علم المسيح

اللحظات الأخيرة



اللحظات الأخيرة

اللحظات الأخيرة

.
استمر النزاع ثلاث ساعات، من السادسة حتى التاسعة: وكانوا قد رفعوا إلي جانبي يسوع
اللصين الذين كانا قد ألحقا بالموكب. وانتصبت الأعواد الثلاثة، كئيبة، عند حافة
الطريق. وكانت طريقاً مسلوكة، تنطلق من يافا عند شاطئ البحر. ولا ريب أن الحجاج
كانوا كثيراً عليها، في تلك الفترة من المواسم. ويجب أن نتمثل عذابات يسوع الأخيرة
في وسط ضوضاء المارة والبطالين، والفضوليين، والكلاب، وغيرها من الدواب، وفي شبه
هرج سوق من مثل الأسواق التي نراها في الشرق، عند أبواب المدن. وأما الحرس فكانت
مهمتهم منع كل محاولة لإنزال المصلوبين، وليس السهر علي سكينة نزاعهم

 

!
وإنها لتكشف لنا، من خلال روايات الأناجيل الأربعة، مشاعر ذاك الجمع الذي يشهد
مصرع المسيح. فهناك أصدقاء وأتباع ولاسيما النساء (وقد بات لهن، في جميع روايات
الآلام. مهمة خليقة بالثناء، تميزن فيها بشجاعتهن ووفائهن)، هؤلاء كلهم كانوا
واجمين تحت وقع الكارثة. صامتين من الأسى. وهناك المارة، يستوضحون أمر المصلوبين
الثلاثة ويصغون إلي افتراءات أنصار الحزب الكهنوتي، فيتحيزون للقوي علي الضعيف،
شأن كل سخيف وجبان من الناس: “أنت يا هادم الهيكل وبانيه، في ثلاثة أيام، أنقذ
نفسك! إن كنت ابن الله. فانزل إذن عن الصليب!” (متي 27: 40، مرقس 15: 29).
وكان سادات القوم وأولياء الأمر فيهم، ينضمون إلي الحثالة الشعبية في تهكماتهم
البذيئة: “لقد خلص آخرين، فليخلص نفسه إن كان هو مسيح الله المختار!”.
وكان جنود البادية، هم أيضاً، يهزءون مستغربين: فلقد كان من الطرافة أن يغلظ
اليهود لواحد من بني قومهم: “إن كنت أنت ملك اليهود، فنج نفسك!” (لوقا
23: 37)، ولكن الجنود كانوا، في قرارة نفوسهم، أخف وطأة عليه، فقدموا له من شرابهم
المألوف: ماء ممزوجاً بخل. وكان رؤساء الكهنة وأعضاء السنهدريم قد جاءوا هم أيضاً،
ينعمون بنصرهم – متعرضين للتنجس إذا شهدوا ساعة الموت – ويسخرون من ضحيتهم:
“هو ملك إسرائيل! فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به! لقد توكل علي الله،
فلينقذه الآن إن كان راضياً عنه، فإنه قد قال: أنا ابن الله!” (متي 27: 42 –
43). ولكنهم، حتى في تعييراتهم تلك، كانت تنطلق من حناجرهم نبؤات النصوص المقدسة.
فإن ما نطقوا به إنما هو آية من مزمور ماسوي: “أنا دودة لا إنسان، عار عند
البشر، ورذالة في الشعب، كل الذين يبصرونني يستهزئون بي، يفغرون الشفاه ويهزون
الرؤوس. فوض إلي الرب أمره، فلينجه وينقذه، فإنه راض عنه” (مزمور 22: 7 – 9)،
فلكم بات لذلك كله مدلولات تفوق المرامي الطبيعية

مقالات ذات صلة

 

.
وكان يسوع يري ويسمع ذلك كله. ولابد أن نظره الذي بدأ يزيغ لحظة بعد لحظة، راح
يشرد متنقلاً من هذا اللغط البائس، إلي أسوار المدينة الجبارة.فإلي الذؤابات
المتوهجة فوق قمة الهيكل. يا للشعب الذي أحبه، والإنسانية التي شرع يفتديها بموته!
لقد كان حلالاً علي كل إنسان أن تثور فيه ثورة الكره والغضب، إزاء مثل ذاك
الإجحاف! بيد أن يسوع، الذي ظل صامتاً طوال فترة الآلام، سوف ينقض الصم ثلاثاً،
فما تجري علي لسانه سوي كلمات حب وإشفاق

 

. فمن
أعلي الصليب، حيث كان يحتضر رسول الغفران، هبطت علي الجمع صلاة. قال: “يا
أبتاه! أغفر لهم، فإنهم لا يدرون ما يعملون!”، وكانت لا شك، إشارة إلي
المزمور 210 ولكن هذه الكلمات التي لم يدونها إلا البشير لوقا (23: 42).
“مؤرخ رحمات المسيح”، لا توجد في كثير من المخطوطات القديمة، حتى ولا في
“مخطوطة الفاتيكان”، بيد أن المفسرين يؤيدون صحتها، ويذهبون إلي أنها
إنما أسقطت في القرون الأولي تفادياً من أن يستغلها أصحاب البدع لهواهم. ولكن، هل
في جميع الإنجيل أكثر منها تصديقاً للنهج الذي التزمه المسيح؟ فالصفح عن الأعداء،
ومحبة الشانئين، لا يحملان في القلب نظرياً، وعندما لا يحدق بنا خطر، بل في الساعة
الحاسمة التي يعمل فيها الظلم والاضطهاد! ولقد دعا يسوع لتلك الجماهير المعماة
التي استنزلت علي نفسها لعنة الدم، وللجلادين الذين هووا بالمطارق علي المسامير
الداخلة في لحمه، ولأولئك الذين خذلوه من أتباعه وجحدوه وخانوه!.. كلمات قلائل
صادق بها المسيح علي تقدمة حياته وأفرغ عليها معناها

 

: لقد
كان ذاك المصرع، في مكامن سر الله، ضرورة لازمة. ولكن ذلك لا ينفي كونه أعظم
انتهاك للنظام الشرعي. ولقد كان بوسع الناس، في غفلتهم، أن يتنكروا لخطورة الحدث
الفرد الذي كانوا يشاهدون. ولكن الطبيعة – وهي صورة الله مبدعها – قد أوجست في
الصميم من كيانها الجامد، صدمة تلك الجريمة النكراء، وهذا ما رمي إليه الإنجيل،
بإثباته هذا الحدث الآخر

 

.
“فمن الساعة السادسة حتى الساعة التاسعة طبق الظلام الأرض كلها، وأظلمت
الشمس” (لوقا 23: 44، مرقس 15: 33، متي 27: 45). لقد وهم بعض الكتاب الأقدمين
– عن سذاجة بالغة – تعليل تلك الظاهرة، بانسكاف في الشمس. ولكن أوريجنس وإيرونيمس
ويوحنا الذهبي الفم كانوا قد لاحظوا، من أيامهم، تهافت تلك النظرية. فنحن نذكر أن
القمر كان يومئذ، بدراً، ونعلم أن القمر، في تلك الفترة، لا يجتاز الأفق نهاراً.
أفكان ذلك إذن إحدى زوابع الخماسين، تلك الريح الصحراوية السوداء، التي تطبق علي
اليهودية بليل داهم، شبيه بتلك الدجنات التي غشيت مصر، بأمر موسى، عقاباً لفرعون؟
إن مثل تلك التقلبات لا يندر وقوعها في شهر نيسان. ولئن بقيت تلك الظاهرة مبهمة في
تبثقها، فإن دلالتها الإعجازية بينة واضحة: “ويكون في ذلك اليوم – يقول السيد
الرب – أني أغيب الشمس عند الظهيرة، وأجلب الظلمة علي الأرض في النهار
الضاحي”: لقد تحققت، في تلك الساعة، نبوءة عاموس القديمة (8: 9). ومنذ تلك
اللحظة، ينبغي أن نتمثل مشهد النزاع، في جو مدلهم ينوء بالوجل.. وأخذ الصمت يشيع
شيئاً فشيئاً، في الجمع الذاهل، وشرع كثيرون في الانسحاب، واشتد جوي، في البعد،
ثغاء الحملان المعدة للذبح، وأما الهازئون والصلفون فقد عقد الجزع حناجرهم، وما
برح ذاك الجزع علي تفاقم، – وقد ارتبط سراً بهلع الطبيعة – حتى اللحظة التي
“تم فيها كل شئ!”

 

.
وانبعث وسط الصمت، من أحد الصلبان صوت مهدود: إنه أحد اللصين اللذين حكم عليهما
بالموت مع يسوع. وما كان، في غمرة عذابه المريع، سوي ثورة وغضب. ولو استطاع،
لانهال بسخطه علي أي من كان من الناس! وهذا الذي بقربه، والذي قيل عنه إنه يصنع
المعجزات، ما باله لا ينقذ نفسه وإياهما؟ “إذا كنت المسيح، فخلص نفسك
وإيانا!”، فانبعث من الصليب الثالث، صوت آخر يقول: “أفلا تخشى الله وأنت
مشترك في الحكم نفسه؟ أما نحن فبعدل! إنا نعاقب بما قدمت أيدينا، أما هذا فلم يفعل
شيئاً من السوء!..” لقد فاءت براءة الله إلي تلك النفس المدنسة! فأردف اللص
التائب قائلاً: “يا سيد، اذكرني متى جئت في ملكوتك!”. هل أدرك معني
كلامه؟ وهل كان علي علم بذاك الملكوت الذي التمس الانضمام إليه؟ ولكن حسبه إيمانه!
فأجابه يسوع: “الحق أقول لك، إنك اليوم تكون معي في الفردوس!” (لوقا 23:
39 – 41). لقد اكتفي مرقس ومتي بالإشارة إلي أن اللصين “كانا يعيرانه”،
وأما يوحنا فقد أغفل أمرهما. وعن أوريجينس حديث ليسوع، قال فيه: “من كان
بقربي فهو بقرب الضرام، ومن كان بعيداً عني فهو بعيد عن الملكوت!”، ولقد كان
بقرب يسوع، ذاك اللص، السليم القلب، ورضي بالموت عقاباً بذنوبه، ووضع نفسه في عهدة
الله، فاستحق ذاك البائس – عامل الحادية عشرة – أعظم الأجور: نوايا القلب كافية
لاستنزال الصفح

 

. في
تلك الأثناء كان بعض النساء قد دنون من الصليب، في جنة تلك الغياهب الخارقة: ثلاث
أو أربع من أولئك اللواتي أحببنه، ومعهن شاب، هو “التلميذ الذي كان يسوع
يحبه” إنه يوحنا نفسه – ويوحنا وحده – قد أثبت هذا المشهد في إنجيله. (19: 25
– 27). وذكر أسماء أولئك المقدامات اللواتي لم يخذلن يسوع في مذلته: وهن مريم
المجدلية، ومريم امرأة كلوبا، ثم مع إحدى أخواتها، مريم تلك الأولي، الأم العذراء،
وكانت قد توارت عن الأنظار، إلا قليلاً، من بعد معجزة قانا الجليل، وإذا بها في
تلك اللحظة الحاسمة، بقرب ولدها، ولا شك أنها ما فارقته، بالقلب، هنيهة واحدة..
وإننا لنفكر في عذاب جميع الأمهات اللواتي لهن من أكبادهن فلذات تعاني الألم في
المعتقلات وساحات الوغي وفي جميع المواضع التي ينفلت فيها ظلم الإنسان: كلهن، في
ذاك العذاب الأوحد، يصادفن تعزية وإشراقاً

 

.
“ولما رأي يسوع أمه وبقربها التلميذ الذي كان يحبه، قال لأمه: “يا
امرأة، هو ذا ابنك!” ثم قال للتلميذ: “هي زي أمك!” ومنذ تلك اللحظة
أخذها التلميذ إلي بيته الخاص”. تحب التقاليد المسيحية أن تتوسم في البشير
يوحنا شاهداً وممثلاً للإنسانية جمعاء، وفي العذراء مريم، من خلال أقوال المسيح،
أما للجميع

 

.
وكانت تلك آخر كلمات المسيح إلي عالم الأرض. وكان الموت قد أخذ يعمل فيه عمله،
وإذا به في ذاك التواجه الرهيب الذي لا بد لكل منا أن يختبره في يومه المرقوم، لم
يعد سوي إنسان يسحقه الوجل. وصرخ بصوت عظيم – صوت غريب مدهش، إذ أن الصليب يشل
الرئتين ويعقد الحنجرة – وقال: “إيلي! إيلي! لما شبقتني؟” (متي 27: 46)،
إنه في العبرية، لغته المألوفة، البيت الأول من ذاك المزمور الماسوي (22) الذي
استشهد به رؤساء الكهنة في خطابهم الساخر. ولعلهم هم الذين مهدوا له ذاك
الاستذكار. ولكن ذاك المزمور لم يكن فقط صرخة استنجاد، أطلقها الجسد المعني من
أغوار بؤسه احتجاجاً، فهو لم يعرب عن الارتياب، بل بالعكس عن الثقة: “من بطن
أمي أنت إلهي!.. وأنت يا رب لا تتباعد.. سأبشر باسمك اخوتي، وفي وسط الجماعة
أسبحك”. (مزمور 22)

 

. سقط
النداء في بحر من الصمت والظلام. وسمعه أحد القائمين هناك، ولم يكن يفهم العبرية،
فقال: “ماذا؟ ألعله ينادي إيليا؟”، وأضاف آخر هازئاً: “دعه! سوف
نري هل يأتي إيليا وينقذه!”، وانبعث من ذاك الهمل البشري آنة جديدة، أنة
الجسد المعذب، يتمتم كلمات باتت هي الشكوى الوحيدة التي نقع عليها في جميع رواية
الآلام: “أنا عطشان!”. فأخذ واحد من الحرس، لين القلب، إسفنجة، وغمسها
في ماء ممزوج بخل، وجعلها علي طرف عصا كانت هناك (قصبة، في رواية الأناجيل المؤتلفة،
أو غصن زوفي، في رواية يوحنا، أو حربة، في نظر بعض المفسرين) وأدناها من شفتي
المدلف، وقد قال صاحب المزامير: “في عطشي سقوني خلاً!” (69: 22)

 

.
وكان نحو الساعة الثالثة من بعد الظهر. وكان الظلام لا يزال مخيماً، وكل شئ يجري
شطر نهايته. وقبل أن نقلب هذه الصفحة – أروع وأهول صفحة في الإنجيل – نود أن نلفت
النظر إلي بساطة تلك الأحداث، وبساطة الأسلوب الذي أفرغ علي روايتها، فلقد روي
الإنجيليون متي ومرقس ولوقا ويوحنا ما كان في معلومهم، ولم يتكلفوا زيادة في
الترويع والتهويل. ولا نجد في الأناجيل الأربعة ما يشعر بالحقيقة العارية مثلما
تشعر به قصة الآلام، وبالانتساب، في آن واحد، وفي أصغر التفاصيل، إلي مصدر وحي
سماوي

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى