علم المسيح

عرس قانا الجليل



عرس قانا الجليل

عرس قانا الجليل

.
يبدو أن ثلاثة من التلاميذ الخمسة قد لبثوا عند ضفاف البحيرة. حيث كانت تربطهم،
ولا شك، مشاغل حرفتهم، وهم سمعان وأندراوس ويوحنا. ولعلهم ما كانوا قد أدركوا،
بعد، أن الحياة التي دعاهم إليها المسيح تتطلب التضحية بكل شيء، وأن ليس هناك من
حائل مهنة أو أسرة أو أي شيء آخر، يمكن أن يعيق عليهم انطلاقهم

 

.
وأما فيلبس ونثنائيل فقد رافقا معلمهم الجديد، وكان شاخصا – على حد ما جاء في
إنجيل يوحنا، وهو وحده يتفرد برواية هذه الحادثة بجميع تفاصيلها- إلى قانا الجليل،
ليشهد فيها عرسا. وكانت أم يسوع قد سبقته إليه. إن الموضع الذي يزار اليوم على أنه
القرية التي حدثت فيها المعجزة، يدعى كفر كنا. وهي قرية ضخمة، زاهية وسط الحدائق
والمياه، قائمة فوق منحدر قمة تل، بين في ثابور والجرماق، يرتادها العرسان
المسيحيون من أهل فلسطين لنيل بركة الزواج. وإنما هناك، في منطقة أكثر انخفاضا،
موضع آخر يدعى ” خربة قانا “، يوجد فيها اليوم حقل أثري. ومهما يكن من
أمر، فإن “كفر كنا” و”خربة قانا” كلتيهما قريبة من الناصرة،
إحداهما على مسافة 10 كيلومترات، والثانية على بعد 14 كيلومترا، هذا بالطريق
المعبدة. وأما في المسالك الجبلية فالمسافة أقصر. فمن الطبيعي إذن أن يكون ليسوع،
في تلك القرية، بعض الأصدقاء أو الأقارب، وليس من حاجة إلى ا فتراض أن نثنائيل كان
هو صاحب الدعوة، نظرا إلى أنه من قانا

مقالات ذات صلة

 

. إن
الدرب بين بيت صيدا وقانا، تصعد في الجبل صعودا مجهدا. فالبحيرة تنخفض عن سطح
البحر مائتين وثمانية أمتار. وأما قانا فهي على علو خمس مائة متر، والشقة بينهما
بعيدة بعض الشيء، لا تقل مسافتها عن 28كيلومترأ. وكلما صعد المسافر في الدرب،
ويكون خلفه منطقة النخيل وموفيا على مناطق الحنطة والكرمة، انفسح الأفق أمام
ناظريه. فإذا حانت منه إلتفاتة إلى الوراء، قبل أن يلج شعب أربئيل، استطاع أن يسرح
الطرف في مشهد تلك الفرجة الواسعة، حيث يفضي الأردن مسرعا، في ما بين القصب،
بزرقته الناضرة، تنعكس فيها ثلوج حرمون، وأما في الربيع فليس من النادر أن تمر بها
أسراب من النعام، راسمة فوق صفحتها، في طيرانها الوردي الأسود، تعاريجها الطويلة..
وفي أخريات المطاف، إذ يفضي الطريق إلى منطقة المشارف، ينبسط سهل عزريلون، أمام
النظر، ببساطه الموار، وحصائده الناضجة. فما أعذبها، فترة آذار في تلك الربوع!،
وفي قانا، في ذاك النهار البهيج، كان، ولا شك، يتعالى نشيد ألأعراس

 

. كان
يواكب الأعراس، في بلاد اليهود، حفلات ومباهج كثيرة. وكانت تستمر من ثلاثة أيام
إلى ثمانية أيام، وفقاً لثروة العروسان. أما أصحاب العرس الذي دعي يسوع إليه،
فكانوا ولا شك، من أهل النعمة، بدليل كمية الغسول المعد لمراسيم التطهير، ووجود
” رئيس وليمة “، وهو بمثابة رئيس الخدم.. فعلى افتراض أن العرس قد ابتدأ
نهار الأربعاء – كما هو مرعي في زواج الأبكار – فلابد أنه استمر حتى السبت، على
أقل تقدير. فإذا جئ بالعروس، فوق المحمل، إلى مقرها الجديد، وأفيض الطيب تحت
الهودج، على ما هو مقرر في المراسيم، وتبودلت العهود، في طل خمار العرس، كانوا
ينصرفون إلى الموائد وطيباتها. إن اليهود على جانب من القناعة، في حياتهم
المألوفة. بيد أنهم، في مثل تلك المناسبات، كانوا يميلون إلى الترغد حتى الإسراف.
فكانت الأطباق الدسمة تتوالى على الموائد طويلاً، بسمنها الفياض، ولحومها وأسماكها
المحشية. وكنت ترى البصل في جميع الأطباق، وكان قد أصبح من مقومات الطهي في
إسرائيل، منذ مقامهم في مصر، على عهد يوسف. وكانوا، إلى ذلك، يكثرون من الشرب.
فالشرب والمأدبة، في اللغة العبرية، لفظتان مترادفتان، وليس لهما أي مدلول قبيح.
وكانت الكرمة، في إسرائيل، شجرة محبوبة، وشبه مقدسة. فقد كان يزين الهيكل كرمة من
ذهب

 

.
وسوف يستوحي يسوع، من الكرمة، بعضا من رموزه، بل سوف يعلن يوما: ” أنا الكرمة
الحقيقية وأبي الكرام ” (يوحنا15: 1). وكانت خمور اليهود جيدة، شديدة الكحول
واللون. فكانوا يضطرون، إلى مزجها بالماء، قبل استهلاكها. وأما في الأعراس فكان
استخدامهم للماء محصورا في التطهر..

 

. ما
إن انقضى من العيد زمن حتى كان الخمر قد نفد. لقد كان رئيس الوليمة قد أخطأ في
حساباته. وربما لم يكن يتوقع مثل ذاك العدد من الوافدين. وكان يسوع، في المأدبة،
متكئاً مع المدعوين، على أحد فرش القاعة. وإذا بأمه تزدلف إليه. إن النساء سريعات
الملاحظة، متنبهات لمثل تلك الأمور. قالت له: “ليس لهم خمر! “. عبارة
كنت بها، بأسلوب لطيف، عن ملتمس لم يكن ليخفى عن المسيح مرماه. ولكن يسوع لم يستجب
لطلبها، بل قال: ” ما لي ولك يا امرأة؟”، ذاك كان الجواب كما ورد نصه في
الإنجيل. وقد يحمل على الاستغراب أن يكون قد جرى على لسان ابن مخلص يلتقي أمه بعد
شهرين ونيف من الفراق. وهو يبدو، في لغتنا الحديثة خصوصا، على جانب من الخشونة، بل
من العنف. ولكنه لم يكن كذلك قي اللغة الارامية، حيث تستعمل لفظة ” امرأة
“، على سبيل التأدب والحفاوة. (وسوف ينادي المسيح أمه بذات اللفظة، من على
الصليب). وأما التعبير الذي يصدمنا (مالي ولك)، فاستعماله شائع في العهد القديم
(قضاة 11: 12، 2 صموئيل 16: 10، 1 ملوك 17: 18، 2 ملوك 13: 3)، ولا يعي أكثر من
قولنا: ” ما عليك! ” أو ” معلهش ” كما نستخدمها في لغتنا
العربية العامية -. وربما كان ذاك التخلص ضمن ما لمسناه، عند المسيح، من رغبة
حكيمة في ألا يعتلن للعالم قبل أن يحين الزمان. بيد أن مريم لم تقنع بالجواب، بل
قالت للخدام: ” مهما قال لكم، فافعلوه! ” أجل! لقد كانت تعرف ابنها حق
المعرفة

 

هل
قرر يسوع الاستجابة لطلب أمه، رأفة فقط بمضيفه المعنى؟

.
إننا نتردد في الاعتقاد بأن قدرة الله العلية قد سخرت لقضية زمنية بمثل هذا الوزن.
فهل كانت الغاية الرمزية –وهي على أشد الوضوح – هي الباعث الحقيقي على إجراء تلك
المعجزة؟.. أم علينا أن نلتمس تعليلها فيما أورده الإنجيل نفسه من أن التلاميذ، في
إثر تلك المعجزة، ” آمنوا به “؟.. إذن لكانت تحقيقا لما بات نثنائيل، في
انتظاره، وواحدة من تلك العظائم التي وعد يسوع بتنفيذها

 

. لقد
كان، عند مدخل البيت، ست أجران من حجر، معدة لمراسيم الاغتسال، تسع كل واحدة منها
كيلين أو ثلاثة. والكيل – وهو البت عند اليهود، والمطر عند اليونان – بمثابة
أربعين لترا. فيكون مجموع متسع الأجران، من ست مائة إلى سبع مائة لتر.. فقال يسوع
للخدام: ” املأوا الأجران ماء “، فملأوها إلى فوق “. فقال لهم
أيضا: ” استقوا الآن، وقدموا إلى رئيس المتكأ، فقدموا “. فلما ذاق
الخمر، ولم يكن يدري من أين هي، صاح بالعريس مداعبا: “كل إنسان، إنما يضع
الخمر الجيدة أولاً، ومتى سكروا فحينئذ، الدون! أما أنت فقد أبقيت الخمر الجيدة
إلى الآن! ”

 

. تلك
كانت قي قانا الجليل، أولى معجزات يسوع، ” المعجزة الأولى، المعجزة اللطيفة،
– على حد ما جاء في إحدى روايات دوستويفسكي – حيث نرى المسيح يتعهد الفرح
الإنساني، الفرح لا الألم!. وقد حرص الرسول يوحنا، بالرغم من اقتصاده في ذكر
المعجزات (7 فقط)، على أن يضع معجزة قانا الجليل، في مستهل إنجيله، فهو لم يكن إذن
ليستخف، شأنها؟ والواقع أن تلك المعجزة يفوح منها شذا الأشياء الطبيعية، وتلامس
الأرض، كما أحبها المسيح دوما أن يلامسها.. ويجب ألا نتصور تلك الولائم الريفية
على كثير من الأبهة والجلال.. فالخمرة التي سالت لصوت المسيح هي، تقريبا، نفس
الخمرة التي تجود بها كروم الجليل. وليس من العبث أن يكون المسيح، بمعجزته، قد خلع
على مباهج ذاك العرس، رونقا مذهلا، وكأني به قد أراد، سلفا، أن يسم زواج الرجل
بالمرأة بوسم التعليم الذي سوف يقر مبادئه

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى