اللاهوت الروحي

17- فلسفة الأخذ والعطاء



17- فلسفة الأخذ والعطاء

17- فلسفة الأخذ والعطاء

هل نحن في حياتنا نأخذ
أم نعطى؟ أم نحن نأخذ ونعطى ن أم نأخذ ولا نعطى؟ لسنا نستطيع أن نفهم كل هذا، ما
لم ندرك في عمق: ما هي فلسفة الأخذ والعطاء.

مقالات ذات صلة

 

كلنا في الحياة نأخذ
ونعطى.. وسعيد هو الإنسان الذي مهما أعطى، يشعر أنه يأخذ أكثر مما يعطى، أو لا
يشعر اطلاقاً انه يعطى..

 

 مسكين ذلك الشخص الذي يظن أنه لا يأخذ شيئاً، أو
الذي لا يحس ما قد أخذه.. انه يعيش تعيساً في الحياة، شاعراً بالظلم، وشاعراً
بالعوز، ويقضى عمره في التذمر وفى الضجر وفى الشكوى، وفى الافتقار إلى الحب.

 

 واحد فقط، يعطى باستمرار دون أن يأخذ من أحد،
انه الله. والله وحده يعطى الكل، ولا يأخذ من أحد شيئاً.. لأنه لا يحتاج إلى شيء،
فهو مكتف بذاته، كامل في كل شيء، يملك كل شيء، ولا يوجد عند أحد شيء يعطيه لله..

 

 ولكن لعل البعض يسأل: ألسنا في الصلاة نعطى الله
وقتاً، ونعطيه قلباً، ونعطيه حباً؟‍! كلا، ليس هذا هو المفهوم الحقيقى للصلاة.
إننا عندما نصلى، إنما نأخذ من الله نعمة، ونأخذ منه بركة، ونأخذ منه كافة
احتياجاتنا الروحية والمادية.. بل نأخذ أيضاً لذة التخاطب معه، ولذة الوجود في
عشرته الإلهية..

 

 إن الذي يظن أنه يعطى الله وقتاً، ويعطيه ركوعاً
وتسبيحاً وتمجيداً، ما أسهل عليه أن يمتنع أحياناً عن الصلاة محتجاً بأن ليس له
وقت ليعطيه!

 

 وما أسهل على هذا الإنسان أن يجدف على الله الذي
يطالبه بكل هذا التسبيح والتمجيد!! والذى يفرض عليه كل هذه الفروض! وما أسهل على
هذا الإنسان أن يحتج بأنه ليست لديه صحة للصوم، وليست لديه رغبة للتعبد، وليس لديه
وقت للصلاة.. وأن قام بمثل هذه العبادة، يقوم بها بطريقة حرفية آلية لا روح فيها.

 

 الواقع إننا نصلى لأننا محتاجون إلى الله، لذلك
نبسط إليه أيدينا إشارة إلى أخذنا منه.. إن أفواهنا تتقدس عندما تلفظ اسمه القدوس،
وقلوبنا تبتهج بعشرته وانه لتواضع كبير من الله أن يسمح لنا بمخاطبته، ومنة عظيمة
منه أن يوقفنا أمامه. لذلك في كل مرة نقف للصلاة، ينبغى أن نشكره– تبارك اسمه –
على كل هذا التفضل والتواضع.

 

 وعندما يقول الله: “يا ابنى اعطنى
قلبك”، إنما يقصد: اعطنى هذا القلب لأملأه بركة وحباً وطهارة. أعطنى هذا
القلب لكي أقدسه وانقيه وأغسله من جميع أقذاره، وأرفعه عن مستواه الأرضى لكي أجلسه
في السماويات، وأريه مجدى..

 

 لذلك في كل مرة نذهب فيها للصلاة، ينبغى أن نشعر
بأننا نأخذ ولا نعطى، وانها بركة لنا وليست فرضاً علينا.

 

 هذا من جهة الله، وأما من جهة الناس، فإننى
أسأل: أترانا حقاً نعطيهم شيئاً مهما كنا محبين وكرماء؟

 

 نحن لا نملك شيئاً لنعطيه. كل الذي لنا هو ملك
لله، استودعنا إياه، وقد أخذناه منه لنعطيه لغيرنا. كل ما نتبرع به لمشروعات
الخير، إنما نقول عنه لله ما سبق أن قاله داود النبى: “من يدك أعطيناك”.
تماماً كالابن الصغير الذي يقدم هدية في عيد الأسرة لأبيه أو أمه، ومنهما قد أخذ
المال الذي اشترى به هذه الهدية..

 

 إن الله قد أعطانا اليد التي تعطى، وأعطانا
الخير الذي نعطى منه، بل قد أعطانا أيضاً محبة العطاء..

 

نعم، حتى موهبة العطاء
قد أخذناها منه. هذه الفضيلة، فضيلة العطاء، قد تفضل الله فأنعم بها علينا.. هي
جزء من عمله فينا، وجزء من مؤازرة نعمته لنا. لأن كل موهبة صالحة، هي نازلة من
فوق، من عند الله..

 

كل شيء نعطيه سنجده في
الأبدية، وسنأخذ أكثر منه بكثير. وسنرى أن المكافاءة في السماء أغزر وأوفر. فالشيء
الذي نعطيه، أو الذي يعطيه الله عن طريقنا، هو محجوز لنا فوق، لم يضع.. في الواقع
أننا لم نعطه، وإنما ادخرناه! فأين العطاء إذن؟!

 

 إننا نعطى الفانيات ونأخذ الباقيات، نعطى
الأرضيات ونأخذ السماويات. نعطى المادة ونأخذ البركة. لا شك أننا نأخذ أكثر مما
نعطى..

 

 لذلك أيها القارئ العزيز، عوِّد نفسك على
العطاء. فقد قال الكتاب: “مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ”.

اعط بفرح وليس بتضايق
لأن الكتاب يقول: “المعطى بسرور يحبه الرب”. واعط عن حب وعن عاطفة. واعط
بوفرة وبكرم اعط وأنت موسر، واعط وأنت معوز، فالذى يعطى من أعوازه، يكون أعظم
بكثير ممن يعطون من سعة. وأجره أكبر في السماء.

 

 وإن لم يكن لك ما تعطيه، اعط ابتسامة طيبة، أو
كلمة تشجيع، أو عبارة تفرح قلب غيرك. ولا تظن أن هذا العطاء المعنوى أقل من العطاء
المادى في شيء، بل أحياناً يكون أعمق منه أثراً، ولكن حذار أن تكتفى بالعطاء
المعنوى إن كان بإمكانك أن تعطى المادة أيضاً.

 

 واشعر – عندما تعطى – انك تأخذ. إن السعادة التي
يشعر بها قلبك حينما يحقق سعادة لغيره، هي شيء كبير أسمى من أن يقتنى بالمال.. إن
راحة الضمير التي تأخذها، وفرحة القلب برضى الناس، كلها أمور أسمى من المادة قد
أخذتها وأنت تعطى.. وستأخذ أعظم منها في السماء.

 

 وعندما تعطى لا تحقق كثيراً مع الذي تعطيه. وإلا
كانت منزلتك هي منزلة قاض لا عابد.. لا تحقق كثيراً لئلا تخجل الذي تعطيه، وتريق
ماء وجهه. اعطه دون أن تشعره بأنه يأخذ.. حسن إنك قد أعطيته حاجته، اعطه أيضاً
كرامة وعزة نفس، ولا تشعره بذلة في الأخذ.

 

 وعندما تعطى انس أنك قد أعطيت. ولا تتحدث عما
فعلته، بل لا تفكر فيه. ولعل هذا هو ما يقصده السيد المسيح بقوله: “إذا أعطيت
صدقة، فلا تجعل شمالك تعرف ما فعلته يمينك”. وإن تذكرت قل لنفسك: “أنا
لم اعط هذا الإنسان شيئاً، بل هو الذي أعطانى فرصة لسعد بهذا الأمر”.

 

 إن الأم تعطى ابنها حناناً، إنما تسعد هي نفسها
بهذا الحنان. وهى عندما ترضعه، إنما تشعر براحة، ربما أكثر من راحته هو في
الرضاعة. ذلك ان عمل الحب هو عمل متبادل يأخذ فيه الإنسان أثناء اعطائه لغيره.

 

 وعمل الخير الذي لا تأخذ منه سعادة، ليس هو
خيراً على وجه الحقيقة. إن أجره ليس فيه، وليس فيما بعد. انه عمل ضائع.

 

 كذلك عندما تأخذ، خذ من الله وحده، وممن يرسلهم
الله إليك. وحاذر من أن تأخذ من الشيطان شيئاً ولا من جنوده.

 

إن الشيطان عندما يعطى،
يأخذ أكثر مما يعطيه.

 

 قد يعطيك لذة الجسد، ويأخذ منك كرامة الروح. وقد
يعطيك الكرامة. ويأخذ منك الاتضاع، وقد يعطيك الغنى، ويأخذ منك الزهد، ويعطيك
الدنيا، ويأخذ منك الأخرة ويعطيك اللهو والعبث، ويأخذ منك الحكمة والرزانة. ويعطيك
اللعب، ويأخذ منك النجاح.. إنه يأخذ الجوهرة التي فيك، ويعطيك القشور التي لها.

 

 تخطئ إن ظننت أنك تأخذ منه شيئاً. إنك الفاقد،
ولست الآخذ، ولست المعطى.

 

أما الله، فإنه يعطى
على الدوام، ويعطى بسخاء ولا يعير، ويعطى عطايا صالحة تليق بصلاحه.. إننا نعيش في
عطائه كل لحظة من حياتنا.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى