علم

الفصل السابع



الفصل السابع

الفصل
السابع

معرفة
الله في ذاته، ومعرفة الله في الخليقة

 

أولاً: معرفة الله في ذاته، ومعرفة الله في الخليقة

 

يعتبر
هذا الموضوع من أهم وأخطر المواضيع التي خاضها القديس أثناسيوس، وأرسى فيها قواعد
لاهوتية غاية في الأهمية.

وسوف
يرى القارئ أن هذا الموضوع هو الأساس الذي يُبنى عليه كل اللاهوت الأرثوذكسي،
والذي بمقتضاه وعلى هداه صارع أثناسيوس ضد الأريوسية.

وفي
العصور الحديثة أخذ علماء اللاهوت رأي أثناسيوس بتوقير فائق، وحسبوه فريداً بحق،
معتبرين أثناسيوس الشاهد الأول وعن جدارة للإيمان بحلول الله في الكون، بالرغم من
إصرار كثير من النظريات التي تقول بتفوُّق طبيعة الله وانحجابها وتفرُّدها في
البعد عن كل جوهر مخلوق([1]).

لم
يبدأ أثناسيوس هذا البحث في هذا الموضوع الدقيق الحسَّاس بنوع من الإيجابية
الهادئة، ولكن الظروف هي التي أقحمت الكنيسة اضطراراً لخوض هذا الموضوع إزاء خروج الأريوسيين
عن حدود الإيمان القويم واتَّباعهم للأصول الفلسفية الوثنية، مما قذفهم لركوب
تصورات خاطئة ونظريات منسوجة حسب الفكر البشري عن الله وعن طبيعته، حتى يصلوا إلى
غايتهم التي وضعوها مسبقاً.

لقد
أصر أريوس على أن طبيعة الله متسامية عن فعل الخلق المادي، لأنها غير قابلة للحلول
أو الاتصال بأي خليقة مادية. ولكي يحل مشكلة الخلق، فكَّر أريوس في مخرج وهو أن
الله اضطر لكي يخلق العالم المادي أن يخلق وسيطاً من لا شيء، الكلمة
اللوغس المسيَّا، بحيث يكون من طبيعة أعلى من طبيعة المخلوقات
المادية، وهذا بدوره يضطلع بخلقة المادة والخلائق الأخرى.

ولكن
لا يصعب على أي مفكِّر أن يحس أن نظرية أريوس هذه مجرَّد توليفة عقلية، فالله
الفائق الأسمى المنزَّه عن الخلق ماذا يجبره على الخلق؟ بل وكيف يجوز بأن يُقال
إنه خلق كلمته؟؟

وقد
انبرى له القديس أثناسيوس، ليثبت من واقع الكتاب المقدَّس، ومعاملات الله مع
الإنسان، ومن واقع شعور تَقْوى الإنسان وإحساسه العميق بالله؛ أن الله وإن كانت
طبيعته يتحتم أن تكون فائقة كل التفوُّق وغير قابلة للإدراك العقلي، لأنها تفوق
طبيعة العقل وتسمو عليه جدًّا وبلا أي قياس؛ إلاَّ أن الله هو بنفسه
أي بكلمته خلقنا، وهو بنفسه بكلمته نفخ
فينا، ونحن نحس بيد الله الصانعة لكياننا كله، وندرك نسمة القدير التي نتنفسها
ونحيا بها.

فالله
خلقنا بإرادته وبقوة كلمته، ولكنه لم يخلقنا من طبيعته، لأنه خلقنا من لا شيء،
لقد أراد الله أن نوجَد، فصرنا موجودين،
ولكن وجودنا ليس مستمداً من جوهر
الله،
لأننا وُجدنا من العدم! ولهذا فإن وجودنا قابل للتغيير بل وبدون
الله قابل للزوال، ولا يمنعه من الزوال إلاَّ إرادة ونعمة
الله التي أوجدته والتي لا تزال مريدة لبقائه ووجوده، فنحن كخليقة إنما نحيا ونوجد
ونتحرَّك ونبقى بإرادة الله!

لقد
ورثت المسيحية من العهد القديم معرفة ربوبية الله الفائقة والفريدة على كل خليقة،
فالله عُرف لدينا على مدى كل أسفار العهد
القديم أنه وحده هو القادر المقتدر والكلِّي القدرة
Pantocrator أي الضابط الكل. وجميع المخلوقات إنما خُلقت خلقاً من العدم، فهي
لا تقوم ولا توجد إلاَّ اعتماداً على نعمة الله ومسرَّة إرادته.

فالوجود
المادي برمَّته هو عطاء من الله، وليس ذلك فقط بل وحتى النفس البشرية هي قابلة
للموت بطبيعتها، لأنها مخلوقة، وهي إنما تعيش وتحيا بنعمة الله.

والكنيسة
كانت حريصة منذ البدء ضد التيار الفلسفي والوثني القائل: “بعدم الموت” بالنسبة
للنفس البشرية، فالشهيد يوستينوس قاوم هذا المبدأ الأفلاطوني، مفنِّداً ذلك بقوله:
إن القول بعدم الموت يعادل تماماً القول بعدم الخلق، فكل ما هو غير مائت
هو غير مخلوق
([2]).

ولكن
علاقة الله بالخلق كانت مثار تفكير واجتهاد. ونقطة الصعوبة عند المدافعين عن
المسيحية ضد الوثنيين كانت هي العلاقة بين كيان الله، أي جوهره، وبين كيان العالم،
أي الخليقة، التي هي الاستعلان الظاهري المدرك لطبيعة الله، التي شرحها بولس
الرسول في رسالة رومية هكذا: «مُدرَكَة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته» (رو
20: 1). ويتضح لنا مدى هذا النزاع الفكري الخفي الذي كان يعتمل في قلب فلاسفة
المسيحيين الأوائل، عندما يسأل أوريجانوس: هل يمكن أو هل يُسمح لنا أن نفكِّر في
الله دون أن نراه وندركه كخالق؟ كان أوريجانوس يعتبر أن هذا مستحيل، فالتقوى كل
التقوى أن يلتزم الفكر بجعل نسبة الخلق لطبيعة الله كصفة ملازمة لله، لا
يمكن إدراكه بدونها كأمر حتمي!! وأن كل تفكير غير ذلك هو تجديف فظيع.

وهنا
يقع أوريجانوس في المحظور إذ كان عليه إزاء هذا الشطط في التفكير أن يعترف بأن
الخليقة هي أيضاً أزلية بأزلية الله؟

وهنا
بدأ أوريجانوس يدافع عن نظريته بحذق وبراعة مذهلة، ولكن بزاوية انحراف لم يلحظها
في البداية، كأن يقول: وهل يمكن أن يكون الله على شيء لم يكنه سابقاً؟ أي هل يمكن
أن يكون الله غير خالق ثم يصير خالقاً؟

ولكن
خطأ أوريجانوس هنا أنه حصر الله في مجرَّد “وجود”، أي في طبيعة موجودة، لا تعمل
عملاً غير وجودها، أي من داخل وجودها، وهنا ألغى أوريجانوس إرادة الله وفعله ثم
قوله أي “كلمته” المؤثِّر في خلق موجودات أخرى من العدم.

وكان
تصوُّر أوريجانوس يبدو بشيء من خداع البصر أنه منطقي، فالله سيد وخالق، وهل يمكن
أن يكون الله في وقت من الأوقات لم يمارس قوته كسيِّد وخالق، أي “بانتوكراتور” حيث
كلمة
pantokr£twr تفيد ممارسة فعلية للسلطان والضبط. وهكذا انتهى أوريجانوس إلى أنه
لكي يكون الله “بانتوكراتور”، كان يلزم أن تكون كل الأشياء موجودة منذ الأزل لكي
يمارس الله سلطانه عليها، وهكذا يصير في عرف أوريجانوس أن وجود الخليقة مرادف
مستمر ودائم لوجود الله الأزلي. وكأن العالم يستمد وجوده وأزليته من وجود الله
وأزليته أي يصير بالتالي مساوياً لجوهر الله.

وهذا
بحد ذاته كان شططاً فلسفياً، هو التجديف بعينه، لأن قدرة الله على كل شيء
وسلطانه الفائق يتبرهن على أعظم وجه لا بوجود العالم منذ الأزل بل بخلقته من لا
شيء!

وهكذا
لم يستطع أوريجانوس أن يتخلَّص من تيار الفكر الفلسفي الوثني، محاولاً أن يمزج قصة
الخليقة كما جاءت في الكتاب المقدَّس، التي تقوم على قدرة الله الفائقة للخلقة من
العدم، يمزجها بأسس الفلسفة الوثنية التي تقوم على المعلومة الأُولى وهي أزلية
العالم وحتمية وجوده وديمومته وثبوت تكوينه الجوهري؛ فلم يوفَّق أوريجانوس، وانحاز
إلى الفلسفة الوثنية وسقط عن الفكر المسيحي المستقيم، وابتدأ أوريجانوس يعطي
للخليقة أو “للعالم المخلوق” أوصافاً ليست من حقيقة “العالم المخلوق” الذي يعيش
فيه، ويعيش فيه المسيحيون إيمانهم المسيحي.

وبسبب
هذا المفهوم الذي وقع فيه أوريجانوس من جهة أزلية الخلقة وقع في عقيدة “أزلية
النفس”، بل والأخطر من ذلك كله أنه سجَّل على نفسه: [وجود الصلة المنطقية بين
“ميلاد الابن” ووجود العالم دون انفصال.]([3])

ومن
واقع منطق أوريجانوس هذا، يستحيل التفريق بين “الخلقة” و“الميلاد”، فكلاهما
بالنسبة لله علاقتان أساسيتان أزليتان: فالابن بالنسبة لأوريجانوس [أزلي كشخص
وجوهر معاً، ولكن ميلاده الأزلي هو في الحقيقة بالنسبة للعالم المخلوق أزلي أيضاً]([4]).
[وهكذا لم يستطع أوريجانوس بفلسفته أن يفلت من وضع الابن مع المخلوقات.]([5])

وهكذا أعطى أوريجانوس لأريوس وأتباعه النور الأخضر لاعتبار
الابن مخلوقاً، ولكن أوريجانوس كان
يختلف في هذا الاعتبار عن الأريوسيين
اختلافاً كبيراً جدًّا، مما حدا بالقديس أثناسيوس أن يبرِّئ أوريجانوس من اتهام الأريوسيين له أنه يوافقهم بعقيدته، لأن
أوريجانوس وضع أساس مفهومه عن الخلقة أصلاً باعتبارها عملاً إلهياً أزلياً بلا
ابتداء، لذلك يقول أثناسيوس مدافعاً عن أوريجانوس: [إن أوريجانوس يجحد بوضوح كل
مَنْ يقول إنه كان هناك زمن لم يكن الابن موجوداً فيه]([6])،
وحيث أن هذه هي الصفة
الأساسية لأي مخلوق، فأثناسيوس ينفي بهذا صفة المخلوق
عن الابن بالمفهوم الذي أذاعه أريوس.

وهكذا
بدأ الخداع الفلسفي في نظر أريوس بسبب نظرية أوريجانوس يتلخَّص في مفهوم الفرق بين
الزمن والأزلية، وأصبح الاختيار بين أحد المعطيين حتمياً:

إمَّا
اختيار أزلية الخليقة ومعها أزلية الابن، حيث لا زمن بحسب أوريجانوس، وهنا يبقى
الله بلا تغيير قط ضابط الكل دائماً لسلطانه الأزلي فوق العالم، وأباً دائماً
للابن المولود دائماً في الأزلية دون أي فاصل زمني؛ أو رفض أزلية العالم، ومعها
رفض أزلية الابن، بحيث يكون وقت لم يكن فيه العالم ووقت لم يكن فيه ابن أيضاً!

وهكذا
فرَّق أريوس بين جوهر الله الآب عن جوهر الابن، واضعاً الابن مع الخليقة كمخلوق لم
يكن موجوداً قبل أن يوجد، ومختلف جوهرياً عن الآب، ولو أنه أعطاه بعض الامتيازات،
كأن يقول إنه جاء إلى الوجود قبل كل الدهور والأزمنة.

وهنا
يصرخ أثناسيوس في وجه أريوس لأنه يتلاعب بكلمة الزمن ويفرغها من مضمونها([7])
حيث أن الظهور إلى الوجود من العدم معناه الخضوع الحتمي للزمن.

كذلك
يقول أريوس إن الابن ليس من جوهر الآب، بل خلقه الله بالإرادة؛ وأريوس يستمد
مفهومه هذا عن خلقة الله للابن بالإرادة من أوريجانوس الذي قال بهذا القول نفسه في
ما يخص العالم والابن معاً، حيث أورد أوريجانوس كلمة “الإرادة” بمعنى المشورة
الأزلية
وليس مجرَّد الإرادة الخارجة عن الكيان الإلهي([8]).

وهكذا
يتضح أمام القارئ بكل وضوح أن موضوع النزاع اللاهوتي في ما يخص الإيمان بالله بين
أريوس والكنيسة الأرثوذكسية ممثَّلة بأثناسيوس كان يدور
مبدئياً في مشكلة الخلق، وكان هذا النزاع في أصوله الأُولى في الحقيقة ذا
طابع ديني إيماني تقوي، ولكن سرعان ما ارتفع إلى مستوى الصراع اللاهوتي الخطر
عندما طبَّقه أريوس على الابن. وكان على الكنيسة أن تدافع عن تقواها وإيمانها
وخلاصها بالأسلحة اللاهوتية والفلسفية معاً.

وأول
من أدخل هذا الصراع الديني إلى الميدان اللاهوتي الفلسفي هو ألكسندروس بابا
الإسكندرية، الذي سمَّاه سقراط المؤرِّخ (5: 1) بالفيلسوف اللاهوتي، فألكسندروس
كان أول مَنْ حاول فصل “الإيمان بالله” عن المتعلِّقات الأخرى في ما يخص العالم
والخليقة([9]).

وألكسندروس
إنما كان يعكس فكر مصر التَقَوِي، حيث العبادة هي دائماً مصدر الفهم للاهوت،
والعبادة لم تنفصل في مصر قط عن الإيمان، والإيمان يقوم أساساً على أن الله واحد
حي قائم بذاته، فهذا هو الميراث الذي سُلِّم مرَّة للقديسين.

ولكن
الذي يدرس تعليم أريوس يُصدم بحقيقة الانفصال الواضح بين التقوى والمعرفة، حيث لا
يوجد عند أريوس أي إحساس بحياة الله في ذاته، فالتقوى غائبة في لاهوت أريوس، لذلك
لا يصعب الحكم على تعاليمه بأنها أفكار مركَّبة ميتة، بل ومبتذلة، ويكفي أن يدرك
القارئ أن الله عند أريوس لا حياة له إلاَّ في ما يتصل به بالعالم([10])!

 

ثانياً: أثناسيوس والخلق

 

قبل أن يبدأ الصراع الأريوسي، كان الخلق أحد المواضيع التي
عالجها أثناسيوس في كتاباته المبكِّرة.

لأنه،
كما سبق ونبَّهنا أن عملية الخلق كانت إحدى الأساسيات التي دافعت عنها المسيحية ضد
الوثنية كمدخل حتمي للفداء، فالتجسُّد تمَّ لفداء الخليقة، والخليقة الإنسانية سقطت بالرغم من
حالتها “الحسنة جداً” التي خُلقت عليها يوم خُلقت وذلك بسبب أنها
خُلقت مبدئياً من العدم.

لذلك
يستحيل فهم الفداء وتجسُّد ابن الله، وبالتالي طبيعة ابن الله التي أكمل بها
الفداء، إلاَّ على أساس فهم واقع الخليقة وطبيعتها.

وبادئ
ذي بدء، يضع أثناسيوس نصب عينيه في بحثه الأول، الذي قدَّمه في دفاعه ضد الوثنية
وتجسُّد الكلمة، الفارق الهائل والجوهري بين الله والخليقة على أساس الفارق بين
طبيعة الله أي كيانه ووجوده في ذاته، وطبيعة العالم المخلوق أي وجوده الذي يستمده
من إرادة الله.

فالله
كائن بذاته، موجود قبل كل الوجود، غير متغيِّر، لأنه غير خاضع للزمن، وبالتالي فهو
غير قابل للموت أو الفساد، في حين أن العالم المخلوق متغيِّر، ولا يستقر على حال،
فهو معرَّض للفساد وقابل للموت.

وعلى
أساس الفارق الهائل بين الوجودين: وجود إلهي غير قابل للفساد أو الموت، ووجود
مخلوق قابل للفساد والموت، يمكن تفسير سقوط العالم وفداء الله له.

على
أن أثناسيوس يضيف إلى ذلك أن أي ترتيب يظهر في العالم المخلوق أو أي نظام أو جمال،
إنما هو مُضاف إلى العالم وموضوع عليه وبيد أعلى من مستوى طبيعة العالم المتقلِّب،
هي بيد خالقه!

“فالكلمة” يضبط الخليقة كلها معاً، وينظِّمها ويرتِّبها،
ويدبِّرها ويحكمها، لكي يوازن بين ما يريده
لها من وجود منسجم مرتَّب بحسب مشيئة الله وبين طبيعتها النازعة إلى الانحلال
والفساد والعدم.

كذلك
يعارض أثناسيوس فكرة الحلول الإلزامي، أي حلول اللوغس الطبيعي أو الغريزي في جوهر
الأشياء المادية كعلة لوجودها ودوامها. فالخليقة إنما تقوم بقوة الانضباط التي
يفرضها كلمة الله عليها تلقائياً من الخارج بالإرادة والنعمة وليس كالتزام.

فأثناسيوس يمتد من عقيدة خلقة الله للعالم من لا شيء بأمر
إلهي، إلى استمرار وجود العالم تحت هذا الأمر عينه من الخالق، والإنسان يشارك
العالم في هذا الوجود عينه، فهو مخلوق مكوَّن وليس بسيطاً، مخلوق من غير وجود
سابق، وهو بطبيعته صار قابلاً للموت والفساد، ويستحيل عليه أن يفلت من هذا المصير
إلاَّ بنعمة الله وشركة اللوغس، لأن الإنسان بذاته لا يقدر أن يعيش إلى الأبد
([11]).

واللوغس، الذي يعبِّر عنه أثناسيوس بأنه ابن الله الوحيد، لا
يوجد بينه وبين المخلوقات أي تشابه طبيعي، فاللوغس موجود في العالم، ولكن ليس هو
الوجود الضمني المحدود، بل الوجود المحرِّك الفعال المحيي، أي أنه موجود بقوته
وقدراته، أمَّا جوهره (كيانه الذاتي) فهو فائق عن كل ما في العالم المخلوق.

وإليك
كلام أثناسيوس نفسه:

[فلا
يتوهمن أحد أنه (أي اللوغس الكلمة) أصبح محصوراً في الجسد (الذي حلَّ فيه)، أو أن
كل مكان آخر أصبح خالياً منه بسبب حلوله في الجسد، أو أن العالم أصبح محروماً من
عنايته وتدبيره طالما كان يحرِّك الجسد؛ ولكن ما يدعو للدهشة أنه مع كونه هو “الكلمة”
الذي لا يسعه مكان، فإنه يملأ كل مكان، وبينما كان حاضراً في كل الخليقة، فإنه
كان يتميَّز (يفوق) عن سائر الكون في الجوهر (الكياني الذاتي) وحاضراً في كل
الأشياء بقدرته، ضابطاً كل الأشياء، ومُظهراً عنايته فوق الكل وفي الكل، ومعطياً
الحياة لكل شيء، حاوياً كل شيء، دون أن يحتويه شيء، بل كائناً في أبيه كلية وبكل
معنى.

وهكذا
وبينما هو حالٌ في جسد بشري، محيياً إيَّاه بذاته، فقد كان يمنح الكون كله الحياة
أيضاً دون تناقض، موجوداً في كل عملية من عمليات الطبيعة وفي نفس الوقت خارجاً
عنها جميعاً،
وبينما كان يُدرَك بسبب الجسد الذي يعمل فيه، كان
وليس أقل من ذلك ظاهراً في أعماله التي يعملها في الكون.

… وليس لأنه موجود في العالم معناه أنه يشارك العالم في
طبيعته، بل على النقيض فكل الأشياء تستمد منه حياتها وقوامها.
]([12])

وهكذا
كان العلماء كلهم يتخبَّطون في كيفية خلقة الله للعالم ومدى الصلة التي تربط
العالم بخالقه، فتارة ينحرفون نحو حلول الكلمة “اللوغس” في العالم جوهرياً، وبهذا
يؤلِّهون الكون ويعطونه صفة الأزلية والديمومة، وتارة ينحرفون نحو تنزيه الله
وانعزاله المطلق عن العالم المخلوق، الأمر الذي يحرِّم تصور وجوده الشخصي بيننا
ويبعده عن الخليقة كلها، منزهين إيَّاه عن المادة والحلول بأي صورة كانت في
الخليقة، مما جعلهم يتطلَّعون إلى وسيط للخلقة بين الله المنزَّه عن الخليقة وبين
الخليقة المنحطَّة عن مستوى الحلول الإلهي.

وكل
هذا الخلط والتشويش وقع فيه أريوس وغيره، بينما أثناسيوس كان قد سبق ووضع أُسس
اللاهوت الصحيح في هذا الأمر في كتابيه الصغيرين: “ضد الوثنيين” و“تجسُّد الكلمة”،
ثم أوضح ذلك جدًّا بعد ذلك حيث يمكن تلخيصه في جملة واحدة: إن الله خلق الكون
بكلمته، بالإرادة والقدرة وليس بجوهره، أي ليس من كيانه الذاتي، أي أنه خلقه من لا
شيء. فالعالم قائم ومرتَّب ليس من ذاته بل بسلطان الله، فالله موجود في العالم
بكلمته وبإرادته حسب مسرَّة مشيئته وسلطانه، ولكنه فائق ومنزَّه عنه بجوهره أي
بكيانه الذاتي.

وهكذا
وضع أثناسيوس ولأول مرَّة المصالحة العظمى في لاهوت الخلقة بين الحلول
والتنزيه.

وفي
نفس الوقت وضع أثناسيوس الأصول الأُولى للاهوت الأرثوذكسي في ما يختص بالتمييز
المحدد جدًّا بين جوهر الله الذاتي الداخلي غير المنظور وغير المدرك، وبين
عمله الخِلْقي، وما يتبعه حتماً من إرادة وسلطان وضبط وعناية وتدبير وصلاح وجمال، وهو
المظهر الخارجي المدرَك
في العالم والخليقة، المعبَّر عنه: “بنعمة الله
المجانية العامة”
التي تدبِّر الكون([13]).

ولكن بينما يسقط أريوس ويتعثَّر في العلاقة التي تربط الآب
بالابن، أي الله بكلمته ثم بالخليقة،
معتبراً أن الله خلق اللوغس ليخلق به
العالم، فشوش العلاقة التي تربط الله بكلمته ثم شوش العلاقة التي تربط الخالق
بالخليقة، فأساء بذلك إلى مفهوم الله في ذاته كآب وابن أو كالله وكلمته، وجعلها علاقة معلولة، أي مرتبطة بالخلقة؛ فلولا أن
الله أراد أن يخلق العالم ويخلق الإنسان، ما كان أوجد أو ما كان خلق كلمته!! وهكذا أدخل أريوس بحماقته جوهر الابن الذاتي كمعلول أو
كأداة مؤقَّته
للخلقة([14])!

نقول
بينما يسقط أريوس ويتعثَّر، نجد أثناسيوس يوضِّح أن “كلمة” الله الخالق كان
ولا يزال علة الخلق الأُولى والمباشرة والفعَّالة، وأن كيان “الكلمة” كان
قبل الخلق وأثناء الخلق وبعد الخلق حراً ومستقلاً استقلالاً كلياً عن الخلق وعن
فعل الخلق، وعن تدبير الخلق للعالم والإنسان وكل ما فيه: يقول الهراطقة:

[نحن
لم نُخلق من أجله (الابن) بل هو الذي خُلق من أجلنا، لذلك هو مدين بالشكر لنا!!]

ويعلِّق
أثناسيوس:

[إن
ما يقوله هؤلاء الهراطقة (الابن مخلوق من أجلنا) هو المرض بعينه بل هو التقيُّؤ.]([15])

[ولكن
الحقيقة في هذا الأمر لا ينبغي أن تخفى، بل يلزم أن تعلَن عالياً، لأن كلمة الله
لم يُخلق من أجلنا، بل بالحري نحن الذين خُلقنا من أجله “فإنه فيه خُلق الكل” (كو
16: 1) وليس بسبب كوننا ضعفاءً (بالطبيعة) خُلق هو (الكلمة) قوياً بواسطة الآب
وحده؛ حتى يعيد صياغتنا بواسطته كأداة فليهلك رأيهم هذا
ليس هذا حقا، لأنه بينما ظهر (من سفر التكوين) أن الله لم يجد الأمر حسناً أن يخلق
الأشياء إلاَّ بالكلمة مع الله مساوياً كآب في الابن، هكذا فإن الأشياء التي خُلقت
لم يكن ممكناً أن تظهر إلى الوجود إلاَّ بواسطة “الكلمة” حيث إنها به صارت كما
يحق.

كذلك
فإنه بسبب أن “الكلمة” هو ابن الله بالطبيعة ومساوٍ له بالجوهر وهو منه وفيه قائم،
كما قال هو بنفسه، فإن الخلائق كان يستحيل أن تأتي إلى الوجود إلاَّ بواسطته.]([16])

كما
يستطرد أثناسيوس قائلاً إنه حتى وإذا لم يكن الآب قد خطَّط ليخلق العالم أو شيئاً
مما فيه، فإن “الكلمة” هو مع الله، والآب فيه.

وقد
اعتنى أثناسيوس جدًّا في صراعه مع هرطقة أريوس وفي مواضع عدة من كتاباته، أن يوضِّح
أن علاقة الآب بالابن هي قائمة بذاتها، خلواً من أي تدبير آخر للخلق، أو حتى خلاص
الإنسان، وهذه النظرة العميقة الفاحصة والمحدَّدة المعالم بالنسبة لرؤية الله في
الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس، المستقلة عن أي اعتبار آخر، جعلت
أثناسيوس حراً في نظريته اللاهوتية لكل أعمال الله في الخليقة والخلاص، دون أي خلط
بين الله في ذاته
Theologia، وبين تدبير الله Oikonomia،
بالرغم من شدة الالتحام بين الله وتدبيره؛ واضعاً نصب عينه أن تكون الأولوية
دائماً لله في ذاته على الله في عمله وإرادته([17])!!

وهذا
ردًّا على ابتعاد أريوس عن حقيقة الله، ابتعاداً كان كفيلاً أن يطمس معالم اللاهوت
أو معرفة الله في ذاته، فالله عند أريوس مرتبط
بالخلقة ارتباطاً كيانياً، أي أن الله لا يُعرف إلاَّ كخالق وحسب.

أمَّا
أثناسيوس فيبرز أبوَّة الله، وهي الصفة الجوهرية الذاتية لله في ذاته، فوق وقبل
صفة “الخالق”.

فحينما
نقول إن الله “آب”، فهنا نعني عن الله في ذاته شيئاً أعلى بكثير من علاقاته
بمخلوقاته العامة!!([18])،
والتجسُّد هو الذي كشف لنا عن ذات الله الواحد الآب والابن والروح القدس!
فالأبوَّة هي صفة ذات الله الجوهرية بالنسبة لابنه، وهذه “الأبوَّة” في ذات
الله هي التي انتقلت إلينا بالتبني في المسيح بواسطة التجسُّد والموت والقيامة
بالميلاد في المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس([19])،
أي أننا لمَّا ارتفعنا من مستوى المخلوقات العامة إلى مستوى البنين باتحادنا
بالابن في موته وقيامته تأهَّلنا أن نرتفع من إدراك
الله كخالق بالمستوى الفكري أو الإيمان النظري، إلى إدراك الله كأب، بالمستوى
السرِّي كشركة وحياة.

وأثناسيوس
يُصرُّ على أن الله قبل أن يخلق العالم كان هو آب. وهو آب خلق العالم بالكلمة
حسب مسرَّة إرادته؛ وأثناسيوس هنا يوضِّح أن مفهوم كيان الله الذاتي كآب وابن،
سابق على مفهوم ظهور إرادة الله للخلق، أي أن الله فوق إرادة الخلق، بمعنى
أن كيان ذات الله (جوهره) هو فوق الإرادة الفاعلة في الخلق، وفوق الصفة
المتأتية من الخلق أي الخالق
([20]).

فوجود
الله يُنشئ إرادة الخلق، ولكن إرادة الخلق لا تنشئ وجود الله، فالله موجود بذاته
أولاً، وذاته هي أبوَّة وبنوَّة وروح قدس.

وهنا
أثناسيوس يتكلَّم عن الترتيب بحسب المنطق، وليس بحسب الترتيب الزمني، لأنه لا يوجد
ترتيب زمني في كيان الله وصفاته.

وعند
أثناسيوس يوجد بالأساس نوعان من الصفات الإلهية:

1
صفات ذاتية كيانية في الله، أي تتعلَّق بكيانه ووجوده الذاتي، وهذه
الصفات جوهرية: الآب والابن والروح القدس.

2
صفات أخرى تتعلَّق بأعمال الله، أي بإرادته ومشيئته الذاتية، أو كما
يسميها الكتاب: “مشورة الله”.

وأثناسيوس
يصمِّم على الفصل والتحديد والتمييز بين هذين النوعين من الصفات، ولا يعتبر أن هذا التمييز أو الفصل مسألة منطقية أو عقلية، أي
فلسفية، بل هي في الحقيقة تختص بصميم الإيمان بالله:

§ لأنها تختص أولاً بكيان الله في ذاته، وهذا موضوع العبادة الأول،
والحقيقة العظمى التي استعلنت من جهة ذات الله الآب والابن والروح القدس في
الأسفار المقدَّسة والتجسُّد وحلول الروح القدس.

§ ثم تختص بتوضيح عمل الله بالإرادة في الخلق، حيث هذه الإرادة أو
المشيئة أو المشورة متطابقة للآب كما للابن كما للروح القدس.

ويفرِّق
أثناسيوس بين إرادة الله في الخلق والصفات الجوهرية لله: الآب والابن والروح
القدس، الخاصة بكيان ووجود الله الذاتي. ويعتبر هذه الصفات “واجبة” الوجود،
أو حتمية من حيث إنها أزلية لا تستمد وجودها من آخر، هذا “الوجوب” أو هذه “الحتمية
necessity بالنسبة للوجود الإلهي تعطيه الصفة الجوهرية، لأن الله غير
مختار في أن يختار أو يريد وجوده([21])،
لأنه كائن بذاته حسب تعبير الله عن نفسه لموسى “أنا الموجود بذاتي =
™gè eچmi”.
هنا لا دخل إطلاقاً لأي إرادة في ذلك.

ثم
كان لائقاً بالله أن يخلق، فهذا بحد ذاته تعبير عن وجود الله أو إعلان عنه من خارج
كيان الله. وهو فعل إرادته أو عمل مشورته، وليس امتداداً لكيانه أو جوهره.

وأثناسيوس
يصر على التمييز القاطع بين إرادة الله أو مشورة الله في الخلق وبين علاقة الآب
بالابن، واضعاً حداً مميِّزاً بين “الإرادة” و“الجوهر”. وقد ركَّز أثناسيوس
على هذه الحقيقة بتأكيد وتكرار كثير جاعلاً إيَّاها أساساً لنقض كل ادعاءات
الهرطقة الأريوسية. أن “يكون الله”، هذا شيء؛ وأن “يعمل الله”، هذا
شيء آخر!

فالخلق Creation هو من عمل الإرادة الذاتية، وهو للآب كما للابن كما للروح القدس، ونتيجته
مخلوقات، أي أعراض خارج الكيان الذاتي لله. أمَّا أبوَّة الله للابن
Generation فهي من كيان وجود
(جوهر) الله الذاتي([22]).
وهذه الأبوَّة هي من ذات كيان الله، في ذات كيان الله.

ولكي
يدلِّل أثناسيوس على الفرق والتمييز بين علاقة الله بالعالم المخلوق وبين العلاقة
الجوهرية بين الآب والابن الخارجة والبعيدة عن مفهوم الخلقة، يأتي بتشبيهات كثيرة
من الأسفار تختص بهذه العلاقة ويكشف منها أسرار الله.

1 في حديثه ضد الأريوسيين 19: 1:

[من
صفات الله الهامة في الأسفار المقدَّسة، أنه “ينبوع الحكمة”. ومن صفات
المسيح ابن الله الهامة، أنه “حكمة الله”.

فالآن
إذا نحن أخذنا بقول الأريوسيين أنه كان يوجد وقت لم يكن فيه الابن موجوداً، فهذا
يعني بالضرورة أن الينبوع كان في وقت ما فارغاً وجافاً، أو بالحري لم يكن ينبوعاً
بالمرَّة!؟ لأن الينبوع الذي لا ينبع منه شيء ليس هو ينبوعاً بالمرَّة].

هذا
هو التشبيه المحبوب عند أثناسيوس والذي يكرِّره باستمرار في حديثه ضد الأريوسيين.

كذلك
في الحديث الثاني الفصل الثاني يقول:

[إذا لم يكن “الكلمة” هو الابن الحقيقي لله، فالله لا يكون
أباً قط بل صانع مخلوقات وحسب!!]

وهنا يبدأ أثناسيوس ليُدخل ألفاظاً مستمدة من مفهوم الأوصاف
الواردة في الأسفار، إنما جديدة وبرَّاقة ومثيرة في وصف الأهمية العظمى والمطلقة
لوجود الآب والابن في الكيان الذاتي الواحد لله. فيقول:

[إذا
فرضنا خلو الطبيعة الإلهية من وجود البنوَّة في الله فهذا يطفئ جذوة
الطبيعة الإلهية، ويجعلها عقيمة غير وهَّاجة غير مخصبة، مجدبة،
ينبوعاً جافاً].

مجدبة (غير مخصبة)

غير مثمرة (عقيمة)

(جذوة مطفأة) نور بدون نور

ينبوع جاف

شمس بلا شعاع (غير وهَّاجة)([23])

œrhmoj

m¾ karpزgonoj

وj fîj m¾ fètizon

phg¾ xhr¦

¼lioj cwrˆj toà ¢paug£smatoj

هذه
الصفات خاصة بذات الله وكيانه وطبيعته أي جوهره فقط ولم
يستخدمها أثناسيوس قط من جهة عمل الله في الخلقة أو الكون.

2 في حديثه ضد الأريوسيين 20: 1:

[الله لا يمكن أن يكون بدون ما هو له في أي لحظة، هذا في ما
يخص ذات الله أي الأبوَّة والبنوَّة.

وفي
نفس الوقت لا يمكن أن ترقى المخلوقات إلى شيء مما لجوهر الله أو تتواصل بكيانه
الذاتي. فهي إنما تبقى دائماً خارج كيان الله
œxwqen aظtoà لأنها إنما أخذت وجودها وكيانها بنعمة وإرادة “الكلمة”، “لذلك فهي
قابلة أن تتوقَّف عن الوجود إذا رغب خالقها في ذلك، لأن هذه هي طبيعة الأشياء
المخلوقة”.]([24])

وهنا
يقارن ويميِّز أثناسيوس بين “وجوب” أو “حتمية” الكيان الإلهي في ذاته الذي يحمل
الآب والابن، وبين “عدم حتمية” كيان العالم المخلوق والمنضبط تحت إرادة وسلطان
الله، وبالتالي “وجوب” وحتمية صفة الأبوَّة في الله غير الخاضعة للإرادة أو
المشورة، وعدم حتمية الخلقة الخاضعة للإرادة والمشورة.

وهي
مقارنة بين كيانين:

أبدي، وزمني،

واجب الوجود، وغير واجب الوجود،

ثابت، ومتغيِّر،

مطلق، ومحدود.

[وكما
أنه يمكن أن يُقال عن إنسان ما إنه خالق أو خلاَّق (مبدع) قبل أن يخلق أو يبدع
شيئاً، في حين أنه لا يمكن أن يقال عنه إنه “أب” قبل أن يكون له ابن،

كذلك فإن الله يمكن أن يوصف بأنه خالق قبل أن يباشر إرادته
بالخلق، أي قبل أن يكون العالم، لأنه من فعل إرادته.

فالله بالرغم من أنه كان قادراً أن يخلق العالم منذ الأزل،
ولكن الحقيقة أن الأشياء المخلوقة يستحيل عليها أن توجد منذ الأزل لأنها خُلقت من
العدم، وتبعاً لذلك وبالضرورة لم توجد قبل أن يوجدها الله من العدم!!

إذن فكيف أن الأشياء التي لم توجد قبل
أن يخلقها الله يمكن أن تكون أزلية مع الله؟
]([25])

ولكن، في نظر أثناسيوس، هذه المحدودية والضعف في طبيعة
المخلوقات لا تحط قط من قدرة
خالقها وإنما
هي المقارنة بحد ذاتها بين وحدة الطبيعة الذاتية
الأزلية لله وبين التباين والتعدد والتغيير
في طبيعة
المخلوقات الوقتية هي التي رفعت من عظمة الطبيعة الإلهية وأنزلت من قيمة الطبيعة
المخلوقة.

ومن
هذا التسلسل يرى القارئ أن الهدف الأساسي من دفاع القديس أثناسيوس على مدى الثلاث
مقالات المطوَّلة ضد الأريوسيين، كان يتركَّز بقوة نحو إعطاء المفهوم اللاهوتي
الكامل والصحيح عن سر الله في كيانه الذاتي “كآب وابن وروح قدس”، باعتباره
سر العبادة الأعظم “الثلاثة في واحد”، محاولاً كل جهده أن يجعل حقيقة الله
هذه واضحة مدركة بحد ذاتها خلواً من أي عمل آخر لله في الخليقة.

والإنسان
لا يسعه وهو يدرس دفاع أثناسيوس فصلاً بعد فصل، إلاَّ أن يدخل بالفعل في تأمُّل
الحياة الإلهية في الله ذاته، حيث لا يجد الإنسان أي صعوبة في التعرُّف على الفارق
الجذري بين الله والمخلوق أو بين صفة الله في ذاته وصفة الخالق بحد ذاتها، حيث
يبدو التفوُّق للذات الإلهية مطلقاً بالدرجة التي يبدو فيها الله في غير حاجة إلى
خليقته، لا لشيء إلاَّ لأن كيانه الذاتي كامل ومتكامل في ذاته، أمَّا هذا الكيان
الذاتي لله فهو نفسه المستعلن لنا في الثالوث([26]).

ولكن
في كل ذلك لم يغفل أثناسيوس عن أن يعطي سر الخلق المقترن بسر الكيان الإلهي أهمية،
باعتباره عمل “التدبير الإلهي”، وهكذا يبتدئ أثناسيوس وينتهي عند التمييز بين سر
“اللاهوت
Theology” و“التدبير Economy”، وكان هذا التمييز هو الدافع الأساسي وراء تعرُّض أثناسيوس لسر
الخلق بالحديث المطوَّل في أول بحث عمله في حياته في كتابه “ضد الوثنيين”، تمهيداً
للوصول الصحيح إلى مركز الكلمة المتجسِّد من اللاهوت.

لأن
التمييز بين “الوجود” و“الإرادة”، “الأبدي” و“الزمني”، “المطلق” و“المحدود”، الوجود
الإلهي في ذاته وبين الإرادة الإلهية في الخليقة الزمنية، ينشئ في الحال تمييزاً
وتفريقاً بالتالي بين كيانين، كيان الله الذي فيه الآب والابن وكيان المخلوقات، أي
الكيان الثابت الداخلي لله في ذاته، وكيان الخلق غير الثابت المخلوق والمضبوط
بالإرادة وبسيادة الله المطلقة الذي له بداية، ويتحرَّك بقوة الله
نحو نهاية محسوبة سابقاً حيث يستحيل أن يُنسب الابن للكيان الخارجي.

ثم
على هذا الأساس بدأ أثناسيوس يفسِّر عملية الفداء التي بدأت بتجسُّد ابن الله، على
أساس تحويل الخليقة (البشرية) من كيان التغير والفساد والتحرُّك بدون
الله نحو العدم، إلى الكيان الثابت غير الفاسد غير المائت للحياة
الأبدية التأله مع الآب والابن والروح القدس.

وهنا
يعترف أعاظم اللاهوتيين([27])
أن أثناسيوس كان أول لاهوتي في العالم يميِّز تمييزاً متقناً ومحكماً ومدروساً،
ولأول مرَّة في تاريخ الفكر البشري، بين “الوجود الإلهي الذاتي” و“الإرادة
الإلهية في الخلق”،
حيث لم يقدِّمه أثناسيوس للعالم كنتاج فكري هادئ منهجي
كنظرية، ولكن أطلقه كصيحات دفاع واحتجاج من
وسط أتون معركة محتدمة مع هراطقة أشرار، يدفعهم الحقد
ويناصرهم إمبراطور
وجيش يجري وراءه يطلب حياته، دون أن يكون له فرصة للتأمُّل، مما أضاف إلى هذا الفكر اللاهوتي صدق وحرارة الإيمان وصفاء
الرؤيا
دون أي اتقان للمظهر المنهجي في
التصنيف.

ولكن
في ختام عرض هذا الفكر الزاخر والقدرة اللاهوتية التي وهبها الله لأثناسيوس بنعمة
فيَّاضة، معلناً عن سر الثالوث في كيان ذات الله، وكاشفاً عن حدود فعل إرادة
الخلق في العالم؛ يؤسفنا أن يبدأ اللاهوتيون باستخدام هذا التمييز بين “الوجود
الإلهي”
أي جوهر الله في ذاته وبين “الإرادة الإلهية في خلق العالم”، في
غير موضعه إطلاقاً، مخترعين اصطلاحات جديدة مثل “الطاقة غير المخلوقة” و“النور غير
المخلوق”، وبنوا عليها نظريات ونظريات؛ مع أن هذا التمييز، ما أراد منه أثناسيوس
أصلاً إلاَّ دحض ادعاء الأريوسيين الذي يقول بجهالة إن الله خلق الابن بالإرادة،
ليكون وسيطاً للخلق، فردَّ عليه أثناسيوس أن إرادة الخلق إنما تعمل فقط في
غير مجال الوجود الإلهي وخارجاً منه، فإرادة الخلق لا تستمد من جوهر
الله عنصراً ما جديداً لخلق العالم أو لخلقة أي مخلوقات كانت،
فكل الخليقة
ليست من جوهر ذات الله وبعيدة بعداً لا نهائياً ومطلقاً عن كيان الله الداخلي
الذاتي، والله لم يكن محتاجاً إلى وسيط يخلقه أولاً بالإرادة لكي به يخلق العالم،
فالابن هو من جوهر الله وكيان ذات الله، والله “كأب وابن” خلق العالم بالإرادة
المباشرة، بل وخلق الإنسان الجديد بنفس الإرادة، مستشهداً في موضع ما بيعقوب
الرسول: «شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه». فإذا رجعنا
إلى النص اليوناني نجده هكذا: “أراد ذلك أولاً،
boulhqe…j فولدنا بكلمة الحق lصgJ ¢lhqe…aj” أي أن الآب ولدنا بالكلمة بحسب إرادة سابقة وأن هذه الإرادة
واحدة بين الآب والكلمة لأنها سابقة على الزمن “مخلوقين في المسيح يسوع”
“اختارنا فيه قبل تأسيس العالم”.

ولكن
عندما تجسَّد الابن وأكمل فداءنا، فتح أرواحنا على كيان الله وفتح كيان الله
علينا، فأدركنا ما لا يُدرك وانكشفت لنا أعماق الله في المسيح بروح الله.

فأصبح
الكيان الإلهي والإرادة الإلهية ملتحمين ومستعلنين معاً في المسيح، وبالتالي فينا
بواسطة المسيح، فكل إرادة إلهية أو طاقة أو قدرة أو نور إلهي إنما تعمل فينا الآن،
من خلال كيان المسيح الإلهي وبإرادته الإلهية معاً.

وعليه
فإنه لا يصح أن يُقال: “قدرة غير مخلوقة” وحسب و“النور غير مخلوق” وحسب، باعتبارها
طاقات منفصلة عن كيان الله من جهة وليست من كيان الخليقة من جهة أخرى وبآن واحد،
هذا ما لم يقصده أثناسيوس قط وهو لا يمكن أن يكون.

وأثناسيوس
يؤكِّد أن حلول الله أو حضوره المحب في صميم العالم لتدبيره المستمر له من داخل
الطبيعة لا يتبع “الكلمة” أي الابن من دون الآب، ولكن هو في حقيقته تدبير الله من
خلال كلمته، أي بواسطة ابنه، أو بتعبير شامل الله يدبِّر العالم بنفسه([28]).

كذلك
فإن أثناسيوس يعترض على تنزيه الله عن حلوله في الخليقة، كما فعل الأريوسيون، حيث
أعطوا الله من التعظيم والتكريم ما يكفي ليبعده عن العالم المخلوق عن خبث، ليقصوا
الله عن الابن المتجسِّد (بجسد مخلوق)، حتى يحرموا أنفسهم وكل مَنْ يتبعهم من
الخلاص الأبدي. ولكن أثناسيوس يعيد تصحيح
علاقة الله بالعالم، فالله قريب بالحلول وليس بعيداً بالتنزيه عن أحد
قط
([29]).

والعالم،
وعلى الخصوص النفس البشرية يعكسان صورة خالقهما([30]).
لذلك فهناك طريقان للإنسان لكي يبلغ بهما معرفة الله: الأول هو كتاب الكون([31])،
والثاني التأمُّل في معرفة الإنسان لنفسه
([32]).

ولكن
الطريقين قد تعتَّما معاً أمام رؤية الإنسان بسبب الخطية التي حجبت الإحساس بالله
وعتَّمت قوة الإدراك والإبصار، لذلك تحتم إيجاد طريق آخر حديث يتجاوز عجزنا
الفاضح أو يرفعه عنَّا، وهذا تمَّ بالفعل في التجسُّد
الله
ظهر في الجسد
الذي به صار لنا طريقٌ حيٌّ جديدٌ للدخول إلى
الله، فائق عن المستوى المعقول للإنسان أو المنظور له،
فلا بالتأمُّل في
الخليقة ولا بمعرفة النفس الآن، ولكن بالإيمان بدم المسيح الذي يقرِّبنا إلى
الله بلا أي مانع لقبول نعمة الله وحبه وأبوَّته الصافحة الفائقة، متجاوزاً الخطية
ورافعاً عقاب الموت!

وهكذا
يختط أثناسيوس خطاً خلاصياً جديداً في اللاهوت لإدراك الله لا بالمعرفة بأمور
الخليقة أو بالفلسفة في ما وراء الطبيعة، ولكن بالإيمان بالمسيح شخصياً، مصحِّحاً
العلاقة القائمة بين الله والخليقة التي عثر فيها الأريوسيون، وواضعاً أساساً
جديداً يربط ربطاً محكماً بين الله والخليقة والتجسُّد والفداء.

 

ملخَّص الفصل السابع

أولاً: معرفة الله في ذاته، ومعرفة الله في الخليقة

 

§ أصرَّ أريوس على أن طبيعة الله غير قابلة للحلول أو الاتصال بأية
خليقة مادية. فكيف يتدانى الله ليخلق لأن الخلق يستلزم الاتصال بالخليقة
لذلك فإن الله اضطر أن يخلق الكلمة (اللوغس) من لا شيء لكي يكون وسيطاً لله
المتعالي، لخلقة العالم المادي.

§ كان ردّ أثناسيوس أن الله خلقنا بإرادته وبقوة كلمته، ولكنه لم
يخلقنا من طبيعته. فوجودنا ليس مستمداً من جوهر الله، ولكنه بإرادته ونعمته خلقنا
من العدم.

l فالوجود
المادي كله يعتمد على نعمة الله ومسرَّة إرادته.

 l كذلك النفس البشرية قابلة للموت بطبيعتها لأنها مخلوقة، ولكنها تعيش وتحيا
بنعمة الله.

l الخليقة هي
الاستعلان الظاهري المدرك لطبيعة الله غير المدركة.

§ رأي أوريجانوس:

 l يشط
أوريجانوس في التفكير فيربط بين أزلية الله والخليقة، فالخليقة لابد أن تكون أزلية
مع أزلية الله.

§ وقاده هذا المفهوم الخاطئ إلى القول بأزلية النفس
أيضاً (كطبيعة ثابتة فيها)، بل والأخطر من ذلك قوله بوجود الصلة المنطقية بين
“ميلاد الابن” الأزلي وبين وجود العالم منذ الأزل، دون انفصال.

§ وهكذا وضع أوريجانوس الابن مع المخلوقات.

ثانياً: أثناسيوس والخلق

 

يتلخَّص فكر أثناسيوس بخصوص هذا الموضوع في ما يأتي:

1
الفارق الهائل والجوهري بين الله والخليقة:

 wفالله كائن بذاته، موجود غير متغيِّر، غير خاضع للزمن وبالتالي غير قابل
للموت أو الفساد.

w والعالم مخلوق مستمد من إرادة الله، متغيِّر، ومعرَّض للفساد.

2
أي ترتيب يظهر في العالم المخلوق أو أي نظام أو جمال، هو مضاف إلى
العالم بيد خالقه. «فالكلمة» يضبط الخليقة كلها معاً بحسب مشيئة الله.

3
يعارض أثناسيوس فكرة “الحلول الإلزامي”. فكلمة الله لا يحل في جوهر
الأشياء المادية كعلة لوجودها ودوامها، ولكنه يضبطها تلقائياً من الخارج بالإرادة
والنعمة وليس كالتزام.

4
العالم مخلوق بأمر الله، من لا شيء، ووجوده مستمر بفضل هذا الأمر
عينه، والإنسان يشارك العالم في هذا الوجود، وهو بطبيعته قابل للموت والفساد،
ويستحيل عليه أن يفلت من هذا المصير إلاَّ بنعمة الله وشركة اللوغس.

5
“اللوغس”، الذي هو ابن الله الوحيد لا يوجد بينه وبين
المخلوقات أي تشابه طبيعي، فاللوغس موجود في العالم، وجود المحرِّك الفعَّال
المحيي، أي أنه موجود بقوته وقدرته، أمَّا جوهره (كيانه الذاتي) فهو فائق عن كل ما
في العالم المخلوق. وهكذا صالح أثناسيوس في لاهوته، بين الحلول الفعَّال وبين
التنزيه الجوهري.

6
أثناسيوس أوضح أن “كلمة الله” الخالق كان ولا يزال علَّة الخلق
الأُولى والمباشرة والفعَّالة، إلاَّ أن كيان الكلمة يظل مستقلاً كلياً عن الخلق
وعن فعل الخلق، قبل الخلق وأثناء الخلق وبعد الخلق.

§ أمَّا علاقة الآب بالابن فهي قائمة بذاتها، خلواً من أي تدبير آخر
للخلق أو حتى خلاص الإنسان.

فلا
خلط بين الله في ذاته
Theologia، وبين تدبير الله في الخلق والخلاص Oikonomia.

هذه
العلاقة بين الآب والابن سابقة على مفهوم ظهور إرادة الله للخلق.

7
وجود الله هو الذي يُنشئ إرادة الخلق، وليس العكس. أي أن إرادة الخلق
لا تُنشئ وجود الله. فالله موجود بذاته منذ الأزل، وذاته هي أُبوَّة وبنوَّة وروح
قدوس.

8
هناك نوعان من الصفات الإلهية المتمايزة:

(أ)
صفات ذاتية كيانية في الله، وهي الصفات الجوهرية: الآب والابن والروح القدس.

(ب)
صفات أخرى تتعلَّق بأعمال الله، أي بإرادته ومشيئته الذاتية، ويسميها الكتاب: “مشورة الله”. وهي تُستعلن في الخلق والتجسُّد وحلول
الروح القدس والأسفار
المقدَّسة.

والصفات
الجوهرية لله واجبة الوجود، أمَّا الأخرى فهي لائقة بالله كإعلان أو تعبير عن وجود
الله من خارج كيانه. فالخلق مثلاً هو فعل إرادته وليس
امتداداً لكيانه أو جوهره.

أدلة أثناسيوس
على الفرق بين علاقة الله بالعالم المخلوق

وبين العلاقة الجوهرية بين الآب والابن والروح القدس:

1
من صفات الله في الأسفار المقدَّسة، أنه “ينبوع الحكمة”. ومن صفات
المسيح ابن الله أنه “حكمة الله”. فإذا كان هناك وقت لم يكن فيه الابن موجوداً،
فهذا يعني أن الينبوع كان في وقت ما فارغاً وجافاً!

2
لا يمكن أن ترتقي المخلوقات إلى شيء مما لجوهر الله، أو تتواصل
بكيانه الذاتي. فهي إنما تبقى دائماً خارج كيان الله، وهي قابلة أن تتوقَّف عن
وجودها إذا رغب خالقها في ذلك.

فهناك
فرق بين الكيان الإلهي، وكيان العالم المخلوق:

الأول

: أبدي

،

والثاني

: زمني

 

: واجب الوجود

،

 

: غير واجب الوجود

 

: ثابت

،

 

: متغيِّر

 

: مطلق

،

 

: محدود

3
الله خالقٌ حتى قبل أن يباشر إرادته بالخلق، ولكن الخليقة التي خُلقت
من العدم يستحيل أن تكون أزلية قبل أن يخلقها الله.

هدف أثناسيوس من دفاعه بالنسبة لعلاقة الله بالخلق:

1
لإعطاء المفهوم اللاهوتي الكامل عن سرّ الله في كيانه الذاتي “كآب
وابن وروح قدوس”، باعتباره سر العبادة الأعظم “ثلاثة في واحد”.

2
لتوضيح الفارق الجذري بين الله في ذاته وبين المخلوق وصفة الخلق بحد
ذاتها، حيث يبدو الله كاملاً ومتكاملاً في ذاته، متفوِّقاً على الخليقة.

3
لتوضيح أن سرّ الخلق غير سر الكيان الإلهي باعتبار الخلق هو عمل
“التدبير الإلهي”.

4
لإثبات أن عملية الفداء التي بدأت بتجسُّد ابن الله، كانت لتحويل
الخليقة البشرية وهي متغرِّبة عن الله من كيان التغيُّر
والفساد والتحرُّك نحو العدم، إلى الكيان الثابت غير الفاسد غير المائت للحياة الأبدية بالاتحاد بالله (التألُّه)
مع الآب والابن والروح
القدس.

وأثناسيوس
يعيد تصحيح علاقة الله بالعالم وذلك “بالتجسُّد” الذي أكمله في ابنه، إذ صالح به
الحلول بالتنزيه، الحلول الإلهي الفعَّال والتنزيه الجوهري، إذ أصبح الكيان الإلهي
(الجوهر) والإرادة الإلهية الفعَّالة، ملتحمين ومستعلنين معاً في المسيح. والله
بتجسُّده أعدَّ لنا طريقاً حيًّا جديداً للوصول إلى الله، فائقاً عن المستوى
المعقول للإنسان أو المنظور له، فلا بالتأمُّل في الخليقة ولا بمعرفة النفس الآن،
ولكن بالإيمان بدم المسيح الذي يقرِّبنا إلى الله بل يوحِّدنا به بلا أي مانع،
لقبول نعمة الله وحبه وأبوَّته الصافحة الفائقة متجاوزاً الخطية ورافعاً عقاب
الموت ومغيِّراً الفاسد إلى عدم الفساد.



اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى