علم التاريخ

3- غزو أرض كنعان



3- غزو أرض كنعان

3- غزو أرض كنعان

ومراحل
الاستيطان الأولى

بعد
محاولة متسرعة لغزو فلسطين من الجنوب، ارتد شعب إسرائيل بسبب ضعفه وعنف مقاومة
المدن الحصينة وحرَّاسها المدربين: “لكنهم تجبَّروا وصعدوا إلى رأس الجبل،
وأمَّا تابوت عهد الرب وموسى فلم يبرحا من وسط المحلة. فنزل العمالقة والكنعانيون
الساكنون في ذلك الجبل وضربوهم وكسروهم إلى حرمة
” (عد 14: 44و45). فكانت تجربة زادتهم خبرة بقوة تحصينات
ودفاعات أرض كنعان.

وبعد مدة طويلة أخرى استطاعوا أن يدوروا حول أرض أدوم
والبحر الميت من جهة الشرق ليكونوا في مواجهة فلسطين من شرق، ونهر الأُردن أمامهم،
ولكنهم بالرغم من حذرهم الشديد في مواجهة الشعوب المقيمة في المنطقة- الأدوميين
والموآبيين- إلاَّ أنهم لم يستطيعوا أن يتحاشوا شراسة سيحون ملك الأموريين:

+
“وخرج للقاء إسرائيل إلى البرية، فأتى إلى ياهص وحارب إسرائيل. فضربه إسرائيل
بحد السيف وملك أرضه من أرنون إلى يبوق إلى بني عمون. لأن تخم بني عمون كان قوياً.
فأخذ إسرائيل كل هذه المدن وأقام إسرائيل في جميع مدن الأموريين في حشبون وفي كل
قراها.. فأقام إسرائيل في أرض الأموريين، وأرسل موسى ليتجسَّس يعزيرَ فأخذوا قراها
وطردوا الأموريين الذين هناك. ثم تحوَّلوا وصعدوا في طريق باشان. فخرج عوج ملك
باشان للقائهم هو وجميع قومه إلى الحرب في إذرعي. فقال الرب لموسى: لا تخف منه
لأني قد دفعته إلى يدك مع جميع قومه وأرضه، فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك
الأموريين الساكن في حشبون. فضربوه وبنيه وجميع قومه حتى لم يبقَ له شارد وملكوا
أرضه” (عد 21: 2335)

وبذلك
يكون إسرائيل قد وضع قدمه في أرض الميعاد بثبات. وهي أفخر الأراضي الواقعة بين
أرنون ويبُّوق.

عبور
الأُردن والمعارك الدموية في طول البلاد وعرضها:

+
“وكان بعد موت موسى عبد الرب أن الرب كلَّم يشوع بن نون خادم موسى قائلاً:
موسى عبدي قد مات، فالآن قم اعبر هذا الأُردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي
أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل.. فوقف الكهنة حاملو تابوت عهد الرب على
اليابسة في وسط الأُردن
راسخين، وجميع إسرائيل عابرون على اليابسة، حتى انتهى
جميع الشعب من عبور الأردن” (يش 1: 1و3، 17: 3)

كانت
معجزة عبور الأُردن على مستوى عبور البحر الأحمر، تلك بعصا موسى وبأمر الرب، وهذه
بعبور تابوت عهد الرب أولاً والشعب من ورائه. ثم سقطت أول المدن الكبرى على الشاطئ
الآخر من الأُردن- أريحا- بأيدي الشعب بدون حرب، وكان ذلك تمهيداً جيداً لأذهان الشعب
أنهم إن كانوا سيملكون فليس بقوتهم وذراعهم:

+
“وكان حين سمع الشعب صوت البوق أن الشعب هتف هتافاً عظيماً فسقط السور في
مكانه، وصعد الشعب إلى المدينة كل رجل مع وجهه وأخذوا المدينة” (يش 6: 20)

حينئذ
بدأت بعد ذلك “حروب الرب” التي أكمل بها وعده لموسى بامتلاك الأرض، وكانت دموية
بأقسى ما يمكن التعبير. ومهما حاول المؤرِّخون والعلماء إعطاء المبررات والأعذار
أو الادعاء بأنها كانت حرب دفاع([1])،
فلا يمكن أن يجيزها الضمير ولا يمكن أن يبررها العقل بحسب موازين إيماننا؛ ولكننا
نقول إن إسرائيل تصرَّفت بأكثر مما أوصى به الله.

لقد
أكمل يشوع بن نون خادم موسى والقائد المنوط به دخول أرض الموعد إخضاع البلاد
وتقسيمها على الأسباط، وقام بمهمته خير قيام، ولم يتخاذل قط أمام أخطر وأرهب
المواقف التي ترعب أعظم قواد العالم. لقد اجتمع عليه كل ملوك مقاطعات الجنوب من
الكنعانيين المتمرنين في الحرب بأعداد وأدوات رهيبة، فكسرهم جميعاً وبدد شملهم
واستولى على مدنهم الواحدة تلو الأخرى. ثم اجتمع عليه كل ملوك الشمال من كنعانيين
وغير الكنعانيين ولم يأخذوا بعبرة انكسار الجنوب؛ ولكن لم يرهب يشوع كثرتهم ولا
شراستهم، وباغتهم كالأقوى وحطمهم وشرَّدهم وقتل خمسة ملوك دفعة واحدة واستولى على
كل البلاد:

+
“فقال الرب ليشوع: اليوم أبتدئُ أعظِّمك في أعين جميع إسرائيل، لكي يعلموا
أني كما كنت مع موسى أكون معك” (يش 7: 3)

+
“فلمَّا سمع أدوني صادق ملك أُورشليم أن يشوع قد أخذ عاي
وحرَّمها، كما فعل بأريحا وملكها (ذبحه) فعل بعاي وملكها.. فأرسل أدوني
صادق ملك أُورشليم إلى هوهام ملك حبرون وفرآم ملك يرموت ويافيع ملك لخيش
ودبير ملك عجلون يقول: اصعدوا إليَّ وأعينوني.. فاجتمع ملوك الأموريين
الخمسة.. وصعدوا هُم وكل جيوشهم.. فأتى إليهم يشوع بغتةً. صعد الليل كله من
الجلجال (بجوار أريحا على النهر).. وضربهم ضربة عظيمةً في جبعون وطردهم في طريق
عقبة بيت حورون، وضربهم إلى عزيقة وإلى مقيدة.. فهرب أُولئك الخمسة
الملوك واختبأوا في مغارة في مقيدة.. وأخرجوا إليه أُولئك الملوك الخمسة من
المغارة.. وكان لمَّا أخرجوا أُولئك الملوك إلى يشوع أن يشوع دعا كل رجال إسرائيل
وقال لقواد رجال الحرب الذين ساروا معه: تقدَّموا وضعوا أرجلكم على أعناق هؤلاء الملوك. فتقدَّموا ووضعوا أرجلهم على
أعناقهم” (يش 10: 1
24)

ذبحوهم
جميعاً، وأخذ يشوع كل مدنهم وحرَّمها (ذبحها بحد السيف)، وانتقل إلى “لبنة”
وفعل بها وبملكها كذلك، ولمَّا صعد هورام ملك جازر ضربه يشوع حتى لم يُبقِ
له شارداً، وصعد من لخيش إلى عجلون وحرَّمها بكل مَنْ فيها (ذبح كل حي)،
وصعد إلى حبرون وحرَّمها مع ملكها (ذبحهم جميعاً)، ثم رجع إلى دبير
فحرَّمها مع ملكها (ذبحها وكل حي فيها).

+
“فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها. لم يُبقِ
شارداً، بل حرَّم (ذبح) كل نسمة، كما أمر الرب إله إسرائيل. فضربهم يشوع من قادش
برنيع
إلى غزة، وجميع أرض جوشن إلى جبعون. وأخذ يشوع جميع أُولئك
الملوك وأرضهم دفعة واحدة.. ثم رجع يشوع وجميع إسرائيل معه إلى المحلة إلى الجلجال”
(يش 10: 4043)

هذه
هي حروب الجنوب وهذه هي حروب الشمال:

+
“فلمَّا سمع يابين ملك حاصور أرسل إلى يوباب ملك مادون وإلى
ملك شمرون وإلى ملك أكشاف، وإلى الملوك الذين إلى الشمال في الجبل وفي
العربة جنوبي كنَّروت وفي السهل وفي مرتفعات دورٍ غرباً: الكنعانيين في
الشرق والغرب، والأموريين والحثيين والفرزيين واليبوسيين في الجبل، والحويين تحت حرمون
في أرض المصفاة. فخرجوا هم وكل جيوشهم معهم شعباً غفيراً كالرمل الذي على شاطئ
البحر في الكثرة، بخيلٍ ومركباتٍ كثيرةٍ جداً.. فجاء يشوع وجميع رجال الحرب معه
عليهم عند مياه ميروم بغتة وسقطوا عليهم، فدفعهم الرب بيد إسرائيل، فضربوهم
وطردوهم إلى صيدون العظيمة وإلى مسرفوت مايم وإلى بقعة مصفاة شرقاً. فضربوهم حتى
لم يبقَ لهم شارد.. ثم رجع يشوع في ذلك الوقت وأخذ حاصور وضرب ملكها
بالسيف، لأن حاصور كانت قبلاً رأس جميع تلك الممالك. وضربوا كل نفس بها بحد السيف.
حرَّموهم (ذبحوهم)، ولم تبقَ نسمةٌ. وأحرق حاصور بالنار. فأخذ يشوع كل مدن أُولئك
الملوك وجميع ملوكها وضربهم بحد السيف، حرَّمهم (ذبحهم) كما أمر موسى عبد الرب..
(عددهم 31 ملكاً بأرضهم ومدنهم “يش 24: 12”). فأخذ يشوع كل تلك الأرض، الجبل وكل
الجنوب وكل أرض جوشن والسهل والعربة وجبل إسرائيل وسهله، من الجبل الأقرع الصاعد
إلى سعير إلى بعل جاد في بقعة لبنان([2])
تحت جبل حرمون.. فعمل يشوع حرباً مع أُولئك الملوك أياماً كثيرة. لم تكن مدينة
صالحت بني إسرائيل إلاَّ الحويين سكان جبعون بل أخذوا الجميع بالحرب.. فأخذ يشوع
كل الأرض حسب ما كلَّم به الرب موسى وأعطاها يشوع ملكاً لإسرائيل حسب فرقهم
وأسباطهم واستراحت الأرض من الحرب” (الأصحاح
الحادي عشر من سفر يشوع)

+
“وشاخ يشوع، تقدَّم في الأيام، فقال له الرب: أنت قد شختَ، تقدَّمت في
الأيام، وقد بقيت أرضٌ كثيرة جداً للامتلاك. هذه هي الأرض الباقية: كل دائرة
الفلسطينيين وكل الجشوريين من الشيحور الذي هو أمام مصر إلى تخم عقرون شمالاً
تُحسب للكنعانيين أقطاب الفلسطينيين الخمسة، الغزِّي والأشدودي والأشقلوني والجتي
والعقروني والعويِّين. من التيمن كل أرض الكنعانيين ومغارة التي للصيدونيين إلى
أفيق إلى تخم الأموريين، وأرض الجبليين وكل لبنان نحو شروق الشمس من بعل جاد تحت
جبل حرمون إلى مدخل حماةٍ. جميع سكان الجبل من لبنان
إلى مسرفوت مايم جميع الصيدونيين. أنا أطردهم من أمام بني
إسرائيل. إنما أقسمها بالقرعة لإسرائيل ملكاً كما
أمرتك” (يش 13:
16)

والمُلاحَظ
في الحروب الأُولى شرق الأُردن أنها كانت تخلو من العنف، فلم يحرِّموا شعبها ولا
ممتلكاتها بمعنى ذبحهم وإفنائهم، لأن أسلوب حروب يهوه، أي الحروب التي سمح
بها الله لامتلاك الأرض والمدن، كانت تقوم على أساس التحريم فقط إذا كانت البلاد
مراكز عبادة أصنام أو الشعب مركز عداوة ومقاومة. لأن كثيراً من المدن والقرى
والشعوب المحلية رحبت بإسرائيل بسبب الأخبار التي بلغتهم عن هيبة الله ومعونته
لشعب إسرائيل، مثل الجبعونيين وشكيم، وعاشوا معهم وذابوا في إسرائيل. وهذا هو
السبب أن الكتاب يذكر أن كثيراً من البلدان الوسطى في فلسطين قد حوربت وتم
الاستيلاء عليها، دون ذكر أي حرب أو قتلى من الجانبين.

كما
يُلاحَظ أن المدن التي أخذها إسرائيل ثم عادت وخانت وتمرَّدت كان مصيرها الذبح
والهدم وإشعال النار فيها حتى الفناء.

ولكن
تراخى إسرائيل في امتلاك كثير من المدن والقرى وتركها واكتفى بأنه أحاط بها؛ ومع
مرور الزمن تمَّ امتلاكها بدون حرب، وخضع شعبها لحكم إسرائيل ثم اندمجوا فيهم:

+
“ولم يطرد منسَّى أهل بيت شان وقُراها، ولا أهل تعنك وقُراها، ولا سكان دُور
وقُراها، ولا سكان يبلعام وقُراها، ولا سكان مجدو وقُراها. فعزم الكنعانيون على
السكن في تلك الأرض. وكان لمَّا تشدَّد إسرائيل أنه وضع الكنعانيين تحت الجزية ولم
يطردهم طرداً. وأفرايم لم يطرد الكنعانيين الساكنين في جازر، فسكن الكنعانيون في
وسطه في جازر. زبولون لم يطرد سكان قطرون ولا سكان نهلول، فسكن الكنعانيون في وسطه
وكانوا تحت الجزية. ولم يطرد أشير سكان عَكُّو ولا سكان صيدون وأحلب وأكزيب وحلبة
وأفيق ورحوب. فسكن الأشيريون في وسط الكنعانيين سكان الأرض لأنهم لم يطردوهم.
ونفتالي لم يطرد سكان بيت شمس ولا سكان بيت عناة، بل سكن في وسط الكنعانيين سكان
الأرض. فكان سكان بيت شمس وبيت عناة تحت الجزية لهم. وحصر الأموريون بني دان في
الجبل لأنهم لم يدعوهم ينزلون إلى الوادي. فعزم الأموريون على السكن في جبل حارس
في أيلون وفي شعلبيم. وقويت يد بيت يوسف فكانوا تحت الجزية. وكان تخم الأموريين من
عقبة عقربيم من سالع فصاعداً” (قض 1: 2736)

+
“وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أُورشليم، فسكن اليبوسيون مع بني
بنيامين في أُورشليم إلى هذا اليوم” (قض 21: 1)

هذا كله يوضِّح أن هذه الشعوب امتصها شعب إسرائيل وأقلمها
وصارت ضمن نسيج شعب إسرائيل، ولكن بكل الأسف دخل أيضاً الكثير من طباع هذه الشعوب
وأخلاقها وعباداتها ضمن تراث شعب إسرائيل، مما أغضب الله، لأن سلوك شعب إسرائيل
ازداد سوءاً على ممر السنين، واستهانوا بالمقدَّسات، وأباحوا المحرمات، وداسوا
عهود الآباء والأنبياء، وصاروا مكروهين من الله والناس. لأنهم في الوقت الذي
احتفظوا فيه بشكليات الانتماء لله كشعب مختار ومخصص لعبادته، مع كبرياء وافتخار
واعتداد كأبرار، كانوا في نفس الوقت على مستوى الشعوب الأخرى المنحطة في سلوكها
وفي روح عبادتها المتسفِّلة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى