معاني الكتاب
معاني
الكتاب
إن
الكتاب كلام الله وهو بالتالي لا ينضب ولن ننتهي أبداً من فهمه: (السماء والأرض
تزولان أما كلامي فلا يزول). كلام الله أزلي يفوق الزمني ويتجاوزه. قد يعكس الزمني
الأزلي ويحويه قدر استطاعته ولكن البحر يظل أوسع بكثير من الإناء. كلام الله
يغمرنا وسيبقى دائماً شيئاً يفوقنا. وهذا حسن جداً, لأن التقدم هو سنة الحياة
الروحية و(من لا يتقدم يتأخر). هذا يعني أن مجرد البقاء في الحياة الروحية يتطلب
التقدم فيها دائماً. إن كلام الله إذاً يظهر لنا كبحر, كلجة من المعاني. نحن نعلم
أن هناك معان عديدة للكلام. الكلام العادي لا يقتصر على مظهره الأول, فكم بالحري
الكلام الإلهي. إن المظهر الأول مجرد علامة, والحرف يكمن وراءه عالم بكامله
(كالانفجار الذري في الرياضيات مثلاً), هذا ويمكن تصنيف المعاني المختلفة كما يلي:
أولاً:
المعنى الحرفي أو التاريخي لحكاية التاريخ المقدس
مثلاً
انطلق لوط من سدوم إلى جبل صوغور. هذا هو المعنى الواقعي الأول. لقد انطلق لوط.
ولكن لوط وسدوم وصوغور ليست أشياء مادية تافهة, بل هناك نية إلهية من ورائها, قصد
وتصميم إلهي, فيصبح لوط (مع سدوم وصوغور) حاملاً معنى أعلى منه, وقد يكون غير واع
له. إن القديس أندراوس الكريتي في قانونه الشهير يقول: تأملي يا نفسي مثل لوط
واتركي سدوم العالم غير الطاهر واهربي إلى جبل النقاوة. هذا معنى غير حرفي وغير
تاريخي, معنى وراء المعنى التاريخي الحقيقي الواقعي. إنه معنى غير مباشر لأن
الانطلاق من سدوم إلى صوغور لا يعود يجري مرة واحدة فقط بل هو صحيح في كل مكان
وزمان تختبر فيهما النفس هذه الخبرة. إنه المعنى الرمزي.
ثانياً:
المعنى الرمزي الذي يرمي إلى تطبيق أخلاقي كما رأينا أو يرمز إلى شيء آخر
مثلاً
ما جاء في حزقيال 1: 16-6, (يا ابن البشر أخبر أورشليم بأرجاسها وقل هكذا. يوم
ولدت لم تقطع سرتك ولم تغسلي بالماء تنظيفاً. فمررت بك ورأيتك متلطخة بدمك فقلت لك
كوني حية في دمك نعم قلت لك كوني حية في دمك..) إنه سر الاختيار: كان إسرائيل
كجميع الناس في خطاياه وآثامه فأتى الرب واختاره. مثلاً ثانياً ما يرويه سفر
التكوين في الإصحاح 18 عن زيارة الرب لابراهيم عند بلوطة ممري في شخص ثلاثة رجال:
(وتجلى له الرب في بلوط ممري وهو جالس في باب الخيمة عند احتداد النهار فرفع طرفه
ونظر الخ..) إن أوريجنس يفسر ذلك رمزياً بقوله أن ابراهيم كان في باب الخيمة
والخيمة هي الجسد, عند احتداد النهار والشمس في أعلى السماء وهو وقت ذهول, وهذا
يعني أن ابراهيم في حالة ذهول قد رأى رؤيا ظهر له الرب فيها.. إن مثل هذا التأويل
الرمزي الذي أخذت به مدرسة الإسكندرية في القرن الرابع على نطاق واسع لم يعد
مستعملاً الآن كثيراً.
ثالثاً:
المعنى الظلي
وهو
المعنى الذي يرسم مسبقاً حقيقة كاملة ستأتي في المستقبل وإنما هي الآن مرسومة كظل
على حد تعبير بولس الرسول. والمثل الكلاسيكي لهذا المعنى الظلي هو ما جاء في 1كو1:
10-4, (فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة
وجميعهم اجتازوا في البحر وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر وجميعهم
أكلوا طعاماً واحداً روحياً وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً لأنهم كانوا
يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح). هذا المعنى الظلي هو المعنى
الذي يسبق فيرسم الحقيقة التي يحققها المسيح. إنه بمثابة العمود الفقري للكتاب,
فكل التوراة رسم ونموذج وصورة وظل لما سيأتي. النور الذي هو المسيح ليس هنا الآن
ولكنه يعطي ظلاً وذلك في أقوال الأنبياء أو أفعالهم, في خروج إسرائيل من مصر, في
نزول المن من السماء, في عبور البحر الأحمر.. الخ وقد حفظ المن في إناء مغلق
(خروج32: 16-34) لأن الكلمة لم يكن بعد في العالم. ولكن (اسمك دهن مهراق) (نشيد
الإنشاد؟: 2) فاسم يسوع هو الروح القدس الذي ينسكب في العالم.
وإن
المفسر الأول للمعنى الظلي هو الرب يسوع نفسه, فهو الذي (أوضح الكتب) لتلميذي
عمواس (لو 32: 24), وبعبارة أبلغ (فتح) لهما الكتب (حسب النص اليوناني). فالرب
بالتالي لم يحقق الكتاب بأفعاله فقط بل بكلامه أيضاً. في إنجيل يوحنا بصورة خاصة
وهو الإنجيل الأكثر ليتورجية نرى المسيح يفسر المعنى الظلي بل (السري) الليتورجي
لرسوم التوراة: (آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. أنا هو الخبز الحي الذي نزل
من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد) (يو49: 6-51): إنه سر
الإفخارستيا. ثم (من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي) (يو38: 7):
إنه سر المعمودية{إن أنهار البرية في الكتاب رسم للينبوع الجديد غير المادي, الروح
القدس نفسه: (قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه)
يو39: 7 وقد جرت هذه الأنهار من الصخرة والصخرة رسم وظل للمسيح, إن إنجيل يوحنا
أيضاً يظهر المسيح كحمل الله الرافع خطايا العالم وفقاً لسفر إشعياء}.فالرب إذاً
هو المفسر الأكبر للكتاب.
ونرى
القديس غريغوريوس النيصصي, في كتابه (سيرة موسى) يشرح المعنى الظلي لكثير من حوادث
التوراة: إن سر الصليب مثلاً يظهر في كل مكان ولذلك قيل: (لا يزول حرف ولا نقطة من
الناموس) (حرف Apex =) وتكتب هكذا (-) و(نقطةFoto = ) وتكتب هكذا (1)
والاثنان معاً يؤلفان صليباً (+). إن حية النحاس التي رفعها موسى لينقذ إسرائيل من
سم لدغة الأفاعي كان لا بد لكي يراها الشعب من رفعها بشكل صليب فوضعت أفقياً على
سارية عمودية (+) وهي رسم لصليب المسيح (عدد9: 21). وكذلك تظهر علامة الصليب عند
عبور البحر الأحمر (خروج 16: 14 و21 و27).
مثلاً
آخر: إن متى الإنجيلي يورد آية من سفر النبي هوشع (1: 11): (إذ كان إسرائيل صبياً
أحببته ومن مصر دعوت ابني). إن دعوة الشعب المختار من مصر حدث تاريخي وهذا هو
المعنى الواقعي الحرفي, ولكنها في الوقت نفسه نبوءة. هوشع لم يكن يعرف ماذا وكيف
ولكن البشير متى يفسر بالروح القدس هذه النبوءة, وتحقيقها في الابن الحقيقي, الابن
الوحيد, والشعب المختار هنا هو رسم وظل للمسيح.
رابعاً:
المعنى الروحي (Ana-gogique) الذي يقود إلى فوق
إنه
يرفعنا انطلاقاً من المعنى الحرفي والرمزي والظلي, فنكتشف معنى آخر للكتاب, المعنى
الأبدي, حيث المسيح عن يمين الآب إنه بالتالي معنى (أخروي) أيضاً.
ذلك
لأن كلمة الله تعتلن لنا على صعد مختلفة: أولاً صعيد شريعة العهد القديم, التي لم
تنقض ولكنها قد كملت. – ثم صعيد المسيح كما عاش على الأرض وكما لا يزال يحيا في
جسده الكنيسة بواسطة الأسرار التي تمد حضوره بيننا بصورة سرية {إن ما كان قبلاً
حقيقياً في حياة المسيح قد انتقل الآن إلى الأسرار الكنسية أعني المسيح نفسه}.- ثم
صعيد المسيح في النفس: باطلاً يصلب المسيح على الجلجلة وباطلاً يقوم إن لم يصلب
ويقم في قلبنا وإلا فما هي قيمة الصلب لنا؟ وقد قال أوريجنس أنه علينا أن نلد
الله, أن يلد قلبنا الله, أن نكون جميعاً أمّاً لله. – ثم صعيد المسيح الآتي في
المجد في مجيئه الثاني الاسخاتولوجي إذ لنا في الروح بواكير الملكوت الآتي: (الحق
أقول لكم أن قوماً من القائمين ههنا لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله آتياً
بقوة) (مر29: 8) مع أنهم ماتوا جميعهم, ولكن المسيح كان يشير إلى انحدار الروح
القدس وإلى رسم المجد العتيد في نور التجلي على طور ثابور حيث أدخل الرسل الثلاثة
في عالم الآخرة.
إن
هذا المعنى الروحي ينطبق على عمل الروح القدس فينا. مثلاً: (من مصر دعوت ابني)
(هوشع1: 11 ومتى15: 2). إن الله يدعو الناس من عبودية الخطيئة إلى حرية الروح
والحق, وأنا ابن الله مخلوق على صورته ومثاله وقد دعاني من مصر, بلد الخطيئة, وقد
تركتها وها أعبر الآن برية النسك والجهاد القاسية ولم أدخل بعد أرض كنعان, وإني
مثل إسرائيل أمر في تجربة اشتهاء طناجر البصل والثوم (الشهوات) التي تركتها, ولكن
الأفضل لي أن تبقى عظامي في البرية من أن أعود إلى مصر (حسب قول مار اسحق
السرياني). عليّ إذاً أن أكيف حياتي على ضوء هذا المعنى الروحي الموجه إليّ. إن
مرحلة البرية هي مرحلة التقدم في الإيمان. بالإيمان لست بعد لنفسي بل قد سلمت كل حياتي
لله. ولكني بعد خروجي من مصر أمر في ضيق ويأس. إلا أن هذا اليأس هو بالضبط لخلاصي
إذ فيه أتبين عجزي وفقري أنا لست معتاداً بعد أن أحيا من الله وحده. في البرية
القاحلة ينعدم الماء والخبز وتفقد التعزيات الزمنية فاتحة اضطراراً إلى الكلمة
وعندئذ ينقذني. إنه يخلصنا دائماً ويعيننا. إن صراخنا إلى الله لن ينطلق إن لم نكن
في الهوة, والله يربينا هكذا. عند تمزق نفسي فيّ ألتمس الله. ينبغي أن ننادي الله
من اللجة. ينبغي أن نعتاد العيش من الله وحده. إننا طبيعياً نتجه إلى العالم
وتعزيات العالم. ولا بد من التربية لتغيير ذلك. في قصيدة لجلال الدين الرومي حول
قصة مسيحية في الأصل أن ناسكاً عاش طويلاً في البرية في التقشف ثم جاء وقرع باب
الله. فسئل: من القارع؟ أجاب: أنا. فقيل له: اذهب فلا مكان هنا لاثنين. ثم بعد
سنوات أخرى كثيرة في النسك جاء أيضاً فسئل: من القارع؟ أجاب: أنت. فانفتح له الباب
من ذاته.