علم الانسان

قيامة المسيح إعلان ميلاد الخليقة الجديدة في الإيمان المسيحي



قيامة المسيح إعلان ميلاد الخليقة الجديدة في الإيمان المسيحي

قيامة
المسيح
إعلان ميلاد الخليقة الجديدة في الإيمان المسيحي

oVoVo

+
“لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدَّها
لكي نسلك فيها” (أف 10: 2)

يُلاحَظ
من هذه الآية، وبحسب موضعها في الرسالة، أن العمل الصالح هنا هو هاجس الخليقة الجديدة
وشاغلها الشاغل؛ وليس هو الواسطة أو الوسيلة التي تؤدِّي إلى الخليقة الجديدة. ومع
أن طبيعة الخليقة الجديدة التي صارت لنا بالقيامة هي من عمل النعمة المحض، ولم
تستلزم منَّا عملاً مسبقاً ولا حتى سؤالاً أو صلاة، إذ أنها أُعطيت لنا كهبة عامة
ونحن مغروسون بالجهالة في صميم الخطية والتعدِّي؛ إلاَّ أننا بمجرد أن نحصل على
هذه الخليقة الجديدة وندخل في مجالها الحي نُطالَب في الحال بالأعمال اللائقة بها:

مقالات ذات صلة

+
“وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا، التي سلكتم فيها قبلاً حسب دهر هذا
العالم، حسب رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية، الذين نحن
أيضاً جميعاً تصرَّفنا قبلاً بينهم في شهوات جسدنا، عاملين مشيئات الجسد والأفكار،
وكنَّا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضاً؛ الله الذي هو غني في الرحمة، من أجل
محبته الكثيرة التي أحبَّنا بها، ونحن أمواتٌ بالخطايا أحيانا مع المسيح،
بالنعمة أنتم مُخلَّصون، وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويَّات في المسيح يسوع،
ليُظْهِرَ في الدهور الآتية غِنَى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع.
لأنكم بالنعمة مُخلَّصون، بالإيمان، وذلك ليس منكم، هو عطية الله. ليس من أعمال
كيلا يفتخر أحد. لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله
فأعدَّها لكي نسلك فيها”
(أف 1: 210)

ويُلاحَظ
من الآية الأخيرة أن الأعمال المفروض أن نسلك فيها هي أعمال تتبع منهجاً خاصاً سبق
الله فأعدَّه وأوصى به في الإنجيل، فهي ليست تبع هوى كل إنسان، وإنما تتبع ترتيباً
أو تدبيراً خاصاً تستطيع الكنيسة أن تقدِّمه بالروح حسب قياس قامة كل إنسان في
النعمة.

على
أن مجموع هذه الأعمال الصالحة تهدف لغاية واحدة هي ذات أهمية عُظمى تتعلَّق بموقف
الإنسان الجديد المولود من الله بالنسبة للحياة الجديدة أو روح القيامة التي نالها.
فكل الأعمال الصالحة تنصبُّ مباشرة في الشهادة لهذه الحياة في هذا الدهر، وتعمل
لاستعلانها كنور للسائرين في الظلمة ولتمجيد الله الخالق والمُعطِي لها.

فالخليقة
الجديدة، إن كان قد سمح الله لها أن تعمل في الزمان الحاضر وفي هذا الدهر، مع أنها
ليست من طبيعة هذا الزمان ولا تتناسب مع هذا الدهر؛ فذلك لكي تكون شهادة دائمة على
موت الرب وقيامته، لأنها في الحقيقة فوق مستوى فكر هذا الدهر. لذلك أصبح من
الضروري الإعلان الدائم عن صدق مواعيد الله التي تمَّت في صميم الزمان بشهادة
مسنودة ببرهان الروح والقوة. فالإنسان الجديد مخلوق أساساً للشهادة، والشهادة
بالروح هي بحدِّ ذاتها عمل صالح “مخلوقين.. لأعمال صالحة” (أف 10: 2)؛
بحيث لو كفَّ الإنسان الجديد عن الشهادة لملكوت الله وحياة الدهر الآتي بسيرته
وسلوكه، يصبح وكأنه يلغي وجوده الروحي أو يطمر وزنته في التراب إذ يتجاهل ميراثه
الأبدي، وهو العلَّة التي من أجلها خُلِق ويعيش ليشهد لها كل يوم، لأنه “إن
كنَّا أولاداً فإننا ورثة أيضاً، ورثة الله ووارثون مع المسيح” (رو 17: 8)

وهذا
المنهج الحتمي للأعمال الصالحة الهادفة في النهاية لتمجيد الله والمفروضة على
الإنسان الجديد القائم من بين الأموات، هو في الحقيقة مُطابق تماماً لمنهج المسيح
نفسه. فالمسيح قام من بين الأموات بمجد الآب ولتمجيد الآب في نفس الوقت: “حتى
كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدَّة
الحياة” (رو 4: 6)، أي نسلك في الحياة الجديدة كقائمين من بين الأموات، شهادة
لمجد الآب: “أنا مجَّدتك على الأرض” (يو 4: 17)، “أنا أظهرت اسمك
للناس” (يو 6: 17)

ولكي
يتضح أكثر هذا المنهج العملي المفروض على القائمين في جدة الحياة، يعود القديس
بولس الرسول وينبِّهنا إلى أن المسيح نفسه إنما يحيا الآن لله، وهكذا ينبغي أن تكون
حياتنا نحن أيضاً لله: “لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة، والحياة
التي يحياها فيحياها لله.
كذلك أنتم أيضاً احْسِبُوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية،
ولكن أحياءً لله بالمسيح يسوع ربنا” (رو 10: 6و11)، أي أن هدف الحياة
الجديدة هو الشهادة لتمجيد الآب.

وهكذا
يتحدَّد أمامنا أكثر الهدف من الأعمال بالنسبة للإنسان الجديد القائم من بين
الأموات بسرِّ المسيح، فسواء كان عمل أو فكر أو إرادة أو نية” فافعلوا كل
شيء لمجد الله”
(1كو 31: 10). فكما أن المسيح بعد القيامة هو”
لمجد الله الآب”،
هكذا كل مَنْ كان في المسيح كخليقة جديدة هو كله لمجد
الله الآب.

وهذا
الهدف المحدد من المنهج العملي المفروض على الخليقة الجديدة التي نالت القدرة على
العمل الصالح بقيامة المسيح من بين الأموات، وبانسكاب روح القيامة الذي هو روح
القداسة والتجديد، إنما يردُّ ردًّا واضحاً صريحاً على عجز الخليقة الأولى العتيقة
التي عجزت تماماً عن إتمام أي عمل صالح لتمجيد الله، وكانت سبب تجديف وإساءة لاسم
الله العظيم.

فالآن
أصبحت وظيفة الخليقة الجديدة هامة وخطيرة بالنسبة لِمَا أخفقت فيه الخليقة العتيقة
التي تسببت في فضيحة الإنسان وإهانة الله وتشويه صورته التي وهبها لنا بالخلقة.
لذلك أصبحت المسئولية الملقاة على إنسان الله الجديد المولود من فوق والحامل
لطبيعة الخليقة الجديدة مسئولية عُظمى لإعادة العلاقات الصالحة مع الله وإعادة
كرامة صورته إلى وضعها الأكمل، وذلك تجاه نفسه، وتجاه الله، وتجاه الآخرين أيضاً.

فأولاً:
تجاه نفسه:

فهو
بعمله الصالح إنما يرد أولاً على ما عمله من الشرور التي تسببت في تشويه صورة الله
التي فيه من جهة تلوث الفكر والإرادة والضمير والجسد؛ فأصبح العمل الصالح بمثابة
إعادة صورة الله الصحيحة في الإنسان الجديد “المخلوق بحسب الله.. حسب صورة
خالقه” (أف 24: 4، كو 10: 3)، “أنتم عبيد للذي تطيعونه، إما للخطية
للموت أو للطاعة للبر، فشكراً لله، أنكم كنتم عبيداً للخطيئة، ولكنكم أطعتم من
القلب صورة التعليم التي تسلَّمتموها. وإذ أُعْتِقْتُم من الخطية صرتم عبيداً للبر.
أتكلَّم إنسانياً من أجل ضعف جسدكم. لأنه كما قدَّمتم أعضاءكم عبيداً للنجاسة
والإثم للإثم، هكذا الآن قدِّموا أعضاءكم عبيداً للبر للقداسة” (رو 16: 619)

وثانياً:
تجاه الله:

فهو
بعمله الصالح إنما يمجِّد الله؛ بينما بتعدِّيه وجهالته السابقة في طبيعته العتيقة
كان سبباً في التجديف على اسم القدوس: ” لكي يروا أعمالكم الحسنة،
ويمجِّدوا أباكم الذي في السموات”
(مت 16: 5). هنا العمل الصالح يدخل
صميمياً في مفهوم الصلاة والخدمة الروحية والتسبيح العلني لتمجيد الله، حيث يأخذ
الإنسان الجديد بأعماله الصالحة مكانة ثابتة وسط صفوف الخدَّام السمائيين المنوط
بهم خدمة العلي وتمجيد اسمه القدوس، وهذه غاية من غايات الخلقة الجديدة.

وثالثاً:
تجاه الآخرين:

وأخيراً،
فإن العمل الصالح للخليقة الجديدة هو في صميمه موجَّه نحو الآخرين، وهو بمثابة
كرازة بالعهد الجديد، وبشارة بالقيامة، وإظهار لفعلها المجدِّد المُفْرِح الذي دخل
كيان الطبيعة البشرية، فأعاد خلقتها، ونقلها من سلطان الظلمة إلى ملكوت ابن الله.
ولسان حال كل مَنْ يشهد للقيامة من نحو الآخرين هو: “لأُخبِر بفضل الذي دعاني من
الظلمة إلى نوره العجيب”(1بط 9: 2)، حيث تهدف أعمال الإنسان الجديد ليس
لإرضاء ذاته، بل الآخرين في وجه يسوع المسيح الذي لم يُرْضِ ذاته قط بل الآب من
أجلنا. وهذا في الواقع لا يحتاج إلى إقناع أو اجتهاد ذاتي؛ بل إنَّ كل مَنْ يدخل
بهجة القيامة، ويذوق صلاح الرب، وتستنير عين قلبه بمعرفة محبة المسيح، ويعيش أفراح
حياة الدهر الآتي، لا يمكن أن يسكت لأنها تصير كنارٍ في عظامه!!

ماهية
العمل الصالح بالنسبة للإنسان الجديد القائم مع المسيح:

العمل
الصالح بالنسبة للإنسان العتيق أمر شاق عسير ويكاد يكون مستحيلاً. فمهما جاهَدَ
الإنسان في طبيعته فلن يكون عمله الصالح أكثر من مقاومة مريرة ضد الخطية ودوافعها
الشريرة، أو مجرد أعمال ظاهرية لا تتعدَّى أثر الجسد أو النفس: “يقدِّس إلى
طهارة الجسد!!” (عب 13: 9)

أما
بالنسبة للإنسان الجديد، فالعمل الصالح يتعدَّى الوجه السلبي للجهاد ضد الخطية
ليشمل خدمة البر والقداسة، أو بعبارة إنجيلية ليس هو “خلْع الإنسان العتيق الفاسد
بحسب شهوات الغرور““مع أعماله”(أف 22: 4، كو 9: 3) الذي هو مجرد
تسديد ديون باهظة تورَّط فيها الإنسان بسبب الجهالة وغرور الذات، ولكن
العمل الصالح يتجاوز الخلع إلى اللِّبس: “ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة
حسب صورة خالقه” (كو 10: 3)

المعرفة
الكاملة للمسيح كأساس العمل الصالح للإنسان الجديد:

لا
ينبغي أن نفصل المعرفة وحدها ونشرح صلتها بالقيامة، لأنه لا توجد معرفة صالحة
صادقة بدون عمل حتى ولا عند الملائكة.

إن
المعرفة الروحية بحسب الخليقة الجديدة أو العهد الجديد، هي معرفة موهوبة وليست
مكتَسَبَة من الخبرة الشخصية. وهذه هي طبيعة الحق، فالحق الإلهي هبة مُنِحَت
للإنسان الجديد: “ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه
(كو 10: 3)، حيث “المعرفة”هي في الأصل اليوناني تحمل معنى كمال المعرفة
الحقة!! ومعنى ذلك أن يصير الإنسان الجديد أكثر فأكثر على صورة خالقه إنما بقدرٍ
يتجدَّد كل يوم بواسطة المعرفة الجديدة الخاصة بالمسيح الذي هو النموذج الكامل
الأعلى لصورة الله التي استُعلِنت لنا جهاراً.

وهنا
يمكن المماثلة النظرية مع الخلقة العتيقة؛ فكما خلق الله الإنسانَ على صورته أولاً
فشوَّهها الإنسان بالخطيئة حتى لم تَعُدْ للإنسان ملامح البر أو القداسة أو الحق،
هكذا عاد الله وأعاد خلقة الإنسان روحياً على أساس البر والقداسة والحق في شخص
يسوع المسيح، الذي هو باكورة الخليقة الجديدة ورأس الإنسان الجديد، الحامل لصورة
الله الجوهرية في الإنسان بمجدٍ وإعجازٍ بسرِّ الكمال الفائق الذي لا يُنطق به!!

وبذلك
تصبح معرفة المسيح هي اللبن العقلي الذي نغتذي به فننمو حتى نصل إلى أن يتصوَّر
المسيح فينا الذي هو صورة الله. ولكن يعلِّمنا بطرس الرسول أن المعرفة لا تنمِّي
الإنسان الجديد إلاَّ إذا كانت خالية من كل غش، حيث الغش هنا ينصب على المعرفة
العتيقة، وهنا التركيز قائم على جِدَّة المعرفة أو المعرفة الجديدة الخالية من كل
شوائب فكر الإنسان العتيق التي كانت ترتكز على مهارة وجهد الذات الإنسانية وخداعها
المضلل سواء بالخطية أو العلم الكاذب الاسم، حيث المعرفة الجديدة تكون صادقة
وحقَّة بقدر تطابقها على المسيح وروح القيامة، لذلك يتحتَّم أن تكون مُستمَدَّة من
الروح القدس والإنجيل” يأخذ مما لي ويخبركم!!”(يو 14: 16)

+ “فاطرحوا كل خبث وكل مكر والرياء والحسد وكل مذمَّة
(هنا خلْع الإنسان العتيق مع أعماله المنبثقة من الذات المخادعة. ويُلاحَظ أنها
كلها صفات عقلية شريرة)، وكأطفال مولودين الآن (بقيامة المسيح)، اشتهوا (الإرادة
الجديدة التي تستمد شهوتها من برِّ المسيح وليس من لذة الخطية) اللبن العقلي (أي
الكلمة = أي معرفة المسيح) العديم الغش لكي تنموا به، إن كنتم قد
ذُقْتُمْ
أن الرب صالح” (1بط 1: 23)

ويُلاحَظ
هنا أن مضمون كلمة “كأطفال”يشير إلى أن المعرفة ليست من نوع المهارة الذاتية
أو الجهد الفني الشخصي، إنما مجرد عطش وطلب ودموع واشتهاء كاشتهاء الطفل للبن أُمه.
وهنا بطرس الرسول يتفق تماماً مع بولس الرسول في أن الخليقة الجديدة تنمو وتتجدَّد
بالمعرفة الحقة الكاملة للمسيح التي هي بمثابة طعام الحق عديم الغش (أي الخالية من
غرور الذات والخطيئة). وهنا تصبح كل معرفة جديدة صادقة للمسيح مستمدَّة من
الكلمة هي بمثابة نمو للإنسان الجديد، وتجديداً متواصلاً لصورة الله فيه!!

هنا
معرفة المسيح هي غذاء سرِّي لقلب الإنسان الجديد وضميره وعقله ينمو به كل يوم
ويتحرَّك ويفكِّر ويسلك، فتزداد شهوة الإنسان إلى العمل الصالح “اشتهوا اللبن
العقلي” بقدر مذاقة صلاح المسيح “إن كنتم قد ذُقتم أن
الرب صالح” هنا المعرفة الروحية ترتفع إلى مستوى التذوُّق للحق كالأكل
والشرب بالنسبة للروح!!!

تجدُّد
المعرفة الحقيقية وتغيُّرها من مجد إلى مجد صفة أساسية:

التجدُّد
والتغيُّر من مجد إلى مجد من أهم خصائص المعرفة الروحية الصادقة. فالمعرفة الكاذبة
ينسخ بعضها الآخر:

(أ)
أما صفة التجدُّد المستمر: “ولبستم الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة”
(كو 10: 3)، فهي ضرورة حتمية بسبب الاحتكاك المتواصل بالجسد العتيق والمعرفة الغاشَّة
التي تؤثِّر في المعرفة الروحية للمسيح، فتضعفها وتؤذيها وتطمس نورها؛ إما
بالخطيئة التي تتربَّص دائماً بفكر الإنسان، وإما بالمعرفة الكاذبة الاسم التي
تتطاول على معرفة الروح وتنسب إليها العجز والقصور باطلاً.

(ب)
أما صفة قبول التغيُّر المستمر: فناتج أصلاً من ديمومة وامتداد الحق الإلهي
ولانهائية كمال المسيح “المذَّخر فيه جميع كنوز الحكمة والعلم” (كو 3: 2
اقرأ الأصحاح الثاني من رسالة كولوسي لأنه في غاية الأهمية هنا).

ولأن
“معرفة محبة المسيح فائقة المعرفة”بالنسبة للإنسان، وستظل كذلك حتى بعد
العبور الكامل للحياة الأخرى، لذلك أصبح التغيُّر من مجد إلى مجد صفة حتمية في
النظر العقلي أو التطلُّع الروحي بالرؤيا العقلية لمجد المسيح: “ونحن جميعاً
ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف (بدون برقع الجهالة الذي تضعه الخطية على العقل فتطمس
نوره)” (2كو 18: 3)

من
المعرفة الصادقة إلى العمل الإيجابي الصالح:

+
فكما قَبِلْتُم المسيح يسوع الرب اسلكوا فيه، متأصِّلين
ومبنيِّين فيه، ومُوَطَّدين في الإيمان، كما عُلِّمْتُم، متفاضلين
فيه بالشكر” (كو 6: 2و7)

إذا
قبلنا المسيح قبولاً روحياً كاملاً، واستضاءت معرفتنا به عن طريق الكلمة بالإنجيل،
نجد أن المعرفة تولِّد إيماناً وطيداً مساوياً للمعرفة الصادقة (لأن المعرفة هنا
هي في حقيقتها صلة سرية شخصية بالروح القدس، كنتيجة للشركة)، وحينئذ يبدأ العمل
الصالح بدَفْع الإيمان كقوة منبثقة من مصدر سرِّي داخلي لا ينضب، وكحرارة
منبعثة من مصدر داخلي تتجدَّد كل يوم بالمعرفة أي بالكلمة.

لذلك
بعد أن نوفي المعرفة الحقة كل واجباتها، أي نكون على مستوى الشركة السرية مع
المسيح “الحق”بالحب الشخصي والصلاة، نصبح أهلاً للعمل الصالح بدافع يقينية
الشركة هذه وثقة الصلة الروحية المستمدَّة من المسيح بالإنجيل.

ويمكننا
تقسيم العمل الصالح إلى قسمين كبيرين يلتحمان معاً في النهاية ليكوِّنا عملاً
واحداً منسجماً:

القسم
الأول:
ويشمل
جميع الأعمال الصالحة المفروض علينا تأديتها والسلوك فيها، لتجمعنا معاً نحن
المؤمنين، كل المؤمنين، لنكون جسداً واحداً وروحاً واحداً حتى نصبح أهلاً للاتحاد
بجسم المسيح.

القسم
الثاني:
ويشمل
جميع الأعمال الصالحة التي يقدِّمها لنا الله كوسائط أو كأعمال نعمة مملوءة
بالأسرار لتجمعنا وتوحِّدنا بالمسيح.

أولاً:
القسم الأول: العمل الصالح كجهد مبذول من جهة الإنسان

لتكوين
الوحدة المفروضة بين المؤمنين:

وقبل
أن نشرح هذا الاتجاه من الأعمال الصالحة يلزم أن نعلم أولاً أن هذه الأعمال
المفروض علينا تكميلها بهدف تكميل الوحدة أو الاتحاد معاً لنكون
جسداً واحداً وروحاً واحداً، حسب تعبير بولس الرسول هي مبنية أساساً
على صفات وخواص ومواهب ممنوحة من الله للخليقة الجديدة، ومغروسة في صميم طبيعتها،
أي أن الأعمال الصالحة المفروض علينا تكميلها والسلوك فيها سبق الله وأعدَّ لنا
مستلزماتها المفروضة، وشق لنا مسالكها في طبيعتنا الجديدة. لذلك أصبحت أولاً: مفروضة
علينا، وثانياً: إذا أكملناها لا نُعتبر ذوي فضل، لأن كل إلهاماتها وقوتها
ودوافعها موضوعة فينا بالروح القدس لتكون من صميم خلقتنا، وثالثاً: أصبح من
الضروري أن نكمل واجباتها أولاً قبل أن نستحق ممارسة القسم الثاني السرِّي من
الأعمال الصالحة الممنوحة لنا بالنعمة من داخل الأسرار.

وهنا
يتضح أمامنا عمق الصلة بين المعرفة والعمل، وذلك بالنسبة للخليقة الجديدة
المهيَّأة للحياة الروحية السرية مع المسيح، لأن كل عطية يعطيها المسيح وكل موهبة
روحية يمنحها لنا بالروح القدس في حياتنا الجديدة أو في إنساننا الجديد؛ فهي حتماً
تكون حسب قياس معين ومحدَّد يتناسب تناسباً دقيقاً غاية الدقة مع إمكانية وضرورة
وكيفية اتحادنا بالآخرين لصالح الوحدة النهائية اللازمة والمحتَّمة بالنسبة لجميع
المفديين والمخلَّصين، أي أن أساس جميع المواهب والعطايا الروحية التي يمنحها
المسيح لنا هي لكي تؤهِّلنا لوحدة كاملة متكاملة مع الآخرين أولاً ثم مع المسيح
بالتالي كجسد واحد بمعنى الكلمة(
[1])!!

لذلك
أصبحت الطبيعة الإيجابية للعمل الصالح بالنسبة للإنسان الجديد محددة أمام عيوننا
تحديداً لا مفرَّ منه، وهو أن العمل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يُحسب عملاً
صالحاً بالنسبة للخليقة الجديدة أو في ضوء القيامة إلاَّ إذا كان لحساب الوحدة
ومنتهياً إليها: الوحدة التي تجمعنا معاً، ثم الوحدة التي تجمعنا مع
المسيح.
وبذلك يصبح قول بولس الرسول لأهل أفسس ذا قيمة كبيرة لنا في هذا
المجال:

+
“فأطلب إليكم، أنا الأسير في الرب، أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دُعيتم
إليها؛ بكل تواضع، ووداعة، وبطول أناة، مُحتملين بعضكم بعضاً في المحبة. مجتهدين
أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام. جسدٌ واحدٌ، وروحٌ واحدٌ، كما دُعيتم أيضاً
في رجاء دعوتكم الواحد. رب واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد للكل،
الذي على الكل وبالكل وفي كلِّكم. ولكن لكل واحد منَّا أُعطيت النعمة حسب قياس هبة
المسيح” (أف 1: 47)

إذن،
هذه هي روح العهد الجديد أو روح الدعوة الجديدة لكل إنسان في المسيح. وهذه هي روح
العمل الصالح للخليقة الجديدة التي تعمل لحساب النهاية الواحدة السعيدة.

ثانياً:
القسم الثاني: العمل الصالح كنعمة ممنوحة مجاناً من الله:

+
“صعد أيضاً فوق جميع السموات، لكي يملأ الكل. وهو أعطى البعض أن يكونوا
رُسُلاً، والبعض أنبياءَ، والبعض مُبشِّرين، والبعض رعاة ومُعلِّمين، لأجل تكميل
القدِّيسين، لعمل الخدمة، لبنيان جسد المسيح، إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية
الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل إلى قياس قامة ملء المسيح.. الذي منه كل
الجسد مُرَكَّباً معاً، ومُقترناً بمؤازرة كلِّ مفصلٍ، حسب عملٍ، على قياس كل جزء،
يُحَصِّلُ نُموَّ الجسد لبنيانه في المحبة” (أف 10: 416)

الحياة الأرثوذكسية داخل الكنيسة، حينما يجتمع الشعب كله مع
الإكليروس في وحدة الصلاة والتسبيح والشكر، تُعتبر استعلاناً لحالة الوحدة
المستقبلة، تُعاش الآن زمنياً، أي أن وحدة الكنيسة الآن في جامعيتها المتَّحدة
بالصلاة هي أصلاً شركة مواهب بالروح، تُمارِس العمل الصالح حسب قياس الموهبة
الصالحة الممنوحة لكل إنسان في المسيح كطبيعة الخليقة الجديدة وللكنيسة كلها، حيث
كل واحد يعمل للبنيان حسب الموهبة التي منحه الله إيَّاها. وهكذا فإن العبادة
العامة تضمن بكل ثقة ويقين نمو بنيان الكنيسة لحساب الملكوت على أساس تعدُّد
المواهب التي تعمل لوحدة كل إنسان في جسد المسيح!! العبادة الأرثوذكسية هنا هي
شركة مواهب تعمل لسرِّ الخلاص، عمل المواهب هنا هو عمل الصلاح الفائق الذي هو تاج
كل الأعمال طُرًّا.

لذلك
يلزم ألاَّ ننسى أبداً أن الموهبة هي أساس العمل الصالح للخليقة الجديدة. ويقول
بولس الرسول أيضاً: “لكي يخلق الاثنين في نفسه (شركة) إنساناً واحداً
جديداً صانعاً سلاماً
(العمل الصالح)” (أف 15: 2). وبهذا المعنى يتحوَّل مفهوم
العبادة والصلاة والتسبيح إلى مفهوم العمل الصالح، باعتبارها أعمالاً جماعية
تُعمَل بوحي المسيح، بروح واحد، لمجد الله، لتخدم معنى الوحدة. وبهذا تكون كل
أعمال العبادة من ذات طبيعة الخليقة الجديدة وكعمل أساسي لها، لقيام ودوام وتثبيت
وحدة المؤمنين في جسد واحد بالمسيح الرأس منذ الآن!!

+
امتلئوا بالروح، مُكلِّمين بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية،
مُترنِّمين ومُرتِّلين في قلوبكم للرب. شاكرين كل حين على كل شيء في اسم ربنا يسوع
المسيح، لله والآب. خاضعين بعضكم لبعض في خوف الله” (أف 18: 521)

وهنا
تظهر هذه الأعمال التي هي في صميم العبادة وترتيبها، أنها أعمال موحاة من الروح
القدس، ونتيجة مباشرة للامتلاء منه سبق الله فأعدَّها لنسلك فيها. وهنا يلزمنا أن
نشرح أكثر كلمة “نسلك فيها”، فكلمة
peripatšw
في الأصل اليوناني تفيد أن ينظِّم الإنسان نفسه بمقتضاها، أن يقود الإنسان نفسه
فيها، أن يحدد الإنسان سلوكه بحسب أصولها؛ وكلها تفيد معنىً واضحاً دقيقاً يمكن
جمعه هكذا: إن الله سبق فرتَّب لنا أعمالاً روحية تتناسب مع صلاحه ومع طبيعتنا
الجديدة التي نأخذها من المسيح بالروح القدس، وتتناسب مع مواهب الروح التي سكبها
ويسكبها علينا لنُمارِس هذه الأعمال (العبادة) على الدوام، حتى تصبح سلوكاً
محدَّداً وحياة متوافقة وخاضعة بسرور لمشيئة الله وتدبيره؛ وهذا ليس حسب هوى
نفوسنا وذواتنا. لذلك يلزم فيها من جهة الجسد عملية القمع والضبط والخضوع حتى تصير
الطبيعة الروحية غالبة والعبادة الصالحة هي السائدة، كما سنرى في العمل الصالح من
الوجهة السلبية الأخرى تجاه الخطايا والجسد.

إن
قمة أعمال العبادة التي يُمارِسها المؤمنون معاً، كجماعة متَّحدة وبنفس الوقت
كأفراد، لتخدم طبيعة الوحدة وتعلنها وتنشِّطها بصورة دائمة، هي سر الإفخارستيا؛
حيث يجتمع الجميع كجسد واحد وبروح واحدة حول جسد واحد وروح واحد، وإذ يأكلون الجسد
الواحد بروح الفرح والمحبة، يصيرون بسرِّ المسيح القائم من بين الأموات جسداً
واحداً فعلاً وكنيسة واحدة قائمة من بين الأموات. وبهذا يُعتبر سر الإفخارستيا قمة
الأعمال الصالحة التي سبق الله فأعدَّها ورتَّبها لنسلك فيها، أو بحسب
التعبير اليوناني: أن ينظِّم الإنسان نفسه بمقتضاها، ويقود نفسه بحسب ما يتضمنه من
معنى مُستخلِصاً منه قوة لسلوكه في الوحدة التي يقوم عليها سر الإفخارستيا بالدرجة
الأولى: ” كأس البركة التي نُبارِكها، أليست هي شركة دم المسيح؟ الخبز
الذي نكسره أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد
واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد
“(1كو 16: 10و17). هنا سر
الشركة
اسم على مُسمَّى، دخول فعلي في حياة جديدة مثل سر الشكر تماماً.

وبهذا
يُعتبر سر الإفخارستيا هو استعلان سر الملء أو سر الوحدة للخليقة الجديدة، حيث
يجتمع الكل في جسد واحد حي هو جسد المسيح المُقام من بين الأموات، فهو استعلان سر
الخلاص النهائي للبشرية كلها حينما يجمع المسيح كل شيء في نفسه:
الذي هو قبل
كل شيء، وفيه يقوم الكل، وهو رأس الجسد.. لأنه فيه سُرَّ أن يحلَّ كل الملء.
“(كو
17: 1
19)

وبالنهاية
تكون جميع ثمار الأعمال الصالحة التي نقدِّمها لله هي في حقيقتها متاجرة رابحة، أو
الربح الناتج من المتاجرة بالمواهب الممنوحة للطبيعة الجديدة التي وُلِدنا بها
ثانية بقيامة المسيح. والله إذ يتقبَّل منَّا هذا الربح الناتج من وزناته يردّه
إلينا على هيئة فيض نعمة، انسكاب بركة ومحبة: ” الذين ينالون فيض النعمة
وعطية
البر، سيملكون في الحياة بالواحد يسوع المسيح”(رو 17: 5). ولكن هذا
الفيض الإضافي من النعمة يدفع الإنسان الجديد لمزيد من العمل والشهادة والبذل،
وهكذا يختمر العالم كله بخمائر صغيرة من مواهب الله المنسكبة على الخليقة الجديدة.

والأعمال
الصالحة المفروض علينا تأديتها كخليقة جديدة في المسيح يسوع، بحسب ما أعطانا
المسيح من مواهب، أو على حدِّ تعبير بولس الرسول: ” فأنواع مواهب موجودة، ولكن
الروح واحد.. قاسماً لكل واحد بمفرده، كما يشاء

“(1كو 4: 12و11)؛
تنقسم هي أيضاً إلى نوعين من الأعمال يلتحمان معاً في النهاية ويصيران عملاً
واحداً يهدف إلى وحدة المؤمنين:

النوع
الأول:
يشمل
الأعمال السلبية التي نشهرها كأسلحة جديدة تُسلِّحنا بها طبيعتنا الجديدة لنُقاوِم
بها طباعنا وأخلاقنا وسلوكنا التي للإنسان العتيق الذي كانت تتحكَّم فيه الخطايا
والأهواء وشهوات الغرور.

والنوع
الثاني:
يشمل
الأعمال الإيجابية التي تظهر كطباع أو أخلاق أو فضائل أو مميزات الإنسان الجديد
المُلهَم بالنعمة التي هي أصلاً صفات وأفكار المسيح فينا.

وقد
شدَّد المنهج الإنجيلي على حتمية البدء بالأعمال السلبية ضد الإنسان العتيق.

أولاً:
النوع الأول السلبي:

الأعمال
السلبية المفروضة علينا كجهد مبذول من جهتنا

كخليقة
جديدة ضد سلوكنا القديم:

هذا
النوع يعتبر في طبيعته جهداً سلبياً موجَّهاً ضد الإنسان العتيق وأخلاقه، الذي
كانت الخطايا تتسلَّط عليه سابقاً.

أسبقية
الجهاد السلبي:

هذا
الجهاد السلبي، وإن كان يمشي جنباً إلى جنب مع الجهاد الإيجابي أي إظهار صفات
الإنسان الجديد، إلاَّ أنه يتحتَّم أن يتم الجهاد السلبي أولاً، وهذا يوضِّحه بولس
الرسول باختصار هكذا:

1
“هذا وإنكم عارفون الوقت، أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم (وهي
ساعة قبولنا الحياة الجديدة بكل حرارتها ومعرفتها وقوتها وغيرتها)، فإن خلاصنا
الآن أقرب مما كان حين آمنَّا. قد تناهى الليل وتقارَب النهار (ليل جهالة الخطية،
ونهار معرفة النعمة)، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور” (رو 11:
13و12)

 

الخلع
أولاً، ثم اللِّبس.

2
“أن تخلعوا من جهة التصرُّف السابق الإنسان العتيق الفاسد
بحسب شهوات الغرور، وتتجدَّدوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد
المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق” (أف 22: 424)

3
إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد
الذي يتجدَّد للمعرفة حسب صورة خالقه” (كو 9: 3و10)

ما
هي أعمال الإنسان العتيق؟ وكيفية سقوطنا فيها؟

وكيفية
قيامتنا الجديدة منها؟

أعمال
الإنسان العتيق:

لقد
حدَّد العهد الجديد أعمال الإنسان العتيق في مواقف عدة نلخِّصها كالآتي:

1
“وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك يُنجِّس الإنسان،
لأن من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنا، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف” (مت
18: 15و19)

“وأما
الزنا وكل نجاسة أو طمع فلا يُسَمَّ بينكم كما يليق بقدِّيسين، ولا القباحة،
ولا كلام السفاهة والهزل
التي لا تليق، بل بالحري الشكر. فإنكم تعلمون
هذا أن كلَّ زانٍ أو نجس أو طمَّاع الذي هو عابدٌ للأوثان
ليس له ميراث في ملكوت المسيح والله. لا يغُرَّكم أحد بكلام باطل، لأنه
بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على أبناء المعصية. فلا تكونوا شركاءهم. لأنكم
كنتم قبلاً ظلمة،
وأما الآن فنور في الرب” (أف 3: 58)

“لأن
الأمور الحادثة منهم سرًّا، ذكرها أيضاً قبيح” (أف 12: 5)

2
“أميتوا أعضاءكم التي على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى،
الشهوة الرديَّة، الطمع
الذي هو عبادة الأوثان، الأمور التي من أجلها يأتي غضب
الله على أبناء المعصية، الذين بينهم أنتم أيضاً سلكتم قبلاً، حين كنتم تعيشون
فيها. وأما الآن فاطرحوا عنكم أنتم أيضاً الكل: الغضب، السَّخط، الخبث، التجديف،
الكلام القبيح
من أفواهكم. لا تكذبوا بعضكم على بعض” (كو 5: 39)

3
“لنسلك بلياقة كما في النهار، لا بالبَطَر والسُّكر، لا
بالمضاجع والعَهَر، لا بالخصام والحسد.
بل البسوا الرب يسوع المسيح، ولا تصنعوا
تدبيراً للجسد لأجل الشهوات”
(رو 13: 13و14)

4
“وأعمال الجسد ظاهرة: التي هي زنا عهارة نجاسة دعارة عبادة
أوثان سحر عداوة خصام غيرة سخط تحزُّب شِقَاق بدعة حسد قتل سُكر بَطَر..
إن
الذين يفعلون مثل هذه لا يرثون ملكوت الله.. لا نكن مُعجبين نُغَاضِب
بعضنا بعضاً، ونحسد بعضنا بعضاً”
(غل 19: 521و26)

“لأن
مَنْ يزرع لجسده فمن الجسد يحصد فساداً” (غل 8: 6)

“إن
عشتم حسب الجسد فستموتون” (رو 13: 8)

5
“لأنه كما قدَّمتم أعضاءكم عبيداً للنجاسة والإثم للإثم،
هكذا الآن قدِّموا أعضاءكم عبيداً للبر للقداسة.. فأيُّ ثمرٍ كان لكم حينئذ من
الأمور التي تستحون بها الآن؟ لأن نهاية تلك الأمور هي الموت.. لأن أُجرة
الخطية هي موت” (رو 19: 6و21و22)

6
“ليُرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل
خُبث”
(أف 31: 4)

7
“الروح الذي حلَّ فينا يشتاق إلى الحسد؟ ولكنه يُعطي
نعمة أعظم (الآن)” (يع 5: 4و6)

8
“من أين الحروب والخصومات بينكم؟.. تشتهون ولستم
تمتلكون.. تقتلون وتحسدون.. تخاصمون وتُحارِبون.. تطلبون ولستم تأخذون،
لأنكم تطلبون رديًّا لكي تنفقوا في لذَّاتكم.. أما تعلمون أن محبة
العالم عداوة لله.. لا يذُمَّ بعضكم بعضاً
أيها الإخوة، الذي يذُمُّ أخاه
ويدينُ أخاه يذُمُّ الناموس ويدينُ الناموس.. فَمَنْ أنت يا مَنْ تدين غيرك؟”
(يع 1: 4 12)

9
“.. مملوئين من كل إثم وزنا وشر وطمع وخبث، مشحونين حسداً
وقتلاً وخِصاماً ومكراً وسوءًا، نمَّامين مُفترين، مُبغضين لله، ثالبين مُتعظِّمين
مُدَّعين، مُبتدعين شروراً، غير طائعين للوالدين،
بلا فهم ولا عهد ولا حُنُوٍّ
ولا رِضىً ولا رحمة” (رو 29: 131)

 

ويُلاحَظ
هنا أن كل أعمال الإنسان العتيق تنقسم إلى قسمين أساسيين:

القسم
الأول: أعمال موجَّهة ضد الله:

وهي
تنصب كلها في أعمال الزنا والنجاسة والتجديف وعبادة الأوثان القديمة والحديثة، حيث
الزنا والنجاسة هما تسليم الجسد والنفس للروح النجس عِوَض تسليمه لروح الله
للقداسة. هنا الجسد يصير متَّحداً بالروح النجس عِوَض طبيعته المتأصِّلة على أساس
اتحاده بروح الله، ويصير متعبداً للنجاسة عِوَض أن يكون عابداً بالقداسة: ” ولكن
الجسد ليس للزنا بل للرب، والرب للجسد!!!!”
(1كو 13: 6)، “لأن الله
لم يدْعُنا للنجاسة بل في القداسة” (1تس 7: 4)

أما
التجديف وعبادة الأوثان التي هي محبة المال والقنية والاعتداد بالذات وتأليهها،
فهي بمثابة تقديم العقل والفكر والضمير لسيد العالم وإله هذا الدهر، ويصير الإنسان
متعبِّداً للعالم عِوَض الله: “وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في
الفكر، في الأعمال الشريرة،
قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت، ليُحضركم
قدِّيسين وبلا لوم ولا شكوى أمامه” (كو 21: 1و22)

القسم
الثاني: أعمال موجَّهة ضد الإنسان:

وهي
تعدٍّ على حقوق الغير وعلى كرامتهم وسمعتهم وإيذاء نفوسهم، وهذه كلُّها تعمل
لتفكيك الوحدة والصلة بين الإنسان وأخيه الإنسان على كل المستويات.

وهكذا
نرى أن أعمال الإنسان العتيق الشريرة سواء الموجَّهة ضد الله أو الموجَّهة ضد
الإنسان الآخر، إنما تعمل لهدف واحد شرير وتنتهي عند هذا الهدف، وهو تفكيك وحدة
الإنسان بالله وتفكيك وحدة الإنسان بالإنسان.

كيفية
سقوطنا في أعمال الإنسان العتيق الشريرة:

1
“لأنهم لَمَّا عرفوا الله لم يمجِّدوه أو يشكروه كإله، بل
حمقوا في أفكارهم، وأظلم قلبهم الغبي.. لذلك أسلمهم الله أيضاً في شهوات
قلوبهم
إلى النجاسة، لإهانة أجسادهم بين ذواتهم” (رو 21: 1و14)

2
“الذين استبدلوا حق الله بالكذب، واتَّقوا وعبدوا
المخلوق دون الخالق” (رو 25: 1)

“فلو
كنت بعد أُرضي الناس، لم أكن عبداً للمسيح” (غل 10: 1)

“لذلك
أسلمهم الله إلى أهواء الهوان” (رو 26: 1)

3
“وكما لم يستحسنوا أن يُبْقُوا الله في معرفتهم، أسلمهم الله
إلى ذهن مرفوض
ليفعلوا ما لا يليق” (رو 28: 1)

4
“الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه
يستوجبون الموت، لا يفعلونها فقط، بل أيضاً يُسَرُّون بالذين يعملون” (رو
32: 1)

5
“الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين،
لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح، الذي هو صورة الله” (2كو 4: 4)

6
“فأقول هذا وأشهد في الرب، أن لا تسلكوا في ما بعد كما يسلك
سائر الأُمم أيضاً ببُطل ذهنهم، إذ هم مظلمو الفكر، ومُتجنِّبون عن حياة
الله لسبب الجهل
الذي فيهم بسبب غلاظة قلوبهم. الذين إذ هم قد
فقدوا الحِسَّ أسلموا نفوسهم للدعارة
ليعملوا كل نجاسة في
الطمع” (أف 17: 419)

7
“كي لا نكون في ما بعد أطفالاً مُضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم،
بحيلة الناس، بمكر إلى مكيدة الضلال” (أف 14: 4)

8
لا تعطوا إبليس مكاناً. اغضبوا ولا تخطئوا. لا تغرب
الشمس على غيظكم” (أف 27: 4و26)

9
“وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا، التي سلكتم فيها
قبلاً حسب دهر هذا العالم،
حسب رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في
أبناء المعصية”
(أف 1: 2و2)

10
“فانظروا كيف تسلكون بالتدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء،
مُفتدين الوقت لأن الأيام شريرة” (أف 15: 5و16)

“من
أجل ذلك لا تكونوا أغبياء بل فاهمين ما هي مشيئة الرب” (أف 17: 5)

11
“لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا. ولأجل هذا
سيُرسل إليهم الله عمل الضلال، حتى يُصدِّقوا الكذب، لكي يُدان جميع الذين
لم يُصدِّقوا الحق، بل سُرُّوا بالإثم” (2تس 10: 212)

 

وهكذا
يمكن تلخيص الأسباب كالآتي:

(أ)
عرفوا الله (ذكاء وعلم) ولم يمجِّدوه (عبادة وصلاة)، وهكذا يُحسب ذكاؤهم
وعلمهم أنه حماقة فكر وظلمة قلب. والنتيجة أنهم أُسلموا إلى شهوات قلوبهم ليعملوا
النجاسة. وهكذا يكون تعظُّم الفكر واحتقار أمور الله كالصلاة والعبادة، هي النتيجة
الحتمية للتخلية الإلهية كجزاء طبيعي. وبالتخلية تنعمي البصيرة في الحال، فلا يرون
الحق الإلهي، فيسقطون راضين في خداع الشهوة والباطل.

(ب)
لم يستحسنوا أن يُبقوا الله في معرفتهم (أي انتقلوا من صف الله إلى صف العالم)
ç أُسلِموا إلى ذهن
مرفوض (خالٍ من نور الله)، لأن غياب الله ظلمة في الفكر والقلب.

(ج)
عرفوا حكم الله ولم يخشوه، بل فرحوا أيضاً بالمخالفين
ç لذلك أسلِموا إلى
الدينونة وإلى قساوة قلب غير تائب، لأن مقاومة الحق تؤدِّي إلى قساوة شيطانية
مُرَّة ضد التوبة.

(د)
المتشكِّلون بفكر وعمل هذا الدهر
ç ينعمي ذهنهم ç لا يُقبلون على الإنجيل، وإذا قرأوه لا يجدون فيه أي شيء نافع أو
منير لهم، لأن القلب إذا ذهب وراء العالم انقفل الذهن تجاه الإنجيل.

(ه)
متجنِّبون عن حياة الله (أي يهربون من كلمة الوعظ ومكان العبادة)، والنتيجة تكون
حالة جهل بالله
ç ذهن يعمل في الباطل، والنتيجة أن يفقدوا الإحساس الروحي.

(و)
طفولية التفكير في الروحيات
ç محمولين بكل ريح تعليم بلا تمييز، والنتيجة ç اضطراب نفسي، والنتيجة ç سقوط في مكيدة الضلال.

(ز)
إسكان الشيطان في الفكر وفي النفس بسبب الدوام في حالة غضب، والنتيجة
ç تسلُّط الخطية
والتفنُّن في التعدِّي.

(ح)
مجاراة روح العالم وأهل العصر (حسب دهر هذا العالم) = (حسب رئيس سلطان
الهواء) = والنتيجة
ç السقوط تحت قيادة روح المعصية.

(ط)
السلوك بدون تدقيق وبدون الرجوع لكلمة الله، والنتيجة
ç الدخول في حالة جهالة هي غباء حقيقي ç ضياع العمر في الباطل.

(ي)
الانصداد عن محبة الحق (استهتار) وعلامتها
ç يفرحون بالضلال ويصدِّقون الكذب ç ويسرُّون بالإثم.

ويُلاحَظ
أن جميع أسباب السقوط في جميع أعمال الإنسان العتيق الشريرة تتعلَّق كلها
بالمعرفة.
فإما تعالٍ على الحق، وإما رفضه، وإما تجاهله، وإما
الجهل به. وهكذا ترتبط الخطية بالمعرفة رباطاً أكيداً منذ البدء.

 

ثانياً:
النوع الثاني الإيجابي:

أعمال
الإنسان الجديد المميِّزة والمتَّصلة بالمسيح،

وأهمها
المواظبة على الصلاة والتناول كطعام القيامة:

اجتماع
المؤمنين باستمرار للاشتراك في كل طعام، وبالأخص القدَّاس، هو في حقيقته السريَّة
تواجُد متواتر مع المسيح القائم من بين الأموات “اصنعوا هذا لذكري”، تواجُد مشترك.
فهو الذي يدعونا لنتصل به اتصالاً فعلياً شمولياً، وليس اتصال معرفة هنا، أو
اتصالاً بالفكر؛ بل اتصال بجسد ودم المسيح، ليدخل المسيح بشخصه في واقع الإنسان
بكل عمقه وامتداده، لا لنتواجد معه فقط، بل ليتواجد هو معنا حسب مسرَّة مشيئته: “لأنه
حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فهناك أكون في وسطهم” (مت 20: 18)،
ونحن لا ندعوه ليتواجد معنا فقط، بل إذا خُتم الاجتماع بالتناول من الجسد والدم،
فإنه يكون بمثابة دخول سرِّي فينا حيث نأكل ونشبع من وجوده ومن قيامته، لأن الجسد
والدم يحملان قوة وفعل الفداء والحياة لنمو وثبوت الأعضاء في جسد المسيح السرِّي
القائم من بين الأموات: “اثبتوا فيَّ وأنا فيكم” (يو 4: 15)

هنا
العمل الصالح الذي أعدَّه لنا الرب بنفسه هو في الحقيقة طعام القيامة السرِّي
النازل من السماء كل يوم ليعمل عمله ويفعل فعله العميق غير المنظور في خليقتنا
الجديدة، ويثبِّت الأعضاء الجُدد في الجسد ويوحِّدهم جميعاً، ليكون لهم وللجسد كله
مصدر حب وفرح وإلهام كقوة متجدِّدة وشكل واحد بالروح: “فإن كان عضو واحد
يتألَّم، فجميع الأعضاء تتألَّم معه. وإن كان عضو واحد يُكرَّم، فجميع الأعضاء
تفرح معه” (1كو 26: 12). كل فرد يأخذ من الملء والملء يزداد بصورة مستمرة
بانسكاب مواهب الله الجديدة على الجسد كله: “وأما أنتم فجسد المسيح، وأعضاؤه
أفراداً” (1كو 27: 12). وبالنهاية يصبح كل فرد بسبب امتلاكه
لصفات ومميزات الإنسان الجديد له كل ما للجسد من كرامة ومجد حتى مجد
الرأس، والجسد له كل ما للأفراد في وحدة متناظرة فائقة هي أصلاً وبالأساس وحدة حب
وبذل وانسجام وترفُّق، وهي الصفات التي لها القدرة الإعجازية على التجميع لبلوغ
حالة تمجيد لله: “أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما
أننا نحن واحد.. وأنا ممجَّد فيهم” (يو 22: 17و10)

كيف
أن استعلان العمل الصالح يمجِّد الله:

+
“فليُضئ نوركم هكذا قدَّام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجِّدوا أباكم
الذي في السموات” (مت 16: 5)

هنا
التمجيد الذي يقصده المسيح ليس التمجيد اللفظي، وإنما انعكاس النور الذي ينبعث من
الأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان الجديد فيكشف مجد الله للعالم. العالم بطبيعته
المادية
وبتركيبه المنطقي العلمي لا يعرف الله ولا يستطيع أن يعرفه من ذاته: “ولكن
الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله (أمور الروح) لأنه (لأنها) عنده جهالة،
ولا يقدر أن يعرفه (يعرفها) لأنه إنما يُحكم فيه روحياً. وأما الروحي فيحكم في كل
شيء وهو لا يُحْكَم فيه من أحد” (1كو 14: 2و15). والأمور الطبيعية والمنطق
العلمي بحدِّ ذاته يمكن أن يؤدِّي إلى معرفة الله وإنما بتوسُّط الروح القدس الذي
يكشف الصلة بين الخالق والمخلوق، ولكن العالم من نفسه أو الإنسان الطبيعي بتركيبه
الطبيعي ليس فيه روح الله، لأن الروح القدس هو عطية الله الجديدة للإنسان: “روح
الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه، وأما أنتم
فتعرفونه لأنه ماكث معكم ويكون فيكم” (يو 17: 14)

إذن،
أصبحت الأعمال الصالحة المعمولة بالروح القدس وبواسطة الإنسان الجديد المخلوق
جديداً بالقيامة من بين الأموات، هي بمثابة الصلة الوحيدة بين عالم الماديات ومنطق
الطبيعة وبين الله خالقها. فالعمل الصالح المعمول بالنعمة هو برهان الروح الوحيد
لإظهار الله كخالق وكشف قوته المختفية وراء الطبيعة والماديات. وهذا هو مجال تمجيد
الله الوحيد، ولكن يلزم هنا أن يكون العمل الصالح قد بلغ قوته وكماله في جمع
المتفرِّقين إلى واحد ولَمِّ شمل الأعضاء جميعاً في جسد واحد يتحرَّك بصورة
إعجازية فائقة على مستوى الطبيعة في المحبة والأُلفة والبذل والفداء، حيث يصبح
أيضاً وعاءً صالحاً يسكب الله فيه قوته الفائقة للمنطق العقلي، فتصبح الكنيسة
بجملتها وبحدِّ ذاتها كوحدة مجتمعة شاكرة مسبِّحة مستقبِلة لعطايا ومواهب الروح
القدس، برهاناً على وجود الله وعمله وصلاحه، وتكون بوحدتها القوية غير المنحلة هي
معجزة العالم الجديد الشاهد لله وسبب تمجيده إلى الأبد.

ولكن
الذي يعطِّل شهادة الكنيسة لله كخليقة جديدة في العالم في كل زمان ومكان هو
فُرقتها وانقسامها، سواء في العقيدة الواحدة أو من جهة انقسام العقائد كلها، أو من
جهة السلوك المادي. العالم الآن غريب عن الله، بسبب تغرُّب الكنيسة عن طبيعتها
وظهورها بهذه الصورة المنقسمة المتفرِّقة المتشايعة لهذا الزمان ولنفسها، وليس لله.
فالكنيسة غير منظورة جيداً كعمل صالح، وغير موجودة كشهادة لله حيَّة وفعَّالة
بالنسبة للعالم، وفُرقة الكنيسة وانقسامها وانشغالها بالماديات يجرِّدها من جوهر
العمل الصالح، ويجعل تصرُّفها يظهر وكأنه من صميم الطبيعة الأرضية. هذا تعيشه
الكنيسة دون أن تدري أنها بذلك تبرهن للإنسان الطبيعي على عدم وجود الله في
العالم!

(1971)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى