علم الكتاب المقدس

الفصل الثالث عشر



الفصل الثالث عشر

الفصل
الثالث عشر

إمتلاك
الأرض

تفكّكت
مملكة مصر، وضعُفت مدن كنعان، فاستفادت القبائل من هذا الوضع واستولت على نقاط
مهمّة في البلاد. ولكنّ مجيء غزاة آخرين فرض على القبائل أن تتوحّد. فمن خلال
ملكية يهوذا سيكتشف اللاهوتيون البيبليون مبادئ الوحدة في إبراهيم الذي ضمّ في
نسله بني إسرائيل والإسماعيليين والمديانيين. ولكن حين امتلاك الأرض، سيطرت قبيلة
إفرائيم مع المحتلّ يشوع الإفرائيمي. ذهب إلى الجلجال حيث كان معلّمه يتردّد، ومن
هناك دعا بني إسرائيل إلى القتال.

 

أ-
إقامة القبائل

إذا
قرأنا سفر يشوع اكتشفنا نظرة وحدويّة. فكأنّي بالقبائل تعمل بقيادة رجل واحد من
أجل امتلاك الأرض. ولكن النقاد يفضلّون لوحة قض التي تتحدّث عن إقامة القبائل
إقامةً تدريجية في كنعان. إنّ سفر يشوع هو شميلة تستند إلى أسس تاريخيّة، ولكنّ
القبائل أقامت في أرض كنعان بصورة متفرّقة. وها قد بدأ المؤرّخون يكتبون عن كل
قبيلة بمفردها ولاسيّمَا عن بنيامين. ولكن تبقى ترددات حول تنقّلاتها وموضع
إقامتها. أن المعقول مثلاً أن يكون عد 33 قد دمج تنقلاّت متعدّدة وهجرات منفصلة
(عد 21: 10- 13، 18 -20). وإذا كانت مناطق المسيرات واضحة في المناطق الصحراوية،
لأنّ القبائل تحتاج إلى دليل لتذهب من منطقة إلى أخرى، إلاّ أنّ الوضع يتبدّل
بالنسبة إلى أنصاف بدو يعيشون كغرباء وسط المدن الكنعانية المنظّمة. ولهذا نميّز
المجموعات الجغرافية المختلفة.

 

1-
قبائل شرقي الأردن

هناك
نظرية تقول إنّ الذين أقاموا في شرق الأردن هن أناس جاؤوا من الغرب واستعمروا
الأرض. هذا ما حدث لجاد. انفصل عن إفرائيم وأقام في جلعاد. وقد أقام رأوبين في
الغرب (حجر بوهان وبنو رأوبين) قبل أن ينتقل إلى موآب. وماكير أقام في جبل إفرائيم
(قض 5: 14) قبل أن ينتقل إلى جلعاد (تث 3: 15؛ عد 32: 39). إنّ هذه الرقة تناقض
التقليد البيبلي وتستند إلى أسسه واهية.

أوّلاً:
ليس من أثر لجاد في غربيّ الأردنّ. والاسم عربي كما يبدو. لا شكّ في أنّ هناك
خصائص عبرانية بالنسبة إلى الفينيقية التي تفترض وجود عنصر سامي جنوبي إسرائيل.
فهذا عائد إلى جاد الذي كان رئيسًا (تث 33: 21). وفي زمن ميشع، يبدو جاد وكأنّه
يقيم منذ زمن طويل قرب موآب (القرن التاسع).

ثانيًا:
إذا كان أحد أبناء رأوبين ترك أثرًا قرب أريحا، فهذا يفترض غزوًا لرأوبين الذي جاء
من الشرق واغتصب بلهة، زوجة يعقوب (تك 22: 35). أمّا مسيرات عد 22 فتوافق قبائل
أتت من مديان (رأوبين أو جاد) وأقامت شرقيّ الأردنّ.

ثالثًا:
لا يفترض قض 5: 14 وجود ماكير في جبل إفرايم. تفرعّ أمراء من ماكير، ونزلوا من
شمالي جلعاد (أو بالأحرى من باشان) إلى وادي الأردنّ لينضمّوا إلى إفرائيم
وبنيامين، وقد حارب ماكير معهم في سهل يزرعيل. فبِكرُ منسّى هذا ارتبط براحيل. جاء
إلى جلعاد بعد جاد حين طردت الهجمة الأرامية راحيل وقبائل يوسف من حران.

أقدم
استيطان هو استيطان رأوبين، بكر الاثني عشر وقد سبق الموجة الأمورية التي جعلت
سيحون في حشبون. وبسبب رأوبين ارتبط يهوذا بموآب. أتى رأوبين إلى ممرا، ولكنّه ضعف
بسبب الهجمة الموآبية التي وصلت إلى أريحا وبنيامين (قف 3). وفي زمن ميشع ابتُلع
رأوبين في قبيلة جاد (تث 6: 33).

إذا
عدنا إلى عد 32 وجدنا أنّ لجاد مدنًا في أرض رأوبين. وإذا عدنا إلى تث 33: 20- 21
فهمنا أنّه صار رئيس الشعب أو انضمّ إلى رؤساء الشعب. وفي زمن دبورة، صار جاد
جلعاد لأنّه ضمّ عليه بعض عناصر أرامية من جلعاد. وسيُسمَّى أيضاً جلعاد حين يتّخذ
يفتاح رئيسًا له. وقد كانت ليفتاح علاقات مع أراميي طوب. أخيرّا يرد اسم جاد
(جلعاد) مع منسّى في الحرب ضد العمونيين (قض 29: 11).

أقام
ماكير في البداية في شرقيّ الأردن أي في باشان، على حساب الأراميين (عد 32: 40)،
على حساب رفائيم عوج وعنصر حوري نسمّيه مجموعة أرجوب. وأقام معه يائير في قرى
يائير ونوبح في قناة. وحين تثبتت مملكة دمشق الأرامية، أفلتت هذه المنطقة
الحورانية من قبائل إسرائيل وصارت الحدود قرب مصفاة جلعاد.

 

2-
قبائل وسط غربيّ الأردنّ

نتحدّث
أوّلاً عن إقامة إفرائيم. كان الإفرائيميون في “غابة إفرائيم” (2 صم 18:
6) عنصرًا من جلعاد (قض 12: 4). فعبروا إلى “جبل إفرائيم” بقيادة
الافرائيمي يشوع الذي دُفن في تمنة حارس (في إفرائيم) قرب بيت حورون، وفي مكان لا
يبعد كثيرًا عن بنيامين. ففي بنيامين، إحتفظ التقليد بذكر انتصارات يشوع: أريحا،
العي، قبل أن يصل إلى أيالون التي ستكون لدان. وبعض عناصر معركة العي تقع إلى
الجنوب في أرض يهوذا (عاكور بن كرمي، في البقيعة الحالية). وأظهر اتفاقان حدودَ
الاحتلال الافرائيمي: إتفاق مع الجبعونيين في الجنوب (يش 9، 2 صم 24: 2)، واتفاق
في شكيم مع مجموعات يُشك بإيمانها في الشمال (يش 24: 9). عبر إفرائيم المنطقة التي
ستصير لبنيامين، قبل أن يقيم على هضابه. لم يستطيع أن يتوسّع، لأنّ الاستيطان صعب
في منطقة جبل إفرائيم الحرجية (يش 17: 15). فامتدّ نحو الجنوب حتى وصل إلى بيت لحم
(لا نقدر أن نفصل بيت لحم إفراتة عن إفرائيم). وهكذا كان حضور افرائيمي (أو
إفراتي) في بيت لحم مع معاهدات في الجنوب حتى تقوع (1 أخ 24: 2).

كانت
منطقة شمالي جبل إفرائيم وشكيم تخصان إفرائيم لا منسّى. وهذا الاستيطان اللاحق
والصعب ترك لإفرائيم نقاطاً معزولة مثل تفوح (يش 17: 8). وإذا عدنا إلى عشائر
منسى، لن نجد عشائر يوسفيّة صريحة إلاّ أبيعازر وإسرائيل. أمّا الأسماء الأخرى مثل
شكيم وحافر، “وبنات صلفحاد” مثل ترصة، فهي مدن كنعانية إنضمت إلى شعب
إسرائيل في أيّام داود. ويبيّن قض 1: 27- 28 بوضوح أنّ الاستيطان المنسّاوي كان
أضعف من أن يستولي على المدن الكنعانية. وفي عد 26: 30 (لائحة قديمة) يعتبر حالق
وايعازر (أو أبيعازر) وإسرائيل أبناء جلعاد. هذا يدلّ على أنّ منسى الغربي هو
استيطان يأتي من جلعاد وماكير وليس العكس.

إنّه
وإن وجدت رباطات بين بنيامين وماكير وبنيامينيّي ماري، فقد كانت قبيلة بنيامين
فرعًا من افرائيم بعد عبور يشوع. إنّهم أبناء جنوب “افرائيم”، وتد
ألّفوا قبيلة عند موت راحيل (تك 35: 16- 21). وانتمت عشيرة بريعة إلى أشير (عد 26:
44) قبل أن تصير عشيرة افرائيمية (1 أخ 7: 23) وترتبط نهائيًا ببنيامين (1 أخ 8:
13). تصوَّر ولادة بريعة في 1 أخ 23: 7 على مثال ولادة بنيامين في تك 18: 35،
بمناسبة الحرب القاسية ضد جتّ قرب أيالون. انحصرت قبيلة بنيامين بين موآب والمدن
الكنعانية، فاعطتنا الملك شاول الذي سينتمي إلى عشيرة باكر (بكورت في 1 صم 9: 1)
التي كانت إفرائيمية في عد 35: 26 وبنيامينية في تك 46: 21؛ 1 أخ 6: 7، 8.

 

3-
قبائل الجنوب

احتلّ
إفرائيم منحة ثمّ تركها فأقامت فيها قبيلتان: شمعون ولاوي. سَلبا شكيم قبل أن
يتراجعا إلى بيت إيل (تك 34: 30- 35: 1). ولكنّ اسم كعون متحرّك مثلُ مقابله
المسماري “شمعوتا” الذي عرفته نصوص تل العمارنة. ففي زمن القضاة نجد
شمعون في منطقة صقلاج قرب بئر سبع حيث يقيم داود بإذن من الفلسطيين. يظهر استقلال
شمعون من احتلاله لحرمة (قض 1: 17)، وهذا يرتبط بتحركات القينيّين الذين طُردوا من
عشهم فأقاموا في نقب القينيين (1 صم 27: 10). يذكر سفر الأخبار أنّهم قاتلوا
العماليقيين وامتدّت مراعيهم إلى أرضهم (1 أخ 4: 25- 43).

وتشتّت
قبيلة لاوي بعد حادثة شكيم. ولكن من الصعب أن نميّز ما كان في الأصل لاويًا، وما
صيّره داودُ لاويًا، ما صيّره لاويًا الاصلاحُ الاشتراعي الذي اعتبر كل الكهنة
المحليين (أي خارج أورشليم) من بني لاوي. بقي بعض اللاويين في إفرائيم (قض 17-
18)، ولكنّ القسم الأكبر أقام في الجنوب الشرقي ليهوذا. واعتبرت عشيرة زارح من بني
لاوي أو من بني يهوذا. وإذا عدنا إلى الأسماء الخمسة في اللائحة اللاوية القديمة
في عد 26: 58، نجد لبنة وحبرون وهما مدينتان في الجنوب. وكان لبعض العائلات طابع
كهنوتي قبل داود. وستضمّ مملكةُ حبرون عناصرَ من لاوي كما ستضمّ الشمعونيين
والقينيين والقنزيين والكالبيين واليرحمئيليين.

ماذا
كانت قبيلة يهوذا قبل مملكة داود في حبرون؟ يعرف اليهوهي (تك 38؛ رج عد 26: 20)
ثلاث مجموعات أساسية زالت اثنتان منهما: عير، أونان. والثالثة هي مجموعة شيلة
الكنعانية المقيمة قرب عدلاّم. وانضمّ إليها بواسطة تامار، مجموعتان إسرائيليتان.
الأولى: زارح (كانت له الأولية ولكنّه خسرها) أقام قرب تامار، مدينة النخل
(تماريم، قض 1: 16). الثانية هو فارص. أقام في منحة أورشليم وبيت لحم وخرج منه
داود (را 4: 18- 22) الذي ارتبط أجداده بالمستوطنات الافراتية (أو الإفرائيمية).
اسم يهوذا اسم جغرافي وهو يدلّ على المنصة القديمة التي تحاذي أرض شمشون (قض 15:
11)، قرب عدلام. ولكن قد تكون القبيلة تكوّنت من عناصر فرزية (فارص هي قريبة من
فارز) وزارحية ولاوية في حبرون. إنّ عيمناداب ونحشون دخلا في نسب داود. ولكن إذا
عدنا إلى خر 6: 23، 1 أخ 6: 6- 7 وجدنا أنّهما من بني لاوي. قد يكون انضمام عناصر
لاوية إلى يهوذا قد جعل يهوذا تحلّ محلّ لاوي في بعض لوائح الاثني عشر سبطاً.

 

4-
قبائل الشمال

نستطيع
أن نتتبّع مسيرة قبيلة دان. وُلدت من بلهة وكانت عشيرة واحدة (عد 26: 42 ؛ تك 23:
46). إتصلت برأوبين (تك 22: 35) فأقامت في ارض شمشون. وانفصلت عنها مجموعة مهمة
وأقامت في لايش (لاشم الخاضعة للصيدون).

تحدّثنا
سابقًا عن مسيرة أشير الذي أقام على الشاطئ الخاضع لمصر قبل أن يخضع للفلسطيين أو
الكنعانيين (قض 5: 17). أقام يساكر وزدولون في سهل يزرعيل، ولكنّهم خضعوا
للكنعانيين ودفعوا لهم الجزية. كان زلولون أميرًا (زبول) قبل أن يصبح خاضعًا
للسخرة (قض 1: 30) مثل يساكر (تك 49: 14). أما القبائل التي عرفت مراعي في جليل
الأمم (غوييم، أش 9: 1)، وحيث سيكون سيسرا رئيسًا في حروشت الامم (هاغوبيم)، فلم
تعرف الاستقلال ماخلا قبيلة نفتالي. ففي معركة مياه ميروم (يش 11: 1-9؛ قض 5: 18)،
تحطَّم تسلّط حاصور، ودلّت حفريّات يادين أن المدينة دُمّرت في أواسط القرن الثالث
عشر كان لحاصور إشعاع واسع فعرفها تجّار ماري على الفرات منذ القرن الثامن عشر
ولكنها لم تنجُ من الازمة التي وضعت حدًا لممالك سورية وفلسطين في نهاية عصر
البرونز الحديث.

 

ب-
اسرائيل في زمن القضاة

نظّم
سفر القضاة تاريخ القبائل بين إقامتها في أرض كنعان وتأسيس الملكية حول كلمة
“شوفيط”. إنه لقب حمله بعض القواد قبل المُلكية. فنظام “شوفط
” مؤسّسة عرفها العالم السامي الغربي، وهي تمنح للحاكم سلطة القرار السياسي
(كذا كان الأمر في قرطاجة). يقابل هذا النظام المؤسّسة الملكية، ولكنّه لا يتضمّن
وجهة الخلافة والهالة الدينية. وقد استعمل سفر القضاة هذه الكلمة ليبني تاريخًا
سابقًا للملكيّة يتحدّث عن خلاص الأمّة. ولكن الوجوه التاريخية التي نجدها في هذه
اللوحة لا تقابل كلها نظامًا واحدّا. جدعون ويفتاح هما ملكان. كان أهود وعتنيئيل
من الرؤساء، وباراق ضابطًا. ونحن لا نعرف القضاة الصغار إلا بقبورهم. ومن اللافت
للنظر هو أن الكاتب ربط كلَّ قاضٍ بقبيلة مختلفة. ربط عتنيئيل بيهوذا، وأهود
ببنيامين، وباراق بنفتالي، وجدعون بمنسّى، وتولّع بيساكر، ويائير بجلعاد (ماكير)
ويفتاح بجلعاد (جاد)، وإبصان بأشير (بيت لحم في زلولون، قض 19: 15)، وايلون
بزبولون، وعبدون ابن هليل بافرائيم، وشمشون بدان. فلم يبق إلا رأوبين وشمعون وهما
قبيلتان عاشتا على هامش الأحداث وما عتّمتا أن زالتا.

 

1-
بعد نهاية التسلّط المصري

يلفت
انتباهنا الفراغ الذي أحدثه زوال التسلّط المصري بعد سنة 1150 ق. م.. فقبل سنة
1200 بقليل، اجتاح شعوب البحر أوغاريت والساحل. وافق رعمسيس الثالث، فأقام الفلسطيون
على الشاطئ الجنوبي، والزقاليون على الشاطئ الجنوبي باتّجاه دور. ما استطاعوا أن
يضعوا السلم في البلاد، كما سبقهم إلى ذلك المصريون. فامتدوا نحو الداخل سحابة مئة
من السنين. إذا كانت العلاقات التجارية أساس وجود الفخاريات الفلسطية في وادي
الأردنّ والجبل، فمن الأكيد أنّ الفلسطيين سيطروا حربيًا على بيت شان (وصلوا إليها
عبر سهل يزرعيل) وجبعة بنيامين.

ولم
يهدّد الفلسطيون وحدهم استقلال القبائل التي دخلت أرض كنعان. فالمديانيون وصلوا
إلى عفرة ابيعازر. وحاصر العمونيون يابيش جلعاد. واخضع الموآبيون أرض رأوبين ودخلوا
إلى أرض بنيامين.

أمّا
القبائل فلم تتّفق فيما بينها إلاّ بطريقة عابرة. كان لإفرائيم الدور الأوّل،
وستدلّ المنسّاوي جدعون (قض 8: 1- 3) والجلعادي يفتاح (قض 12: 1- 6) على قوّتها.
ولكن لن يخرج من قبيلة إفرائيم رئيس بارز بعد يشوع.

وستأسّس
الملكية الأولى في المستوطنات المنسّاوية القليلة العديدة مع جدعون وأبيمالك وتكون
من النمط الكنعاني. ففي أيّام تلّ العمارنة بنى لبعايا وأبناؤه مملكة مزدهرة في
شكيم. بدأت مملكة جدعون في عفرة، فكان له الحريم كما للملك، وبدا أبناؤه كأبناء
الملوك (قض 8: 18). وقد أرسلت إليه الفضة والذهب وكأنّهما جزية. أمّا أبيمالك ابنه
فسمّى نفسه ملكًا في شكيم مستندًا إلى قرابته. ولكنّ مُلكه كان فاشلاً وسيندم
أسياد شكيم على ما فعلوا حين نادوا به ملكًا.

 

2-
المعطيات الأركيولوجية

إذا
توقّفنا على الناحية الأركيولوجية نجد نفوسنا في زمن الحديد الأوّل. جاءت تقنية
الحديد من الأناضول، وتطوّرت في القرن الرابع عشر، وسارت بمحاذاة الشاطئ مع شعوب
البحر وسيذهب بنو إسرائيل إلى الفلسطيّين ليجلبوا الأدوات المعدنية بما فيها
المستعملة في الزراعة والفلاحة. ولفخاريات هذه الحقبة ميزاتها: جرار، سرج، وكلّها
من صنع الفلسطيين، المرتبط بالنمط الميساني المتأخّر.

إذا
القينا نظرة على الأركيولوجيا في زمن القضاة، لفت انتباهنا بساطتها والبعد عن
زخرفات مدنيّة القرن الثاني عشر وبداية القرن الحادي عشر والبارز هو التعارض بين
أساسات بيوت مبنيّة بناء متينًا مع تمديدات صحيّة في القرن الثالث عشر، وبين بيوت
خشنة حُرمت من الامدادات الصحية في القرن الثاني عشر (مثلاً: بيت إيل). حين كان
يحتلّ الإسرائيلي بيت أحد الأغنياء الكنعانيين (كما هو الحال في بيت إيل وتل بيت
مرسيم)، كان يحافظ على البناء القديم. ولكن حين كان يبني، كان تصميم البناء من نوع
جديد، وكذلك أثاث البيت.

تتميّز
حقبة الحديد الأوّل بتدمير بعض المدن الكنعانية: تلّ بيت مرسيم (دبير) في نصف
القرن الثالث عشر، حاصور (الربع الأخير من الثالث عشر)، ترصه (تل الفارة، الثالث
عشر)، يافا (دمِّرت مرتين في القرن الثالث عشر)، لاكيش (الثالث عشر أو الثاني عشر)،
بيت شمس (الثالث عشر والحادي عشر)، تعنك (نهاية الثاني عشر). ولكن أعيد بناءُ بعض
هذه المدن: لاييش دان في نهاية الثالث عشر أو بداية الثاني عشر، حاصور في الثاني
عشر، المصفاة (تل النصبة) في الحادي عشر، ترصة في القرن العاشر.

 

3-
تهديد من الخارج

تفترض
هذه الملاحظات معارك بين سنة 1230 (نصب منفتاح) وسنة 1050 (اعتلاء شاول العرش).
وقد احتفظ سفر القضاة بذكر بعضها مشدّدًا على أنّ بني إسرائيل دافعوا عن نفوسهم
ولم يهاجموا.

أوّلاً:
هجوم كوشان رشعتائيم. الخصم هو عتنيئيل بن قناز وهو يقيم في دبير في يهوذا. أين
يقع هذا الهجوم؟ في أدوم أم في أرام؟ ولكنّ النص يتكلّم عن أرام نهرائيم (النهرين)
في قض 8: 3، وهذا ما لا يتوافق مع أدوم. لا شكّ في أنّ الأراميين دخلوا إلى الجنوب
اليهوذاوي (مدينة لابان، رفقة في لحي روئي، اسم برنيعة أي ابن نيعة) الذي أعطي
لواحة قادش. من الممكن أن يكون الكاتب جمع في لوحة واحدة ذكر دخول الأراميين بين
القرن الرابع عشر والقرن الثاني عشر، والتوتر بين أدوم وعتنيئيل ليجعل من يهوذا
أوّل حامل للخلاص. كوش هو كوش في مديان الذي تذكره نصوص اللعنات (عد 12: 1 ؛ حب 7:
3). ثمّ إنّنا نجد في هذا الحدث صدى لتسلّط الملك الأسيوي إرسو على الدلتا
والمناطق المجاورة له في نهاية القرن الثالث عشر.

ثانيًا:
وخلص أهود البنيامينيين من مضايقة الموآبيين. بدأ الموآبيون يتوسّعون منذ القرن
الثالث عشر فاصطدم بهم آنذاك رعمسيس الثاني الذي وصل إلى عبر الأردن قبل هزيمة
موآب على يد عمون. إلى هذه الهزيمة يشير يفتاح (قض 11: 24) حين يطالب بشمال أرنون
الذي أسلمه كموش، إله موآب، إلى العمونيين. ولهذا يجعل بعض العلماء أهود حوالي سنة
1250 ق. م.. ولكنّ الرباط بين أهود والبنيامينيين غير واضح. فرغم قض 15: 3 يتجنّب
1 أخ 17: 8 أن يجعله ابن جيرا. وإنّ 1 أخ 7: 10 يجعله ابن يريعئيل وبلهان، وأخًا
لبنيامين. كان أهود رجلاً أعسر، يضرب بالشمال كما باليمين، وقد احتفظ التقليد
البيبلي بذكر مهارة البنيامينيين: يرمون القوس باليسرى أو يضربون بالسيف (1 أخ 12:
2؛ رج 8: 4 ؛ 2 أخ 7: 14). ولكن من خلال الاستيطان البنياميني، يعود التقليد إلى
فرز بين المنطقة، لأن بردية انستاسي التي تعود إلى زمن رعمسيس الثاني تربط جذر
“فرز” (فرت في اللغة الهيرائية، أي الأقدم من الهيروغليفية) باستعمال
القوس باليد اليسرى. “أنت تمسك القوس، تصنع فرث بالشمال “.

ثالثًا:
تصادم شمجر مع الفلسطيين (قض 3: 31)، ولكنّ هذا الصدام لا يرتبط بالنصوص المتعلّقة
بوجود الفلسطيين في الجنوب (قض 16: 13). إنّه يعود إلى دخول شعوب البحر إلى كنعان
قبل المواجهة مع رعمسيس الثاني (1180) بقليل. وقد تكون بيت عنات تلك المذكورة في
يش 38: 19 والواقعة في شمالي نفتالي.

رابعًا:
معركة باراق تسنده دبورة. نجد هنا يابين من حاصور (رج ابنيئيل من حاصور على لويحات
ماري). ولكنّ هذا يعود بالأحرى إلى انتصار لنفتالي قبل نهاية القرن الثالث عشر
ولكن قد نكون هنا كما في كوشان رشعتائيم: جُمعت هذه المأثرة مع عمل أوسع ضدّ سيسرا
الذي كانت عاصمته حروشت قي الغرب قرب عكّا. في هذا العمل الثاني، تدخّل إفرائيم مع
دبورة وقبائل الوسط وقبائل الشمال. ونجد اسم سيسرا بشكل كوش سيسرا في لائحة
لرعمسيس الثاني وأخرى لرعمسيس الثالث (وهو مشكوك فيها). نستطيع أن نفكر باشتقاق
حوري أو إيليري، وكلاهما يعودان إلى الفلسطيين أو من ينتمي إليهم. في هذه الحال،
لا تكون هزيمة سيسرا قبل القرن الثاني عشر وبما أنّ نشيد دبورة يتكلّم عن
“مياه “، لا عن مدينة مجدو (مدينة تعنك)، فقد يكون موضع المعركة في
الطبقتين السابعة والسادسة من مجدو (نهاية القرن الثاني عشر) وقبل سنة 1125 التي
فيها دُمّرت مدينة تعنك.

خامسًا:
قام جدعون يربعل بحملات ضدّ مديان. واتحّد أشير ونفتالى (قضى7: 23، بل وزلولون رج
6: 35) مع منسّى، لا مع إفرائيم. واستغلّ هذا الهجوم المدياني حضورَ العماليقيين
في وادي الأردن والمناطق المجاورة (قض 12: 15؛ رج 5: 14). وقد تمّ هذا الهجوم في
النصف الثاني من القرن الثاني عشر لم تتضامن مدينة سكوت (في جاد، يش 13: 27)
ومدينة فنوئيل (في أرض جاد) مع جدعون الأبيعازري. أمّا إفرائيم فأضمر له العداء.
هذا يعني أنّنا بعيدون عن الوحدة. ولكنّنا نلاحظ دور أشير الذي سيكون عنصرًا
متينًا في ملكيّة شاول (2 صم 9: 2).

سادسًا:
إنّ قضية يفتاح مع العمونيين تفترض أنّ السلام عاد بين جاد ومنسى. إنّ يفتاح هو من
مصفاة الشمال، وسيلجأ إلى بلاد طوب أي بلاد صولة في الأرامية. وينتهي الحادث
بانتصار على إفرائيم الذي سيُطرد من شرقي الأردن. قد يكون هذا حوالي السنة 1100 أي
حين دخل الأراميون أرض طوب وغاب الفلسطيون عن وادي الأردن.

سابعًا:
ساعد رعمسيس الثالث الفلسطيين على الإقامة على الشاطئ، فحلّوا بصورة تدريجية محلّ
المصريين بعد سنة 1150. وكان تأثيرهم حاسمًا في الشاطئ وفي السهول: يزرعيل، بيت
شان، دير علّة في وادي الأردن. ولكنّ جت (أقدم المدن الفلسطية الخمسة) واجهت
إفرائيم ودان. وفي دورة شمشون، سيطر الفلسطيون على منطقة دان (بيت شمس). وحوالي
سنة 1050، كانت معركة ابن عازر (حجر النصرة) كارثة لإفرائيم الذي سيرى تدمير معبده
في شيلو (إر 12: 7 ؛ 1 صم 4: 1- 11).

ونظّم
الفلسطيون ثلاث حملات ليسيطروا على التلال (1 صم 17: 13). في الشمال فرقة نحو
عفرة، نحو أرض شوعال، وفي شمالي غربي بيت إيل نحو شيلو. في الوسط، تركّزت الفرقة
الثانية في بيت حورون ووصلت إلى بنيامين، في مكماش. وفي الجنوب سارت فرقة ثالثة
بمحاذاة البرية، عبر وادي صبوعين (الذي هو في بنيامين حسب نح 11: 34) فتوقفت في
جبعة (ستصير جبعة شاول). وقعت المُلكية البنيامينية في كماشة مؤلّفة من العمونيين
في يابيش جلعاد ومن الفلسطيين، فدفعت القبائل إلى التجمّع والبحث عن الوحدة.

 

4-
بنية المجتمع الإسرائيلي قبل عهد الملكية

تدلّ
هذه الوقائع على أنّ المجتمع الإسرائيلي لم يكن مستقرًا. فما كانت بنيته؟ قال
بعضهم: بنية امفكتيونية (تجمّع المدن حول معبد واحد). وهي تُبرز دورَ معبد الجلجال
أو شكيم أو بيت إيل، وتفهمنا لماذا كان عدد الأسباط اثني عشر (كل سبط يؤمّن خدمة
المعبد شهرًا في السنة). وهذا العدد هو ثابت، حتى وإن لم تتوافق أسماء القبائل في
اللوائح. وستبقى مدبريات سلمان الاثنتا عشرة في النظام عينه، بحيث تقوم كل قبيلة
بأود الملك شهرًا في السنة.

وتكلّم
البعض الآخر عن رابطة، مشدّدًا على فكرة العهد التي ستلعب دورًا هامًا في هذه
التجمّعات. أمّا اللغة العبرية فتقدّم لنا كلمتين: عم، قهل. لقد تكلّمنا عن
“عم” ونتوقّف على “قهل ” الذي ستستعيده البنى الاشتراعية. ففي
تك 49: 6، تدلّ الكلمة على تجمّع حربي (بين شمعون ولاوي) ضدّ شكيم. يعود الخبر إلى
“قول” (مع إقحام الهاء كما في أبرام ابراهام أي إبراهيم) ويعني دعوة،
الدعوة المقدّسة بحضور الرب من أجل حروب يهوه (عد 21: 14). فهناك معابد (مثل
الجلجال التي ستنطق منها حملات يشوع) كانت المكان المميَّز لمثل هذه الدعوات. وقد
كانت كل من شكيم مع هيكلها (بعل- بريت، سيد- العهد) وبيت إيل (قض 20: 28) موضعًا
لهذه الدعوات. وقد كانت شيلو مع معبدها (حيث كان تابوت العهد) موضع اجتماعات بعض
القبائل الذاهبة إلى الحرب المقدّسة. ولكنّ جدعون جمع في تابور بعض المجموعات التي
هتفت: “السيف للرب ولجدعون”. فباسم الرب تأسّست سلالة ثابتة هي مملكة
أولى (مي 4: 8) سيُدفن بطلها في صيلع (2 صم 14: 21؛ رج مي 6: 4) بعد انتصاراته
وفشله.

وستُرسم
حدود كل قبيلة بالنظر إلى المدبريات الملكية مع الحفاظ على تمركزات القبائل
القديمة (شمعون، دان). ولكنّ هذه الحدود ستختلف بين عصر وآخر.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى