علم

الصوم



الصوم

الصوم

يوحنا
ذهبي الفم

“لا
يكن الفم وحده من يصوم بل العين والأذن والرجلان واليدان وكافة أعضاء جسدنا أيضاً.
لتصم اليدان في تجنب الخطف والجشع؛ ولتصم الرجلان بدورهما في تحاشي الإسراع إلى
مسارح الإثم؛ ولتصم العينان في رفض ما يلذ لها من الأشكال المغوية وما يجعلها تؤخذ
بالجمالات الغريبة. إنه تغيير الحياة كلها بحيث يُمتنع عن الخطيئة ويزاول من ثم
الصوم الحقيقي. وكذلك يليق بالصائم أن يكبح الغضب قبل كل شيء وأن يتثقف على
الوداعة والاعتدال، وأن يحوز قلباً منسحقاً، وأن يطرد عنه ما كان سيئاً من الرغبات،
وأن يجعل نصب عينيه بلا انقطاع تلك العين التي لا تنام أبداً والمحكمة التي لا
تفسد، وأن يترفع عن الثروات، وأن يبدي سخاءً كبيراً في الصدقة، وأن يطرح من نفسه
كل مرارةٍ تجاه القريب” “لقد وضع آباؤنا أربعين يوماً مخصصة للصلوات،
والصدقة، والصوم، والأسهار، والدموع، والاعتراف، وممارسات أخرى، بغية أن ندنو من
الأسرار بضمير نقي قدر ما كان ذلك في إمكاننا”

 

الصوم

“ومتى
صُمتُم، فلا تكونوا عابسين كالمُرائيين، فإنهم يُغيِّرون وجوههم لكي يظهروا للناس
صائمين” [ع16]

 

جيد
ها هنا أن نئن بصوت عال وأن نبكي بمرارة، لا لأننا نحاكي المرائين وحسب، بل لأننا
تفوَّقنا أيضًا عليهم. لأنني أعرف جيدًا أن كثيرين لا يصومون فقط بل ويتباهون
بأصوامهم أمام الناس، بل ويهملون الصوم، ومع ذلك يرتدون أقنعة الصائمين متَّشحين
بعذر أسوأ من خطيئتهم؛ إذ يقولون إننا نفعل ذلك حتى لا نعثر الآخرين. ما هذا
القول؟

 

إن
هناك ناموسًا إلهيًا يأمرنا بهذه الأمور، وأنتم تتكلمون عن العثرة أو الإساءة؟
ظانين أنكم حين تفعلون هذا وأنتم تسيئون إلى الناس بتعديكم للوصية، وأنكم تخلصون
الناس من عواقب الإساءة؟

 

أيّ
شيء أسوأ من هذه الحماقة؟ ألا يصير عملكم أردأ من عمل المرائين؟ ألا يكون رياؤكم
مضاعفًا؟ وإذا ما تفكرتم في عظم هذا الشر ألا ترتبكون خجلاً لقوة ما أمامنا من
تعبير؟ فالرب لم يقل إنهم يتظاهرون جزئيًا، بل يكشف أعماقهم أكثر فيقول “إنهم
يُغيِّرون وجوههم” أيّ أنهم يشوِّهونها ويفسدونها، لكن إن كان الأمر مجرد
تغيير “السحنة” ليبدو الإنسان باهتًا لأجل المجد الباطل. فما قولنا في
نساءٍ يلطخن وجوههن بالألوان والأصباغ لتدمير شباب دنسين؟ وبينما يؤذي مثل هؤلاء
الشبان أنفسهم فقط، فإن أولئك النسوة يؤذين أنفسهم والناظرين إليهن. لهذا يجب
علينا أن نهرب من هذا الفخ ومن فخاخ أخرى، وعلى مسافة بعيدة بكفاية لننقذ أنفسنا.

 

فالرب
لم يوصِ فقط بألا نُغير وجوهنا، بل أن نسعى لحفظ نفوسنا أيضًا. وهو الأمر الذي
أوصى به قبلاً. ففي مسألة الصدقة، لم يعرض الأمر هكذا ببساطة بل إذ قال:

 

“احترزوا
أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس” وأضاف “لكي ينظروكم” فإنه في الصلاة
والصوم لا يذكر نفس الشيء، ولا يضع نفس القيد، فلماذا أراد ذلك؟ لأنه من المستحيل
أن نخفي الصدقة عن أعين الناس، لكن من الممكن أن يتم الأمر بالنسبة للصلاة والصوم.
ومثلما قال “لا تعرف شمالك ما تفعل يمينك” لم يكن يتحدث عن الأيدي بحصر
المعنى، بل عن واجب إخفاء الأمر عن الناس في حزم. ومثلما أمرنا أن ندخل إلى
مخادعنا، لم يكن يقصد المكان بشكل مطلق، ولكنه يثير فينا مشاعر الرهبة المقدسة
للمرة الثانية حول مسألة الصلاة.

 

هكذا
هنا أيضًا، حين يأمر أن “ندهن جسدنا” لا يعني حرفيًا أن ندهن أجسامنا،
وإلا تعدِّينا على الناموس – إذا لم نفعل – والأكثر من ذلك، أن أولئك الذين
اجتهدوا بمشقة لحفظ أجسادهم في مجتمعات الرهبان – والذين اختاروا سكناهم في الجبال
– لن يقدروا على هذا، إذن لم يكن هذا هو ما يأمرنا به، بل إذ رأى أن للقدماء عادة
دهن أنفسهم باستمرار، ويتلذذون ويتهللون (مثلما نرى مع داود في 2 صم 12: 20)، ومع دانيال
(دا 10: 3)، وقال أن علينا أن ندهن أجسامنا – ليس بمعنى حرفي – بل أن نسعى بكل
السبل وأن نجتهد بكل حزم أن نُخفي عن الناس نُسكنا.

 

وحتى
يقنعكم بالأمر، فإنه هو نفسه فعل ما أوصى به، إذ صام أربعين يومًا وصامهم سرًا –
فلا دهن نفسه ولا حتى غسل جسده – ومع ذلك، ورغم أنه لم يفعل هذه الأمور، فقد أكمل
الوصايا كلها دون سعي وراء مجد باطل. وهكذا يوصيا نحن بنفس الأسلوب، إذ يكشف لنا
عن المرائين ويكرر اتهامه لهم مرتين لينبه ذهن السامعين. وفي موضع آخر يذكر نفس
صفة المرائين، أعني ليس فقط بإظهار سخافة الأمر، ولا بتوقيع أقصى عقوبة عليه، بل
أيضًا بإظهار أن مثل هذا الخداع لا يدوم طويلاً، فهو يبعدنا عن هذه الرغبة الشريرة.
فالممثل يبدو رائعًا أمام الجلوس من المشاهدين، لكن معظمهم يعرف حقيقة أمره، ولهذا
لا يبدو رائعًا أمام الكل. والذين يعرفون الدور الذي يلعبه، ورغم ذلك وحين يتفرق المتفرجون
ينكشف أمره للجميع. وهذا هو حال الباحثين عن المجد الباطل، والمعروفين للكل بأنهم
يضعون أقنعة على وجوههم وسوف يفتضح أمرهم في اليوم الأخير، حين تصير كل الأشياء
“عارية ومكشوفة”، والرب يقدم الفرصة لانتشالهم من بين المرائين حين يكشف
أن وصيته خفيفة، لأنه لم يجعل الصوم أشد صرامة، ولا طالبنا أن نمارسه بكثرة، بل
ألا نفقد الإكليل المعد لنا.

 

وما
قد يبدو صعب الاحتمال، يبدو أمرًا مشتركًا بيننا وبين المرائين – لأنهم يصومون
أيضًا – ولكن الأخف في الأمر، أيّ ألا نخسر الأجرة بعد أتعابنا، حسب قول الرب الذي
أوصى به دون أن يضيف شيئًا إلى أتعابنا، بل يجمع الأمور لنا بكل أمان، دون أن
يحرمنا من المكافأة. مثلما يفعل المراءون، كلا، بل أن نحاكي لاعبي الألعاب
الأوليمبية، الذين رغم جلوس حشد عظيم أمامهم ورغم وجود الكثيرين من الأمراء
يشتاقون أن يدخلوا السرور على واحد فقط، ذاك الذي يمنحهم الفوز حتى لو كان أدنى من
مستواهم بكثير.

 

لكن
أنتم، ورغم دوافعكم بتقديم الفوز له، أولاً، لأنه هو الذي يقضي بنصركم، وأيضًا،
لأنه لا يقارن بأعظم المحتشدين في مسرح اللعب. فإنكم قد تشتركون مع آخرين لا نفع
لهم، بل ضررهم أعظم. ومع ذلك يقول الرب: فإني لا أمنعكم، فإن اشتقتم إلى التباهي
أمام الناس، فانظروا وسوف أمنحكم أعظم الفرص والمنافع، لأن ما تفعلونه هنا قد
يحرمكم من المجد الذي تنالونه معي، فاحتقروا هذه الأمور، وتوحدوا معًا وتقاربوا
سويًا، لتنعموا بأمان، لأن ثمار العالم لا تدوم، وإن وطأت أقدامكم كل مجد بشري
وتحررتم من أسر الناس الأليم، وعملتم الصلاح دون أن ينظركم أحد تنالون مجدًا.

 

ونفس
الأمر بخصوص كل فضيلة، فإن كنتم تسعون إليها لا لأجلها بل سعيًا وراء صناع الحبال
والنحاس والعامة في الأسواق ليعجب بكم الأردياء، البعيدون عن الفضيلة، فتدعونهم
إلى المشهد أمامكم، وكأن المرء قد اختار أن يعيش في حال صوم وامتناع وتعفف ليس
لسمو التقشف بل ليتباهى أمام الساقطات.(رجاء قراءة البراجراف، كلامه؟؟)

 

ويبدو
أنكم لا تختارون الفضيلة لذاتها – بل لأجل أعدائها – بينما يجب عليكم الإعجاب بها
على أساس آخر؛ أن للفضيلة أعداءها الذين يعجبون بفاعليها. لهذا لا أرديكم أن
تعجبوا بالصالحات لأجل الناس بل لأجلها هي، مثلما يحبنا الآخرون لا لأجل ذواتنا
نحن، بل لأجل نفعهم، الأمر الذي نعتبره نحن إهانة لنا.

 

هكذا
أيضًا أريدكم ألا تحبوا الفضيلة لأجل الناس، أو لأجلهم تطيعون الله، بل تطيعون
البشر لأجل الله. لأنكم إن فعلتم العكس فحتى وإن بدا أنكم تصنعون الفضيلة، تكونون
كمن لا يصنعها تمامًا، ويبدو بدون طاعة، هكذا أنتم حين تفعلون ما يخالف الناموس

 

2.
“لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” [ع19]

بعد
أن أقصى الرب مرض المجد الباطل وفي حين مناسب، يتحدث عن الفقر الإرادي؛ إذ لا شيء
يدرب الناس على الولع بالثروات مثل الولع بالمجد. وهذا هو السبب الذي يدفع الناس
إلى ابتكار هذه الجماعات من العبيد. وهذا الحشد من الخصيان والجياد ذات السرج
الذهبية، والموائد المزدانة بالفضيات وما شابه. والأكثر سخفًا من هذا كله؛ أن
رغباتهم لا تشبع، ولا يكفون عن الاستمتاع باللذة، بل يتباهون بما لديهم أمام
الجموع.

 

بعد
أن قال الرب إن علينا إظهار الرحمة، يشير هنا إلى ما يجب أن نظهره من رحمة أعظم،
بقوله: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” لأنه من غير الممكن أن يستهل
حديثه باحتقار الغنى والثروات بسبب طغيان الشهوة، لهذا يقسم حديثه إلى أجزاء صغيرة،
وبعد أن حرر ذهن السامع، يعده لقبول وصايا تالية ولهذا ترون أنه قال أولاً
“طوبى للرحماء” ثم “كن مراضيا لخصمك” وبعدها “من أراد أن
يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا” لكنه هنا يتحدث عن أمر أعظم من كل
ما مضى. لأنه كان يعني قبلاً: إن رأيت مخاصمة أمام القضاء قد أوشكت على البدء،
فافعل هذا.

 

لأنك
إن كنت في احتياج مصحوب بالتحرر من المعاناة، أفضل من أن تملك وأنت تعانى لكن،
افترض أن لا خصم يعاديك ولا أحد يقاضيك، فإن الرب يعلمنا أن نزدري بالثروات نفسها
لذاتها، مشيرًا إلى أن الإنسان لا يجد من وراءها رحمة، مثلما هو الحال مع المعطي،
لهذا يشرع القوانين حتى لو لم يكن هناك أحد يؤذينا، أو يجرنا إلى ساحات القضاء،
حتى في هذه الأحوال، لابد أن نحتقر ممتلكاتنا، فنعطيها لمن يحتاج، ولا يذكر الرب
الأمر كاملاً هنا، بل يتحدث في رفق، رغم أنه صارع في البرية صراعًا شديدًا (مت 4: 9-10).
وحتى يحين الوقت المناسب للإفصاح عن وصاياه، فضل السيد المسيح أن يكون في مركز
النصح أكثر من واضع الناموس، لأنه بعد أن قال: “لا تكنزوا كنوزًا على
الأرض” أضاف “حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون”.
ويشير المسيح بالنسبة للزمان الحاضر، إلى أضرار الكنز هنا، ومنافع ما لنا هناك، من
حيث المكان والأشياء التي تفسده، ولم يتوقف عن هذين الأمرين، بل يوسع من دائرة
النقاش، فيشير إلى ما يخيفهم من أمور ويسأل: مم تخافون؟ هل تخشون ضياع خيراتكم، إن
أعطيتم صدقة؟ كلا.

 

إذن،
قدموا صدقة، ولن تضيع خيراتكم. بل والأكثر من هذا، أنكم ستنالون زيادة مضاعفة. أجل،
لأن خيرات السماء تضاف إلى ما عندكم. ولا يقول الرب الكلام وكأنه محفوظ لزمن ما،
بل يقنعهم أن الكنز سيبقى محفوظًا لهم دون ضياع، ليجذبهم. ولا يكتفي بالحديث عن
منافع إعطاء الصدقة وأنها تظل محفوظة لهم، بل يشير إلى العكس بأن عدم تقديمها
يجعلها تفنى من أيديهم. وتأملوا مدى حكمته في أنه لم يقل: اُتركوها لآخرين، لأن
هذا فيه مسرة الناس، بل يحذرهم على أساس جديد. إنه لم يتحايل الآخرون لسلب خيركم،
فإن “السوس والصدأ” سيفعلان، وكبح هذا الأذى من الصعب السيطرة عليه،
ومهما حاول الإنسان منعه لن يقوى، وحتى لو لم يتخلص السوس من الذهب، فاللصوص
سيقومون بذلك، وحتى لو لم ينهبوا كل شيء، فعلى الأقل الجزء الأعظم منه.

 

3.
لهذا يضيف الرب تكملة للمناقشة بقوله:

“لأنه
حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضًا” [ع21]

وحتى
لو لم يحدث شيء من هذا كله، فإنك ستتعرض لأذى ليس بالقليل، لأنك إن تعلقت بهذه
الأشياء الأرضية، وأصبحت عبدًا بدلاً من حر، وطرحت عنك الأمور السماوية، ولم تعد
لديك قدرة على التفكير في أيّ أمر من أمور السماء، بل انحصر فكرك كله في المال
والملكية والقروض وربا الأرباح والمتاجرات الخسيسة، فقد صرت أسوأ من العبد وما
أتعس حالك؛ إذ تجلب على نفسك أقسى أنواع الطغيان محرومًا من أعز شيء في الوجود، من
شرف الإنسان وحريته. ومهما تكلم إليكم أحد تعجزون حتى عن الإنصات إلى ما يهمكم،
لأن عقولكم متسمرة في المال وذهنكم مقيد مثل كلب بقبر بسبب استبداد الثروات،
مقيدين بشدة تنبحون على كل من يقترب منكم، ولا عمل لكم سوى هذا.

 

ويعتبر
السيد الرب قوله أعلى من إدراك سامعيه، وإذ لا يدرك الجميع سوء أفعالهم ولا حتى
منفعة تصرفاتهم، بل هم في حاجة أكثر إلى روح يدرك ونفس تعي كلا الأمرين، يأتي بالنقاش
بعض أمور أخرى كانت واضحة لهم. فيقول: “حيث كنز الإنسان هناك يكون قلبه
أيضًا” ثم يعيد توضيح الأمر مرة أخرى بإبعاد سامعيه عن الأمور العقلية إلى
الأمور المحسوسة، فيقول: “سراجُ الجسدِ هو العينُ” [ع22]. ويعني بهذا: لا
تدفنوا ذهنكم في الأرض، ولا في أيّ شيء مماثل، لأنكم إنما تحفظونه للسوس وللصدأ،
وللسارقين، وحتى إن نجوتم من مثل هذه الشرور، فلن تهربوا من استعباد قلوبكم
وانشغالها بالأذى من هذه الأمور. “لأنه حيث يكون كنز الإنسان، هناك يكون قلبه
أيضًا” فإذا صنعت لك مخازن في السماء، فلن تحصد هذه الثمرة فقط، بل تنال
مكافأتك على هذه الأمور، وتنال مجازاتك في هذا العالم أيضًا. وعند وصولك إلى
الميناء هناك، ووضع مشاعرك في الأمور العلوية، والاهتمام بما فوق. لأنه حيث تنقل
كنوزك، فمن الواضح جدًا أنك تنقل إلى هناك عقلك أيضًا. لهذا إن فعلت ذلك على الأرض،
فسوف تختبر العكس، لكن إن كان القول غامضًا بالنسبة لك، فاسمع ما سيلي في حينه:

 

“سراج
الجسد هو العين، فإن كانت عينيك بسيطة (غير معقدة الرؤى) فجسدك كله يكون نيرًا.
وإن كانت عينيك شريرة، فجسدك كله يكون مظلمًا. فإن كان النور الذي فيك ظلامًا،
فالظلام كم يكون” [ع22-23]

 

ها
هو هنا ينقل حديثه إلى أمور أكثر تواجدًا في دائرة حواسنا، أعني، إذ يتكلم عن
الذهن كمستعبد وواقع تحت الأسر، وأن كثيرين لا يدركون هذا بسهولة، فإن الرب ينقل
الدرس إلى أمور خارجية، واضعًا أمام عيون الناس ما يمكن أن يفهمه الآخرون معهم،
فيقول: “إن لم تفهم ما يضر الذهن، يمكنك أن تدركه من أمور الجسد، لأنه مثلما
تكون العين بالنسبة للجسد، هكذا، الذهن بالنسبة للنفس، فإن لم تختار أن ترتدي
ذهبًا، أو أن تتوشح بملابس الحرير، وعيناك مطفأتان، فإن صحتهما وسلامتهما أهم عندك
من كل هذه الأمور السطحية؛ لأنك إن خسرت صحتك أو بددتها، لن تنفعك حياتك كلها بشيء.
لأنه مثلما تكف العينان عن النظر، تضيع طاقات بقية أعضائك، وينطفئ نورها، هكذا إذا
فسد الذهن، تمتلئ حياتك بشرور لا حصر لها.

 

ومثلما
نهدف في جسدنا أن نحافظ على عيوننا سليمة، هكذا الذهن في النفس، لكننا إن أفسدنا
العينين اللتين تمدان الجسد بالنور، لا نستطيع أن نرى بوضوح بعد- تمامًا مثلما
ندمر منبعًا للمياه، فنتسبب في جفاف النهر- هكذا مَنْ أطفأ الفهم يربك كل أفعاله
في هذه الحياة.

 

لهذا
يقول الرب: “فإن كان النور الذي فيك ظلامًا. فالظلام كم يكون؟”. لأنه
حين يغرق القبطان أو تنطفئ الشمعة، أو يسقط القائد الحربي في الأسر فأي رجاء يبقى
بعد في صدور الذين تحت قيادتهم؟

 

وإذ
يحذف السيد الآن في كلامه الحديث عن مؤامرات الثروة والمال والمعاناة والمحاكمات
القضائية والتي تناول الحديث عنها قبلاً، حين قال يسلمك الخصم إلى القاضي، ويسلمك
القاضي إلى الشرطي، فإنه يعرض هنا أمورًا أخرى أشد وطأة، مؤكدًا أنها تحدث،
ليبعدنا عن كل شهوة ردية، فالطرح في السجن أقل وطأة من استعباد الذهن للشهوة
المريضة. وربما لا يحدث أن نُلقى في السجن، لكن استعباد الفكر أمر محتم، إذا اشتهي
الإنسان المال والثروة. لهذا يأتي ذكرها الآن باعتبارها أخطر من سابقتها، ومن
المؤكد حدوثها، فيقول إن الله أعطانا فهمًا أن نبتعد عن كل جهل، وأن نحكم على
الأشياء حكمًا سليمًا مستخدمين هذا الفهم كسلاح ونور ضد كل خطر وضرر لنبقى في أمان.

 

لكننا
نخون العطية لصالح أشياء تافهة عديمة النفع. لأنه ما فائدة الجنود المصطفين في
دروع من ذهب، وقائدهم أسير في السجن؟ وما فائدة سفينة مزدانة بألوان جميلة وربانها
غارق تحت لجة المياه والأمواج؟ وما ميزة جسد جميل متناسق وقد ضاع منه البصر، وما
نفع الطبيب المطروح في فراش المرض ومن المفترض أن يكون صحيحًا ليعالج أمراضنا، حتى
لو جلس في مقعد من فضة وفي غرفة حوائطها من ذهب، فإن ذلك لن يجدي المرضى شيئًا.

 

هكذا.
إذا فسد الذهن – الذي يملك القدرة على إطفاء نار شهواتنا – فحتى إن وضعناه في كنز،
لن ينفعه شيئًا، فالخسارة عظيمة والضرر الذي لحق بنفسنا هو ضرر بالغ.

 

4.
هل ترون كيف للناس من خلال هذه الأمور التي يلحقون بها الأذى بأنفسهم وكيف يريد
الرب إبعادهم عنها، ليعيدهم إلى الصالحات، إذ يقول: “لأية غاية تشتهون الغنى
والمال، هل للتمتع باللذة والثروة، فلماذا تفشلون بينما من المفترض أن تنالوا كل
ما تريدون”.

 

السبب
أن إصابة عيوننا تجعلنا لا ندرك مباهج أيّ شيء، وتحل بنا الكوارث، ويسود حالنا إذا
ما فسد ذهننا وانحرف. فلماذا تريدون دفن القنية في الأرض؟ هل لحفظها في أمان. ولكن
العكس هو الذي يحدث، فمثلما يحدث مع طالبي المجد الباطل إذ يصومون ويعطون صدقة
ويصلون، لهذا المجد الباطل، فإن الرب يحصن الإنسان ألا يسعى وراء ذلك فيقول: لأي
غرض تصلي وتعطي صدقة؟ هل لمحبة مجد الناس – إذن لا تصلى لهذا الهدف – لأنك ستنال
(إنما لكي تنال) مجدًا في اليوم العتيد.؟؟

 

ثم
يستأثر المسيح أيضًا قلب الإنسان الجشع، من خلال اجتهاده في أمور الأرض، فيسأله
لماذا تحتفظ بثروتك وتنعم بالمسرة؟ إنني سأمنحك كلا الأمرين بوفرة عظيمة إن وضعت
ذهبك حيث آمرك أن تضعه.

 

ويكشف
الرب في الحقيقة وبوضوح أكثر فيما بعد عن التأثير الشرير لهذا العقل على الذهن،
حين ذكر الشوك (مت 13: 22)، لكنه هنا في الوقت الراهن، يهدد بنفس الأمر وبشكل مثير،
حين يشبه من يسلك هذا الطريق بالإنسان المظلم، إذ لا يرى السائرون في الظلمة شيئًا
بشكل واضح وتمييز(ومتميِّز)، لكنهم إذ نظروا حبلاً ظنوه ثعبانًا، وإن رأوا جبالاً
أو وديانًا خافوا هلعًا. هكذا أيضًا المبصرون الذين لا ينذرهم أي شيء بل ينتابهم
الشك، ويرتعدون بسبب الفقر، بل ولأية خسارة تافهة.

 

نعم.
وإن هم خسروا شيئًا زهيدًا، يحزنون ولا يحزن مثلهم الذين في حاجة ضرورية للطعام.
وكثير من الأغنياء يتعثرون ولا يحتملون سوء الطالع، ولا الإهانة. ولا أن يستغلهم
أحد بسوء، فيبدو لهم الأمر فوق الاحتمال حتى أن كثيرين منهم قد يحطمون أنفسهم
وينفصلون عن هذا الزمان الحاضر؛ إذ جعلتهم ثرواتهم مترفين مدللين لا يفعلون شيئًا
سوى انتظار مزيد من الأموال. لهذا إذا أمرهم بخدمة ما، سارعوا إلى القتل والجلد
والانتقام بكل خزي، واقعين في منتهى البؤس. ولا يضبطون أنفسهم متشبهين بالمخنثين
من الناس – لا هم بالرجال ولا بالنساء – وإذ تطلب الأمر مزيدًا من الحيطة ليصبح
الإنسان عفيفًا بلا خزي، فإنهم لا يفعلون نفس الشيء بعد أن أنفقوا كل أموالهم في
أشياء لا تنفع. وإذا ما احتاج إلى ضرورة للإنفاق لا يجد بين يديه شيئًا يوفره،
فيعاني من شرور لا علاج منها، فقد بذر كل ما يملك من قبل. ويشبه الواقفين على خشبة
المسرح الماهرين في الفنون الشريرة، يعانون من اضطرابات جمة غريبة وخطيرة، لكنهم
يبدون سخفاء في الأموال الأخرى الضرورية والنافعة، فيشبهون أناسًا يمشون على حبل
مشدود، يعرضون قدرًا كبيرًا من الشجاعة، ولكن إن حل بهم أمر طارئ يتطلب جرأة أو
شجاعة، لا يقدرون على التحمل أو التفكير، هكذا هم الأغنياء؛ يتجرأون كثيرًا من أجل
المال، لكنهم لا يقبلون أن يضبطوا أنفسهم، ولا يقدرون على الخضوع لأي شيء يحرمهم
من المال، قليلاً كان أم كبيرًا, ومثلما يكون العمل السابق خطيرًا وبلا ثمر، هكذا
أولئك أيضًا يعانون من مخاطر وانتكاسات كثيرة، لكنهم لا يبلغون أبدًا أية نهاية
سعيدة ونافعة، ويعانون من ظلمة مضاعفة إذ تفسد عيونهم بسبب انحراف أذهانهم، وبسبب
خديعة اهتماماتهم يتورطون في عتمة ضبابية شديدة، فلا يقوون أبدًا على الرؤية.

 

ومن
يسير في الظلمة يتحرر منها حين تشرق الشمس، لكن من له عينان تالفتان حتى وإن ظهرت
الشمس – كحالة هؤلاء – حتى وإن أشرق عليهم شمس البرّ، وأخذ يحثهم، فإنهم لا يسمعون،
فقد أعمت الثروة عيونهم لهذا صارت لهم عتمة مضاعفة يسيرون فيها بسبب ذواتهم، وأخرى
بسبب إهمالهم لمعلمهم.

 

5.
فلننصت إلى المعلم بكل اهتمام ودقة إذن، حتى وإن فات الأوان، نستعيد أبصارنا
أخيرًا. ولكن كيف للإنسان أن يستعيد بصره؟ إن علمت أنك كنت أعمى، علينا أن تعرف
لماذا صرت أعمى؟

 

بسبب
شهوتك الشريرة، لأن محبة المال مثل عتامة ضارة تتجمع حول العين الصافية فتسبب ضعف
الإبصار، ولكن هذه الغشاوة يمكنها أن تزول وتنقشع بسهولة؛ إن نحن تلقينا شعاع
تعليم المسيح وإن استمعنا إليه يحثنا على الصلاح بقوله: “لا تكنزوا لكم
كنوزًا على الأرض”، ورُبّ قائل: ولكن ما جدوى السمع ما دمتُ مستعبدًا للشهوة؟

 

نقول
في المقام الأول إن الاستماع الدائم يوفر قوة هائلة للقضاء على هذه الشهوة. ثم
الاستمرار في السيطرة على النفس لا يكون يسبب شهوة أو رغبة بل عبودية مرة، وطغيان،
وقيود وظلمة، واضطرابات وأتعاب دون نفع. والاحتفاظ بالثروة للآخرين أو حتى للأعداء،لا
يجدي منفعة بل يولِّد الهروب والانحراف دائمًا، فالكنز أنت واضعه بين لصوص، أما إن
كنت تشتهي ثروة ما، ففي كل الأحوال أبعدها حيث تكون آمنة دون تخريب ودون شهوة لأن
الشهوة قيود وإهانة وخسران مصدر إغاظة دائم. ولن تتوفر لكم في الأرض بقية آمنة
أبدًا، حتى إن قادكم الإنسان إلى عمق الصحراء، ووعدكم بالأمان لحفظ ثرواتكم. فإن
أسرعتم ووثقتم فيه ووضعتم خيراتكم هناك، ما حفظتم شيئًا. ولكن إن كان الله لا
الإنسان هو الذي يعدكم بهذه الأمور، وحيث لا يضع كنوزكم في صحراء بل في السماء،
فهل تقبلون؟ ومهما كانت درجة الأمان هنا على الأرض، فلن تحرركم أبدا من الاهتمامات،
وحتى لو لم تفقدوا ثرواتكم فلن تسلموا من القلق على خسرانها.

 

لكنك
هناك لن تعاني من كل هذا، ولن تدفن ذهبك بل تستثمره فالكنز مثل البذرة. أو بالحري
هو أكثر من ذلك، لأن البذرة لا تبقى إلى الأبد، أما الكنز السماوي فيبقى إلى الأبد،
والكنز لا يزهر، لكن كنوز السماء تحمل أثمار أبدية لا تموت.

 

6.
لكن إن اخبرتني عن الوقت، وتأخير المجازاة، فإنني أستطيع أيضًا أن أخبرك كم تلقيت
بالمقابل هنا، ومن طبيعة الأشياء المتوفرة في هذه الحياة سأحاول إقناعكم أنكم في
هذه الدنيا تقتنون أشياء كثيرة بغير منفعة ولا تستمتعون بها، وإن لفت أحد أنظاركم
إلى الخطأ، فإنكم قد تلتمسون الأعذار لأولادكم وأحفادكم، ظانين أن لديكم عذرًا
كافيًا تبررون به أعمالكم التي لا لزوم لها، لأنك وبعد أن يتقدم بك العمر جدًا
وتبني منازل فخمة وترحل عن الدنيا قبل إكمالها، وحين تزرع أشجارًا تثمر بعد سنوات
طوال، وتشتري أملاكًا وتؤول مواريث إليك بعد زمن طويل، وتكون منشغلاً بشكل كبير في
مثل هذه الأمور، وأمور أخرى غيرها لا تجني متعتها، فهل تفعل ما تفعله لأجلك أنت أم
لأجل الذين يعيشون بعدك؟ ولمن تنشغل كل هذا الانشغال؟ أليس فيم تفعله منتهى
الحماقة؟ وتراك وأنت لا تتوانى لحظة هنا خشية ضياع الوقت، ورغم هذا كله تخسر كل
أجرة أعمالك!

 

لكن
في السماء هناك، وحيث يبقى انتظارك وصبرك في سكينة وسلام، وتنال بهما ربحًا أعظم،
ولا تتبدد خيراتك للآخرين، بل تُحفظ كل العطايا لك. ولا يكون الانتظار طويلاً جدًا،
لأنها أمور وشيكة وعلى الأبواب، وقد يتحقق بعضها في جيلنا، من يعلم! وقد يصل هذا
اليوم المرهوب ونقف أمام المحاكمة المخوفة التي بغير فساد. أجل فقد تحققت الآيات
كلها، وتمت كل العلامات، وكُرِز بالإنجيل في كل المسكونة وتحققت كل نبوات الحروب
والزلازل والمجاعات – وليست الفترة الزمنية ببعيدة – فهل لم ير منكم آيات أخرى
بعد؟.

 

إن
في ذلك لآية عظيمة. لأنه في زمان نوح لم ير أحد منهم علامات الفناء للكون كله
وقتها، لكن في وسط لهوهم وأكلهم وزواجهم، وكل ما اعتادوا عليه، بغتة تأخذهم
الدينونة المخيفة.

 

وشعب
سدوم أيضًا وبنفس الطريقة، عاشوا في بذخ ولهو، ولم يشكُ أحد منهم، فجأة أبادتهم
الرعود والبروق التي نزلت بهم.

 

فإذا
تأملنا كل هذا، فلنُعد أنفسنا لرحيلنا عن هذا العالم، لأنه حتى لو لم ينقض علينا
يوم القضاء بعد، فإن نهاية كل واحد وشيكة وعلى الأبواب، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا.

 

ومن
المستحيل على الناس إذا رحلوا، أن يشتروا زيتًا بعد، أو ينالوا غفرانًا وصفحًا
بالصلاة بعد، فالذي توسل إلى إبراهيم (لو 16: 24)، أو نوح أو أيوب أو دانيال (حز
14: 4) لم ينل شيئًا.

 

بينما
نحن أمامنا الفرصة، فلنهيِّئ لأنفسنا وفرة من ثقة، ولنجمع الزيت بغنى، ولنخزن كل
ما لدينا في السماء، حتى حينما نحتاج إليها بالأكثر وفي الوقت المحدد، ننعم بكل
شيء.

بنعمة
ومحبة ربنا يسوع المسيح للإنسان الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان وإلى الأبد
آمين.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى