علم الكتاب المقدس

ملك المسيح وعهد الكنيسة



ملك المسيح وعهد الكنيسة

ملك
المسيح وعهد الكنيسة

(الأعمال
والرسائل والرؤيا)

آخر
الأزمنة أو عهد الكنيسة

مقدمة

وكما
أن يسوع المسيح بقي مجهولاً بين الناس، كذلك حقيقته تبقى دون ميزة ظاهرية بين
المعتقدات العادية. وهذه هي حال خبز المناولة بالنسبة إلى الخبز العادي.

 

يشير
صعود المسيح، كما رأينا، إلى دخوله في ملكه. إنه يفتتح مرحلة جديدة وأخيرة في
تاريخ البشرية. وهذه المرحلة يحدّدها بولس الرسول في نطاق الزمن عندما يعلن أن
المسيح سيملك (حتى يضع أعداءه موطئاً لقدميه..) (وبعد ذلك المنتهى، عندما يسلّم
المُلكَ لله الآب بعد إبطاله كل رئاسة وكل سلطان وكل قوة) (1كور20: 15- 28). لأن
المسيح يقوم بدور الوسيط الذي ينتهي بعد إتمام المصالحة، فيكون الله قد صار (الكل
في الكل).

 

ويمكن
تمييز وقتين اثنين أساسيين في وساطة المسيح:

 

1-
إن المسيح قد حمل على عاتقه دينونة العالم بتجسده الإلهي وموته على الصليب. لقد قهر
(الرئاسات والسلاطين) أي كل القوى المعادية، التي تثور على سلطان الله. وإذا
استخدمنا عبارة بولس الرسول القوية قلنا معه إن المسيح قد (جرّدها وشهرها جهاراً
بانتصاره عليها بالصليب) (كولو 15: 2).

 

وهذا
الانتصار حاسم بمعنى أن الحكم على الشيطان وأتباعه كان حاسماً. وهو حاسم كذلك،
بمعنى أن المسيح بقيامته المقدسة قد غلب الموت في شخصه وصار (باكورة الراقدين)
(1كو 20: 15- 21) وعربون قيامة المختصين به في اليوم الأخير (عدد23). كما أن الله
الآب في رفعه إياه جعله من عن يمينه قد أعطاه الآن كل سلطان في السماء وعلى الأرض
(مت18: 28). وهذا ما تعنيه بالضبط عبارة (جلس عن يمين الآب) التي تتردد كثيراً في
الكتابات الرسولية.

 

يسوع
إذن شرعاً وحقاً ملك السماء والأرض، وإن كان قد ترك للسلطات المعادية في الواقع
بعض المجال للعمل. إن ملكه فترة انتقال بين العالم القديم، قبل مجيئه، وبين ملكوت
الله. ولذلك يدخل في الأزمنة الأخيرة.

 

2-
لكن تدخلاً مباشراً ثانياً من المسيح في منازعات الأرض سيسبق القيام النهائي
لملكوته، وهو مجيئه الثاني. فسيأتي المسيح وستكون المعركة الأخيرة. وهنا يذكر سفر
الرؤيا أنه سيقوم مُلكٌ يدوم ألف سنة، ينتقل بعده السلطان للمرة الأخيرة إلى
الشيطان كي يغري الأمم (رؤ20)، ومن ثم يأتي وقت زواله، ويتبعه تشييد سماوات جديدة
وأرض جديدة (رؤ21).

 

عند
هذا الحد ينتهي عمل المسيح كوسيط ولم يعد من مبرر لاستمرار السلطان الذي أعطي له
لكي يعيد العالم إلى الطاعة لله الآب. إلا أن هذا لا يعني أن شخص الوسيط يزول. لأن
مجد الرب يشرق على أورشليم الجديدة وسيكون الحمل سراجها (رؤ23: 21 و15: 11).

 

وتجرد
الملاحظة أيضاً أن عمل الابن كوسيط لا ينحصر بعملية افتداء عالم الخطيئة. لأنه
(فيه) و(به) كُوّن العالم (كولو 12: 1- 16 وعبر 2: 1- 4 ويو 1: 1- 3). وأيضاً يلعب
دوره في الخليقة الثانية (رؤ 12: 1- 18 و5 و6: 19- 16 و1: 21- 7 و17: 22).

 

وقد
وصف بولس الرسول بوضوح عجيب دور المسيح بالنسبة لأبيه السماوي فقال: (لنا إله واحد
الآب الذي فيه جميع الأشياء ونحن له، ورب واحد يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء
ونحن به) (1كور 6: 8). وأيضاً: (اختارنا فيه الآب من قبل إنشاء العالم لنكون
قديسين وبغير عيب أمامه بالمحبة سابقاً محدداً إيانا للتبني له بيسوع المسيح على
حسب رضى مشيئته لحمد مجد نعمته التي أنعم بها علينا في الحبيب) (أفسس 4: 1- 6).

 

فيسوع
المسيح هو الابن المختار قبل الأزل الذي فيه تُعلن لنا دعوتنا الحقيقية من حيث
أننا أبناء مخلوقون على صور الله. ولأن الله الآب يرانا فيه، لا كما نحن بل كما
سيحوّلنا هو، فقد خلقنا واحتملنا وهو يغفر لنا. وبه سندخل يوماً بصورة نهائية (إلى
ملكوت محبته). وفيه فقط يمكننا أن نخاطب الله الآب قائلين: (يا أبا الآب) (غلا 4: 4-
6 ورو 11: 8- 16).

رأينا
أن يسوع المسيح منذ صعوده إلى السماء صار سيد العالم. غير أن سيادته تبقى مستترة
عن أعين الناس لأنها موضوع إيمان فقط، كما كان هو كذلك أثناء وجوده على الأرض.
والكنيسة هي المكان الذي فيه يعترف أناس بسيادته هذه ويرون بها. وإذا لزم تحديد
وظيفة الكنيسة قلنا إن وظيفتها هي الإعلان عن السيد إلى أن يجيء (1كو26: 11).
وغاية بشارتها هي تمهيد السبيل لمجيء السيد (2بط 12: 3). فإن سيادة يسوع المسيح
وقدرة صليبه الخلاصية يجب أن يبشرا بهما إلى أقاصي الأرض. آنئذ فقط تأتي النهاية
(مت14: 24 وأع 4: 1- 8).

 

وتعيش
الكنيسة تحت علامة المُلك المنتظر، وهي موجودة في الإيمان بالرب الناهض من الأموات،
وفي انتظار مجيئه الثاني. كما وأنها تشارك في الخليقة الجديدة منذ الآن بمعمودية
الروح القدس، هي (جسد) المسيح الذي رأسه في السماء، الجسد الحي الذي يديره هو ويحييه
بروحه القدوس. فطبيعتها إذاً مزدوجة فمن ناحية هي تشارك حياة الله بالروح القدس،
ومن ناحية ثانية هي تشارك العالم الحاضر بالمادة التي منها تتألف وتبقى جماعة من
البشر الخطأة.

 

ويمكننا
القول أيضاً وبمعنى ما إن سر التجسد الإلهي يستمر فيها من حيث أنها الجسد المنظور
على الأرض للسيد الغير المنظور الذي يملك في السماوات.

 

ولقد
رأينا كيف أن الله تنازل فقبل أن تدّوي كلمته الإلهية من خلال عجز الكلمات البشرية،
كما رأيناه يتنازل ويتخذ لنفسه صورة بشرية مقنعاً ألوهيته بقناع العبد المتوجع
المصلوب. وها نحن نراه يتنازل للمرة الثالثة فيسمح بأن تمثله هيئة المؤمنين
العاجزة الخاطئة – أي الكنيسة – على الأرض، وأن تنطق، وتحكم، وتتنبأ باسمه. وقد
يكون هذا التنازل الأخير التنازل الأكثر تحييراًً لحكمتنا البشرية. والحقيقية ألم
تضمَّ فئة الاثني عشر منذ ذلك الحين خائناً وجاحداً؟ فاعتراف بطرس ونكرانه يضمان
في طياتهما عظمة الكنيسة، وبؤسها. فهي من ناحية جسم مؤلف من مجموعة خطأة، ولكنه من
ناحية أخرى يحييه الروح القدس. إنه جسم يشارك في الدينونة لأنه من الأرض، ولكن له
وعود الحياة الأبدية لأنه جسد السيد الممجد.

 

إذاً
سيستمر يسوع في كونه مصلوباً في ذويه لأنهم خطأة يدقون بجحودهم وفتورهم مسامير في
جسده بدون انقطاع، وليس فقط لأنهم سيقاسمونه عاره ويحتملون ضربات العالم.

 

لماذا
يا ترى اختار ربُّ المجد مجدّداً عجز الجسم البشري لكي يُعلن عن نفسه؟ ولماذا جعل
الإيمان صعباً إلى هذا الحد بالنسبة إلى العالم الذي يرانا نعيش نحن المؤمنين؟ هذا
كله يبقى من أسراره. ويكفينا أن نعرف بأنه قَبِل هذا التنازل الأخير الذي لا يفوقه
تنازل، وأننا لنحسُّ أنفسنا مشدودين إلى الكنيسة لهذا السبب مهما كانت مسكينة
ومهما خيّبت من الآمال. (ومن منّا لم يعثر يوماً ويتحيّر أمام مشهد الكنيسة
المنظورة في سقطاتها وضيق تفكيرها أو انقساماتها؟). وكيف نتجرأ أن نتنكر لتلك التي
اختارها يسوع وأحبها (أفسس 25: 5). إنها تتبنى حقارتنا الشخصية كما تبنى المسيح
حقارتها هي. ونحن معها وفيها تحت حكم الله، وتحت نعمته، وفيها وبها تغفر لنا
خطايانا (أع 38: 2 ومت19: 16 و18: 18- 20 ويو23: 20). لأنه ألبسها، بالرغم من عدم
استحقاقها وبصورة عجيبة تتجاوز الفهم البشري، السلطات الإلهية الكاملة (لو16: 10).
فأعطاها مفاتيح الملكوت، ووكل إليها القيام برسالة المصالحة (2كور 4: 4- 6 و11: 5-
21)، وصارت سفيرته إلى دنيا الناس. غير أن عظمة الرسالة تتجلى في عجز الرسول لكي
(لا يفتخر كل ذي جسد أمام الله) (1كور 26: 1- 31 و2كو 7: 4- 18 و4: 6- 10 و1: 12-
10).

 

ولما
كانت الكنيسة جسد المسيح المنظور صار من الطبيعي أن تتلقى هجمات العالم كما تلقاها
يسوع المسيح ذاته (يو18: 15- 20). وقد طلبها إبليس ليغربلها كالحنطة (لو31: 22).
وصار عليها أن تثبت (حتى الدم) (عبر12). ولكن هذه المعركة ستخوضها متدرعة بقوة
الناهض من الأموات واليقين بالظفر الحاصل مسبّقاً (رو 31: 8- 33 وفيلبي 7: 3- 11)
وبالظفر الأخير الذي هو غاية انتظارها وغاية رجائها (2تي 11: 2- 12).

 

أما
العار الذي ستحتمله من أجل يسوع فهو في الوقت ذاته علامة للاتحاد الوثيق به والشرط
لهذا الاتحاد. لأن على الجسد أن يواصل الجهاد الذي خاضه الرأس ضد القوات المعادية
لله (كولو 24: 1). وهذه المعارك لا يُنكر يسوع ولا رسله بأنها ستزداد حدّةً حتى
المعركة الكبرى الأخيرة، بل يكتفون بالتأكيد بأن القول الفصل فيها سيكون لله. وهذا
هو المعنى الأخير للرؤيا العظيمة في سفر يوحنا اللاهوتي.

 

إن
أول سفر من العهد الجديد وآخر سفر يختصان بصورة جد خاصة بالمسيح الملك إلا أن
الأول يتحدث عن مجده المستتر والثاني عن مجده الظاهر.

 

أما
الزمن الذي يفصل بين المجيئين فهو زمن الكنيسة وزمن الرسالة، (زمن صبر الله)، وهو
المهلة الأخيرة التي تُعطى لعالمٍ مقضي عليه لكي يقبل برسالة القيامة.

 

دخول
المسيح في ملكه وميلاد الكنيسة (سفر الأعمال)

الموجز

1-
الصعود: ارتفاع يسوع وجلوسه عن يمين الله

معنى
الصعود: دخول يسوع ملكه (لو50: 24- 53 وأعمال 9: 1- 11). الموعد الذي يتضمنه
الصعود بالنسبة للكنيسة (1كو20: 15 وأفسس 8: 4- 10):

 

آ-
التبديل الحاصل في علاقات يسوع مع تلاميذه: سجودهم له كربهم وإلههم (لو52: 24
ويو28: 20).

 

ب-
معنى عبارة (ارتفع وجلس عن يمين الله) (مزمور110 وأعمال 22: 2- 36 ومر62: 14 ورو
34: 8 وأفسس 20: 1 وعر 3: 1 ومتى18: 28).

 

ج-
الشمول الكوني لانتصار يسوع المسيح: التغلب على (الرئاسات والسلاطين) (كولوسي 15: 2
و1بطرس 22: 3 وأفسس 20: 1- 23 و1كور20: 15- 28). إن مجده متناسب تناسباً طردياً مع
انسحاقه وبذل ذاته (في 5: 2- 11 ويو 13: 3- 16 و27: 12- 33 و1: 17- 5).

 

د-
يسوع فوق الملائكة، هو كاهن العهد الجديد وملكه (الرسالة إلى العبرانيين وخاصة
الإصحاحات 1، 2، 3، 4، 5، 8، 10). يسوع الشفيع والمسؤول عنا أمام الله (عبر 4 و5
ورو 33: 8- 34).

 

ه-
الوعد الذي يحويه الصعود: اشتراك الكنيسة في المجد والدينونة والملك (لو28: 22- 30
و1تس 11: 2- 12 ورؤ 1- 6 و1: 14- 5 و6: 19- 8 و1: 20- 6).

 

2-
العنصرة، أو الكنيسة صنيعة الروح القدس

آ-
انتظار جماعة التلاميذ لمعمودية الروح غداة الصعود (أعمال 4: 1- 8 و12- 14).

 

ب-
الروح القدس يمنح الكنيسة (عربون) الملكوت، اعتبار زمن الكنيسة من (الأيام
الأخيرة) (أعمال 2 ويوئيل 28: 2- 32 و2بطرس 8: 3- 13 ومتى14: 24). العنصرة بداية
اجتماع أبناء الله الكبير (يو49: 11- 52 واشعيا 2: 2- 3 و10: 11- 12..). الكنيسة
مؤسسة على شهادتي الكلمة والروح.

 

3-
المعارك الأولى

آ-
كل (هجوم) من الله يثير هجوماً معاكساً من (الخصم). ابتداء جهاد الكنيسة منذ يوم
الخمسين (أعمال 13: 2). بطرس يشهر خطيئة إسرائيل في عظاته (أعمال 36: 2 و13: 3- 14
و10: 4). الاشتباكات الأولى (إصحاح 4، 5).

 

ب-
استفانوس، أول شهداء الكنيسة (أعمال 7).

 

4-
تبشير الأمم

اضطهاد
الكنيسة وتشتيتها نقطة انطلاق لتبشير الأمم (أعمال 8). تبشير الأمم يثير مشكلة
علاقة العهد الجديد بالعهد القديم ومشكلة التقليد بالناموس (أعمال10 و11). بولس
رسول الأمم (أعمال 13: 9 إلى إصحاح28، أنظر غلا 2: 1 و1كو8: 15- 11 ورو 3: 1- 6
و14 ورو17: 15- 29).

 

1-
الصعود: ارتفاع المسيح وجلوسه عن يمين الله

كان
يجب أن يكون عيد الصعود أعظم الأعياد المسيحية على الإطلاق ولكنه في الواقع من
الأعياد التي لا يفهم الناس معناها حق الفهم. لذلك علينا أن نحاول تفهم كل معنى
الصعود في مقصد الله الخلاصي وألاّ نكتفي فحسب بالعودة إلى المقطعين القصيرين
اللذين يتحدثان عنه (لو50: 24- 53 وأع 9: 1- 11)، بل أن نفهم نتائجه كما تجلت من
مجموعة الشهادات الرسولية.

 

عندما
يحتفل العالم المسيحي بذكرى الصعود يعيّد لدخول يسوع في ملكه، أي لتتويجه. لأن
صعود يسوع بمجد هو مَهْرُ الله لكل أعمال الفداء، والجواب الإلهي لتنازل الابن
الوحيد، وإعلان ظفره على كل القوى المعادية: المسيح الظافر وهو ملك.

 

ولكن
هناك أكثر من ذلك: فالابن الذي يعود حسب تعبير الإنجيلي يوحنا (إلى حضن الآب)
(يو18: 1 و1: 17- 5) لا يعود لوحده بل يفعل ذلك بصفته إلهاً متجسداً، ومعنى ذلك
أنّ في يسوع الناصري ارتقت كل البشرية التي افتداها إلى المجد الإلهي ودخلت معه
إلى صميم الثالوث الأقدس، مستعيدة دعوتها الأولى (تك 27: 1) كابنةٍ لله (أفسس 8: 4-
10 ورو 15: 8- 17 وغلا 6: 4- 7 وعب 10: 2- 13 ويو22: 17- 23). فالصعود إذن بالنسبة
إلى كنيسة يسوع المسيح يحوي أكثر الوعود تمجيداً لأن صعود يسوع هو باكورة (1كو20: 15)
ارتفاعها هي إلى المجد والملك. وهي منذ الآن، بالإيمان، تعلم حق العلم أنها تشترك
في هذا الملك ولو كان عليها أن تجاهد، إلى حين، جهادات الأرض (رؤ6: 1).

 

آ-
إذا ألقينا نظرة على إنجيل الصعود (لو50: 24- 53) وجدنا تبدّلاً واضحاً في علاقة
المعلم بتلاميذ منذ القيامة. فد ذكر الكتاب أن تلاميذ يسوع سجدوا له بعد أن انفصل
عنهم وصعد إلى السماء. فلم يعد من بعد المعلم المحبوب الذي كانوا يجيزون لأنفسهم
لومه أحياناً (مر 32: 8). إنه الآن الرب الذي يقدَّم له الإيمان والطاعة كما
يقدمان للآب ذاته. وهذا ما عبّر عنه توما غداة القيامة عندما قال: (ربي وألهي)
(يو28: 20)، فأصبح قوله هذا دستور إيمان للكنيسة كلها.

 

وهنا
يجدر الإيضاح إيضاحاً تاماً بأن الإيمان بألوهية يسوع المسيح هو أساس الكنيسة
وبدونه ليس من كنيسة مسيحية. والهنيهة الحاسمة في الإيمان هي تلك التي فيها نعترف
بسلطان يسوع المسيح المطلق على حياتنا كسلطان الله ذاته، وندرك أن فيه الخلاص وفيه
مصدر الحياة.

 

ب-
وما جلوس يسوع المسيح (عن يمين الآب) سوى التعبير الحسي عن سيادته هذه. وهذا ما
دعا إلى تعليق أهمية خاصة على هذه العبارة التي وردت خمس عشرة مرة في العهد الجديد
(مز1: 110 ومت44: 22 و64: 26 ومر36: 12 و62: 14 و19: 16 ولو42: 20 و69: 22 وأع 34:
2 ورو 34: 8 وأفسس 20: 1 وكو 1: 3 وعب 3: 1 و1: 8 و12: 10 و2: 12 و1بط 22: 3).
لذلك وجب التدقيق في معناها عن كثب.

 

 المقصود
بعبارة (الله يصنع بيمينه) هو أنه يصنع بقدرته (أو بقوة ذراعه). والمقصود بالجلوس
(عن يمينه) هو الحصول على قدرته، واقتبال سلطاته بكاملها، ومقاسمته العرش. وبهذا
المعنى ذاته يؤوّل العهد الجديد صعود المسيح، والصورة المكانية للصعود ليست سوى
رسم يعبّر عن أن المسيح استلم عملاً ملوكياً وتمتع بكل صلاحيات الله.

 

والعبارة
مأخوذة من المزمور110:

(قال
الرب لربي

اجلس
عن يميني

حتى
أضع أعداءك موطئاً لقدميك).

بهذا
المزمور يستشهد يسوع ويعطيه معنى ماسيانياً جديداً (مر35: 12- 36 وما يقابله).

 

ويستشهد
به أيضاً بطرس الرسول في يوم الخمسين، كما يستشهد بالمزمور السادس عشر، ويطبق
كليهما على المسيح. إذ يقول أن داود كان يعرف بأن الله وعده بأن يُجلس على عرشه
واحداً من نسله، وهو في هذه الآية يتنبأ عن قيامة المسيح. ويضيف الرسول فيقول: إن
يسوع المسيح بعد جلوسه عن يمين الله قد أخذ من الآب الروح القدس وأفاضه، فالكتاب
والروح القدس إذاً يشهدان معاً. ثم ينتهي بطرس إلى القول: (فليعلم يقيناً جميع بيت
إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً) (أع 22: 2- 36).

 

هذا
اللقب (ربّ) خاص بالآلهة وحدها. صحيح أن العصور القديمة أعطت هذا اللقب لأسيادها
السياسيين من باب المدح والتقريظ، ولكنّ معناه في إسرائيل لا يقبل أي التباس
إطلاقاً: فإنّ الاعتراف بيسوع ربّاً هو ذاته الاعتراف بألوهيته والإعلان الصريح
بأنه يمارس سلطة الله ذاتها.

 

ولكن
على من يمتد سلطان المسيح وعلى أي شيء؟ الجواب أنه يمتد أولاً على الكنيسة لأنه
مخلصها. فالكنيسة هي إسرائيل الجديد ويسوع ملكها، وفيها تتحقق الوعود الماسيانية،
والكنيسة هي المكان الذي يُعترف فيه بربوية المسيح ويجاهَر بها. غير أن النبوءات
تحدثت منذ البدء عن ربوبية مسيح الله وكأنها تمتد لتشمل العالم بأسره: (إن فاديك
هو قدوس إسرائيل الذي يدعى إله الأرض كلها) (اش5: 54). وأوصافه فيها هي صفات الله
عينه: (ودُعي اسمه مشيراً يثير الإعجاب إلهاً مسلّطاً أبا الدهر الآتي، رئيس
السلام) (اش 5: 9). ثم أتى العهد الجديد فجاهر بدوره بربوبية يسوع وسيادته على
الكون المخلوق لأن كل سلطان قد أعطي له في السماء وعلى الأرض) (مت18: 28 وفيلبي 9:
2- 11).

 

ج-
وها نحن الآن نصل إلى أحد أعمق أسرار الإيمان وهو أن الخلاص الذي حقّقه يسوع
المسيح على الصليب لا يشمل البشرية فقط بل الكون كله، ذلك الكون المخلوق الذي دين
في شخص المسيح ثم تمَّ فيه فداؤه. وقيامته هي باكورة خليقة الله الجديدة التي
ستعلن في آخر الأزمنة.

 

وإذا
عدنا إلى العهد الجديد نراه يكرّر مرات عديدة أن المسيح قد قهر (الرئاسات
والسلاطين). ومن الصعب التحديد الدقيق الأكيد لمعنى كل من الكلمات التالية: (القوات
والرئاسات والسلاطين). والمقصود بها بكل تأكيد هو القوات الملائكية صالحة كانت أم
شريرة، تلك التي هي في حال وسط بين الله والإنسان والتي تملأ الكون وتتدخل في شؤون
الناس. وكان وراء القوى البشرية التي ناصبت العداء ليسوع الناصري وحكمت عليه
بالموت كل السلاطين المعادية لله والتي خاضت ضده معركة حتى الموت. وبتحريض منها
سُمّر يسوع على الصليب ولكنه انتصر عليها ودحرها ولذلك أُخضعت له منذئذ. (لقد جرّد
الرئاسات والسلاطين وفضحهم جهراً وانتصر عليهم بالصليب) (كولو 15: 2). قد يكون
الرسول بولس اعتبر السلطات الأرضية آلات في أيدي هذه السلاطين الملائكية وأن
السلطات البشرية بالتالي التي حكمت على يسوع هي ذاتها كانت المقصودة ضمنياً في هذا
المقطع، إلا أنه من الأكيد أن كل سلطان حسب مفهوم الكنيسة الرسولية يأتي من الله،
سلطان بشر كان أم سلطان ملائكة. وكل هذه السلطات هي ذاتها بإرادة الله الآب قد
أُخضعت للابن الذي انتصر عليها. (يسوع المسيح إذ قد صعد إلى السماء وهو عن يمين
الله وله أُخضعت الملائكة والسلاطين والقوات) (1بط 22: 3). وتزيد الرسالة إلى أفسس
بأن الله الآب قد بسط قدرته في المسيح يسوع (حين أقامه من بين الأموات وأجلسه عن
يمينه في السماوات فوق كل رئاسة وسلطان وقوة وسيادة وكل اسم يسمّى ليس في هذا
الدهر فقط بل في المستقبل أيضاً وأخضع كل شيء تحت قدميه وجعله رأساً فوق الجميع
للكنيسة التي هي جسده وملء الذي يملأ الكل في الكل) (أفسس 20: 1- 23).

 

إنه
لمن الجوهري جداً أن نفقه هذا الطابع الكلي الشامل لعمل المسيح الفدائي. لأنه في
كثير من الأحيان حاول البعض قلبَ الإنجيل إلى رسالة خلاص وقيامة فرديَين. وها إن
الكتاب المقدس يعلمنا بأن قصد الله الخلاصي يعمل في نطاق أوسع من هذا بكثير وأنه
يرمي في نطاق التاريخ إلى ما سماه الكتاب الخليقة الجديدة المفعمة بالله امتلاء
كلياً. والابن المحبوب (صورة الله غير المنظور) (كو 15: 1) هو صانع هذه الخليقة
الجديدة، وفيه وبه تخرج إلى الوجود، وفيه يتجسم حب الآب لكي يأتي ويفتدي عالماً
هالكاً ويحرره. إن الإنسان الأول جرّ الخليقة كلها إلى سقوطه، لا البشرية وحدها بل
العالم المخلوق بكامله الذي أصبح تحت راية الموت. أما يسوع المسيح فقد أتى إلى
عالم الموت هذا ليحيا حياة طاعة كلية واحتمل طوعاً في ذاته موت العالم، وبذا أبطل
مفعوله، لأن الله إذ أقامه من بين الأموات جعله باكورة الخليقة الجديدة (كو 18: 1
و1كور20: 15- 23 و35- 49 ورو 12: 5- 17). وما هي الباكورة؟ إنها أولى باقات الحصاد
التي تكرَّس للرب وتمثّل الموسم بكامله. هكذا في يسوع المسيح يقدَّم موسم العالم
العظيم إلى الله الحي ويكرَّس له. وهذه المصالحة الأخيرة وهذه الخليقة الجديدة في
المسيح هما بالضبط الغاية الأخيرة لوجود العالم. ويسوع المسيح هو الابن الذي من
قبل إنشاء العالم أُعدّ ليتحمل دينونة هذا العالم ويدعو الخليقة الجديدة إلى حيّز
الوجود (1كور45: 15). وما كان الله ليسمح للبشرية بأن تخوض مغامرة الحرية الهائلة
والمميتة معاً لو لم يكن الابن الحبيب عتيداً أن ينقذها يوماً بتضحيته الطوعية من
عبودية الموت ويعيدها إلى الحرية الحقيقية: (لقد أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا
إلى ملكوت ابنه الحبيب..) (كو 12: 1- 20). وهكذا فإن الله منذ البداية كان معنا في
ابنه الحبيب صانعاً خلاصنا ومصالحاً العالم مع ذاته (2كور 19: 5 ورو 8: 5- 10 وكو
20: 1).

 

إن
مجد الابن الفائق السمو وارتقاءه على عرش الله في يوم الصعود يتناسبان تناسباً
مباشراً مع ذبيحته: (إنه واضع نفسه وصار مطيعاً حتى الموت موت الصليب لذلك رفعه
الله ووهبه اسماً يفوق كل اسم لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة مما في السماوات وعلى
الأرض وتحت الأرض ويعترف كل لسان بأن يسوع المسيح رب في مجد الله الآب) (فيلبي 8: 2-
11). وارتفاع الابن هذا ليس من قبيل مكافأته عن اتضاعه الطوعي بقدر ما هو إعلان
لبنوته الحقيقية كما أعلنها هو في اتضاعه وبه، لأن يسوع باتضاعه هذا وفيه يُعلن
لنا عن كيان الله وعن الطبيعة الحقيقية للملكوت الذي أتى من أجل تشييده. الله محبة.
والتجسد هو سر المحبة العظيم. ولذلك فالرفع على الصليب والرفع إلى المجد يكونان
تعبيراً واحداً لحقيقة واحدة ووقتين اثنين لعملية واحدة: (وأنا إذا ارتفعت عن
الأرض جذبت إليّ الجميع) (يو32: 12 و13: 3- 15).

 

ويبدو
جلياً إن هذا (الارتفاع) في فكر يوحنا الإنجيلي يعني في آن واحد التعليق على
الصليب في يوم الجمعة العظيمة والارتقاء إلى المجد في يوم الصعود الإلهي. فلقد
مجّد يسوع أباه بموته وها إن أباه يمجّده بدوره بإقامته إياه من الأموات وبرفعه
إليه وإجلاسه عن يمينه (يو27: 12- 28 و1: 17- 5).

 

ج-
أما الرسالة إلى العبرانيين فتخبر بهذه الحقائق ذاتها ولكن بعبارات ثانية. فهي
تصوّر لنا الابن يفوق الملائكة كرامة وهم ليسوا سوى خدّام (عب 7: 1، 14)، يسجدون
أمام الابن الوحيد (عب 6: 1 ولو 13: 2- 14). وفي الابن تتحقق الوعود الماسيانية
التي وردت في المزامير: (عرشك يا الله إلى دهر الدهور وصولجان ملكك صولجان استقامة،
أحببت البر وأبغضت الإثم فلذلك مسحك إلهك يا الله بدهن البهجة أفضل من شركائك) (عب
5: 1- 14 ومز7: 45- 8 ومز26: 102- 28 ومز110). هنا أيضاً نجد الارتباط الوثيق بين
ملكية الابن وبين طاعته (عب 5: 2- 18). والذبيحة التي قدّمها لأبيه كانت حياته
بالذات: (ذبيحة وتقدمة لم تشأ لكنك ألبستني جسداً ولم ترضَ بالمحرقات ولا بذبائح
الخطيئة حينئذ قلتُ هاأنذا آتٍ لأعمل بمشيئتك يا الله وقد كُتب عني أنا في الكتاب)
(عب5: 10- 10 ومز7: 40- 9). فلما اتخذ جسداً (وتعلّم الطاعة مما تألم به) مجّد
الآب و(رُفع إلى الكمال). وها هو الآن الملك وكاهن العهد الجديد الذي مهره بدمه
(عب 1: 1- 4 و7: 5- 10 و1: 8- 12 و12: 10- 13).

 

وفي
العهد القديم كان دخول قدس الأقداس محظوراً على المؤمنين لأن حجاباً كان يفصله عن
باقي الهيكل ولم يكن يدخله إلا الكاهن الأعظم مرة كل سنة لكي يقدّم ذبيحة التكفير
(خر31: 26- 35 ولا16). وفي الإنجيل نرى حجاب الهيكل يتمزق حين مات يسوع (مر38: 15).
وفي يوم الصعود دخل يسوع الهيكل السماوي الذي لم يكن الهيكل سوى صورة أرضية عابرة
له، ولم يكتف المسيح بأنه دخل هو بل فتح لنا الباب. وصار بتكفيره الطوعي شفيعنا
الكلي القدرة لدى عرش الله (عب 8- 10).

 

ويحتل
دور المسيح كشفيع مكاناً رئيسياً في وظيفته ككاهن ملك. فقد جعله التجسد أخاً
لأولئك الذين من أجلهم يتشفع. (فإن الحبر الذي لنا ليس ممن لا يستطيع أن يرثي
لأمراضنا بل قد جُرّب في كل شيء مثلنا ما خلا الخطيئة فلنُقبل إذاً بثقة إلى عرش
النعمة) (عب 15: 4- 16). نعم لقد كان يسوع قادراً على كل شيء لأنه ذاق كل شيء،
قادراً على رفع كل الأحكام لأنه كفّر عن كل شيء. وهذا على حد قول بولس الرسول
اليقين المنتصر الذي به يحيا المسيحي: (من يشكو مختاري الله؟ الله هو الذي يبرّر
فمن يقضي علينا؟ المسيح يسوع هو الذي مات بل وقام أيضاً وهو عن يمين الآب يشفع
أيضاً فينا) (رو 33: 8- 34). وهكذا فإن طمأنينة المؤمن هي في أن له رباً ومخلّصاً
ينوب بالجواب عنه أمام الله.

 

د-
وهذا النائب سيكون هو بالذات حاكمه في اليوم الأخير. إن رسالة الصعود تُختتم
بإعلان عودة يسوع المسيح (أع 11: 1). وستبرز آنئذ سيادة يسوع المسيح بعد أن كانت
مخفية عن أعين العالم لا يعرفها إلا الكنيسة وحدها وتنبلج أمام كل عين. آنئذ ستدق
ساعة القتال الأخير والدينونة العامة (رؤ 4: 1- 7) وسنعود في الفصل الأخير من هذا
الكتاب إلى هذا العمل الأخير للمسيح الملك (1كور24: 15- 25).

 

ويكفي
أن نلفت الأنظار هنا إلى أن الحاكم المطلق هو ذاته الذي، بمقتضى سر النعمة الإلهية،
قدّم من أجل العالم ليخلصه، وحمل وزره أمام الرب.

 

وستُشرَك
في الحكم والمُلك الكنيسة المجاهدة التي حاربت وتألمت من أجل ربها على الأرض وبذلك
يتحقق في اليوم الأخير الوعد العظيم الذي أعطي لها في الصعود (لو28: 22- 30 و1تسا
11: 2- 12 ورؤ1: 14- 5 و6: 19- 8 و1: 20- 6).

 

2-
العنصرة، أو الكنيسة صنيعة الروح القدس

آ-
إن جماعة الرسل المجتمعة في العليّة غداة الصعود لم تكن الكنيسة بالمعنى الكلي
لهذه الكلمة: فقد كان ينقصها فيض الروح القدس. لأن الكنيسة تُصنع من فوق، والروح
القدس هو المهر الذي يضعه المخلص ذاته على وجودها وشهادتها، ومعمودية الروح القدس
هي معمودية قدرة تمكنها، على الأرض، من أن تكون الشاهد الفعّال للرب غير المنظور
الذي يديرها من السماء.

 

وطيلة
الأيام العشرة التي تفصل بين الصعود والعنصرة كانت جماعة الرسل تنتظر معمودية
الروح القدس وهي تصلي. وهذه هنيهة فريدة في حياة الكنيسة، غير أن لنا فيها معنى
عامّاً كما في أية هنيهة عظيمة من هنيهات تاريخ الخلاص. فالروح القدس لن يصبح يوماً
(ملك) الكنيسة. ولا مناص للكنيسة من أن تجدد صلواتها دائماً إلى الله لكي يمنحها
إياه، ولا يمكنها إلا أن تنتظره في الإيمان عالمة أن بشارتها وأعمالها باطلة بدونه،
وهي إن فعلت ذلك فاستناداً إلى الوعد الصريح الذي وعدها به الرب نفسه (لو13: 11
ويو16: 14- 20 و25- 26 و12: 16- 15).

 

ب-
ويصنع الكنيسة انحدارُ الروح القدس عليها في يوم العنصرة. لأن الروح القدس من عالم
الله، وهو الذي ينفخ نسمة الحياة في الخليقة الجديدة. وبه تحصل الكنيسة على عربون
المُلك الآتي (2كور 22: 1 و1: 5- 5). إن وظيفة الكنيسة هي بكل دقة إعلان ملك ربها
(وتعجيل) يوم مجيئه الثاني بنشاطها التبشيري لأنه قبل عودته هذه يجب أن يُعلَن
خلاصه إلى كل الأمم (مت14: 24 وأع 8: 1 و2بط 8: 3- 13). الكنيسة تعلن الأيام
الأخيرة منذ الآن بمجرد وجودها. وهذا ما يعبّر عنه بطرس الرسول بقوله: (هذا ما قيل
بيوئيل النبي يقول الله ويكون في الأيام الأخيرة إني أسكب من روحي على كل بشرٍ..)
(أع 16: 2- 21 ويوئيل 28: 2- 32). وموهبة الألسنة التي تُتيح سماع الإنجيل لأناس
من جميع الشعوب هي العلامة التي تبشر بالملكوت، أعني بذلك اليوم المجيد الذي تسقط
فيه الحواجز التي تفصل بين البشر وتجد الإنسانية في الله وحدتها المفقودة. العنصرة
هي بدء لتجمع أبناء الله المشتتين ذلك التجمع الذي انتظره الأنبياء جميعاً وأخبروا
به (اش 2: 2- 3 و10: 11- 12 و5: 43- 7 وار10: 31 وحز11: 34- 13 و27: 39- 29
ويوحنا49: 11- 52). وهي الرد الإلهي على برج بابل. كان هذا البرج رمزاً للوحدة
المصنوعة من أسفل وللكبرياء البشرية التي شاءت أن ترتفع إلى السماء فما انتهت إلا
إلى البلبلة (تك11). أما وحدة الكنيسة فهي عطية من فوق وهي من صنع الروح القدس.
إنها وحدة لا تُصنع ولكنها تُقبَل وتُعلن ويؤمن بها.

 

كانت
عظة بطرس في يوم العنصرة أول عظة مسيحية: كانت ترتكز على شهادة الكتاب المقدس
وشهادة الروح القدس. كانت حجة الرسول مأخوذة من المزامير: لقد مات داود، فعندما
يتكلم إذاً عمن غلب الموت (مز10: 16) وارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الآب (مز110)
لا يمكن أن يكون كلامه عن نفسه. إنه يتكلم رمزياً وينبئ بانتصار الوارث الحقيقي
لكرسيه أعني ماسيا. وماسيا الظافر ليس سوى يسوع الناصري.

 

ومن
هو يسوع الناصري هذا؟ إنه إنسان أُعدم في إحدى ضواحي أورشليم منذ ثلاثة وخمسين
يوماً ولا يزال الجميع يحتفظون في ذاكرتهم بصورة إعدامه. ولا ننسين أن من التجديف
الفظيع في نظر الموحّدين اليهود المناداة بمصلوب الجلجلة أنه ماسيا. ولكن موعظة
بطرس هي برهان من الروح ومن القوة (1كور 4: 2)، لأن شهادته تمس الجماهير (في
قلوبهم) ولذلك فهم يسألون: (أيها الأخوة ماذا نصنع؟) فنادى عندئذ بطرس برسالة
الخلاص العظيمة: (توبوا وليعتمد كل واحد منكم باسم يسوح المسيح لمغفرة الخطايا
فتنالوا موهبة الروح القدس لأن الموعد هو لكم ولبنيكم ولكل الذين على بعد، كل من
يدعوه الرب إلهنا) (أع 38: 2- 39).

 

في
تلك اللحظة ولدت الكنيسة.

ج-
بنتيجة معمودية الروح القدس أُعطيت الكنيسة عربون الملكوت وسنرى عما قليل أن
(علامات الملكوت) التي ظهرت في كرازة يسوع ستظهر هي هي في كرازة الرسل، من سلطان
الكلام (أع 37: 2- 41 و33: 4) إلى غفران الخطايا (أع 38: 2) وشفاء المرضى (أع 1: 3-
11) وأخيراً إلى الحرية المطلقة تجاه سلطات هذا العالم (إصحاحات 4 و5). أما اسم
يسوع فذو قدرة على تحرير الأجساد والنفوس (أع 6: 3، 16 و7: 4، 12). لقد وُلد عالم
جديد وهو عالم بشر أحرار لأنهم يخضعون لله وحده.

 

والصفة
المميزة لهذا التحرير هي أنه يشمل الإنسان بكليته في كيانه الطبيعي والروحي.
وميزته الأخرى أنه يُخرج الإنسان في الحال من عزلته ويخلق الشركة (الجماعة) الحقيقية
(أع 37: 2- 47 و23: 4- 37)، حيث لا يعود أحد يعتبر رزقه ملكاً خاصاً به (أع 32: 4
وما بعده و44: 2- 45). والشراكة في الرزق المادي ترافقها طبيعياً الشراكة الروحية
حيث أن المؤمنين كلهم مكرّسون لخدمة قضية واحدة هي وحدها ذات مغزى بالنسبة إليهم.
وهكذا قام مجتمع جديد يختلف عن المجتمعات الأخرى في الأرض من حيث أن يسوع هو مبدأه
ومنتهاه، ومن حيث أن أعضاءه لم يعودوا لأنفسهم من بعد ولكن للرب الذي مات وقام من
الأموات من أجلهم.

 

والمعمودية
أيضاً علامة قطع العلاقات بالماضي والدخول في الحياة المسيحية لأن المؤمن يتعرف في
المسيح على نفسه ميتاً بالنسبة إلى طرق عيشه القديمة وناهضاً من القبر إلى تجدّد
الحياة كما أنه يعرف ذاته مسامَحاً منعماً عليه ومتدثراً بالروح القدس (أع 38: 2
ورو 3: 6- 7 وغلا 26: 3- 27). كذلك كسر الخبز، أعني الإفخارستيا، توحده بذلك الذي
كُسر جسده من أجله هو ومن أجل إخوته الناعمين بالغفران ذاته (1كور23: 11- 29).
فكيف لا يضع الإنسان كل ما لديه في الشراكة بعد أن يكون قد اشترك بكل هذه النعم؟
وهذا الذي يدعونه اليوم بشيوعية المسيحيين الأوَل لم يكن ثمرة إعمال الفكر
والتحكيم ولا نتيجة لتخيّل جنوني بل كان الثمر العفوي للروح القدس الذي يفتح
الكنوز لأنه يفتح القلوب. والتمييز بين ما لي وما لك في شركة الذين يعطون ذواتهم
لله حقاً ليس له سوى قيمة نسبية لأن كل شيء يراه المؤمنون بمنظار الملكوت ويكيلونه
بمكيال الأبدية.

 

هكذا
تتأسس شركة المؤمنين وتُمهر بكلمة الله التي تجمعها وبالروح القدس الذي يبكتها على
الخطيئة والغفران. (وكان لجمهور المؤمنين قلب واحد ونفس واحدة) (أع 32: 4). لكن
الكنيسة لن تتمتع طويلاً بهذا الفرح الذي لا يعكّره شيء (أع 1: 5- 11)، مع أنه قد
أُعطي لها أن تذوق هنيهةً في هذه الساعة الأولى للنعمة عربون الاتحاد الكلي الذي
سيكون فيما بعد من ميزات الملكوت. فدعوتها إذاً هي دعوة وحدة (يو20: 17- 26) وكلما
ابتعدت عن الوحدة وقعت في الخطيئة.

 

3-
المعارك الأولى

لقد
خلق انحدارُ الروح القدس في يوم الخمسين الكنيسةَ المجاهدة وحوَّل فئة صغيرة من
الرسل المجتمعين في العلية إلى جماعة مفوّضة بتبشير العالم (أع 6: 1- 8) لا يثنيها
عن رسالتها فشل ولا تهديد. وقد سبق لنا أن رأينا هذا الطابع التبشيري ملازماً
لجوهر الكنيسة ذاته لأن وظيفتها على الأرض هي إعلان ملكوت الله إلى أن يجيء. لكن
مقاومة العالم لن تتأخر في القيام في حياة الكنيسة جواباً على هذه المناداة
بالملكوت تماماً كما حصل في حياة الرب.

 

آ-
كل هجوم من الله يثير هجوماً معاكساً من أخصامه وقد رأينا كيف أن ملك يسوع وملك
الشيطان يصطدمان في كل صفحة من صفحات الأناجيل. وهنا منذ اللحظة التي نفخ فيها
الروح القدس حياة في الكنيسة ومنذ أن بدأت تظهر بوادر ملكوت الله تألبت القوى
المعادية لمقاومتها. وكل كنيسة حية يجب أن تتوقع المهاجمة من الداخل ومن الخارج،
وكل كنيسة أيضاً يدعها العالم في سلام يجب أن تتساءل عما إذا كانت تعيش حياة الله
أو إذا كانت قد انسجمت مع العالم فيتغاضى عنها.

 

لقد
نبّه يسوع تلاميذه إلى مصيرهم فقال: (أذكروا الكلام الذي قلته لكم أن ليس عبد أعظم
من سيده إن كانوا اضطهدوني فسيضطهدونكم وإن كانوا حفظوا كلامي فسيحفظون كلامكم)
(يو20: 15 ولو49: 12- 53).

 

لقد
بدأ صراع الكنيسة منذ يوم العنصرة فلم يجد البعض في إيمان الرسل إلا مدعاة للسخرية:
(إنهم قد امتلأوا سلافة) (أع 13: 2).

 

غير
أنه من جهة أخرى اتخذ الرسول في خطابه الأول موقف الهجوم وصفة المتهِم واضعاً
مسؤولية قتل يسوع ليس فقط على قادة شعبه بل على إسرائيل بحد ذاته: (فليعلم يقيناً
جميع آل إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً) (أع 36: 2).
ثم زاد في شدة الاتهام في خطبته الثانية حيث قال: (إن إله ابراهيم واسحق ويعقوب
إله آبائنا قد مجّد فتاه يسوع الذي أسلمتموه أنتم وأنكرتموه أمام وجه بيلاطس وقد
حكم هو بإطلاقه فأنكرتم أنتم القدوس البار وسألتم أن يوهب لكم رجل قاتل وقتلتم
رئيس الحياة) (أع 13: 3- 15). وكانت المهاجمة على درجة من الشدة حتى أنها جعلت
السلطات اليهودية في خطر (أع 26: 5) كما جعلت الكاهن الأعظم يصيح: (لقد ملأتم
أورشليم بتعليمكم وتريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الرجل!..) (أع 28: 5).

 

والحقيقة
أن الرسول بطرس يحمّل إسرائيل كل عبء الصلب ويبرئ السلطة الرومانية (أع 13: 3).
إلا أن حكمه هذا لم يتعدَّ كونه دعوة إلى التوبة والخلاص وهو إنما يضع الشعب أمام
القرار الأخير باسم إله ابراهيم واسحق ويعقوب: لقد تصرف الشعب عن جهل (أع 17: 3)،
فليتب إذاً ويرجع إلى الإيمان فتتحقق له كل الوعود التي قطعها الله لآبائه (أع 19:
3- 26).

 

كل
بشارة لا تترجمها الأعمال تبقى نسبياً بدون أثر. فالأشفية التي صنعها يسوع هي التي
أثارت حفيظة الفريسيين والكتبة أولاً. وهنا يتكرر الأمر ذاته إذ تتدخل السلطات
اليهودية متذرعة بشفاء بطرس للرجل السقيم: (بأية قوة أو بأي اسم صنعتما هذا؟) (أع
7: 4). لقد خاب فأل هذه السلطات فاعتقدت بأنها تخلصت من يسوع وها إن كل شيء يعود
من جديد! فالشعب ينجذب، والارتدادات تتكاثر، ومجرّد اسم يسوع يجترح العجائب. لذلك
يجب أن لا يُلفظ هذا الاسم من بعد مهما كلف الأمر (أع 6: 3 و7: 4، 17 و28: 5).

 

غير
أن الرجال الماثلين أمام مجمع اليهود لم يعودوا أولئك الرسل الوجلين كما رأيناهم
من قبل بل أصبحوا الرجال الذين يقودهم الروح القدس وينفخ فيهم الحياة، والذين
يحيّرون القضاة بثباتهم. فيهم يتحقق إعلان يسوع بالحرف: (سيسلمونكم إلى المحاكم..
فإذا ساقوكم وأسلموكم فلا تهتموا مسبقاً بماذا تتكلمون به بل مهما أُعطيتم في تلك
الساعة فبذلك تكلموا لأنكم لستم أنتم المتكلمين بل الروح القدس) (مر9: 13، 11).
وها هم يقولون ببساطة: (احكموا أنتم ما العدل أمام الله أن نسمع لكم أم نسمع لله
فإنّا لا نقدر أن نسكت عما شاهدنا وسمعنا) (أع 19: 4 و29: 5).

 

وقد
جاء عن الرسل أنهم بعد سجنهم للمرة الثانية انطلقوا فرحين لأنهم حُسبوا أهلاً
لتحمل العار من أجل اسم يسوع (أع 41: 5). فالتألم من أجل الرب أضحى نعمة.

 

ب-
ويعود الشماس استفانوس فيتناول في خطبته من جديد (أعمال 7) موضوع ذنب إسرائيل بعنف
أشد. فيسرد تاريخ الشعب المختار ويبرهن أنه دائماً كان ضد الروح القدس (أع 51: 7).
واستفانوس هو أول شهيد في الكنيسة أي أول (شاهد) يوقّع بدمه اعترافه بالإيمان.
فعندما امتلأ بالروح القدس رأى ساعة موته (السماوات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن
يمين الله) (أع 56: 7). فكانت هذه الكلمات استعادة مباشرة لكلمات يسوع في المجمع
(مر62: 14) واستدعت رجم استفانوس في الحال. وما كانت كلماته الأخيرة بدورها سوى
استعادة لكلمات يسوع (أع 59: 7 ولو46: 23 وأع 60: 7 ولو34: 23)، مع هذا الفارق
البليغ وهو أن استفانوس يودع روحه بين يدي الرب يسوع.

 

وقد
يكون جديراً بالملاحظة أن أول مسيحي يستجلب الموت بجسارة اعترافه بإيمانه لم يكن
رسولاً ولا إسرائيلياً من اليهودية، بل شماساً (أنيطت به خدمة الموائد) (أع 6)،
يهودياً متثقفاً بالثقافة اليونانية منتمياً إلى تلك الفئة من الإسرائيليين
المشتتين الذين كان يعتبرهم اليهود المتزمتون مؤمنين من الدرجة الثانية. ويبدو
استفانوس وكأنه أول من أدرك نتائج الإيمان الجديد. ففيه تتجسم الكنيسة المجاهدة
حيث الآخرون هم أحياناً الأولون في ولائهم للإيمان (مت16: 20).

 

4-
تبشير الأمم

1-
بقي مسيحيو اليهودية زمناً طويلاً إسرائيليين يمارسون ديانتهم ويواظبون على الهيكل
(أع 1: 3) ويحفظون الناموس بكل تدقيق. نعم إنهم كانوا يعترفون بيسوع أنه ماسيا
الذي تنبأت عنه الكتب وكانوا يكرزون بقيامته ومجيئه الثاني. لكن رسالة الشعب
المختار كانت مستمرة فيهم وكانوا يصرفون كل جهودهم في سبيل هداية إسرائيل.

 

ولكن
الله حطم إطار إسرائيل الجسدي بالاضطهاد الذي أدّى إلى اتساع حقل عمل الكنيسة (أع
1: 8- 8)، وتحققت نبوءة يسوع بأن الهراطقة والوثنيين يسبقون أبناء الملكوت إلى
الإيمان (مت 11: 8- 13 ولو15: 14- 24 وأع 8، 10، 11). ويبدو أن هذا الخبر قد سبب
في أورشليم قلقاً أكثر مما سبّب من الفرح – فقد قام المسيحيون من أصل يهودي
وانتقدوا بطرس تماماً كما فعل في السابق الفريسيون بيسوع وقالوا: (إنك قد دخلت إلى
ذوي غلفة وأكلت معهم) (أع2: 11 ومر 15: 2- 17). وكان الرسل في هذه النقطة وفي نقاط
أخرى بطيئي الفهم لما قصده معلمهم، لذلك ضيّقوه حسب قياساتهم هم. ويذكر لنا أعمال
الرسل أن بطرس لم يقتنع بضرورة تعميد كورنيليوس إلا تحت ضغط الروح القدس (أع10-
11). وبطرس نفسه هذا الذي كان صامداً أمام المجمع نراه حيياً ومتردداً عندما يتطلب
الأمر قطع الصلة بالتقاليد اليهودية (غلا 11: 2- 14) ذلك لأن مشكلة المشاكل هي هذه
بالذات. كانت كنيسة أورشليم لتقبل باهتداء الآخرين شريطة أن يخضعوا لكل فرائض
الشريعة فكانت بعملها هذا، مثل الفريسيين سابقاً وبدون وعي، تقاوم مجانية عطية
الله.

 

ونحن
اليوم إذ نحكم على الأحداث بعد مرور قرون عدة ندرك أن المحنة الأولى التي مرّت الكنيسة
فيها كانت تمس مستقبل المسيحية بكاملها: لأنه من الناحية البشرية لم يكن ما يمنع
بقاء المسيحية فرقة من فرق الديانة اليهودية.

 

غير
أننا نفهم أيضاً هلع المسيحيين الذين من أصل يهودي: لأن إطارات إسرائيل القديم
وشيكة على أن تتحطم إلى الأبد و(كرم الله) قد ينتقل إلى آخرين (مت33: 21- 34 ومز15:
80- 20 واش 1: 5- 7).

 

ب-
يبدو أن استفانوس قد شعر مسبّقاً بأن مجيء يسوع المسيح كان يشير إلى نهاية الهيكل
والناموس (أع 13: 6- 14). ولكن الله لن يقيم رسولاً للأمم وشاهداً عنيداً للتبرير
بالإيمان إلا مضطهده شاول الطرسوسي (أع 58: 7 و1: 8 و1: 9- 30 وغلا 15: 1- 17 و8: 2).
وقد فعل الله ذلك بأحد أفعال النعمة التي يمسك هو تعالى بمفتاح سرها.

 

رأينا
كنيسة أورشليم توسّع نطاق تبشيرها تحت ضغط الحوادث. ذلك لأن الله يسمح في بعض
الأحيان أن يُرغم الاضطهادُ الكنيسةَ على الخروج من برجها، كما أنه يسبب شتاتاً
مسيحياً كما سبّب في الماضي شتاتاً يهودياً. وكانت الكنيسة الأولى التي فهمت بأن
مهمة التبشير هي دعوة الكنيسة الجوهرية شركة أنطاكية الحديثة العهد (أع1: 13- 3).
فقد ورد عنها أنها بتأثير الروح القدس أفرزت للخدمة البعيدة اثنين من أفضل قادتها
أعني برنابا وشاول الطرسوسي.

 

وكان
هذا القرار فاتحة النشاط الرسولي الذي ينقل الإنجيل إلى أقاصي الأرض وفقاً لأوامر
المسيح. لذلك نرى أن رحلات بولس التبشيرية تشغل أكثر من نصف سفر الأعمال (إصحاحات
13- 28). وقد تجوّل بولس في آسيا الصغرى فاليونان وكان يغادرها بعد أن يثبّت
الكنائس، لأن رسالته الخاصة كانت نقل الإنجيل إلى حيث لم يُبشر به بعد (رو15: 15-
29). ولن يوقفه عن تأدية هذه الرسالة إلا الأسر والموت.

 

ولكنه
من المهم الملاحظة بأن بولس الرسول أمانةً منه لمثال معلمه بدأ بإعلان الإنجيل في
مجمع اليهود لأن المسيح خاطب الشعب المختار أولاً (مت5: 10- 6)، لأن هذا الشعب
نعِمَ بأولية في مقصد الله الخلاصي. وبعد المسيح حافظ الرسل على هذه الأولية ولم
يتوجهوا شطر العالم الوثني إلا بعد أن طُردوا من المجمع (أع13: 13- 48 و1: 14- 7
الخ).

 

في
الواقع كان أول المنتمين إلى الإيمان الجديد (دخلاء) في كثير من الأحيان، وكان هذا
الاسم يُطلق على الوثنيين الذين يترددون على المجمع دون أن يأخذوا بكل فرائض
اليهود الطقسية.

 

هذه
الجماعات المسيحية المختلطة المؤلفة أصلاً من يهود ووثنيين عاجلاً ما طرحت بحدّة
المشكلة التي واجهتها كنيسة أورشليم. كان السؤال: ما هو وضع المهتدين الجدد في
الكنيسة؟ وهل يجب إخضاعهم لقانون الختان وللناموس الموسوي؟ عن هذا السؤال أجاب
اليهود المتزمتون بالإيجاب لكن جواب بولس كان سلبياً. وهذا مما أدى إلى خلاف يدوم
سنوات طويلة ويهدد وحدة الكنيسة الناشئة. ثم عُقد في أورشليم مؤتمر لهذا الشأن وهو
أول مجمع للكنيسة المسيحية (أع 15 وغلا 2). فانبثق عنه اتفاق. إلا أن بولس لم يدر
ظهره حتى أُثيرت عليه حملة خفيّة في كنائس آسيا الصغرى الناشئة وقد بلغت من الحدة
أنها هدّدت سريعاً بالامتداد إلى أماكن أخرى. عندئذ أمسك رسول الأمم بقلمه يهزه
غضب مقدس وكتب يرفض أن يرى الكنائس الناشئة رازحة من جديد تحت نير الناموس وهي
التي أعلن لها كل فرح الخلاص بيسوع المسيح.

 

والجدل
العظيم الذي نشاهده في رسائل بولس الرسول إلى غلاطية ورومية وكورنثوس هو من أعمال
رسول لا من صنع رجل عقائد. هذا الرسول ينتصب لينقذ كنائسه من الخطر المداهم، وهذا
سبب عنفه الحلو الذي يضايق أمثالنا نحن الفاترين: (إن كان أحد يبشركم، لو كان نحن
أو ملاك من السماء، بغير ما بشرناكم به فليكن مفروزاً) (غلا 9: 1). كما يفسر
صيحاته صيحة القلق والحنان: (أخاف عليكم أن أكون قد تعبت فيكم عبثاً) (غلا 11: 4).
(يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم..) (غلا 19: 4) (من
يضعف وأنا لا أضعف، من يعثر وأنا لا ألتهب؟) (2كور29: 11).

 

إن
إنساناً يقول هذا الكلام يضع ذويه أمام واحد من أمرين إما الإنجيل كله أو لا شيء
منه، وإما أن نضع إيماننا في يسوع المسيح وإما خارجاً عنه وليس من موقف وسط بين
هذين الموقفين.

 

والمشكلة
المطروحة هي ليست في الانتماء إلى هذا الطقس أو ذاك ولكنها قضية طبيعة الخلاص
وطبيعة جامعية الكنيسة.

 

وها
إن هرطقة المسيحيين المتهودين تجر الرسول بولس إلى عرض تعليمه في موضوع التبرير
بالإيمان. كما أن هرطقات أخرى سترسم عما قريب في قلب الكنيسة الناشئة إذ تريد
الأوساط المتأثرة بالثقافة اليونانية أن تحول المسيحية إلى فلسفة بشرية وحكمة
إنسانية. أمام هذه المحاولات يقف بولس الرسول رافعاً الصليب (عثرة لليهود وجهالة
لليونانيين ولكنه قوة الله وحكمة الله في أعين جميع الذين يؤمنون) (1كور 22: 1- 23
وكو 8: 2- 15).

 

في
الكنيسة الرسولية الحياة تسبق التعليم. وما التعليم فيها سوى الترجمة العقلية
لليقين العظيم الذي يكوّن حياة الكنيسة بالذات. أما التعاليم فتصاغ وتتحدد كلما
وُضع هذا اليقين موضع تساؤل وشك. والرسائل الرسولية تؤيد هذه المسيرة الحية التي
يسلكها فكر يتسع ويعمق بدون انقطاع إلى أن يشمل في النهاية كل ملء المسيح وعمله
الخلاصي.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى