، 45) وجميع الناس هم أبناء
الله لأنّه هو الذي خلقهم جميعًا: “يا رب، أنت أبونا وفادينا.. أنت أبونا،
نحن الطين وأنت جابلنا، ونحن جميعًا عمل يديك” (أش 63: 16؛ 64: 8).

إنّ
كل إنسان يولد في العالم هو ابن الله، إلاّ أنّ رباط البنوّة هذا يصير أعمق وأوثق
بالمعمودية التي بها يلبس الإنسان المسيح، فيولد من جديد ويصير بنوع خاص ابن الله
على مثال المسيح ابن الله. هذا ما يفسّره بولس الرسول في رسالته إلى الغلاطيين.

“بعد
إذ جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب، لأنكم جميعاً أيناء الله، بالإيمان بالمسيح
يسوع، لأنّكم، أنتم جميع الذين اعتمدوا للمسيح، قد لبستم المسيح. فليس بعد يهودي
ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنّكم جميعًا واحد في المسيح يسوع،
فأنتم إذن نسل إبراهيم وورثة بحسب الموعد. وأقول أيضاً: إنّ الوارث ما دام طفلاً
فلا فرق بينه وبين العبد، مع أنّه يملك كل شيء. لكنّه تحت أيدي الأوصياء والوكلاء
إلى الأجل الذي حدّده الآب. وهكذا نحن أيضاً: فإذ كنّا أطفالاً كنّا مستعبدين
لأركان العالم. ولكن لّا بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا
تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، وننال التبنّي. والدليل على أنّكم أبناء
كونُ الله أرسل إلى قلوبنا روح ابنه ليصرخ فيها: أبّا أيّها الآب. فأنت إذن لست
بعد عبدًا بل أنت ابن، وإذا كنت ابنًا فأنت أيضاً وارث بنعمة الله” (غلا 3: 24-
4: 7).

قبل
مجيء المسيح كان الإنسان ابن الله، ولكنّه كان بعد طفلاً، والناموس كان مؤدّبه
يرشده إلى المسيح. أمّا بمجيء المسيح ابن الله، فالذين يعتمدون يصبحون أبناء الله
البالغين ويملأهم روح التبنّي. وهذا ما يجعلهم واحدًا: “إنّ الجسد وأحد،
والروح واحد، كما أنّكم بدعوتكم قد دعيتم إلى الرجاء الواحد. وإن الرب واحد،
والإيمان وأحد، والمعمودية واحدة، والإله واحد، والآب واحد للجميع، وهو فوق الجميع
وخلال الجميع وفي الجميع” (أف 4: 4- 6).

2- وحدة
الكنيسة من المسيح الواحد

ء)
المسيح هو رأس الجسد

إنّ
المسيح هو الذي يمنح الجسد كلّه الحياة الإلهية: “منه ينال الجسد كلّه
التنسيق والوحدة” (أف 4: 15، 16). ويجب التمسّك بالرأس، يقول أيضاً بولس
الرسول: “الرأس الذي به يتغذّى الجسم كلّه، ويتلائم بالمفاصل والمواصل ويبلغ
إلى تمَام نموّه في الله” (كو 2: 19). وهذا هو السر الذي أعلنه لنا الله
“ليحقّقه عند تمَام الأزمنة: أي أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كلّ شيء، ما
في السماوات وما على الأرض” (أف 1: 10).

ب)
المسيح، بصليبه، صالح الكون مع الله وأقرّ السلام والوحدة بين الناس

المسيح
هو مبدأ وحدة الكنيسة لأنّ جميع المسيحيين اعتمدوا باسمه وجميعهم تصالحوا مع الله
بصليبه. ولإزالة الشقاق بين المسيحيين في كورنثس يعود بولس إلى المسيح هل تجزّأ
المسيح؟ ألعلّ بولس قد صلب لأجلكم؟ أباسم بولس قد اعتمدتم؟” (1 كو 1: 13).
فالمسيح هو مبدأ وحدة الكنيسة، لأنّه لا يتجزّأ في محبته لأعضاء جسده، فقد مات
عنهم جميعًا وهم جميعًا اعتمدوا لموته وقيامته، يونانيين كانوا أم يهودًا:

“أمّا
الآن، في المسيح يسوع، فأنتم الذين كانوا قبلاً بعيدين قد صرتم قريبين بدم المسيح،
لأنّه هو سلامنا، هو الذي جعل من الشعبين واحدًا.. ليكوّن في نفسه من الاثنين
إنسانًا واحدًا جديدًا بإحلال السلام بينهما، ويصالحها مع الله، كليهما في جسد واحد،
بالصليب الذي به قتل العداوة” (أف 2: 13- 16)، و”فيه أرتضى الله أن يحلّ
الملء كلّه، وأن يصالح به، لنفسه، كلّ ما على الأرض وفي السماوات، بإقرار السلام
بدم صليبه” (كو 1: 19، 20).

إنّ
الخلاص الذي حصلنا عليه بالمسيح لا بدّ لنا من الدخول فيه: “فاقبلوا إذن بعضكم
بعضاً كما قبلكم المسيح لمجد الله” (رو 15: 7). إنّ المسيح قبلنا فصرنا فيه،
وإن آمنّا به وقبلناه يصير هو فينا. ولكن مع المسيح لا بدّ لنا أن نقبل أيضاً جميع
الذين قبلهم المسيح وصاروا فيه. ففي المسيح وفي صليبه تجد وحدة المسيحيين أساسها
الثابت والراسخ الذي لا يمكن أن يتزعزع. هذا ما يظهره أيضاً تشبيه الكنيسة بعروس
المسيح الذي “أحبّها وبذل نفسه لأجدها” ومحبة المسيح للكنيسة عروسه
ثابتة إلى الأبد: “فإنّه ما من أحد أبغض قط جسده الخاص، بل إنّما يغذّيه
ويعتني به كما يفعل المسيح بالكنيسة. أو لسنا أعضاء جسده؟..” (أف 5: 25- 30).

إنّ
الكنيسة هي البشرية التي تصبح عروس المسيح وجسده بالإيمان والحرية، بقبولها محبة
المسيح. ولكن عليها ألاّ تنقاد لإغواء شخص آخر. ذاك هو اهتمام بولس الرسول: “إني
أغار عليكم غيرة الله، لأنّي خطبتكم لرجل واحد، لأهديكم عذراء عفيفة للمسيح. بيد
أنّي أخاف من أنكم، على مثال حواء التي أغوتها الحية بمكرها، تفسد أفكاركم وتتحوّل
عن بساطتها تجاه المسيح” (2 كو 11: 2، 3).

3-
وحدة الكنيسة من الروح القدس الواحد الذي يحييها

إنّ
الروح القدس هو أيضاً مبدأ وحدة الكنيسة. فهو الذي يجعلنا أبناء الله ويوحّدنا
بالمسيح: “بالمسيح لنا كلينا التوصّل إلى الآب بروح واحد” (أف 2: 18)؛
“إنّ جميع الذين يقتادهم روح الله هم أبناء الله. والحال أنّكم لم تأخذوا روح
العبودية فيعود بكم إلى المخافة، بل أخذتم روح التبنّي الذي به ندعو أبّا أيّها
الآب. فهذا الروح عينه يشهد مع روحنا بأنّا أولاد الله” (رو 8: 14- 16).

يقول
المجمع الفاتيكاني الثاني: “لكي نتجدّد في المسيح باستمرار، آتانا أن نشترك
في روحه الذي إذ هو واحد وهو عينه في الرأس وفي الأعضاء يحيى الجسد كلّه ويوحّده
ويحرّكه، حتى لقد شبّه الآباء القدّيسون فعله بوظيفة الروح التي هي مبدأ الحياة في
الجسد” (في الكنيسة، 7).

في
قانون الإيمان نعلن إيماننا “بالروح القدس الرب المحيي”. لقد رأى آباء
الكنيسة أنّ مبدأ منح الحياة الإلهية الذي يمنحنا إيّاه الآب في ابنه يسوع المسيح
وبواسطته، أي مبدأ تألّه البشرية، هو الروح القدس الذي به يمكننا الاتحاد بالله.

4-
الكنيسة واحدة على صورة الثالوث الأقدس

إنّ
الكنيسة هي شعب الله الذي يحيا حياة الله، الآب والابن والروح القدس. لذلك يمكننا
القول إنّ الكنيسة هي امتداد الثالوث الأقدس في العالم. يقول ترتليانوس: “حيث
الأقانيم الثلاثة، أي الآب والابن والروح القدس، هناك الكنيسة، لأنٌ الكنيسة هي
جسد الثلاثة”.

لقد
صلّى يسوع لكي يكون الذين يؤمنون به واحدًا على مثال وحدته مع الآب: “لست
لأجلهم فقط أصلّي، بل لأجل الذين يؤمنون بي عن كلامهم أيضاً، لكي يكونوا بأجمعهم
واحدًا. فكما أنك أنت أيّها الآب فيّ وأنا فيك، فليكونوا هم أيضاً فينا، حتى يؤمن
العالم أنّك أنت أرسلتني” (يو 17: 20، 21).

إنّ
وحدة الكنيسة يجب أن تكون على مثال وحدة الثالوث، أي وحدة في الكيان وتعددية في
الأشخاص. فكا أنّ هناك إلهًا واحدًا في ثلاثة أقانيم، هكذا يجب أن تكون الكنيسة
واحدة في أشخاص متعدّدين. وهذا ينطبق على صعيد الأشخاص وعلى صعيد الكنائس المحلّية.
فالكنيسة الواحدة لا تزيل تعدّدية الكنائس المحلّية، ولا ينبغي اعتبار هذه
التعددية نقصاً في كيان الكنيسة بل هي أمر أساسي في كيانها، كما أنّ تعدّدية
الأقانيم أمر أساسي في كيان الله.

إنّ
“الأنا” الشخصي لا يذوب في كيان كنسي يمثّله رؤساء الكنيسة، فالكنيسة لا
يمثّلها فقط رؤساؤها بل كل مسيحي يحيا حياة المسيح. إنّ الأنا الشخصي يتأكّد وجوده
بالانفتاح على “الأنا” الكنسي بحيث يمكن تحديد الكيان الكنسي بعلاقة
محبة وحياة بين أشخاص يحيون من حياة الله.

وكذلك
الكنائس المحلّية لا تذوب في كيان كنسي تمثّله الكنيسة الأولى، كنيسة رومة،
والأسقف الأوّل، أسقف رومة، بل يتأكّد وجود كل كنيسة محلّية بانفتاحها على سائر
الكنائس المحلّية، إذ تدرك كل كنيسة أنّها، على غرار سائر الكنائس وبالاتحاد معها،
محافظة على وديعة الإيمان وتحيا من حياة الله، بحيث يمكن تحديد الكيان الكنسي
علاقة محبة بين كنائس محلّية مختلفة تحيا من حياة المسيح. أمّا دور أسقف رومة فهو
المحافظة على المحبة والوحدة بين جميع الكنائس المحلّية.

إنّ
تقدّم الحركة المسكونية للبلوغ بالكنائس المحلّية إلى الوحدة المنظورة رهن بتلك
النظرة اللاهوتية الثالوثية إلى سر الكنيسة، فهي تضمن التوازن بين الوحدة
والتعددية.

5-
المحبة ضمان وحدة الكنيسة

على
مثال محبة المسيح لكنيسته، وعلى مثال محبة الأقانيم الثلاثة المتبادلة في الثالوث
الأقدس، المحبة في الكنيسة هي “الموهبة العظمى” (1 كو 12: 31) التي تبني
الكنيسة وتضمن وحدتها وديمومتها وتهيّئنا لمعرفة الله كما يعرفنا هو: “النبوّات
ستبطل، والألسنة تزول، والعلم يضمحلّ، أمّا المحبة فلا تسقط أبداً.. الآن ننظر في
مرآة، في إبهام، أمّا حينئذ فوجهاً إلى وجه. الآن أعلم علماً ناقصاً، أمّا حينئذ
فسأعلم كما عُلمت” (1 كو 13: 8).

إنّ
المحبّة هي مصدر وجود الكنيسة وينبوع حياتها. لذلك، مهما اختلف المسيحيون على
النبوّات والألسنة والعلم، أي على تحديد العقائد والتفسيرات اللاهوتية، يجب أن
يحرصوا كل الحرص على عدم فقدان المحبة.

ثمّ
يجب إلاّ يغرب عن بالنا أنّ محبة المسيح للكنيسة قد ظهرت في أقصى حدّها على الصليب:
“ليس لأحد حب أعظم من أن يبذل الحياة عن أصدقائه” (يو 15: 13)،
“هكذا أحبّ المسيح الكنيسة إذ بذل نفسه لأجلها” (أف 5: 25). على الصليب
بنى يسوع كنيسته إذ محا خطايا جميع البشر وصالحهم مع الله. لذلك كل ما يقترفه
المسيحيون من خطايا، وكل شقاق ونزاع بينهم، يجد في صليب يسوع المسيح ينبوع المغفرة
والمصالحة. ولذلك لا يمكننا تبرير انقسام كنيسة المسيح، مما كانت الأسباب التي أدت
إلى هذا الانقسام خطيرة. إنّ الانقسام خطيئة، وككل خطيئة لا يمكن تبريره، إنّما
نحمله كجرح في جسد المسيح، متّضعين ومقرّين بأنّنا أخطأنا بانقسامنا، فنرمي
بخطيئتنا على أقدام صليب المسيح لكي يوحّدنا من جديد ويصالحنا بعضنا مع بعض،
فتتحقق فينا صلاته إلى الآب: “كما انك أيّها الآب فيّ، وأنا فيك، فليكونوا هم
أيضاً فينا، حتى يؤمن العالم أنّك أرسلتني” (يو 17: 21).

ثانياً-
الكنيسة جامعة (كاثوليكية)

إنّ
لفظة “جامعة” هي ترجمة اللفظة اليونانية “كاثوليكي” التي خرجت
منها لفظة كاثوليكية. وأوّل من استعمل تلك اللفظة كصفة للكنيسة هو أغناطيوس
الأنطاكي في رسالته إلى السميرنيين إذ يقول: “حيث يسوع المسيح فهناك الكنيسة
الجامعة” (8: 2). من هنا تتخذ هذه الصفة بعدين: بعدًا لاهوتيًا وبعدًا
جغرافيًا. فاللفظة اليونانية تعني “في الملء، حسب الملء، في الكل، حسب الكل،
شامل”. فالبعد اللاهوتي لهذه اللفظة هو اشتراك المسيحيين في ملء حياة المسيح.
والتركيز في هذا البعد هو على ملء الحياة الإلهية التي تشترك فيها الكنيسة.
فالكنيسة الجامعة (أو الكاثوليكية) هي إذًا الكنيسة التي حافظت على حياة المسيح
فيها وعلى ملء الإيمان المسيحي. أمّا البعد الثاني فيؤكّد امتداد الكنيسة الجغرافي
في كل مكان وكل بلد.

1-
المسيح أساس جامعية الكنيسة

يبنى
بولس الرسول جامعية الكنيسة على المسيح. إنّ تصميم الله الذي “قصده في نفسه
ليحقّقه عند تمَام الأزمنة هو أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كل شيء: ما في
السماواتِ وما على الأرض” (أف 1: 9، 10). لذلك “أنهضه من بين الأموات،
وأجلسه عن يمينه في السماوات، فوق كل رئاسة وسلطان وقوّة وسيادة، وفوق كل اسم
يسمّى ليس في هذا الدهر فقط، بل في الدهر الآتي أيضاً. لقد أخضع كل شيء تحت قدميه،
وأقامه فوق كل شيء رأسًا للكنيسة، التي هي جسده وكمال من يكتمل في جميع
الكائنات” (أف 1: 20- 23).

وليس
إلاّ رأس واحد للعالم ولجميع القوى المنظورة وغير المنظورة التي يمكن المرء أن
يتصوّرها أو أن يخاف من سيطرتها، وهذا الرأس هو المسيح الذي “فيه خلق جميع ما
في السماوات وعلى الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، عروشاً كان أم سيادات أم رئاسات أم
سلاطين، به وإليه خلق كل شيء. إنّه قبل كل شيء، وفيه يثبت كل شيء، الذي هو أيضا
رأس الجسد أي الكنيسة. إنّه المبدأ، البكر من بين الأموات- لكي يكون هو الأوّل في
كل شيء- ففيه ارتضى الله أن يُحلْ الملء كلّه” (كو 1: 16- 19).

إنّ
كل شيء يجد معناه في المسيح. فبمَا أنّ الله قد أحلّ الملء كلّه في المسيح،
فالعالم باتحاده بالمسيح يمتلئ من ملء الله. لذلك كل ما في السماء وما على الأرض
مدعو إلى الائتلاف في المسيح. وفي هذا يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: (إنّ جميع
الناس مدعوون لأن يكونوا من شعب الله الجديد.. في هذا الغرض أرسل الله ابنه وجعله
وارثًا لكل شيء ليكون للجميع المعلّم والملك والكاهن، ولشعب أبناء الله الجامع
رئيسًا. وللغرض عينه أخيرًا أرسل الله روح ابنه، الرب والمحي، الذي هو للكنيسة
ولجميع المؤمنين وكل مدنهم مبدأ نجمعّ ووحدة في تعليم الرسل والشركة وفي كسر الخبز
والصلوات” (في الكنيسة، 13).

وإنّ
وحدة العالم قد تحققت في عمل المصالحة الذي قام به المسيح: “فيه (المسيح)
ارتضى الله أن يحلّ الملء كلّه، وأن يصالح به لنفسه كل ما على الأرض وفي السماوات،
بإقراره السلام بدم صليبه” (كو 1: 19، 20). فني صليب المسيح، في جسد المسيح،
“قتلت العداوة” (أف 2: 16) بين اليهود والوثنيين، ومن خلالهم بين جميع
الشعوب. والكنيسة هي العلامة والأداة لتحقيق تلك المصالحة على مدى التاريخ بين
جميع أمم العالم، فهي جسد المسيح الممتلئ من ملءِ الله.

إنّ
رؤية كهذه تعتبر الكنيسة محور كل شيء في العالم قد تقود إلى الاعتداد بالذات وإلى
التسلّط. لذلك يجب توضيح أنّ سرّ الكنيسة هو سر اسختولوجي: إنّ ما نعبّر عنه هو
تعبير في الرجاء. فالكنيسة تؤمن أنّ مبدأ وحدة العالم، أي المسيح الرأس والفادي
والمخلّص، هو فيها. ولكنّها تعلم أيضاً أنّ عليها “أن تنمو في كل وجه نحو
الرأس، أي المسيح” (أف 4: 15). فالإيمان يمنحنا الروح القدس، ولكنّ الروح ليس
إلاّ “عربون ميراثنا” (أف 1: 14)، وهذا العربون يجعلنا ننتظر الرب الذي
اتحدنا به في الرجاء، ونصلّي: “تعال، أيّها الرب يسوع” (رؤ 22: 20). تلك
هي المفارقة التي تعيش فيها الكنيسة: لقد حصلت على ملء الحياة ولكنّها تنتظر تجلّي
هذا الملء في حياة جديدة. لقد آمنت بأنّ المصالحة قد تمّت في المسيح ولكنّها ترجو
أن تتحقق هذه المصالحة لكل الشعوب والأمم. إنّ انتظارنا للرب هو في الوقت نفسه
ارتقاء مستمر نحو الرب.

لذلك
فإنّ الرسالة هي من صلب الكنيسة. وشمولية الكنيسة تتأكّد بالتبشير بالإنجيل لكل
إنسان مع ما يرافق تلك الخدمة من مضايق وآلام فيها يُتمّ المسيحيون، على غرار بولس
الرسول، “ما ينقص من مضايق المسيح لأجل جسده الذي هو الكنيسة” (كو 1: 24).
فلا يكفي أن تؤمن لكنيسة أنّ الرئاسات والسلاطين قد اخضعوا كلّهم للمسيح، بل يجب
الالتزام مع المسيح في عراك لا هوادة فيه ضدّهم. ولا بدّ لذلك من ارتداء سلاح الله
الكامل: “إتّخذوا سلاح الله الكامل.. شدّوا أحقاءكم بالحق، تدرّعوا بالبر،
وانتعلوا بالغيرة على نشر إنجيل السلام. وعلاوة على ذلك، احملوا ترس الإيمان الذي
به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرّير الملتهبة، واتخذوا أيضاً خوذة الخلاص وسيف
الروح، أي كلمة الله” (أف 6: 13- 17).

2-
الكنيسة سر الخلاص الشامل

ء)
ما هو الخلاص

إنّ
الخلاص هو بلوغ الإنسان هدف حياته وتحقيق معنى وجوده تحقيقًا كاملاً. والإنسان لا
يبلغ هدف حياته ولا يحقق معنى وجوده إلاّ باتحاده بالله مصدر حياته وباتحاده
بإخوته البشر في أسرة واحدة. فهناك بعدان للإنسان، بعد عّمودي وبعد أفقي، يربطهّ الأول
بالله ويربطه الثاني بالآخرين. وخلاص الإنسان لا يتحقق إلا بتحقيق هذين البعدين.
والخلاص ليس إنقاذ بعض الأفراد من الغرق بل تحقيق تصميم الله، أي البلوغ بالخليقة
كلّها إلى الله.

ب)
الكنيسة سر الخلاص

إنّ
السر هو علامة حسية منظورة تصل الإنسان بالله غير الحسي وتغدق عليه نعمة الله غير
المنظورة. ففي كل سر وجهان، وجه حسّي منظور، ووجه غير منظور، ومن خلال الحسّي
والمنظور يتحد الإنسان بغير المنظور. والمسيح في هذا المعنى هو “سر
الله”، لأنه كلمة الله المتجسّد، فيه ظهر ظهورًا منظورًا وحسّياً كلمة الله
غير المنظور، وفيه ظهر الله للعالم، وبه انسكبت على العالم نعمة الله “السر
الأوّل والرئيس” لحضور الله.

والكنيسة
التي هي متابعة حضور المسيح كل الأرض، هي أيضاً السر الأول والرئيس. وفيها أيضاً
وجهان، وجه منظور، وهو مؤسساتها وأسرارها ورتبها الطقسية، ووجه غير منظور، وهو
النعمة التي تمنحها. فالأسرار السبعة وسائر الرتب والصلوات وجميع الخدم الكنسية
ليست سوى تعبير متعدد الجوانب لسر الكنيسة الواحد.

ج)
الكنيسة سر الخلاص الشامل

“لا
خلاص خارج الكنيسة”. تعود هذه العبارة إلى القرون المسيحية الأولى. فنقرأ في
تعليق أوريجانوس على سفر يشوع (6: 24): “خارج هذا البيت الوحيد، أي خارج
الكنيسة، لا يخلص أحد”. وما أراد الآباء تأكيده في هذه العبارة وأنّ الديانات
ليست كلّها متساوية، وأنّ المسيح وحده هو وحي الآب النهائي، والكنيسة وحدها هي
امتداد سر المسيح. لكنّ هذه العبارة قد يُساء فهمها، لذلك من الأفضل الاستعاضة
عنها بالعبارة المعاصرة “الكنيسة هي سر الخلاص الشامل”. فماذا نعني بهذه
العبارة؟

إنّ
خلاص الله قد يأتي لبعض الأفراد خارجاً عن الكنيسة، والخير الذي يقدم على صنعه
الناس خارج الكنيسة إنّما هو عمل روح الله. ونعمة الله هي التي تقود غير المؤمنين
إلى الإيمان بالمسيح. إلاّ أنّ الكنيسة هي الأداة المنظورة التي تأتي بواسطتها
نعمة الله، عندما ننظر إليها، ليس في هذا أو ذاك من الأفراد، بل في قصد الله
للخلاص الشامل الذي تحقّق تجسّد ابن الله. فالكنيسة هي الوجه المنظور الذي به
يستمر على مدى التاريخ خلاص الله الذي حضر إلينا في لحظة من التاريخ في شخص يسوع
المسيح.

إنّ
الله يبقى فوق الكنيسة. وروح الله يلهم الناس على عمل الخير خارجا عن الكنيسة.
ولكنِّ الكنيسة هي السر الشامل للخلاص، أي إنّها وحدها المؤسسة التي تستطيع أن
تجمع كل الناس في شعب واحد لله، في جسد واحد للمسيح، في هيكل واحد للروح القدس.
وهذا هو قصد الله، “أن يجمع تحت رأس واحد في المسيح كل شيء: ما في السماوات
وما على الأرض” (أف 1: 11).

إنّ
في هذا التعبير تأكيدًا لأمرين:

1-
إنّ الكنيسة هي الأداة التي أرادها الله ليحصل الناس على الخلاص الذي حصلت عليه
البشرية بيسوع المسيح.

2-
إنّ الكنيسة قد نالت من سيّدها ومؤسسها كل ما يجب لتوفير هذا الخلاص للبشرية كلّها.

وفي
نظرة كهذه لا يعود القصد من الرسالة والكرازة إنقاذ الناس من الهلاك الأبدي، بحجّة
أنّ كل من يبقى خارج الكنيسة المنظورة هالك لا محالة، إنّما القصد منهما تكوين شعب
واحد لله، بحيث يستطيع جميع الناس أن يسبّحوا بفم واحد وقلب واحد اسم الله العظيم
الجلال، الاسم الجديد الذي علّمنا اياه المسيح، وأن يقولوا معا: “أبانا..”.

إن
كان الخلاص يقوم على بلوغ الإنسان حقيقة كيانه، وكيان الإنسان ليس فرديًا وحسب بل
أيضاً جماعي، فالكنيسة هي حقًّا “سر الخلاص الشامل”. يقول المجمع
الفاتيكاني الثاني:

“إنّ
الذين، على غير ذنب منهم، يجهلون إنجيل المسيح وكنيسته، ويطلبون مع ذلك الله بقلب
صادق، ويجتهدون بنعمته أن يتمّموا في أعمالهم إرادته كما يمليها عليهم ضميرهم،
فهؤلاء يمكنهم أن ينالوا الخلاص الأبدي. وكذلك الذين، على غير ذنب منهم، لم يبلغوا
بعد معرفة الله معرفة صريحة، وإنّما يجتهدون، لا بمعزل عن مؤازرة النعمة، أن
يسلكوا مسلكاً مستقيمًا، فإنّ العناية الإلهية لا تحبس عنهم المساعدات الضرورية
لخلاصهم”، ثمّ يضيف المجمع: “ذلك بأنّ كل ما فيهم من صلاح وحق هو في نظر
الكنيسة تمهيد للإنجيل، وموهبة من ذاك الذي ينير كل إنسان لكي تكون له الحياة
أخيرًا” (في الكنيسة، 16).

ثالثًا-
الكنيسة مقدّسة

1- قداسة
الكنيسة من قداسة الله

القداسة
هي الاتحاد بالله، والكنيسة مقدّسة لأنّها سر اتحاد الله بالبشر في يسوع المسيح.

لقد
خصص المجمع الفاتيكاني الثاني الفصل الخامس من الدستور العقائدي “في
الكنيسة” للكلام عن “الدعوة العامة إلى القداسة في الكنيسة”. يقول
في مستهلّ الفصل: “إن الكنيسة التي يفسّر المجمع المقدّس سرّها هي، في نظر
الإيمان، مقدّسة على الزمن. ذلك بأن المسيح ابن الله، الذي هو مع الآب والروح
“وحده القدوس”، قد أحبّ الكنيسة كعروس له، وأسلم نفسه لأجلها ليقدّسها
(أف 5: 25، 26)، واتّحد بها جسدًا له، وغمرها بموهبة الروح القدس لمجد الله. ومن
ثمّ فالجميع في الكنيسة، سواء كانوا من ذوي السلطة أم كانوا من الخاضعين لهم،
مدعوّون إلى القداسة على حدّ قول الرسول: “أجل إنّ ما يريده الله إنّما هو
تقديسكم” (1 تسا 4: 3؛ أف 1: 4). وقداسة الكنيسة هذه تتجلّى على الدوام، ويجب
أن تتجلّى بثمار النعمة التي ينتجِها الروح في المؤمنين. إنّها تظهر بوجوه شتّى في
كل واحد ممّن يصبون إلى المحبة الكاملة في نهج حياتهم الخاص، ويبنون الآخرين،
وتتجلّى بوجه مميّز في ممارسة المشورات التي ألِفوا نعتها بالإنجيلية. وهذه
الممارسة للمشورات التي ينتهجها، بدافع الروح القدس، عدد كبير من المسيحيين، إمّا
بفعل فردي، وإمّا في وضع أو حالة تقرّهما الكنيسة، تُدخل على العالم، ويجب أن تدخل
عليه، شهادة نيّرة لهذه القداسة، وغرارًا لها”.

ثمّ
يتوسع المجمع في ثلاث فقرات فيتكلّم عن الدعوة العامة إلى القداسة، وعن الطرق
المتعدّدة لممارسة القداسة، وعن سبل القداسة ووسائلها.

ء)
الكنيسة مقدّسة لأنّها متحدِة بينبوع القداسة

إنّ
المسيح هو الذي، بالروح القدس، وبواسطة الأسرار، يكمّل في الكنيسة على مدى الزمن
والتاريخ، تقديس الناس وتأليههم. يقول المجمع:

“إنّ
الرب يسوع، المعلّم الإلهي ومثال كل كمال، قد علّم جميع تلاميذه وكلّ واحد منهم،
أيًّا كانت حالهم، قداسة الحياة هذه التي هو بادئها ومتمّمها: “كونوا كاملين
كما أنّ أباكم السماوي هو كامل” (متى 5: 48). فقد أرسل روحه إلى الجميع لكي
يعدّهم في الباطن لأن يحبّوا الله بكل قلوبهم، كل أذهانهم، وكل قواهم، ويحبّوا
بعضهم بعضاً كما أحبّهم المسيح (يو 13: 34؛ 15: 12). فتلاميذ المسيح، وقد دعاهم
الله لا من أجل أعمالهم بل بتدبير مجّاني، وتبرّروا في يسوع ربّنا، قد أصبحوا
حقًّا بمعمودية الإيمان أبناء لله، وشركاء في الطبيعة الإلهية، وبالتالي قدّيسين
حقًّا. فعليهم إذًا أن يحافظوا، بنعمة الله، على هذه القداسة التي نالوها، وأ،
يكمّلوها بحياتهم. ويوصيهم الرسول بأن “يعيشوا كما يليق بالقدّيسين” (أف
5: 3)، وأن يلبسوا، “كمختارين من الله قدّيسين أحبّاء، أحشاءَ الرحمة واللطف
والتواضع والوداعة وطول الأناة” (كو 3: 12)، مثمرين ثمار الروح لتقديسهم (غلا
5: 22؛ رو 6: 22). ولكن لمّا كنّا كلّنا نزلّ في أمور كثيرة (تم 3: 2)، فإنّا
نفتقر دائمًا إلى رحمة الله، ونضطرّ كلّ يوم أن نردّد في صلاتنا: “إغفر لنا
خطايانا” (متى 6: 12).

ثمّ
يضيف المجمع:

“فواضح
إذًا للجميع أنّ الدعوة إلى ملء الحياة المسيحية وكمال المحبة موجّهة إلى جميع
المؤمنين بالمسيح أيًّا كانت حالهم وكان نهج حياتهم. وإنّ هذه القداسة تسهم، حتى
في المجتمع الأرضي بالذات، في أن تزيد أوضاع الوجود إنسانية. فعلى المؤمنين أن
يسعوا بكل قواهم، بمقدار موهبة المسيح، للحصول على هذا الكمال، حتى إذا ما ترسّموا
خطواته، ونهجوا على غراره، ونفّذوا في كل شيء مشيئة الله، يقفون ذواتهم، بكل
نفوسهم، على مجد الله وخدمة القريب. وهكذا تتفتّق قداسة شعب الله عن ثمار وافرة،
كما يشهد بذلك بوجه ساطع تاريخ الكنيسة من خلال سيرة القدّيسين”.

ب)
الطرق المتعددة لممارسة القداسة

إنّ
طرق القداسة عديدة ينتهجها الأساقفة والكهنة والإكليريكيرن والعمانيون الذين
يهتمّون بأعمال الرسالة، والأزواج والوالدون المسيحيون، والمرضى والفقراء
والمضطهَدون: “وهكذا جميع الذين يؤمنون بالمسيح يسلكون سبيل الحياة مقدِّسين
أنفسهم أكثر فأكثر في مختلف حالاتهم ومهامّهم وأحوالهم التي تلازم حياتهم،
وبواسطتها جميعاً، إذا هم تقبّلوا كل شيء بإيمان من يد الآب السماوي، واسهموا في
تتميم إرادة الله بإظهارهم للجميع، في خدمتهم الزمنية، المحبة التي بها أحب الله
العالم”.

ج)
السبل والوسائل المتنوّعة التي تظهر فيها قداسة المسيحيين

إنّ
“المحبة لله وللقريب هي التي تميّز تلميذ المسيح الحقيقي”. وتلك المحبة
تنمو بالانفتاح إلى كلمة الله، والعمل طبقاً لإرادة الله، والاشتراك المتواتر في
الأسرار، ولا سيّمَا الافخارستيا، وفي الطقوس الليترجية، والمواظبة على الصلاة،
وخدمة الإخوة، وممارسة جميع الفضائل، والاستعداد للشهادة حتى الموت على مثال
المسيح الذي قبل الموت باختياره من أجل خلاص العالم، وأخيرًا اتّباع المشورات
الإنجيلية، أي العفة والفقر والطاعة، إذا رأى المسيحي في اتّباعها دعوة له من الله.
وينهي المجمع بقوله: “جميع المؤمنين بالمسيح إذن مدعوّون بل ملتزمون أن يسعوا
وراء القداسة والكمال على حسب حالتهم”.

إنّ
الكنيسة، في عمق كيانها، ليست سوى العالم السائر نحو تجلّيه في المسيح، وفردوس
حضور الله هو المسيح نفسه الذي استطاع أن يقول للّص التائب المعلّق إلى جانبه على
الصليب: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو23: 43). والمسيح الذي قام وملأ
كنيسته بروحه القدّوس لا يزال حاضرًا في كنيسته يقدّسها ويملأها من حضور الله.
فالكنيسة هي العالم الذي يصير بالمسيح مشعّا بحضور الله.

2-
الكنيسة والخطيئة

ء)
الخطيئة لا تفصل المسيحي عن الكنيسة

لقد
شبّه المسيح ملكوت الله “بشبكة كبيرة ألقيت في البحر فجمعت سمكًا من كل
صنف” (متى 13: 47- 50)، وبحقل ينبت فيه الزؤان إلى جانب القمح، وحذّرنا من
الإسراع في فرز الجيّد عن الرديء، فهذا يجب أن يترك إلى منتهى الدهر: “لئلاّ
تقلعوا الحنطة مع الزؤان، دعوهما ينبتان كلاهما معًا حتى الحصاد، وفي أوان الحصاد
أقول للحصادين اجمعوا أوّلاً الزؤان واربطوه حزماً ليُحرق، أمّا الحنطة فاجمعوها
إلى أهرائي” (متى 12: 29، 30).

إنّ
الكنيسة، عبر تاريخها، قد حرمت عدّة بدع كانت تقول إنّ الكنيسة هي جماعة من
الكاملين، ومنها بدعة نوفاسيان ومونتان في القرن الثاني، وبدعة الدوناتيين في
القرنين الرابع والخامس. وقد قاوم هؤلاء القدّيسُ أوغسطينوس فأظهر أنّ زمن الكنيسة
هو زمن النمو وليس زمن الحصاد. ثم يضيف: “إنّ المسيحي، إن خطئ وبقي متحداً
بالجسد، يرجى شفاؤه. أمّا إذا انفصل عن الجسد فلا دواء له ولا رجاء” (رسالة
53: 1). ويستهزئ بالدوناتيين الذين يدّعون أنّهم وحدهم القدّيسون الكاملون، فيقول:
“إنّ الخير يترجعّ صداه في السحب: في وجه الأرض كلّها تبنى كنيسة الله.
والضفادع، من عمق مستنقعاتها، تنقنق: نحن وحدنا مسيحيون”. فالخطيئة مها كانت
ثقيلة لا تفصل عن جسد المسيح، إنّما الجحود وحده، أي نكران الإيمان، يفصل المسيحي
عن الكنيسة.

ب)
الإصلاح الدائم في الكنيسة

يقول
المجمع الفاتيكاني الثاني:

“فيمَا
المسيح “القدّوس البريء الذي لا عيب فيه” (عب 7: 26) لم يعرف الخطيئة (2
كو 5: 21)، بل أتى ليكفّر عن خطايا الشعب فقط (عب 2: 17)، فإنّ الكنيسة التي تضم
في حضنها الخطأة هي في آن واحد مقدّسة ومفتقرة دائمًا إلى التطهير، ولا تني عاكفة
على التوبة والتجدّد” (في الكنيسة، 8).

إنّ
الكنيسة مقدّسة لأنّ المسيح، مبدأ القداسة، هو فيها. ولكنّ في الوقت نفسه خاطئة
لأنّ أعضاءها بحاجة مستمرّة إلى التنقية والتقديس.

وهذا
ما يقرّب بين جميع الكنائس. يقول المجمع الفاتيكاني في مرسومه “في الحركة
المسكنية”:

“إنّ
الكنيسة الكاثوليكية، على كونها تتمتع بالحقيقة التي أوحى بها الله، وبجميع وسائل
النعمة، فإنّ أعضاءها لا يحيون منها بالحرارة اللازمة. فينتج من ذلك أنّ وجهها
يبدو أقلّ تألّقًا في نظر إخوتنا المنفصلين، ونظر العالم كلّه أجمع، وأن نموّ
ملكوت الله يتقيّد. لذلك يجب على جميع الكاثوليك أن يصبوا إلى الكمال المسيحي.
وعلى كل واحد منهم، في نطاقه الخاص، أن يجتهد في عمل الكنيسة، الحاملة في جسدها
تواضع يسوع وأمانته، على أن تتطهّر وتتجدّد يومًا بعد يوم،،، إلى أن يزفّها المسيح
إلى نفسه مجيدة، لا عيب فيها ولا غضن” (أف 5: 27)”.

وفي
المرسوم نفسه يؤكّد المجمع:

“لمّا
كان كل تجدّد في الكنيسة يقوم جوهريًا على أمانتها المتزايدة لدعوتها كان في هذا
بالذات يسير الحركة نحو الوحدة. ذلك بأنّ الكنيسة ما استمرّت في مسيرتها يدعوها
المسيح الإله إلى هذا الإصلاح المستمرّ لأنّها على الدوام بحاجة إليه من حيث هي
مؤسسة بشرية وأرضية”.

إنّ
الكنيسة مقدّسة، ولكنّها أيضاً، كما يقول القديس أفرام: “جماعة الخطأة الذين
يتوبون ويتوقون إلى الحياة الأبدية”. فالخطيئة ملازمة للكنيسة ما دامت في
الجسد. ولكنّ التوبة أيضاً ملازمة للكنيسة، والتوبة رجوع دائم إلى الله، وفي
الرجوع إلى الله الفرح والسلام، “فحيث كثرت الخطيئة طفحت النعمة” (رو 5:
20). إنّ الحياة الأبدية التي يتوق إليها المسيحيون قد حصلوا عليها في مبدإها. لقد
شربوا من ينبوع الماء الحي الذي يعطيه المسيح لهم، “فينقلب فيهم نبعًا يتفجر
حياة أبديّة” (يو 4: 14). “أنا الكرمة الحقّة وأبي الكرّام. كلّ غصن فيّ
لا يثمر ينتزعه، وكلّ غصن يثمر ينقّيه لكي يأتي بثمر أكثر.. أنا الكرمة وأنتم
الأغصان. من يثبت فيّ وأنا فيه، فهو يأتي بثمر كثير. فإنّكم بدوني لا تستطيعون أن
تفعلوا شيئاً” (يو 15: 1- 5).

رابعًا- الكنيسة
رسولية

إنّ
الكنيسة هي حياة الله التي ظهرت للعالم في يسوع المسيح. وأوّل من آمن بالمسيح
وامتلأ من تلك الحياة الإلهية الرسل الذين عاشوا معه وظهر لهم حيًّا من بعد قيامته،
وأرسلهم للكرازة باسمه في كل الأمم. فالكنيسة تدعى “رسولية”، لأنّها لا
تزال تحيا الحياة الإلهية التي عاشها الرسل، ولا تزال أمينة في تعليمها لتعليم
الرسل. إنّ الوحي الذي سلّمه يسوع لرسله لم يتغيّر في الكنيسة على مدى العصور.
لذلك نسمع في المجامع المسكونية، التي تعلن الإيمان القويم، العبارة التالية: “هكذا
علّم الرسل والآباء القدّيسون”.

إنّ
الكنيسة هي سر الحقيقة الدائم الذي ظهر في يسوع المسيح، وأوكل إلى الرسل التبشير
به، وتناقله المؤمنون، وعلى رأسهم الرسل ومن خلفهم: “أنتم بناء أساسه الرسل
والأنبياء، وحجر الزاوية هو المسيح” (أف 2: 20). فالأنبياء الذين يعنيهم بولس
في هذا النص ليسوا أنبياء العهد القديم بل أنبياء العهد الجديد الذين عملوا على
نشر الإنجيل وتثبيت الكنائس في فجر المسيحية: “فلقد وضع الله البعض في
الكنيسة أوّلاً رسلاً، وثانيًا أنبياء، وثالثًا معلّمين..” (1 كو 12: 28).
فالكنيسة الرسولية هي التي لا تزال أمينة لإيمان الرسل وتعاليمهم، وإيمان وتعاليم
جميع الذين عملوا معهم في الكنيسة الأولى على نشر الإنجيل، وجميع الذين من بعدهم
حتى يومنا هذا تناقلوا هذا الإيمان وتلك التعاليم.

1- الرسل

إنّ
للرسل في الكنيسة دورًا فريدًا ومميّزًا لا يستطيع احد من الأساقفة والمبشّرين
الذين أتوا بعدهم أن يقوم مقامهم فيه. فهم الذين اختارهم المسيح اختيارًا مباشرًا،
وعاشوا معه وتعلّموا منه وشهدوا على قيامته. فهم إذًا أساس العهد الجديد وأسفاره
المقدّسة، معهم تكوّنت الكتب التي أوحى بها الله، وأَسس الإيمان المسيحي والحياة
الكنسية.

ء)
يسوع اختار رسلاً

يقول
المجمع الفاتيكاني الثاني في دستوره العقائدي “في الكنيسة”:

“إنّ
يسوع المسيح، الراعي الأبدي، قد بنى الكنيسة المقدّسة بإرساله الرسل، كما أنّه هو
نفسه قد أرسله الآب” (يو 20: 21). “إنّ الرب يسوع، بعدما صلّى إلى أبيه،
دعا إليه الذين أرادهم، وأقام منهم الاثني عشر ليكونوا صحابته، ويرسلهم للدعوة
بملكوت الله (مر 3: 13-19؛ متى 10: 1- 42)، وجعلهم رسله (لو 6: 13)، في شكل هيئة
أو جماعة ثابتة، وجعل على رأسهم من بينهم بطرس أحدهم (يو 21: 15- 17). وأرسلهم،
بعد إذ أشركهم في سلطانه، إلى بني إسرائيل أوّلاً، ثمّ إلى جميع الأمم (رو 1: 16)،
لكي يتلمذوا له جميع الشعوب، ويقدّسوهم، ويسوسوهم (متى 28: 16- 20)، ولكي ينشروا
هذه الكنيسة ويرعوها بممارسة خدمتهم، بقيادة الرب، كل الأيّام حتى منتهى الدهر
(متى 28: 20). وقد ثُبتوا في هذه المهمّة تثبيتًا تامًّا في يوم العنصرة على حسب
وعد الرب لهم: “إنّكم ستنالون قوّة الروح القدس الذي سيأتي عليكم، وتكونون لي
شهودًا في أورشليم، وكل اليهودية والسامرة، وإلى أقاصي الأرض” (أع 1: 8). وإذ
بشّر الرسل بالإنجيل في كل مكان، وقبله مستمعوهم بفعل الروح القدس، جمعوا الكنيسة
الجامعة التي أسَّسها الرب على الرسل، وبناها على الطوباوي بطرس، زعيمهم، وظلّ
المسيح يسوع نفسه رأس الزاوية” (رؤ 21: 14؛ متى 16: 18؛ أف 2: 20)”.

ب)
الرسل تمّموا وصية يسوع

مِنذ
فجر الكنيسة نرى الرسل يتمّمون وصية يسوع ويعملون كجماعة منظّمة وعزة في إدارة
الكنيسة الأولى، فينتخبون بالقرعة الرسول الثاني عشر ليقوم مقام يهوذا الإسخريوطي
الذي أسلمه (أع 1: 15- 26). فعدد الاثني عشر الذي أراده يسوع وعُرف به الرسل، هو
علامة الشعب الجديد المدعو إلى أن ينوب مناب الشعب القديم المبني على أسباط
إسرائيل الاثني عشر. وانتخابهم بالقرعة هو، في نظرهم، دليل على أنّ اختيار الرسول
الثاني عشر هو من عمل الله وليس من عمل إنسان، وذلك على غرار اختيار الرسل الآخرين
الذين انتقاهم يسوع بنفسه.

وبعد
انتخاب الرسول الثاني عشر نرى الرسل يديرون كلّ شؤون الكنيسة، فينظّمون خدمة
الكلمة والصلوات: “وكانوا مواظبين على تعليم الرسل، والشركة، وكسر الخبز،
والصلوات” (أع 2: 42)، وينشئون الشمامسة، “بالصلاة ووضع الأبدي”
(أع 6: 1- 4)، ويمنحون الروح القدس في ما ندعوه اليوم سر التثبيت (أع 8: 14- 17)،
ويجتمعون مع الكهنة والكنيسة في مجمع أورشليم للنظر في أمر إخضاع المهتدين إلى
المسيحية من غير اليهود لشريعة موسى (أع 15: 1- 31)، ويرون في ما يتّخذونه من
قرارات عمل الروح القدس الذي يعمل دومًا معهم: “لقد رأى الروح القدس ونحن..”
(أع 15: 28). إنّهم حقّاً، حسب قول بولس الرسول “خدّام المسيح ووكلاء لأسرار
الله” (1 كو 4: 1).

2-
الخلافة الرسولية

ء)
الكنيسة في أيّام الرسل

كان
الرسل على رأس كنيسة مكوّنة من الذين آمنوا بالمسيح مع الرسل أو على يدهم.
فالكنيسة الأولى التي تكوّنت كانت كنيسة أورشليم التي يروي سفر أعمال الرسل نموّها
منذ حلول الروح القدس يوم العنصرة، وخطبة بطرس الأولى التي، في إثرها، “انضمّ
إلى الكنيسة في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس” (أع 2: 41). وبعد خطبة بطرس
الثانية، “كثيرون من الذين سمعوا الخطبة آمنوا، فصار عدد الرجال المؤمنين نحو
خمسة آلاف” (أع 4: 4). وبقي الرسل، رغم الاضطهادات، “كل يوم، في الهيكل
وفي البيوت، لا ينفكّون يعلّمون ويبشّرون بالمسيح يسوع” (أع 5: 42). “..
وكانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًّا في أورشليم، وجمهور من الكهنة
يطيعون الإيمان” (أع 6: 7). “ولمّا ثار اضطهاد شديد على الكنيسة في
أورشليم تشتّت الجميع في جنبات اليهودية والسامرة ما خلا الرسل” (أع 8: 1).
فامتدّت الكنيسة إلى السامرة (أع 8: 4- 25)، ثمّ فتحت أبوابها للأمم مع بطرس
الرسول الذي بشرّ وعمّد كرنيليوس قائد المئة في قيصرية (أع 10)، ثمّ امتدّت إلى
دمشق (أع 9)، وأنطاكية (أع 11: 19- 25) وسائر أنحاء العالم الروماني.

وفي
تلك الفترة كان الرسل يعملون بالائتلاف مع “الإخوة” (أع 11: 1)،
و”الكهنة” (أع 15: 2، 6، 22- 23). وكلّما كانت كلمة الله تنمو وتمتدّ،
كان الرسل يرافقون نموّها ويثبّتون امتدادها، كما حصل في السامرة (أع 8: 14- 17)،
وِفي قيصرية (أع 11: 1- 4، 18)، وفي أنطاكية (أع 11: 22- 24). وبقيت أورشليم
المدينة الأم كنيسة أورشليم الكنيسة الأم التي منها ينطلق الرسل للتبشير وإليها
يستند المبشّرون والمعلّمون لمعرفة ما يجب التمسّك به في التبشير والتعليم، كما
حدث خصوصاً في مجمع أورشليم (أع 15).

فالكنيسة
الرسولية، في أيّام الرسل، كانت الكنيسة الملحمة حول الرسل، أو التي ترجع إلى
الرسل للمحافظة على الإيمان الحق والتعليم القويم.

ب)
الأساقفة في أيّام الرسل

تذكر
أسفار العهد الجديد، إلى جانب الرسل، “كهنة” (أو شيوخًا، حسب اللفظة
اليونانية “برِسْفِيسْ”) و”أساقفة”. ونرى بولس الرسول
“يرسم كهنة في كل كنيسة” من كنائس آسية الصغرى (أع 14: 23)، “ثم
يستدعي كهنة كنيسة أفسس” (أع 20: 17) ليوصيهم قائلاً: “إحذروا لأنفسكم،
ولجميع القطيع الذي أقامكم فيه الروح القدس أساقفة، لترعوا كنيسة الله إلى اقتناها
بدمه الخاص” (أع 20: 28). ويذكّر تيموثاوس بكهنوته: “أذكّرك أن تذكي فيك
الموهبة التي آتاكها الله بوضع يديّ” (2 تي 1: 6؛ 1 تي 4: 14). ويعطي توصيات
للأساقفة (1 تي 3: 1- 7) والشمامسة (1 تي 3: 8- 13) “والكهنة الذين أحسنوا
التدبير، ولا سيّمَا الذين يتعبون في الكلمة والتعليم، فليحسبوا أهلاً لكرامة
مضاعفة” (1 تي 5: 17).

ويطلب
بولس من تيموثاوس “ألاّ يتسرّع بوضع يديه على أحد” (1 تي 5: 22)، ولكن
يوصيه بأن “ما سمعه منه لدى شهود كثيرين، فليستودعه هو أيضاً أناساً أمناء،
كفاة لأن يعلّموا الآخرين” (2 تي 2: 1). وكذلك يكتب إلى تيطس: “لقد
تركتك في كريت لتكمّل تنظيم كل شيء، وتقيم كهنة في كل مدينة، على حسب ما رسمت
لك” (1: 5). ثم يوضح له صفات الكهنة والأسقف. ومن أهمّ صفات الأسقف أن يكون
“متمسّكا بالكلام الحق على مقتضى التعليم، ليتسنّى له أن يعظ بالتعليم الصحيح،
ويفحم المناقضين” (تي 1: 9)، “قادرًا على التعليم” (1 تي 3: 2).
لذلك يوصي بولس تيموثاوس: “تمسّك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني في
الإيمان والمحبة اللذين في المسيح يسوع. واحفظ الوديعة الصالحة بعون الروح القدس
الساكن فينا” (2 تي 1: 13، 14) “يا تيموثاوس، احفظ الوديعة” (1 تي
6: 20)، “اكرز بالكلمة، واعكف على ذلك في وقته وفي غير وقته، حاجج ووبّخ وعظ
بكلّ أناة، وبجميع أساليب التعلم” (2 تي 4: 2).

لا
ترد لفظة “الأسقف” “والأساقفة” إلاّ في رسائل بولس الرسول،
ومرّة واحدة في أعمال الرسل حيث تستعمل كصفة للكهنة (أع 20: 17، 28). أمّا في معظم
المقاطع التي يتكلّم فيها سفر أعمال الرسل عن معاوني الرسل فترد لفظة
“الكهنة” (أو “الشيوخ”). (راجع مثلاً: 11: 30؛ 14: 23؛ 15: 23؛
20: 17؛ 21: 18). هؤلاء الكهنة هم معاونو الرسل والمسؤولون عن الكنائسَ المحلية.
ويبدو أنّه في أيّام الرسل كان الكهنة يؤلّفون في كل كنيسة “مجلسًا”
مسؤولاً عن جميع شؤون الكنيسة الروحية والزمنية. من بين هؤلاء الكهنة سيظهر في
نهاية القرن الأوّل “أسقف” يكون واحدًا في كل كنيسة، ويكون له مجلس من
الكهنة وشمامسة. هذا ما سيتضح لنا في كتابات إكليمنضوس أسقف رومة، وأغناطيوس أسقف
أنطاكية، وإيريناوس أسقف ليون.

والمهمّ
في الأمر هو وجود أشخاص، كهنة أو أساقفة، منذ أيّام الرسل، مهمتهم المحافظة على
“صورة الكلام الصحيح”، على “الإيمان القويم”، على
“الوديعة”، ورعاية الكنيسة لتبقى أمينة لإيمان الرسل ولتعليم الرسل.

ج)
الأساقفة بعد موت الرسل

في
نهاية القرن الأوّل وبداية القرن الثاني نرى بوضوح أكثر تكوين الكنيسة من حيث
الخدم، ومسؤولية الأساقفة والكهنة والشمامسة.

فإكليمنضوس
أسقف رومة يكتب حوالي السنة 95 إلى كنيسة كورنثس التي تمزّقها النزاعات، ولاسيّمَا
في مسؤولية الأساقفة في الكنيسة:

“إنّ
الرسل هم الذين أعلنوا لنا البشرى الصالحة من قبل الرب يسوع المسيح.. فبينما كانوا
يكرزون في المدن والقرى، اختبروا بالروح باكورة كرازتهم، وأقاموهم أساقفة وشمامسة
على الذين سيؤمنون.. لقد عرف الرسل بالرب يسوع المسيح أنّه سيكون نزاع حول الكرامة
الأسقفية. لذلك، بعلمهم السابق لمَا سيحدث في المستقبل، أقاموا الأساقفة، ووضعوا
القاعدة التالية: إنّه بعد موتهم يقوم بخدمتهم رجال آخرون مختبرون، أولئك الذين
عيّنهم الرسل أو آخرون من ذوي الكفاءة توافق عليهم الكنيسة” (42: 1-4؛ 44: 1-
3).

ويظهر
تنظيم الكنيسة من خلال الرسائل التي يوجهها أغناطيوس الأنطاكي إلى كنائس آسيا
الصغرى على الشكل التالي: هناك أسقف على رأس الكنيسة، وهو ممثلها وضمان وحدة
العقيدة والعبادة والقانون الكنسي. وحول الأسقف مجمع من الكهنة، وشمامسة. فالأسقف
يرئس باسم الله، ومجلس الكهنة يقوم مقام الرسل، والشمامسة هم الخدام في يسوع
المسيح. وعلى الكنيسة أن تخضع للأسقف كما للمسيح، وللكهنة كما للرسل. وكذلك يجب
احترام الشمامسة كالمسيح. وبدون الأسقف لا يتمّ شيء ممّا يخصّ الكنيسة. والليتورجيا
الإفخارستية التي يرئسها الأسقف أو ممثّله هي وحدها الصحيحة. إنّ الكهنة هم معاونو
الأسقف ولكنّهم خاضعون له. وفي رسائل أغناطيوس يظهر تنظيم الكنيسة كما كان
منتشَرًا في كنائس آسيا الصغرى، إلاّ أنّنا لا نعرف شيئًا عن كيفية الانتقال إلى
هذا التنظيم من أيّام الرسل إلى بداية القرن الثاني، وهو الزمن الذي عاش فيه
أغناطيوس.

أمّا
إيريناوس أسقف ليون فكتب بين 180 و190 ما يلي:

“من
أراد رؤية الحقيقة يمكنه أن بشاهد في الكنيسة كلّها تقليد الرسل المنتشر في العالم
أجمع. ونستطيع تعداد الذين أقامهم الرسل أساقفة في الكنائس، ومن خلفهم حتى يومنا
هذا.. وهذا دليل على أنّ الإيمان هو واحد وكامل، هذا الإيمان المحي الذي حفظ في
الكنيسة منذ الرسل إلى الآن، وانتقل في الحق”.

د)
مقوّمات الخلافة الرسولية

إنّ
الخلافة الرسولية ليست مجرّد اتصال تاريخي بين الأساقفة والرسل، بل هي قبل ذلك
اتصال في التعليم الصحيح، وكرسي الأسقفية هو قبل أي شيء آخر كرسي للتعليم الصحيح.
لذلك فإعلان الإيمان هو جزء أساسي في السيامة الأسقفية، لأنّه، إن كانت أولى وظائف
الأسقف التعليم، فلا يمكنه أن بعلّم إلاّ وفق تقليد الرسل والآباء. ولذلك أيضاً
يشترك في سيامة كل أسقف ثلاثة أساقفة للدلالة على أنّ الأسقف المرتسم يدخل في شركة
الإيمان الواحد مع سائر الكنائس المحلّية، وعلى أنّ انتخابه على هذا الكرسي هو
انتخاب شرعي. فالكنيسة الرسولية هي إذًا الكنيسة التي تحافظ بأمانة على تعليم
الرسل، ويعود فيها الأسقف المنتخب بالتسلسل إلى الرسل.

لقد
أظهر المجمع الفاتيكاني الثاني، في دستوره العقائدي “في الكنيسة”،
ارتباط الأساقفة بالرسل. قال:

(إنّ
هذه المهمة الإلهية التي أناطها المسيح بالرسل يجب أن تستمرّ حتى منتهى العالم،
بمَا أنّ الإنجيل الذي يجب أن يسلّموه هو للكنيسة، في كل زمان، مبدأ الحياة كلها.
لذلك اهتمّ الرسل بأن يقيموا لهم خلفاء في هذا المجتمع المنظّم على أساس السلطة..
ولم يكتفوا بأن يكون لهم في الخدمة مساعدون مختلفَون. وإنّما لكي تظلّ الرسالة
التي ائتمنوا عليها مستمرة بعد موتهم سلّموا إلى معاونيهم الأدنين، تسليم وصية،
مهمّة إنجاز العمل الذي بدأوه وترسيخه. وأوصوهم بالسهر على القطيع الذي أقامهم فيه
الروح القدس ليرعوا كنيسة الله (أع 20: 28). فأقاموا هؤلاء الرجال، ورعوا لهم
للمستقبل أن يتسلّم زمام خدمتهم بعد مماتهم رجال آخرون مختبرون. وبين الخدم
المختلفة التي تمارس في الكنيسة منذ أيّامها الأولى تحتلّ المحل الأوّل، بشهادة
التقليد، وظيفة أولئك الذين أقيموا في الأسقفية، وكأنهم، بتسلسلهم في خلافة متّصلة
منذ البدء، أغصان ينتقل بها الزرع الرسولى. وهكذا، كما يشهد القديس إيريناوس، أظهر
التقليد الرسولي وحفظه في العالم كلّه أولئك الذين أقامهم الرسل أساقفة، ثم
خلفاؤهم حتى بومنا هذا.

“فهكذا
إذًا تسلّم الأساقفة خدمة الجماعة الراعوية يعاونهم الكهنة والشمامسة. ويرئسون،
بالنيابة عن الله، القطيع الذين هم رعاته، بسلطة التعليم، كهنوت العبادة المقدّسة،
وولاية الحكم. وكما أنّ المهمة التي أناطها الرب ببطرس، أوّل الرسل، منفردًا، ويجب
أن تنتقل إلى خلفائه، تدوم باستمرار، كذلك أيضاً مهمة رعاية الكنيسة التي تسلّمها
الرسل، والتي يجب أن تزاولها هيئة الأساقفة المقدّسة، تدوم باستمرار. فلذلك يعلّم
المجمع المقدّس أنّ الأساقفة يخلفون الرسل، بوضع إلهي، على رعاية القطيع: فمن سمع
منهم سمع من المسيح، ومن احتقرهم احتقر المسيح واحتقر الذي أرسل المسيح (لو 10: 16).

وتشمل
الخلافة الرسولية كل وظائف الأساقفة، سلطة التعليم، وكهنوت العبادة المقدّسة،
وولاية الحكم. وهذه الأمور الثلاثة التي تبني الكنيسة والتي يمكن أن نرى إشارة
إليها في متى 28: 18- 20، يجب أن ينظر إليها معًا، فلا يمكن الاكتفاء بناحية واحدة
منها، كالتعليم مثلاً، وإهمال ناحية العبادة والتقديس.

الكنيسة
الرسولية هي الكنيسة التي تكمّل عمل الرسل في التعليم والتقديس وولاية الحكم.

3-
الكنيسة الجامعة والكنائس المحلّية

إنّ
سر الكنيسة الواحدة الجامعة الرسولية يظهر في جماعة معيّنة تعيش معًا في مدينة
محدّدة أو منطقة محدّدة، والكنيسة الجامعة تظهر في كنيسة محلّية. فما هي العلاقة
بين الكنيسة الجامعة والكنائس المحلّية؟

ء)
سر الكنيسة يتحقّق بكامله في كل كنيسة محلّية

في
كل كنيسة محلّية يتحقّق سر الكنيسة الجامعة، لأنّ ملء المسيح حاضر سرّياً في كل
كنيسة محلّية، كما أنّه حاضر في الكنيسة الجامعة. لقد تطرّقت إلى هذا الموضوع
“لجنة الحوار اللاهوتي المختلطة الدولية بين الكنيسة الكاثوليكية الرومانية
والكنيسة الأرثوذكسية”، وأصدرت في 6 من تموز عام 1982 وثيقة هامة سنرتكز
عليها في هذا البحث. جاء في القسم الثاني من الوثيقة:

“إستنادا
إلى العهد الجديد، نلاحظ أوّلاً أنّ الكنيسة حقيقة “محلّية”. فالكنيسة،
في التاريخ، هي الكنيسة المحلّية. عندما نتحدّث عن منطقة نتكلّم بالأحرى عن كنائس،
بالجمع. والمقصود دوماً هو كنيسة الله، إنّما في مكان ما.

“والحال
أنّ الكنيسة القائمة في مكان لا تتكوّن أساساً من أشخاص يضاف بعضهم إلى بعض
فيكوّنوها. هناك “أورشليم عليا”، “منحدرة من عند الله”، هناك
اتحاد بالله عليه تتأسّس الجماعة نفسها. الكنيسة إنّما تتكوّن من عطية مجّانية، هي
عطية الخليقة الجديدة”.

فالكنيسة
المحلّية ليست تجمعّ أشخاص يعترفون بالمسيح ويقرّرون إنشاء كنيسة في مكان ما.
الكنيسة المحلّية لا يصنعها الناس، فالله قد كوّنها إذ أشرك الناس بحياته الإلهية
التي ظهرت في حياة المسيح وموته وقيامته.

والكنيسة
الجامعة ليست تجمعّ كنائس محلّية. فإذا اعترفنا أنّ الكنيسة هي جسد المسيح القائم
من بين الأموات، ينتج من ذلك أنّ وجود سر الكنيسة الجامعة يسبق وجود الكنائس
المحلّية. والكنائس المحلّية ليست سوى ظهور سر المسيح وسر الكنيسة جسد المسيح، في
مكان ما وفي زمان معيّن.

تلك
هي النظرة اللاهوتية للكنيسة، التي تناقض النظرة السوسيولوجية التي تعتبر الكنيسة
الجامعة تجمعّ كنائس محلّية، والبابا رئيس هذا التجمعّ. إنّ الكنيسة الجامعة تظهر
في الكنيسة المحلّية. وتوضح وثيقة ميونخ أنّها تظهر في ملء حقيقتها في “جماعة
إفخارستية”، أي في جماعة تحتفل بسر القربان المقدّس، لأنّ هذا السر هو الذي
يجعل حدث الخلاص بالمسيح حاضرًا في كل كنيسة محلّية. تقول الوثيقة:

“إنّ
الكنيسة القائمة في مكان ما تظهر كنيسة عندما تكون جماعة. وتكون جماعة بملء ما
لهذه اللفظة من معنى، عندما تكون محفلاً إفخارستياً. لأنّه، عندما تحتفل الكنيسة
المحلّية فالإفخارستيا، فالحدث الذي جرى “مرّة لا غير” يصير في هذا
الاحتفال آنياً وظاهرًا.. عندئذ لا يعود في الكنيسة المحلّية لا رجل ولا امرأة، لا
عبد ولا حر، لا يهودي ولا يوناني، بل تعطى وحدة جديدة، تذلَل الانقسامات وتعيد
الشركة في جسد المسيح الواحد. وتلك الوحدة تسمو على الوحدة النفسانية والعرقية
والاجتماعية السياسية والثقافية. إنّها “شرعة الروح القدس” التي تجمع
أبناء الله المشتتين. إذاك تثمر الحياة الجديدة التي تمنح بالمعمودية والتثبيت ملء
ثمارها. وبقوَة جسد الرب ودمه، وقد ملأهما الروح القدس، تشفي الخطيئة التيَ لا تني
تهاجم المسيحيين معيقة ديناميكية “الحياة لأجل الله في المسيح”، التي
حصلوا عليها بالمعمودية، وينطبق هذا على خطيئة الانقسام التي تناقض في كل أشكالها
قصد الله” (2: 1).

إنّ
الكنيسة المحلية مكوّنة من ثلاثة عناصر، جماعة مجدّدة بالمعمودية وإفخارستيا
تقيمها وأسقف يرئسها.

توضح
وثيقة ميونخ أنّ “خدمة الأسقف ليست مجرّد وظيفة تكتيكية أو عملية (أي إنّه لا
بد من مترئّس)، بل هي وظيفة عضوية. فالأسقف يتقبّل هبة النعمة الأسقفية (1 تي 4: 14)
في سر السيامة التي يقوم بها أساقفة نالوا هم أيضاً تلك الهبة بوضع الأيدي في
سيامات أسقفية تتابعت دون انقطاع بدءًا بالرسل القدّيسين. إلاّ أنّ ما يناله
الأسقف من روح الرب في سر السيامة ليس سلطة قانونية تمنح بمجرد انتقال السلطة من
شخص إلى آخر، بل سلطة سرية هي سلطة الخادم التي نالها الابن من الآب وتقبّلها
بشرياً في الآلام التي قبلها”.

ثم
تبيّن الوثيقة ارتباط الأسقف بالجماعة الإفخارستية التي يرئسها: “فيظهر
الأسقف حينئذ خادم المسيح، يوحّد جسده ويبدع الشركة بجسده”، ثمّ تتابع:

“هناك
شركة عميقة بين الأسقف والجماعة التي يسند إليه الروح مسؤوليتها لأجل كنيسة الله.
هذا ما يوحي إليه التقليد القديم في صورة العرس. بيد أنّ هذه الشركة تقوم داخل
الشركة مع الجماعة الرسولية. في التقليد القديم (الذي يؤكّده بنوع خاص تقليد
إيبوليتوس الرسولي)، كان الأسقف، إذ ينتخبه الشعب- الكفيل لإيمانه الرسولي المطابق
لما تعلّمه الكنيسة المحلّية- يتقبّل النعمة الخدمية من المسيح بالروح القدس في
صلاة الجماعة ووضع أيدي الأساقفة المجاورين شهود إيمان كنيستهم الخاصة. وإنّ
موهبته التي تأتيه من الروح القدس مباشرة ينالها في رسولية كنيسته (المتّصلة
بإيمان الجماعة الرسولية) والكنائس الأخرى الممثّلة بأسقفها. بهذا تدخل خدمته في
كاثوليكية كنيسة الله.

“فالخلافة
الرسولية تعني إذاً أكثر من مجرّد انتقال السلطات. إنّها خلافة في كنيسة شاهدة
للإيمان الرسولي ومتّحدة مع الكنائس الأخرى التي تشهد هي أيضاً للإيمان عينه.
فالكرسي الأسقفي يمثّل دورًا هامًا في إدخال الأسقف في صلب الرسولية الكنسية. ومن
جهة أخرى، متى سيم الأسقف أصبح الضامن لرسولية كنيسته والممثَل لها ضمن شركة
الكنائس والصلة التي تربطها بالكنائس الأخرى. لذلك لا تقام الإفخاريستيا في الحق
في كنيسته ما لم يرئسها هو أو كاهن قائم في الشركة معه. وذكر اسمه في الأنافور أمر
جوهري”.

ثمّ
تتابع الوثيقة موضحة دور الكهنة:

“بواسطة
الكهنة الموكول إليهم الإشراف على الحياة وعلى إقامة الإفخارستيا في الجماعات
المؤتمنين عليها، تنمو هذه الجماعات في الشركة مع سائر الجماعات التي يتحمّل
الأسقف عبء مسؤوليتها الأولى. في الحالة الحاضرة، الأبرشية نفسها هي شركة جماعات
إفخارستية. وتقوم إحدى مهمّات الكهنة بأن يصلوا الجماعات بإفخارستيا الأسقف،
ويغذّوها بالإيمان الرسولي الذي يشهد له الأسقف ويضمنه. وعليهم أيضاً أن يسهروا
على المسيحيين ليكونوا، بعد أن تغذّوا بجسد ودم ذاك الذي أسم حياته لأجل إخوته،
شهودًا حقيقيين للمحبة الأخوية في التضحية المتبادلة التي تتغذّى بتضحية المسيح.
لقد قال الرسول: “إذا رأى أحد أخاه في حاجة وأمسك عليه أحشاءه، فكيف تكون فيه
محبة الله؟ “إنّ الإفخارستيا تحدّد الطريقة المسيحية لعيش سر المسبح الفصحي
وعطية العنصرة، وبفضلها يتحوّل تحوّلاً عميقاً الوجود البشري المعرّض دوماً
للتجربة والألم” (2: 4).

ب)
الشركة بين الكنائس المحلّية

إنّ
الوحدة في الإيمان وإقامة الإفخارستيا الواحدة، وهما العنصران اللذان يكوّنان
الكنيسة المحلية، يخلقان أيضاً الشركة بين جميع الكنائس المحلّية. تقول وثيقة
ميونخ:

“جسد
المسيح واحد، وبالتالي كنيسة الله واحدة. أمّا مطابقة جماعة إفخارستية مع غيرها،
فتأتي من أنّ الجماعات كلّها تقيم الذكرى نفسها بإيمان واحد، وتصير جميعها، بأكل
الجسد نفسه والاشتراك في الكأس عينها، جسد المسيح الواحد نفسه، الذي اندمجت به
بالمعمودية الواحدة نفسها. وإن تعددت الاحتفالات الإفخارستية، فليس إلاّ سر واحد
يحتفل به ويشترك فيه الجميع. ثم إنّ المؤمن، عندما يتناول جسد المسيح ودمه، لا
يتناول جزءًا منه بل المسيح بكامله. وكذلك الكنيسة المحلّية التي تحتفل
بالإفخارستيا حول الأسقف ليست جزءًا من جسد المسيح. إنّ تعدّد المحافل المحلّية لا
يُقسّم الكنيسة، بل على العكس يظهر بشكل سري وحدتها. على غرار جماعة الرسل
المجتمعين حول المسيح، كل جماعة إفخارستية هي حقاً كنيسة الله المقدّسة، وجسد
المسيح، وذلك بالاتحاد مع جماعة التلاميذ الأولى وكل الجماعات التي في مختلف أنحاء
العالم تحتفل واحتفلت بذكرى الرب. وهي متحدة أيضاً بجماعة القدّيسين في السماء،
التي يوحي إليها كل احتفال إفخارستي على الأرض” (3: 1).

ثم
تتابع الوثيقة:

“وبمَا
أنّ الله الواحد والوحيد هو شركة ثلاثة أقانيم، كذلك الكنيسة الواحدة والوحيدة هي
شركة عدّة جماعات، والكنيسة المحلّية شركة أشخاص. فالكنيسة الواحدة والوحيدة هي
نفسها إذًا الكنائس المتعدّدة القائمة في شركة بعضها مع بعض” (3: 2).

أمّا
الأمران اللذان تعلنهما الوثيقة أساسيين لكي تكون الكنيسة المحلّية التي تقيم
الإفخارستيا حقًا في الشركة الكنسية، فهما: “الأمر الأساسي الأوّل أن يكون سر
الكنيسة الذي تعيشه الكنيسة المحلّية طابقاً لسر الكنيسة الذي عاشته الكنيسة
الأولى. تلك هي الكثلكة في الزمن” و”الأمر الثاني الرئيسي هو الاعتراف
المتبادل الذي يتمّ اليوم بين تلك الكنيسة المحلّية والكنائس الأخرى. علي كل كنيسة
أن ترى في الكنائس الأخرى، من خلال المميّزات المحلّية، سر الكنيسة الواحد. هذا
الاعَتراف المتبادل يتمّ أوّلاً على الصعيد الإقليمي، ثم يتخطاه إلى الكنائس
الشقيقة” (3: 3). وهذا الاعتراف المتبادل لا يصحّ إلاّ إذا أعلن في كل كنيسة
محلية الإيمان الواحد، “ولا بد أيضاً من إرادة الاشتراك في الوليمة والخدمة،
لا بالكلام فحسب، بل بالفعل أيضاً” (3: 3).

ويشير
إلى الاستمرار، لإيمان الواحد عبر التاريخ ذكرُ القدّيسين في قانون القدّاس، كما
أنّ ذكر المسؤولين من بطاركة وأساقفة يشير إلى الاعتراف المتبادل.

وتؤكّد
أخيرًا وثيقة ميونيخ أنّ “الأسقف لا يستطيع أن يفصل شجون كنيسته عن شجون
الكنيسة الجامعة، لأنّ الكنيسة الواحدة والوحيدة تتحقق في كنيسته المحلّية. وعندما
ينال الأسقف موهبة الروح القدس في سر الكهنوت لأجل أسقفية كنيسة محلّية هي كنيسته،
ينال بالفعل نفسه موهبة الروح لأجل أسقفية الكنيسة جمعاء. فيمارس هذه الأسقفية في
شعب الله بالاشتراك مع سائر الأساقفة الحاملين الآن أعباء الكنائس والمشتركين
بالتقليد الحي الذي نقله اليهم أساقفة الماضي.. لقد عهد الروح القدس إلى مجموع
الأساقفة المحلّيين المتّحدين بعضهم مع بعض بأسقفية الكنيسة الجامعة، ويعبّر عن
هذا الاتحاد أو الشركة تقليدياً بممارسة المجامع”.

وتنتهي
الوثيقة بعزم موقّعيها على متابعة دراسة موضوع المجامع في اجتماعات لاحقة: “وسوف
نرى في ما بعد طريقة تصوّر هذه الممارسة وتحقيقها على ضوء ما أتينا على
إيضاحه” (4: 4).

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى