علم الله

عقيدة الثالوث القويمة



عقيدة الثالوث القويمة

عقيدة
الثالوث القويمة

بحسب
الأراء العلمية السليمة

المرحوم
وليم تمبل جردنر

رئيس
الجمعية الأسقفية بمصر سابقا

مقالات ذات صلة

 

الديباجة
الأصلية

كما
كتبها المرحوم المؤلف

باسم
الله الواحد المثلث الأقانيم

أما
بعد فهذه حلقة جديدة من سلسلة المباحث التي لا تزال جمعيتنا تنشرها باللغة العربية
لفائدة أبناء الناطقين بالضاد. وهي تحتوي على فصول متتابعة كنا قد نشرنا بعضها
رواية متتابعة والبعض الآخر مقالات متواصلة في مجلة الشرق والغرب بحثنا فيها بحثا
مستفيضا في عقيدة الثالوث وعدم مناقضتها للعقل السليم والفلسفة الصحيحة ولما كانت
قد صادفت إقبالا من الجمهور رأينا أن نجمعها على حدة وننقحها تنقيحا كبيرا ونقدمها
للجمهور كتابا صغيرا في حجمه، كبيرا في فائدته. فأملنا أن يحوز قبول القراء. والله
حسب ونعم الوكيل

وليم
تمبل جردنر

 رئيس
الجمعية الأسقفية بمصر

 

الباب
الأول

الاعتراضات
على عقيدة الثالوث

الاعتراض
الأول والرد عليه

الاعتراض
الأول على عقيدة الثالوث هو القول بأن نسبة الأبوة والبنوة إلى الإله مخلة بشرفه
الأقدس.

يمكن
قسمة هذا الاعتراض إلى قسمين:

(١)
ان مثل هذه الكلمات تشير إلى التوالد الجسدي

(٢)
انها تقتضي التتابع الزمني

وكلا
الأمرين مخل بوحدة الإله.

(١)
فجوابا على هذا نقول أن من أمعن النظر في هذين الاعتراضين ثبت له بطلانهما. اذ يجب
التمييز بين الأبوة والتوالد. لأن الأب شئ والوالد شئ آخر. فكل أب يجوز أن يدعى
والدا ولكن ليس كل والد أبا لأن الوالدية (أو التوالد) أمر يشترك فيه الإنسان
والحيوان بل النبات أيضا وكل ما يلد نوعا من جنسه. فمن المضحكات إذا أن نقول أن
السمكة الفلانية هي “أب” السمكة الأخرى أو أن هذا النبات هو
“أب” ذاك. فعندما نزرع بذرة فيالأرض لا نفتكر في النبات الذي أنبت تلك
البذرة وبالنتيجة النبات الذي ينمو منها. وهذا يبين جليا أننا عندما نتكلم عن أب
وابن بشريين لا يكون لمعنى التوالد إلا محل ثان في أذهاننا. أما المحل الأول
فتشغله اعتبارات أدبية محضة أو علاقات روحية بين كائنين أدبيين ومن تلك العلاقات
المحبة (وهي أولها وأهمها) والإكرام والمناجاة المتبادلة والتبادل الكامل المبارك
ووحدة الطبيعة والصفات والإرادة والاتفاق في العمل وتناسب الوظائف. هذا وإننا نشير
هنا إلى الأبوة والبنوة الكاملتين وهو أمر نادر في هذا العالم. على أننا كثيرا ما
رأينا هذه الأمور في الآباء والأبناء الأرضيين. فهل في هذه الصفات في حد ذاتها ما
هو مخل بشرف الله الأقدس من الوجهة الأدبية؟ كلا لعمري. أما كون هذا الأمر يقتضي
التعدد فنرجئ الكلام عليه إلى ما بعد. ولكن من الوجهة الأدبية لا نخال أحدا ينكر
أن الصفات الأدبية التي ذكرناها تليق جميعها بالله ولا نشك أنه تعالى لهذا السبب
استعمل لفظتي الأبوة والبنوة لكي يفهمنا العلاقة بينه وبين كلمته الأزلية. ولولا
ذلك لا نصرف العقل إلى تصوير تلك العلاقة صورة فلسفية محضة كما فعل فيلو الفيلسوف
اليهودي ولتجردت العقيدة حينئذ من كل

فائدة
روحية وأدبية تفيد النفس. ولكن الواقع أن دعوة الله والكلمة أبا وابنا متحدين
بروحهما المتبادل قد دفع الإنسان إلى البر والقداسة في المعيشة العائلية وأراه
معنى جديدا للمحبة والمشاركة في الأفكار بشرط أن يفسح لهذه الأفكار مجالا رحبا في
القلب أيضا ولا يقصره على العقل فقط.

ونرى
مما تقدم أننا قد دفعنا نصف الاعتراض الثاني أيضا وهو القائل بأن الأبوة والبنوة
تقتضيان التتابع الزمني وأنه بناء على ذلك لا يكون الابن أزليا كالأب بل يكون قد
وجد بعده وأن الله أصبح (ولم يكن في الأزل) أبا. ولكن قولنا أن التوالد دون الأبوة
لا علاقة له بكائن روحي يقتضي الاعتقاد بأنه لا محل للقول بالتتابع. فإذا حصرنا
أفكارنا في الوجهة الأدبية فقط من الأبوة والبنوة مجردتين من التوالد نجدهما
متبادلتين متلازمتين وبعبارة أخرى أنها متعاصرتان. وباعتبار الله أزليتان. فإذا
سلمنا بأن في الله انتسابات أزلية لم تبق صعوبة في استعمال لفظتي أب وابن في
الكلام عن الله وكلمته باعتبار أدبي محض وهذان الآب والابن هما متحدان بروحهما
المتبادل أي الروح القدس.

ورب
معترض يقول ألا تعلمون أن مسألة الأبوة والبنوة

باعتبار
الله عثرة في سبيل المسلمين. ونفورهم من مثل هذا المعتقد يجري مجرى الدم في
عروقهما فليس من الحكمة استعمال ألفاظ (كالأب والابن) لا يدركها الجميع مع أنها لم
توضع في الأصل إلا كرمز إلى حقيقة أزلية لا بمعنى أنها الحقيقة بكاملها. أما الآن
فإن استعمال هذه الألفاظ يفضي إلى عكس المقصود فلماذا لا يعدل عنها إلى ألفاظ أخرى
أكثر موافقة وأدل على الحقيقة؟

نقول
أننا لا يجوز لنا أن نتلاعب بتعبيرات قالها الله وقررها في كتابه لأن استمرارها في
الكتاب المقدس واستعمال الكنيسة لها يجعلانها بمثابة دستور حي يجب الاحتفاظ به
فإذا أهملنا هذه التعبيرات من ديانتنا لا نلبث أن نرى الناس يهملون جانبا كبيرا من
الحقيقة الرامزة هي إليها فيضيع المعنى المدلول عليه وإذا فقد معنى الأبوة باعتبار
الله من الديانة فقد الكثيرون أثمن شئ عندهم في الدين.

ورب
قائل يقول: – إذا يستحسن استعمال لفظة “أب” بمعناها العام فنسمي الله
أبا بمعنى أنه يحب الناس ويسد إعوازهم كما يفعل الأب مع بنيه؟

نقول
أنه مما يستحق الملاحظة أن المسلمين ينفرون حتى من هذه التسمية وذلك يبين حقيقة
الفرق بين اعتقادهم في الله واعتقاد

فيه
كالاب السماوي. وقد ورد ما يؤيد دعوانا في مسند أحمد بن حنبل جزء ٦ وجه
٢١ نص (١) للصلاة الربانية كما صادق عليها نبي المسلمين وقد حذف
منها قوله “أبانا” ذلك النداء الذي أفرح ألوف الخطاة وغير أفكارهم عن
الله. وهذا يدلك على أنك إذا طويت كشحا عن مذهب أبوة الله الأزلية وتلاعبت بلفظتي
“آب” و”ابن” فلا تلبث أن تجرد الله من صفات الأبوة بأي اعتبار
كان. وكذلك إذا أنكرت بنوة المسيح الأزلية لا تلبث أن تجرد النفس من تلك البنوة
بأي اعتبار كان وهذا مما يثبته لنا العقل والتاريخ لا الاعتقاد فقط.

والحق
إنه من المحزن جدا أن يتكلم نبي المسلمين بشدة عن أمور لم يدركها تماما ولا شك أنه
خلط (كما يتضح من القرآن) مذهب الأبوة عند المسيحيين والعلاقات الأزلية بين الأب
والابن والروح القدس بمذهب وثنيي مكة القائلين بأن لله بنات الهات. أما

 

(١)
“ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك. أمرك في السماء والأرض اللهم كما أمرك
في السماء. فاجعل رحمتك علينا في الأرض اللهم رب الطيبين. اغفر لنا عيوبنا وذنوبنا
وخطايانا ونزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك”

(عن
عبد الله ….. عن فضالة بن عبيد الأنصاري عن …. وهي رقية)

قوله
(لم يلد ولم يولد) فلا يبعد أن يكون موجها للمكيين لا للمسيحيين لأن نبي المسلمين
إما أنه لم يفهم عقيدة الثالوث تمام الفهم أو أنه كان يحارب عقائد ينكرها كلا
المسلمين والمسيحيين. لأنه يبان من القرآن نفسه أن الثالوث حسب رأي نبي المسلمين
مؤلف من أب وابن! وأم هي مريم العذراء.

إن
حالة اليهود في زمن الرسل وحالة المسلمين اليوم ودائما ليستا متشابهتين من هذه
الوجهة تماما فإن اليهود على رغم أنهم كانوا موحدين وأنهم كانوا يتدرجون إلى مذهب
التنزيه المطلق فإن أسماءهم كانت قد ألفت ألفاظا “كالله الآب” أو
“ابن الله” كما يظهر من درس التوراة حيث تستعمل هذه الألفاظ للدلالة على
أية علاقة شديدة ونسبة وثيقة بين الله والأمة المختارة ثم بين الله والملك الممسوح
وأخيرا بينه وبين المسيح المسيا المنتظر. فقد كان من السهل إذا على تلاميذ المسيح
الاثني عشر الموحدين وعلى غيرهم من المدركين كبولس مثلا أن يفسروا تلك الألفاظ
بمعناها الروحي أي النسبة الأزلية الكائنة بين الله وكلمته المتجسدة. والحق أن
المسلمين أنفسهم يعتقدون بإمكانية أزلية الكلمة إذ يقولون بأزلية القرآن.

وخلاصة
الرد على الاعتراض الأول أننا إذا حذفنا معنى التوالد

من
الأبوة الروحية كأنها لا تطابق كائنا روحيا لم يبق لقولنا أب وابن سوى اعتبارات
أدبية تليق بالله. وهذا الحل يحل لنا أيضا مشكلة الآب والابن باعتبار التتابع
الزمني. ويبين لنا أن العلاقة بينهما متبادلة وبالنتجية أزلية.

ولكن
لا يزال هناك صعوبة أخرى وهي التعدد باعتبار الله الواحد وفيها بحثنا الآن.

 

الاعتراض
الثاني والرد عليه

رب
معترض يقول “ان التمييز يناقض التطابق في حد ذاته وكذلك التعدد يناقض
الوحدة”

نقول
إن الحقيقة هي عكس ذلك. فليس في عالم الحقائق تطابق بدون تمييز ولا وحدة بدون
تعدد. فليس إذا في الوحدة المثلثة الأقانيم ما يناقض العقل بديهيا بل بالعكس أن
الفلسفة القديمة والحديثة تشير ضررورة إلى فكر كهذا لمن أراد الاعتقاد بإله حقيقي.

وقد
أثبتت لنا الفلسفة الحديثة بالخصوص أن النسبة والتناسب هما قوام الكينونة. وليت
شعري هل النسبة سوى تمييز أو تعدد في الوحدة؟ فكلما عظم التناسب كانت الحقيقة أتم ونوع
الوحدة

أسمى.
وبالعكس إذا أردنا أن نتصور وحدة بدون تمييز يكون الفكر مجرد خيال وهمي كالنقطة
الهندسية لا مقاس لها بل هي فكر مجرد كالصفر. وقد قال هيجل الفيلسوف الشهير إن
كائنا من هذا القبيل هو في الحقيقة غير كائن. وأن الوجود والعدم في هذه الحالة
سيان.

فهل
ننسب إلى الله أضعف أنواع الوجود وأفرغها دلالة ونقول أنه كائن غير متميز الوحدة؟
أم نقول عنه أنه أسمى الكائنات وأرفعها وأغناها؟ فلا شك إذا أن لوحدة الله تناسبا
في الجوهر ولكن ليس مع العالم المحدود أو مع كائن آخر خلافه لأن تناسبا كهذا يجعل
المخلوق إلها ثانيا فالتناسب الجوهري الأزلي إذا يجب أن يكون داخليا أي ضمن وحدة
الله ذاته. وهذه الوحدة يجب أن تكون ذات تنوع وامتيازات لئلا تكون فكرا مجردا. ولا
يجب أن الوحدة الإلهية تكون متممة فقط لبعض المقتضيات العقلية من مثل فرض علة
مطلقة غير معلولة وهو منتهى ما وصل إليه علم “الكلام” في الدين الإسلامي
على ما يظهر.

ونتقدم
الآن إلى أبعد من ذلك لنبين كيف أنه بمقدار التمييز أو التنوع في الوحدة تكون تلك
الوحدة سامية. وإذا تمكنا من

إثبات
هذا نكون قد أثبتنا القول بأن الله الذي هو أسمى الكائنات وحدة هو أسماها أيضا في
التنوع الأزلي.

إذا
تمعن الإنسان في الطبيعة (التي يجد فيها ظل الله) يرى أن الأشياء التي لا يكون
التنوع أو التمييز في وحدتها ساميا لا يكاد يصح أن تنسب إليها وحدة بمعنى الكلمة.
خذ الحجرة مثلا. فهي لها وحدة ما لأنها حجرة. ولكن ما أقل قيمة هذه الوحدة! وإذا
رضختها شطرين لا تكون قد مسست وحدتها (إلا بالاعتبار الحسابي) لأنها لا تزال حجرا
وإن تكن قد جزأتها إلى شطرين.

ونلتفت
الآن إلى الأشياء الحية وهي المعروفة بالمملكة العضوية أو الآلية فنرى الأمور على
خلاف عظيم. ولكن هنا أيضا نرى أنه كلما ارتقى التميز أو التنوع كانت الوحدة أسمى.

ولنبدأ
بأسفل درجات المملكة الحية ولنأخذ النبات مثلا حيث يكون التنوع على أقله والوحدة
بسيطة. كوحدة الحجر تقريبا. خذ الطحلب مثلا. فهذا النبات يمكن تقطيعه بدون الحاق
ضرر بصفته الجوهرية.

وكلما
صعدنا في سلم المملكة النباتية نرى أنه كلما ازداد تنوع الوحدة كان جوهر حقيقتها
أسمى أي أننا (أولا) لا يمكننا أن نجزئها

بدون
الذهاب بحياتها أي بذاتيتها. (ثانيا) أن كلا منها يختلف عن الآخر كل الاختلاف بحيث
أنه متفرد في ذاته. وهذان هما قوام الوحدة الحقيقية أي وجود الذاتية وعدم قبول
التجزئة.

وهذا
يصدق على الأجناس العليا من الأنواع الحية حيث نجد لتلك الأنواع شعورا أو وجدانا
نعني بتلك الأنواع المملكة الحيوانية. فنرى أن التنوع قليل جدا في الحيوانات
السفلى وبالتالي وحدتها ضعيفة. فمن تلك الحيوانات ما يمكن تجزئته بدون قتله فيعيش
كل من تلك الأجزاء مدة، فوحدة تلك الحيوانات هي من النوع الأدنى لأن التنوع فيها
قليل جدا. وكلما قل تنوع الوحدة قلت أهميتها وقيمة اضمحلالها.

وكلما
صعدنا في سلم التنوع ارتقى الشعور فيتولد فيما بعد العقل وترى التنوع يزداد كثيرا
جدا وتزداد معه حقيقة الوحدة الجوهرية وبالتالي يزداد أيضا تفردها وعدم إمكان
تجزئتها ويقول علماء الحيوان أن أفراد تلك الأنواع تختلف في الذاتية عن بعضها كما
تختلف أفراد النوع الإنساني تقريبا. سل مدير حديقة الحيوانات فيخبرك عن حقيقة هذا.
يقول لك أن كل فرد هو فريد في ذاته. ثم إنه لا يخفى أن كل فرد يحتوي على تنوع سام
في الوحدة (كما

عرفناها)
وهذا التنوع هو داخلي. ويبلغ التنوع معظمه في الإنسان حتى يكاد يفوق حد التصور فهو
إذا قريب من الكمال في الوحدة. والخلاصة:

إن
قيمة الوحدة الحقيقية تزداد في المملكة الحية بالازدياد في التنوع الداخلي.
فالإنسان هو وحده حقيقة أكثر من نبات اللفت مثلا وهو أسمى منه تنوعا أيضا.

وإذا
كان ما تقدم ينطوي على مبدأ ما فلا بد أن ذلك المبدأ يساعدنا على البحث في
موضوعنا. لأننا إذا عممناه إلى ذلك الكائن الذي فيه قد كملت الحياة والوجدان وهو
متفرد مطلقا وغير قابل للتجزئة (وبالاختصار) يتمم جميع شروط الوحدة الكاملة (وذلك
الكائن هو الله الواحد الأحد) أفليس من المنتظر أن يبلغ فيه التنوع الداخلي درجة
تفوق حد التصور كما أن وحدته تفوق كل وحدة حقيقية كائنة؟ قلنا إن تنوعه الداخلي
يفوق حد التصور لأنه لا يدرك إدراكا جليا ولكن لا شك في كونه حقيقة ناصعة. وهذه
صفة التنوع المرموز إليه في عقيدة الثالوث فهو لا يدرك ولكنه حقيقة لا ريب فيها.

فالوحدة
العظمى المقدسة إذا من حيث هي العظمى يجب أن تتصف بأعظم تنوع يتناول ثلاثة
“وجدانات” وهي الأقانيم الثلاثة في الثالوث المقدس إذ أننا لا يمكننا أن
نتصور تنوعا أعظم من هذا ولا أن نكتفي بتنوع أقل منه. فبالتالي لا يمكننا أن نتصور
وحدة أسمى من هذه. وهي الوحدة التي ننسبها إلى الإله الواحد الأحد المبارك.

(1)
قد يعترض المسلم بقوله أنه لا يجب تشبيه الخالق بالمخلوق في أية حالة كانت. فإن من
مميزات الإله أنه “مخالف” تعالى عن أن يشبه بخليقة يديه.

نقول
أننا قد بحثنا في هذا الاعتراض بالاسهاب في كتابنا “التنزيه الإسلامي”
حيث أثبتنا عقم هذا المذهب أي مذهب المخالفة الذي يجعل الله فكرا منفيا بحيث لا
يمكن أن نقول عنه شيئا على الإطلاق. وفضلا عن ذلك فإن المسلم خير من المذهب الذي
يذهبه. لأن الله بموجب ذلك المذهب ليس هذا ولا ذاك وأما المسلم فيقول أن الله كائن
حي ذو علم وإرادة وهلم جرا فكأنهم بذلك يثبتون له أوجه شبه لا أوجه مخالفة مجردة.
ولا فائدة من القول أن لا شبه بين علم الله وعلمنا لأن علمه تعالى يفوق كل علم
سواه ولا يمكن أن يقاس. والحق أنه لو لم يكن هنالك شبه فلماذا يدعون العامين باسم
واحد؟ أليس الأصوب أن يتركوا المماحكة ويقولوا أن الله كائن علمه يفوق علمنا إلا
أن هنالك أوجه شبه لأنه خلق الإنسان على صورته فيصح إطلاق اسم مشترك على بعض صفات
الناس وصفاته تعالى دلالة على وجود تناسب. نعم إن الخوف يقتضي مزيد الحذر ولكن
الديانة المسيحية لا تتجاوز الحدود. ففي الأمر الذي نحن بصدده يكون قولنا إننا لا
يمكننا أن نكتفي بوحدة مجردة سدا لثغرة عقلية ضرورية بل أسمى وحدة هي ما بلغ
التنوع فيها معظمه كما قلنا فأي كفر أو إلحاد في هذا؟

(2)
قد يقول المعترض أن الإسلام يقول بتعدد الصفات كالرحمة والعدل وغيرهما من الصفات
الداخلة في حيز الوحدة الإلهية ولكنه ينكر “تقنيم تلك الصفات” إنكارا
باتا ولنا على هذا الاعتراض ملاحظات.

منها
أن تعديد الصفات لا يسد الثغرة التي تكلمنا عنها لأنه عوضا عن أن يقرر أسمى تنوع
ممكن تصوره يقرر أضعف تنوع يتصوره الفكر فالصفات في حد ذاتها ليست شيئا وهي فكر
مجرد. فالرحمة والعدل وغيرهما من الصفات ليست إلا وجوها مختلفة للعمل الإلهي فيمكن
زيادتها أو إنقاصها. وهذا يدلك على كون تعددها ليس متوقفا على حقيقة راهنة كما هي
متوقفة على إرادة الناظر إليها وأن ما يطلبه الفكر هو تعدد أو تنوع حقيقي كحقيقة الوحدة
نفسها لا تنوع يتوقف على إرادة الناظر إلى ذلك الأمر.

أما
الملاحظة الثانية فهي أن الديانة المسيحية لا “تقنم” الصفات كما يتوهم
المسلمون. وهذا الوهم أي زعمهم أننا نجعل “الآب” موضع العدل مثلا
“والابن” موضع الرحمة وهلم جرا خطأ محض قديم العهد في كتب الإسلام يجب
إزالته من الأذهان إذ لا أساس له في التوراة ولا في علم اللاهوت.

(3)
ورب معترض يقول أن تنوع الوحدة لا يكون إلا في الماديات فقط. ولكنا نجد من الجهة
الأخرى أن روحانية الكائنات تزداد أطرادا بتنوع كل درجة كلما ارتقينا في سلم
الخلائق الحية فغير الحية فالحاسة فالعاقلة. فماذا يمنعنا إذا من القول بأننا عند
وصولنا إلى الوحدة العليا أي الله الذي هو روح محض ولا محل للمادة فيه نجد من
الممكن إطلاق التنوع على وحدته. على أن هذا التنوع يفوق تنوع سائر الخلائق بدرجة
تفوق التصور. وبعبارة أخرى أنه تعالى فائق في تنوعه كما هو فائق في وحدته. ولا شك
أن هذا التنوع في الأقانيم أو الوجدانات ينطبق عى المبدأ الذي وضعناه حالة أن
التنوع في الصفات المجردة لا ينطبق كذلك.

(4)
ولقد يقول معترض بأننا متى تركنا عالم الماديات زال من أمام نظرنا عالم الخلائق
الآلية وزال معه البرهان المتوقف عليها.

والجواب
على ذلك لماذا نرفض نسبة “الآلية” إلى الإله ولا نرفض نسبة
“الوجود” أو “الحياة” إليه فالوجود صفة يجوز نسبتها إلى أدنى
أنواع الأشياء. والحياة هي صفة للخلائق الحية سواء كانت من النوع الأدنى أو
الأعلى. ومع ذلك فإننا ننسب كلا الوجود والحياة إلى ذات الله. فلماذا لا ننسب
إليها أيضا “الآلية” (الوحدة المتنوعة) وهي تزداد كلما ارتقينا سلم
الخلائق الحية؟

وهذا
السؤال يفضي بنا إلى الاعتراض الثالث على عقيدة التثليث المسيحية وهو نسبة التركيب
والتجزئة إلى جوهر الله.

 

الاعتراض
الثالث والرد عليه

وإذا
قيل أن التثليث يقتضي نسبة التركيب والتجزئة إلى جوهر الله. قلنا كلا. وما يأتي
يكفي لدحض هذا الاعتراض.

اعلم
أن الأشياء القابلة للتجزئة هي التي يمكن تجزئتها بدون ملاشاتها كالحجرة مثلا فإنك
تستطيع أن تجزئها إلى شطرين ومع ذلك تظل حجرة كما كانت. وكذلك الآلات الميكانيكية
يمكن تجزئتها وتحليل أجزائها بدون ملاشاتها إذ يمكن إعادة تركيبها كما كانت قبلا
بدون ملاشاتها أبدا. فترى إذا أن من الأشياء ما يمكن تجزئته بطرق مختلفة بدون
ملاشاة جوهرية. أما الأشياء الآلية أو العضوية (انظر الفصل السابق) فإن الحالة
فيها تختلف إذ لا يمكن تجزئتها وإنما يستطاع تجزئة مادتها فقط.

ويتضح
هذا جليا إذا أخذنا زهرة مثلا وقسمناها إلى شطرين فهل يمكن إعادتها إلى زهرة كما
كانت؟ كلا لأننا في الحقيقة لم نجزئها بل لاشيناها. وما يبقى من القطع المائتة لا
يسمى زهرة ولا يمكن جمعها معا كما كانت لأن نفس الزهرة قد تلاشت.

وكذلك
اليد إذا بترناها من الجسد لا تبقى يدا بل هي مجموعة لحم وعضلات وعظام في شكل
اليد. ولكنها ليست يدا لأن من شروط اليد أن تكون متحدة بالجسم وأن تتصل بالدماغ
بواسطة الأعصاب فتشاطر الجسم كله الحياة. أما القول بأن اليد هي جزء الجسم فهو
صحيح وغير صحيح في آن واحد. صحيح باعتبار الشكل أي أن اليد تبقى بشكل يد بعد فصلها
عن الجسم. وغير صحيح باعتبار الجوهر أي أنها لا تعود تؤدي وظيفة اليد. فتسميتها
“يدا” هو من قبيل تجريد المسمى عن بعض الاعتبارات وترك البعض الآخر.

فنعيد
القول إذا بأن من الممكن تجزئة المادة باعتبارها غير آلية أو عضوية أما العضوية
فلا يمكن تجزئتها مع حفظ كيانها بل لا بد من ملاشاتها فيجوز القول بأن الأشياء
الآلية لا يمكن تجزئتها بالمرة بل تقطيعها فقط وإفناؤها. ونفس الأشياء الأرضية
الآلية لا يمكن تجزئتها ولا تقطيعها لو كانت غير مادية. أما باعتبار المادة في حد
ذاتها فيمكن تقطيعها كما قلنا. أما جوهر الله فغير مادي فهو إذا غير قابل للتجزئة
بأي معنى كان من معاني الكلمة.

والأشياء
الأرضية الآلية إما أن توجد بكمال طبيعتها أو أن تفنى. وليس هناك حالة ثالثة
متوسطة كقبول التجزئة كما قلنا. وبما أن الله غير قابل للفناء فلا يمكن أن يوجد
إلا بكمال طبيعته أي أنه آب وابن وروح قدس دائما أبدا.

وكما
رأينا سابقا أن “العضو” يختلف عن “الجزء” كل الاختلاف إذ لا
يحيا إلا متحدا بالكل فكم بالحري لا يجوز أن نعتبر الأب والابن والروح القدس أجزاء
(وحاشا لله) بل هم أعضاء وحدة متبادلة الارتباط غير قابلة الانفصال. وليس في هذا
ما ينافي كون ذات الله ثلاثة أقانيم ممتازة بعضها عن بعض بل بالعكس يثبت هذه
الحقيقة لأن هذه الأقانيم تكون وحدة الله الكاملة وتحققه لنا ليس كائنا ذا وحدة
هندسية عقيمة بل كائنا ساميا كامل الوحدة الحقيقية له المجد إلى أبد الآبدين.

والخلاصة
أن ذات الله ليس لها أجزاء وإن يكن لها “أعضاء” فلا يمكن تجزئتها.

 

الاعتراض
الرابع والرد عليه

وهنالك
اعتراض رابع على عقيدة التثليث يتعرض له كثيرون من أتباع هذه العقيدة وهو القول
بأن التثليث ينزل الإله منزلة “الجنس” ويجعله مؤلفا من ثلاثة أفراد آلهة
والعياذ بالله.

إن
هنالك أمرين يبينان خطأ الذين يبدون هذا الاعتراض. وقبل أن نبينهما يجدر بنا أن
ننظر في هذا الاعتراض. فالجنس هو ضرب يعم كثيرين من نوعه. فالإنسان مثلا جنس وهو
يعم عمرا وزيدا وعبيدا وهلم جرا. فإذا جعلنا الله جنسا نكون قد جعلنا وحدته وحدة
جنسية وأعضاءها الثلاثة آلهة ثلاثة (ونستغفر الله) كما أن عمرا وزيدا وعبيدا هم
ثلاثة رجال.

وها
نحن نذكر الأمرين اللذين أشرنا إليهما:

(1)
إن الجنس ليس له وجود جوهري على الإطلاق. فهو تجريد أو تعميم يطلق على أفراد
كثيرين مرتبطين معا بخواص مشتركة. أما الله فليس تعميما ولا تجريدا بل هو أسمى
حقيقة حية فمهما تكن أقانيم الثالوث الأقدس لا يمكن أن تكون أفرادا مرتبة بحسب مثل
هذا التجريد أو التعميم وعليه تكون تهمة المسلمين للمسيحيين بأنهم يعبدون ثلاثة
آلهة تهمة ساقطة.

نعم
إن المجادلات الفلسفية قد طالت بخصوص ماهية هذه الأجناس العامة. هل هي تجريد مجرد
ألفاظ تشير إلى علاقات مشتركة بين الأعضاء وبعبارة أخرى هل هي أسماء وضعت لتسهيل
التنسيق والتبويب؟ هذا هو مذهب “الاسميين” وقد وافق عليه بعضهم باعتبار
وجود الأجناس المحسوس. إلا أنهم حرصوا على حفظ حقيقة معينة بخلاف الفلاسفة
“الاسميين” بقولهم أن الجنس هو صورة حقيقية تتولد في الفكر لا مجرد اسم
وقد كان هؤلاء الفلاسفة يعرفون بالفلاسفة “التصوريين”. ولقد قال ارسطو
بوجوب الاعتقاد بحقيقة وحدة الجنس التي تنطوي عليها اختلافات الأفراد ولذلك دعى
اتباع ارسطو الفلاسفة “الحسيين” (أي الحقيقيين) ولكنهم أنكروا أن مذهبهم
يتقضي نسبة جوهر للجنس أي أن الجنس وحدة ذات جوهر. وافلاطون هو الفيلسوف الوحيد
الذي ذهب هذا المذهب وقال أن هذه الأجناس كالإنسان والحيوان هي حقائق ذات جوهر
وأنها تشغل عالما نموذجيا فائق الإحساس وأنها حقيقة كسائر الأشياء الحقيقية بل
أكثر من ذلك لأنها الحقيقة الوحيدة وما الحصان أو الرجل الفرد بالنسبة إليها إلا
كظل وهو مدين بما له من الحقيقة لما يمثله ويطابقه في العالم النموذجي الفائق
الإحساس ولذلك دعي هؤلاء بالفلاسفة “النموذجيين”.

على
أن هذه مباحث فلسفية بعيدة عن غرضنا الآن ولعلنا نجد الاختلافات المشار إليها
شديدة التعقيد لا تستحق العناء الكبير. ومع هذا فإن هذه المناقشات قد جرت في
سبيلها سيول الدماء ويطول بنا شرح أسباب تلك الشدة وسبب ذكرنا لهذه الأمور إنما هو
أن نبين أن الله الذي هو أسمى الحقائق ليس جنسا يشتمل على أنواع على الإطلاق مهما
كان المعنى الذي نؤول به “الجنس” بحسب آراء الفلاسفة المذكورين الذين
أشرنا إليهم , إلا إذا استثنينا افلاطون وليس عنده ما يعضد أراءه الغريبة التي هي
خيالية أكثر منه فلسفية فلما كان الله لا مجرد اسم أو فكر ولا جوهرا معنويا بل هو
أسمى الحقائق الحية لا يمكن أن يكون الإله “جنسا” وبالنتيجة لا يمكن أن
تكون أقانيم الثالوث الأقدس “أفرادا” (أي آلهة) لجنس عام (أي الله)
وهكذا تكون تهمة تثليث الاله ساقطة.

(2)
أما الأمر الثاني الذي يظهر لنا فساد الاعتراض فهو أن الجنس (كالإنسان مثلا) مهما
بلغت حقيقته من الكمال لا يتأثر أبدا من هلاك فرد من أفراد نوعه الذين يتألف منهم.
وبعبارة أخرى إننا يمكننا ملاشاة توما وحسين وحنا وعمروا وزيد وعبيد ومع ذلك يظل
الجنس كما كان بدون أقل ضرر يمكن إلحاقه به. وهذا يثبت لنا أن الجنس ليس في
الحقيقة وحدة حقيقية حية مرتبطة بوجود أعضائها ولكن هذا ما نراه بكل احترام في
وحدة الله الذي هو أسمى كائن حي. فهو واحد في أقانيمه الثلاثة ولا يمكن لأي أقنوم
منهم أن يكون منفصلا لأن كلا منهم إنما يوجد متحدا ومرتبطا وكائنا بالآخر. فالآب
إذا هو ذات الله الواحد. والابن هو ذات الله الواحد. والروح القدس هو ذات الله
الواحد. وبعبارة أخرى أنهم ليسوا ثلاثة آلهة بل هم إله واحد له المجد إلى أبد
الآبدين آمين.

 

الاعتراض
الخامس والرد عليه

(5)
والاعتراض الأخير هو قولهم أن النتيجة التي وصل النصارى إليها هي أن الآب والابن
والروح القدس هم – كل منهم – ذات الله. حسنا! ولكن هذا يدل على أنه ليس من امتيار
حقيقي بين الآب والابن والروح القدس إذ يستحيل أن ننسب إلى أحد هؤلاء الأقانيم
شيئا يمتاز به خصوصا. وبعبارة أخرى لا يصح القول بأن أحد هؤلاء الأقانيم يستطيع أن
يفعل ما لا يفعله غيره. وهذه الحقيقة تفضي إلى مناقضات عظيمة. كما أوضح ذلك أحد
أفاضل المسلمين في كتاب ظهر منذ مدة غير بعيدة.

وهاك
ما جاء فيه بهذا الشأن: “واعلم أن قول النصارى أن الله واحد في الذات ثلاثة
في الأقانيم محال. لأنهم يعتقدون أن كل أقنوم يمتاز عن الآخر بخواص كثيرة. فالأول
يمتاز بخاصة الأبوة والثاني بالبنوة وبالحلول أو التجسد والثالث بالانبثاق. وإن
الامتياز بينهم حقيقي بحيث أن ما يثبتونه لأحدهم لا يمكن أن يثبتوه للآخر. إذا
عرفت هذا أقول: الشئ الذي به الامتياز إذا ثبت لأحد الأقانيم فهو ثابت لذاته. وإذا
ثبت لذاته فهو ثابت لذات الله تعالى. وبما أنه علة للامتياز فلا يمكن أن يثبت
للأقنوم الآخر وإذا لم يثبت له لم يثبت لذاته. وإذا لم يثبت لذاته لم يثبت لذات
الله. وعليه يكون الشئ الواحد ثابتا للذات وغير ثابت لها. فمثلا إذا قلنا أن الآب
حل أو تجسد أي أن ذاته حلت أو تجسدت كانت ذات الله حالة أو متجسدة. ولكن الآب لم
يحل ولم يتجسد فذات الله لم تحل ولم تتجسد وعليه تكون ذات الله حالة أو متجسدة
وغير حالة ولا متجسدة وهذا تناقض ظاهر البطلان”.

نقول
ردا على هذا الاعتراض أننا كثيرا ما نجد مناقضات منطقية عديدة في كلا الماديات
والعقليات. كالزمنية والأزلية. والامتداد واللانهائية. وغير ذلك من المناقضات
العظيمة المعروفة عند الفلاسفة بالمناقضات العقلية وهي في الحقيقة مما لا يستطاع
اجتنابه. فلا يجب أن يتزعزع إيماننا بوجود تناقض ظاهري في عقيدة الثالوث في
الوحدة. أو ليس نفس القالب الموضوع به الاعتراض مما يدل على أنه عقيم تافه لا محل
له؟

والغريب
أن المؤلف نفسه لا يقدر أن يتنصل من أمثال هذه المناقضات فقد بحث في موضع آخر في
تركيب المادة حتى وصل إلى الجوهر الفرد وبحث فيما إذا كان الجوهر الفرد قابلا
للتجزئة أم لا وهل له امتداد أم لا. فبعد محاولته أن يثبت أن الجوهر الفرد لا يمكن
تجزئته إلى ما لا نهاية له قال أننا عند تجزئتنا المادة لا بد أن نقف عند حد وهذا
الحد إما أن يكون له امتداد أو ليس له امتداد. فإن كان له امتداد فالعقل يتصور
قبوله للقسمة.. إذا لم يبق إلا القول بأنه لا امتداد له. وإذا ثبت هذا علمت أن
جميع الأجسام مركبة من أجزاء لا امتداد لها مطلقا ولكن لها وضع معين فهي مثل النقط
الهندسية وإنما تمتاز عنها في أنها أشياء وجودية لا وهمية!

هذه
هي النتيجة التي استنتجها المؤلف وهي الأساس الذي يبني عليه كل حججه وبراهينه وهي
في صدر كتاب غايته دحض الفلسفة المادية وإثبات الديانة الإسلامية.

ولا
شك أن التناقض (إذا كان ثمة تناقض) في عقيدة الثالوث ليس شيئا مذكورا في جنب هذا
التناقض الغريب فالمؤلف يدعي أن المادة تتألف من جواهر لا امتداد لها مع أن
الامتداد هو أشهر خواص المادة وأهمها كما يدل على ذلك اسم “مادة” نفسه
ولا يخفى أن الأشياء التي لا امتداد لها هي صفر وإذا جمعت أصفار لأصفار فالمجموع
لا يكون إلا صفرا بخلاف ما يقوله المؤلف من أن مجموع الجواهر الفردة (وهي على زعمه
أصفار) يؤلف المادة! ترى كم يجب أن نضم من الجواهر الفردة التي لا امتداد لها إلى
أمثالها لكي يحصل عندنا مادة ذات امتداد؟ هذا وإن من السهل أن نستنتج تناقضات
عظيمة أخرى مضحكة من هذا القبيل. على أنه لا نسلم أن المسألة مفصلة باعتبار
الثالوث بدرجة إشكالها هنا.

فإذا
تمسكنا بالنتيجة التي وصلنا إليها بعد إجهاد الفكر رأينا أن هنالك نظرية يمكن
تطبيقها على الإله وليست صعبة الإدراك وهي نظرية “العضوية الروحية” التي
تحل جميع الصعوبات التي أشار إليها المؤلف. ففي كل كيان عضوي نرى أن الجوهر يعمل
في كل عضو عملا خاصا. فإذا كانت عيني ترى فأنا كلي أرى. أما أذني فلا ترى.

ومع
هذا فلا يصح القول بأنني أرى ولا أرى في آن واحد. بل يصح القول بأنني أرى بعيني
ولا أرى بأذني في آن واحد. فمجموعي إذا يستفيد من عمل عيني.

إن
العضو إذا أتى عملا ما فالجوهر كله مجموعا يأتي ذلك العمل والأعضاء تشترك. على أن
هذا لا ينافي أن لكل عضو عملا خاصا أو وظيفة خاصة. فإذا تألم عضو واحد تألم سائر
المجموع. على أن هذا لا يمنع أن يتألم كل عضو ألما خاصا. وبعبارة أخرى أننا نرى أن
ما دعاه المؤلف المذكور تناقضا قد أصبح حقيقة أي أن من الأشياء ما يعمل ولا يعمل
في آن واحد.

ولسنا
نقول أن العضوية الروحية هي الموافق تطبيقها كل الموافقة على الإله وإنما نعتقد
أنها أسمى نظرية يمكن تطبيقها إذا أردنا أن نؤمن بإله حي. ولا شك أن الحقيقة هي
أسمى من أن تتصورها مداركنا إلا أن هذا إنما يجعل مقالنا أتم صدقا وهو أن لكل
أقنوم من أقانيم الله وظيفة خاصة وأنه يعمل في جميع هذه الأقانيم. فهو قد يتجسد
مثلا في أقنوم الكلمة ابنه بدون نسبة ذلك التجسد إلى الآب أو الروح القدس.

فإذا
صح أن للجسم العضوي المحدود وحدة حقيقية وأعضاءه تحيا في بعضها وفي ذاتها العامة
وإذا صدق هذا فكم بالحري الإله غير المحدود!

فمذهب
الثالوث إذا لا يؤثر فيه الانتقاد من هذه الوجهة فقد بطل إذا الاعتراض الأخير.

 

الباب
الثاني

عقيدة
الثالوث تسهل بعض المعضلات الدينية

الله
والخلق

قد
رأينا مما سبق أن عقيدة الثالوث بدلا من جعلها الاعتقاد بالله من الأمور العسرة هي
في الحقيقة تزيل بعض المشاكل التي يجدها الإنسان في الأديان الموحدة ومنها الاسلام
نفسه. فمن تلك المشاكل أننا إذا تغاضينا عن عقيدة التثليث لا نستطيع أن ندرك السبب
الذي من أجله خلق الله العالم مع أنه تعالى مكتف بنفسه قائم بذاته. ألم يكن خلقه
للعالم ضارا بصفة القيام بالذات؟ والحق أن جميع علماء الاسلام ودارسي عقائده
يدركون وجاهة هذه المعضلة وما عقيدة الصدور وقدم العالم التي جاء بها أئمتهم وقول
صوفيتهم “كنت كنزا مخفيا الخ” الا أدلة قاطعة على حقيقة تلك المعضلة.
ولكن لو نظروا فيها باعتبار عقيدة التثليث لرأوا الإشكال أخف جدا.

فنلخص
هنا أولا المشاكل المترتبة على العقيدة الاسلامية بخصوص الخلق:

(1)
كيف استطاع الإله الخالق أن ينتقل من حيز التنزه عما سواه إلى قيامه بالخلق
وصيرورته خالقا؟ أليس ذلك “صيرورة” بكل معنى الكلمة؟

(2)
إن قدرة الله لم يكن يمكن أن تظهر قبل الخلق لأنها إنما ظهرت بالخلق. فالقدرة إذا
كانت “إمكانية” لا عاملة. ولا يخفى أن “الإمكانية” لا يمكن أن
تغني صاحبها عن العمل بل هي باعتباره نقص. فإذا قلنا أن عمل الخلق كان لازما
لإخراج قدرة الله من حيز “الإمكان” وإطلاق حرية العمل فقد نسبنا إلى
الله النقص والاعتماد على الغير.

(3)
إن الخلق في هذه الحالة هو بدء علاقة أو نسبة بين الخالق وما سواه. على أن بدء
التعلقات هو بمثابة بدء حياة جديدة لكائن ما فهو مناقض لمذهب التنزيه كل المناقضة.

(4)
إن التعلقات بين كائنين تقتضي الأثر أو الانفعال المتبادل بوجه من الوجوه. فالكلام
بين اثنين يقتضي أن السامع يسمع صوت مخاطبه. وهذا مخالف لمذهب التنزيه إذ كيف يمكن
للاله المطلق أن يخرج عن حيز الفعل ويدخل حيز الانفعال بهذه الكيفية.

أما
عقيدة الثالوث التي جاء بها المسيح فإنها تقلل هذه المشاكل إن لم نقل أنه تزيلها
كما ترى مما يأتي:

(1)
إنها تعلن لنا إلها ذا قدرة أزلية ظاهرة من خلال عملها الأزلي. فالمحبة جوهر ذاته
وقد كانت عاملة منذ الأزل فيه ولا صفة أشد عملا من صفة المحبة. ولذلك عندما خلق
الله العالم لم ينتقل من طور العمل الإمكاني إلى طور العمل الفعلي أي أنه لم يكن
هنالك مجال للقول بالصيرورة بل كان يعمل بمقتضى صفته الأزلية. فالخلق كان نتيجة
تلك المحبة التي كانت ترغب في وجود سعادتهم وقد كان (أي عمل الخلق) صادرا عن
المحبة وهي ملخص مجموعة صفات الذات عاملة لا ممكنة فقط وظاهرة لا كامنة منذ الأزل.

(2)
إن الاعتقاد بإله مثلث الأقانيم يدل على أن خلق العالم لم يكن بدء تعلقات الذات.
لأنها تجعل الله ذا علاقات منذ الأزل وتلك العلاقات تفوق أسمى أنواعها المعروفة في
الأشياء الحادثة أو المخلوقة على الأرض وليس خلق عالم ذي علاقات حادثة سوى صدى
التعلقات الأزلية الكائنة في ذات الله.

(3)
إن الاعتقاد بإله مثلث الأقانيم يزيل الصعوبة الناشئة عن نسبة الانفعال والتقيد
والتأثر إلى الله الأمر المناقض للتنزيه المطلق والذي لا بد منه إذا نسبنا فعل
الخلق إلى الله. فهذه الصعوبة تفقد أهميتها عند الاعتقاد بالثالوث إذ قد رأينا أن
الذات الإلهية تقتضي وجود علاقات وأن التقيد إنما هو قابلية العلاقات والانتسابات.
فجميع الانتسابات هي قيود بنوع ما وتقتضي التأثير والتأثر والفعل والانفعال. والذات
(أي الله الذي هو آب وابن وروح قدس) هي مقر تلك الانتسابات المباركة.

ترى
لماذا نخشى من التصريح بهذه الأمور؟ إن المحبة الحقيقية والحرية الحقيقية لا
تقتضيان التجرد من القيود والانتسابات. أجل إن المحبة والحرية تقتضيان التقيد
الذاتي وقد كان جميع ذلك موجودا في ذات الإله منذ الأزل لأن “الله محبة”
ذات أقانيم ثلاثة الآب والابن والروح القدس.

ثم
أن الطوبى الحقيقية تلوح من خلال العمل وقبول أثر العمل. فالتأثر لا يحط من شأن
الله بل إن الذات تقتضيه والمحبة والطوبى تستلزمانه.

وكذلك
العواطف فإن ضمير الإنسان وقلبه وحاجاته تتطلب إلها لا يقف بعيدا غير مكترث بل
يكون ذا عواطف على أن عقل الإنسان كثيرا ما حاذر نسبة هذه الصفة الواجبة إلى الله
زعما منه أن الله منزه عن أن تؤثر فيه أمور الإنسانية البتة. فعقيدة الثالوث التي
تقول أن “الله محبة” تبدد تلك المخاوف لأن المحبة وهي في حد ذاتها أسمى
أنواع الحياة تقتضي ظهور العواطف المقدسة. فالعواطف إنما هي أمر لازم لكيان الله
الأدبي.

فنرى
مما تقدم أن المشكل الذي يعترض بعض العقول ومؤداه أن الله معرض للتقيد والتأثر
والانفعال (وبالنتيجة للضعف والنقص) قد أزالته عقيدة الثالوث. لأن التعليقات التي
ترتبت على خلق العالم لم تكن إلا بالأمر الجديد عند الله إذ كانت أزلية فيه نظرا
لوجود الأقانيم. ولم تكن لتحط من مجده تعالى وقد كانت موجودة بقطع النظر عن خلق
العالم فهي إذا من كيانه وبواسطتها يعلن ذاته لنا. فلما خلق العالم وأقام تعلقات
بينه وبين الأشياء المخلوقة وكل ما يترتب على ذلك من تقيد وتأثير وتعرض للعواطف لم
يكن ذلك بالأمر الجديد عليه بل إنما أعلن ذاته لخليقته إعلانا متعلقا بالزمان.

 

الله
الخالق

ولا
سيما خالق الإنسان

أما
باعتبار خلق الله للطبيعة البكماء فقد يسلم بأن الله لم يقيد نفسه لأنه إنما خلق
شيئا تحت مطلق تصرفه قابلا للأثر ولكن غير قادر على إحداث أثر. وأقل حركة منه إنما
هي بأمر الله. وبما أن ذلك المخلوق شئ ميكانيكي فليس بينه وبين خالقه أوجه شبه.
ولكن ما عسانا أن نقول عن الإنسان خليقة الله العاقلة المتصفة بالعلم والقدرة
والوجدان؟ هل في إمكاننا أن نتغاضى عما بينه وبين الله من أوجه الشبه باعتبار هذه
الأمور وكيف تتم المخاطبة بينه وبين الله مع العلم بأن التخاطب يقتضي أن يكون بين
المخاطب والمخاطب بعض الشبه؟ فإذا نظر الحيوان إلى الرسوم الهيروغليفية مثلا فإنه
لا يدرك لها معنى ولا يرى فيها سوى علامات مرسومة. ولكن الإنسان إذا نظر إليها
أدرك أن لها معنى وذلك لوجود تناسب بينه وبين الذين رسموها. وقس على ذلك النبوة
أيضا فإنها تقتضي وجود شبه بين الله والإنسان الأمر الذي ينفيه وينكره التنزيه
المجرد على رغم تسليم أنصاره بوجوب التخاطب وفي ذلك من التناقض ما لا يخفى على
العقل السليم.

ولكن
المسلم يقول أن العالم بما فيه من إنسان وحيوان إنما هو آلة في يد الله. على أن
هذا القول لا يزيل المشاكل العقلية التي أشرنا إليها سابقا فضلا عن أن مثل هذه
الفلسفة تجرد الله من صفة الحب إذ ليس أحد يحب الآلة الميكانيكية وإن تكن الآلة
تحت مطلق قدرته. وكذلك لا معنى للقول بأن الآلة الميكانيكية تحب صانعها حتى على
فرض أنها تعقل وتدرك إرادته. ألا ترى أن في الأمر إشكالا يستوجب أحد أمرين فإما أن
تسلم بأن عقل الإنسان حقيقي (وفي هذه الحالة لا مناص من القول بأن الله لا يعطي
فقط بل يأخذ أيضا. ولا يخاطب فقط بل يخاطب أيضا. ولا يعرف فقط بل يعرف أيضا. ولا
يتكلم فقط بل يسمع أيضا) وجميع ذلك نوع من التأثر ويناقض مذهب التنزيه المطلق. أو
أن تقول بأن عقل الإنسان ميكانيكي كإرادته فيكون كأنه يظهر أنه يسمع حالة أن الله
هو الذي يسمع. ويظهر كأنه يتكلم حالة كون الله هو الذي يكلم نفسه. ويظهر كأنه يعلم
حالة كونه يعلم. فوجدانه إذا عدم وذاتيته مضمحلة وهو نفسه يشبه شخصا في رواية
يتحرك ويفتكر ويتكلم مع أنه في الحقيقة لا وجود له إلا في مخيلة الكاتب الإسلامي.
فمن هذين الأمرين لا شك أن الأول يجب أن يختار والثاني يرفض وإذا كانت الحالة كهذه
يجب أن يقال أنه إذا كان التنزه المطلق لا يتفق مع خلق الطبيعة فإنه بالأولى لا
يمكن أن يتفق مع خلق كائن روحي كالإنسان.

والحق
يقال أننا كثيرا ما نرى أن بعضا من أئمة المتمسكين بمذهب التنزيه المطلق يذهبون
إلى القول بأن الله هو الحقيقة الوحيدة الكائنة وكل ما سواه وهم. ولهذا يسمون الله
“الحق” بمعنى أن كل ما سواه باطل. فهم إذا من القائلين بمذهب وحدة
الوجود وهم لا يعلمون. وفلسفتهم أشبه بفسلفة الهنود إذ يعتبرون كل ما في العالم ما
خلا الله سرابا زائلا. فنرى أن المغالاة في التنزيه وصل بقائليه إلى تطرف مناقض
وإلى توحيد لا يفهم منه أن الله وحيد في نوعه بل إنه “الواحد الذي لا يوجد
ثان له” ومنكرا وجود جميع المظاهر الكونية.

هذه
هي المشاكل العقلية والأدبية التي تفضي إليها عقيدة الإسلام في الله ولا سيما
باعتبار خلق الإنسان. ولو نظرنا إليه تعالى بنظر المسيح فاعتبرناه أبا وابنا وروحا
قدسا لزال الإشكال وانتهت الصعوبة. ولقد رأينا أن النظر إليه تعالى باعتبار عقيدة
الثالوث واعتباره محبة يسهل لنا اعتباره خالقا للعالم أجمع ولا سيما للإنسان الذي
له قوة الفكر والذاكرة ومعرفة النفس كالنفس ومعرفة الغير كالغير والضمير والعقل
وبعبارة مختصرة الإنسان الذي له دون سائر المخلوقات (على ما نعلم) عقل وهو قادر
على الصلاة وعلى إظهار روح الشكر والمحبة فهو بهذه الاعتبارات على صورة الله
وشبهه. وفي الختام لا بد لنا من ذكر الأمور الآتية:

(1)
لو فرضنا أن الله خلق كائنا وأودع فيه صفة الحب حالة كونه تعالى خاليا من المحبة
الحقيقية فيكون كأنه قد خلق كائنا أعظم منه لأن المحبة أثمن ما في العالم. ولكننا
قد رأينا أن الله محبة فلا عجب أنه أوجد في الإنسان الذي خلقه صفة الحب.

(2)
إذا كان لله غاية في خلقه العالم فهي إظهار مجده تعالى وليس المقصود من “مجده”
قوته لأن إظهار القوة في حد ذاتها أمر عقيم. وأما إظهار قوة المحبة فبخلاف ذلك.
ولو اقتصر الله على خلق النظام الشمسي فقط أو خلق المملكة المعدنية أو النباتية
لكانت الخليقة غير تامة. ولماذا؟ لأن تلك الخلائق لا يمكنها أن تدرك وجود الله أو
أن تحبه أو تمجده أو تسعى لتتمثل به. ولهذا لم تقف الخليقة عند حد الحيوانات
السفلى بل تعدتها إلى الإنسان الذي هي خاضعة له وهو تاجها وفيه يستيقظ الخلق كما
يستيقظ العقل من حلم مبهم. وأن لله في الإنسان مخلوقا يخاطبه ويسمعه مخلوقا يشبهه.

إننا
نعلم أن هذا الشبه مكروه عند المسلم لأنه يناقض عقيدة الوحدانية التي يتمسك بها.
ولكن إنكار ذلك يستلزم طبعا إنكار إمكان التخاطب والمحبة بين الله والإنسان لأن
المخاطبة كما رأينا تستلزم وجود شبه روحي بين المتخاطبين والمحبة تقتضي ذلك الشبه
طبيعيا. لذلك قال الكتاب المقدس أن الله “خلق الإنسان على صورته”
(تكوين). وقال أيضا “.. لبستم (الإنسان) الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة
خالقه” (كولوسي 3‏: 10).

إن
عبارة التكوين قد وردت في حديث يعلمه جميع علماء الإسلام ولعله قد حيرهم. ومن أراد
أن يعلم شدة رغبتهم في تأويله تأويلا ينطبق على فلسفتهم فعليه بمراجعة مشكاة
الأنوار للعلامة الغزالي (وجه 34) ويؤخذ من وجود هذا الحديث عند المسلمين أنهم هم
أنفسهم يريدون أن يوجدوا صلة بين الله والإنسان إلا أن رغبتهم هذه لا يمكن أن تتم
إلا في الديانة المسيحية.

(3)
إن عقيدة الثالوث تدلنا على أنه ليس فيها ذكر شئ جديد فإن الله رأى في كلمته
“رسم جوهره” أو صورة أقنومه منذ الأزل (عبرانيين 1‏: 3). فإبداعه عالما
يكون أرقى كائناته شبيها به تعالى لا يعد شيئا غريبا بل هو ينطبق على جوهر الله
وذاته.

قال
البحاثة الآب لويس شيخو في كتابه “تفنيد التزوير” (صفحة 10) “إن
مرجع تعاليم النصارى في الثالوث الأقدس إلى أن الله عز وجل الواحد الصمد ذا الجلال
والكمال والفرد الذي لا يمكن تقسيمه أو تجزئته البتة هو إله عاقل يعرف حقيقة ذاته
الإلهية منذ الأزل وبمعرفته لها معرفة تامة لا تخل في شئ عن جوهره يفيض على تلك
الصورة مجموع كمالاته كأنه هي وكأنها هو. تلك كلمته الأزلية القائمة بذاتها التي
لا تقع تحت قول كن. ولأنها صادرة عنه متولدة منه عقليا دون حركة ولا مكان ولا زمان
باقية فيه بلا انفصال دعوناها كلمة ودعوناه أبا كما ندعو معقول عقلنا الذي ينتجه
ذهننا ابن فكرنا أو كلمته. وهذه الكلمة تلفظها شفاهنا دون أن تفارق عقلنا وإنما
كلمتنا عرض وليس في الله تعالى عرض. فلا بد من القول أن كلمة الله إله كمصدرها.
ولما كان الابن يشابه الآب وهو صورته الجوهرية وجب أن تكون علاقة بين الآب وكلمته
فيحب صورته وتنجذب الصورة إلى مولدها. وهذه العلاقة ليست عرضا بل جوهرا وهو الروح
القدس الحب المتبادل بين الآب وابنه المنبثق من كليهما” (اه)

والخلاصة
أن ما يراه المسلم مشكلا نراه نحن أمرا سهلا للغاية (أي أن المخلوق العاقل يقتضي
التقيد باعتبار الله بوجه خاص) لأننا أدركنا أن المحبة إنما تعيش بشرط التقيد.

 

الباب
الثالث

عقيدة
تجسد الكلمة

المبحث
الأول

التجسد
هل ينافي العقل؟

وللنظر
الآن في عقيدة التجسد من سائر أوجهها لنرى هل هي مناقضة للعقل وهل تزيد الاعتقاد
في الله إشكالا؟ وسنرى مما يلي أن إنكار هذه العقيدة يزيد الإيمان باله حي صعوبة.

فلنبسط
هنا أولا اعتراضات القوم على مذهب التجسد:

(1)
هل تم التجسد لأقنوم الابن دون الآب؟ فإن كان قد تم لأقنوم الابن فكيف يصح القول
بأن الله تجسد؟

(2)
إننا إذا اعتقدنا بالتجسد فلا مناص لنا من القول بالصيرورة أي بالانتقال من حالة
إلى أخرى

(3)
إن التجسد يقيد الله بقيود مكانية

(4)
إن التجسد يقيده أيضا بقيود زمانية

(5)
إن التجسد ينزل الله إلى حيز المادة إذ يجعله ضمن حدود الناسوت

(6)
إن التجسد يفضي إلى القول بضعف الله ومعاناته الآلام

 

الاعتراض
الأول

أوضحنا
في دفع الاعتراض الثالث (صفحة 15) أنه من الممكن أن ننسب إلى كل من الأقانيم
الثلاثة وظائف خاصة به بدون تجزئة الذات وذلك لأن الأقانيم وإن امتازت بعضها من
بعض فإنها واحدة في الذات. فكل عمل يأتيه أحدها يجوز نسبته إلى الله الذي هو وحدة
الأقانيم. وبعبارة أخرى أن الذات الإلهية إذا أرادت إتيان أمر اتحدت الأقانيم على
إرادة ذلك الأمر والدعوة إليه وقضت بإتمامه. ولكن ذلك لا يمنع أن يتم ذلك العمل
بواسطة أحد تلك الأقانيم. إذ “لا يعمل الابن من نفسه شيئا إلا ما ينظر الآب
يعمل” (يوحنا 19: 5) أي أن الآب يعين كل عمل ويشاءه ويشترك في ما يترتب عليه
مع أن إتمام ذلك العمل يكون بواسطة الكلمة. فليس في الأمر إذا شئ من المناقضات كما
أنه لا مناقضة في قولنا أن زيدا فعل الشئ الفلاني ونحن نعلم أن عقله هو الذي قضى
بذلك العمل ولكن يده هي التي نفذته.

واعتبر
ذلك في أمر التجسد. فالابن الكلمة هو الأقنوم الذي تجسد. والآب هو الذي أراد ذلك
التجسد ورسم خطته وقد تم بإلهام الروم القدس وبهذا الاعتبار نستطيع أن نقول بأن
اله تجسد ولكننا لا ننسب التجسد إلى أقنوم الآب أو أقنوم الروح القدس.

والمسيحيون
يقرون بأن في هذه العقيدة سرا يفوق العقول ولكنه لا يناقضها.

ولنورد
لإيضاح ذلك مثلا آخر. فنفسي بملئها هي في يدي التي أكتب بها ولكنها ليست محصورة في
اليد. كذلك يقال أن الله بملئه في يسوع المسيح ولكن الذات لم تكن محصورة في شخص
الإنسان يسوع المتجسد. وكلا الأمرين سر عظيم.

وإذا
أنكر معترض أن نفسي كلها هي في يدي سألته: “أي جزء من نفسي هو في يدي وأي جزء
منها ليس كذلك؟” وهل يمكن تجزئة النفس؟ كلا! فقد ثبت إذن أن ملء الذات كان في
أقنوم المسيح ومع ذلك لم يكن محصورا فيه.

 

الاعتراض
الثاني التجسد والصيرورة

جاء
في الإنجيل قوله “والكلمة صار جسدا” وقد اعترض المعترضون على هذه الآية
فقالوا أنها تقول بصيرورة الذات جسدا مع أنه لا يجوز نسبة الصيرورة إليه تعالى
لأنه كائن.

لاحظ
أن الآية لا تقول أن الكلمة تحول إلى جسد. والكنيسة منذ أول عهدها حتى هذا اليوم
قد رفضت مذهب الاستحالة بهذا المعنى فإن لاهوت الكلمة لم يتحول إلى جسد بل اتخذ
ناسوتا. نعم إن نص الآية يقول أن الكلمة “صار” جسدا. فما معنى ذلك؟

إن
الصعوبة هنا متعلقة بالصعوبة التي أشرنا إليها سابقا أي التي نجدها في إدراك مسئلة
الخلق والتعلقات. وبعبارة أخرى أنه مظهر من مظاهر ذلك الإشكال الأصلي. وقد أثبتنا
سابقا أن ذلك الإشكال واقع في كلتا النصرانية والإسلامية فلا مسوغ لاعتراض
المسلمين على المسيحيين به. بل هو واقع في كل ديانة موحدة يعتقد أتباعها بوجود إله
عالم خالق الأرض والسموات.

فكل
من نسب الخلق إلى الله فقد نسب إليه الصيرورة بوجه من الوجوه بمعنى أن الله عند
خلقه العالم “صار” خالقا.

وإذا
قال المعترض بأن الخلق كان في فكر الله وأن فعل الخالق كان بمثابة تنفيذ لذلك
الفكر قلنا أن هذا التأويل لا يقلل الإشكال وإن اختلفت الألفاظ فإن الصعوبة تتخذ
حينئذ هذا الشكل وهو “أن الذي كان خالقا بالإمكان صار خالقا بالفعل” أو
قولنا “إن الذي كان خالقا بالفكر صار خالقا بالعمل”.

والنتيجة
أننا إذا سلمنا بأن الخلق تم أي أنه انتقل من حيز العدم إلى حيز الوجود فقد نسبنا
إلى الله نوعا من الصيرورة. فيكون الخالق قد انتقل من عدم الخالقية إلى الخالقية
وهو ما نعبر عنه بالصيرورة فعلى ذلك لا بأس من القول بأن الكلمة صار جسدا.

 

الاعتراض
الثالث

والاعتراض
الثالث هو قولهم أن الاعتقاد بالتجسد يقيد الله بالحدود المكانية.

إن
علاقة الله بالمكان وصفة حدود المكان في حد ذاتها من الأمور الخارجة عن حدود
التصور. وقد حاول الفلاسفة مرارا أن يحددوا المكان أو يبينوا ماهيته فلم يستطيعوا.
فذهب بعضهم إلى أنه شئ حقيقي وآخرون أنه اعتبار مجرد وزعم غيرهم أنه قيد لازم
تتجلى فيه الحواس ويتعلق وجوده عليها أي أنه لا وجود للمكان إلا باعتبارها. فهو
والحالة هذه وجهة لازمة لحصول الإدراك أو الشعور. ومهما يكن فإن هذا يظهر لك جهل
الذي يحاولون أن يتفلسفوا في تبيان علاقة الله بحدود المكان وإظهار ما إذا كان
الله تعالى يملأ حيزا أو هو منزه عنه أو متعال عليه. وغاية القول أننا نشغل حيزا
ولله تعالى علاقة بنا فله تعلق إذا بالحيز بوجه من الوجوه وليس في وسع الإنسان أن
يشرح كيفية ذلك على الإطلاق.

وليت
شعري من ذا الذي يستطيع أن يبين كيف يثبت الله علاقته بالحيز المكاني وكيف يحل في
ذلك الحيز. وما هي الطريقة لذلك؟

(1)
نرى أولا أن تنازل الله للخلق والتعلق والوحي قد اقتضى ضرورة نسبة الاعتبارات
المكانية إليه. بل إن نفس أفكارنا وأقوالنا وأفكار الوحي وأقواله تشهد لهذه
الحقيقة. ذلك باعتبار إعلانه لنا بعض الأمور كإشارته إلى “العرش”
و”السماء” و”إرسال رسول” و”الرؤية”
و”السماع” وغير ذلك من الأمور المنسوبة إليه تعالى فإن لكل من هذه
الإشارات وأمثالها تعلقا بالحيز المكاني يمثل لنا صورا مكانية.

ويستوي
في هذا كلام المسلم والمسيحي إذ أن كلا منهما يلجأ إلى أمثال تلك الألفاظ للتعبير
عن بعض الحقائق. فالمسلم يقول أن الله مستو على العرش تحمله الملائكة وتطوف به
ملائكة أسمى وتحيط به من فوق ومن تحت وحواليه ملائكة آخرون وهلم جرا. أفلا يتصور
المسلم حيزا مكانيا عند دخوله الجنة ووقوفه أمام الله لدى العرش ومشاهدته وجهه
تعالى؟ لا شك أنه يتصور ذلك. أو ليس في ذلك تقييد بحيث يظهر كأنه مقيد بحيز مكاني
وإن لم يكن في الحقيقة كذلك؟ فكلا التقييد والظهور بمظهر التقيد سواء بهذا
الاعتبار. فالله مقيد في اعتبارنا بقيود مكانية. فالله إذا بقطع النظر عن تجسد
كلمته مقيد في ذهن الإنسان ومخيلته بقيود مكانية كأنه متجسد تجسدا أعم من التجسد
المادي.

(2)
على أننا إذا سلمنا بأن الله يتراءى لأذهاننا كأنه مقيد بحدود مكانية حالة كونه
منزها عنها بطريقة لا تدركها العقول وإن ذلك التراءي ينطوي على شئ من الحقيقة
أمكننا أن نتدرج من ذلك إلى القول بأن في الإمكان ظهور بهاء الله لعين البشر ظهورا
إمكانيا محسوسا بحيث لا يكون ذلك الظهور صورة خيالية فقط بل صورة تدركها الحواس.
وبعبارة أخرى أن الله يستطيع أن يظهر بجزء معين من الحيز أكثر من غيره بدون أن
يحصر في ذلك المكان. ومن ذا الذي ينكر إمكان ذلك؟ ألسنا نقول أحيانا ونشعر أن الله
“معنا”؟ وهل ينكر أحدا أنه سبحانه وتعالى تراءى للبشر قديما بصورة نور أو
سحابة أو عمود دخان وجعل القوم يعتقدون بحضوره في ذلك المظهر المكاني؟ وفضلا عن
ذلك هل يعتقد أحد أن ظهوره تعالى في ذلك المظهر استنفذ كل حضوره بحيث لم يعد في
الإمكان أن يكون حاضرا في موضع آخر؟ إن موسى رأى النار في العليقة وسمع صوتا
يناديه منها. واسرائيل رأى السحابة النارية في قدس الأقداس وكلاهما سجد معتقدا أن
الله حاضر فيما رآه (وذلك كان الواقع) ولكن لم يخطر ببال أحد منهما أن السموات
كانت لحظتئذ خالية من حضور الله بل وجدا نفسيهما بإزاء سر غامض ذي وجهتين
متناقضتين ظهرا لاحقا.

وكذلك
القول في ملاك الحضرة.

والإسلام
عالم بهذه الغوامض قدر علم النصرانية بها. فقد جاء في حديث عن النبي أنه شعر مرة
بأصابع الله على رأسه. فقوله شعر بتلك الأصابع بمثابة قوله (شعر) بها في مكان
معين.

وهذا
يفضي بنا إلى عقيدة التجسد في المسيح. وهي نفس ذلك السر. ولكن حالته أسمى وأشرف
فإنه يمثل ذات الله في حيز مكاني مع أنه ليس في الحيز متعلق الحضور بموضع معين
ولكن غير محصور مؤثرا في الحواس ولكن منزها عنها معلنا لنا ولكن محجوبا بواسطة
الإعلان. فيجب أن نقبل كلتا الحالتين ونسجد لله. فالتلاميذ كانوا ينظرون جسم
المسيح ولم يروا الله إذ لا أحد يراه ولكنهم رأوا ذلك الذي كان فيه ملء الإله. أما
طريقة ذلك فلا نعلمها ولا يمكننا أن ندركها كما هي في نظر الله إذ من يستطيع أن
يدرك الأشياء كما هي في نظره تعالى؟

وأخيرا:
إذا اعتبرنا روح الإنسان غير مادية عرضت أمامنا مثل تلك المشاكل. فإنها في الظاهر
محدودة في الجسد. ومع ذلك من ذا الذي يستطيع أن يعتبرها متحيزة؟ هل يمكن قياسها
ومعرفة حجمها ومقدار الحيز الذي تشغله؟ وهل هي ذات شكل؟ وإذا خرجت من الجسم هل
تصعد إلى فوق أم تنزل إلى تحت أم تخرج من النافذة أم تطير شرقا أم غربا أم تذهب
إلى موضع آخر؟ جميع هذه الأسئلة تبين لنا سخافة القول بأن الروح متحيزة وعلى ذلك
فهي مقيدة بالجسم وهي أيضا منزهة عن الحيز وذلك مشكل عظيم وإذا كان هذا الأمر على
رغم صحته وثبوته غريبا على المدارك فلماذا ننفي وجود علاقة كهذه بين الله والمادة
عموما أو الإنسان خصوصا؟ إن هذا الأمر إنما هو أحد الأسرار الغامضة التي تفوق
الإدراك ولكنها لا تناقضه.

قد
اعترف علماء المسلمين أنفسهم بأن العلاقة بين النفس والمادة من المشاكل العسرة فقد
جاء في كتاب المضنون الصغير الموسوم بالأجوبة الغزالية في المسائل الأخروية
للغزالي ما يأتي: –

“قيل
له (أي للغزالي) وما حقيقة هذه الحقيقة (أي حقيقة الروح) وما صفة هذا الجوهر وما
وجه تعلقه بالبدن؟ أهو داخل فيه أو خارج عنه؟ أو متصل به؟ أو منفصل عنه؟ قال (رضي
الله عنه) لا هو داخل ولا هو خارج ولا هو منفصل ولا متصل. لأن مصحح الاتصاف
بالاتصال والانفصال الجسمية والتحيز. وقد انتفيا عنه فانفك عن الضدين كما أن
الجماد لا هو عالم ولا هو جاهل لأن مصحح العلم والجهل الحياة فإذا انتفت انتفى
الضدان. (فقيل له) هل هو في جهة؟ فقال هو منزه عن الحلول في المحال والاتصال
بالأجسام والاختصاص بالجهات فإن كل ذلك صفات الأجسام وأعراضها والروح ليس بجسم ولا
عرض في جسم بل هو مقدس عن هذه العوارض. (فقيل له) لم منع الرسول عليه السلام عن
إفشاء هذا السر وكشف حقيقة الروح بقوله تعالى قل الروح من أمر ربي؟ فقال لأن
الإفهام لا تحتمله لأن الناس قسمان عوام وخواص. أما من غلب على طبعه العامية فهذا
لا يقبله ولا يصدقه في صفات الله تعالى. فكيف يصدقه في حق الروح الإنسانية؟ ولهذا
أنكرت الكرامية والحنبلية ومن كانت العامية أغلب عليه ذلك وجعلوا الإله جسما إذ لم
يعقلوا موجودا إلا جسما مشارا إليه. ومن ترقى عن العامية قليلا نفى الجسمية وما
أطاق أن ينفي عوارض الجسمية فأثبت الجهة. وقد ترقى عن هذه العامية اللاشعرية
والمعتزلة فاثبتوا موجودا لا في جهة. (فقيل له) ولم لا يجوز كشف هذا السر مع
هؤلاء؟ فقال لأنهم أحالوا أن تكون هذه الصفات لغير الله تعالى. فإذا ذكرت هذا
لبعضهم كفروك وقالوا أنك تصف نفسك بما هو صفة الإله على الخصوص فكأنك تدعي الإلهية
لنفسك. (فقيل له) فلم أحالوا أن تكون هذه الصفة لله ولغير الله تعالى أيضا؟ فقال
لأنهم قالوا كما يستحيل في ذرات المكان أن يجتمع اثنان في مكان واحد يستحيل أيضا
أن يجتمع اثنان لا في مكان. لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان واحد لأنه لو
اجتمعا لم يتميز أحدهما عن الآخر. فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في مكان
فبم يحصل التمييز والعرفان؟ ولهذا أيضا قالوا لا يجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل
المثلان يتضادان. (فقيل) هذا إشكال قوي فما جوابه؟ قال جوابه أنهم أخطأوا حيث ظنوا
أن التمييز لا يحصل إلا بالمكان. بل يحصل التمييز بثلاثة أمور. أحدها بالمكان
كجسمين في مكانين. والثاني بالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين. والثالث بالحد
والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد مثل اللون والطعم والبرودة والرطوبة في
جسم واحد فإن المحل لها واحد والزمان واحد ولكن هذه معان مختلفة الذوات بحدودها
وحقائقها فيتميز اللون عن الطعم بذاته لا بمكان وزمان. ويتميز العلم عن القدرة
والإرادة بذاته وإن كان الجميع شيئا واحدا. فإذا تصور أعراضا مختلفة الحقائق فبأن
يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان أولى” (انتهى)

فواضح
مما تقدم أن للروح علاقة مع الحيز المكاني بطريقة لا تدركها العقول. أما القول
بأنها منافية للعقول فقول مناف للحقيقة كما رأيت فلماذا لا يجوز أن يوجد بين الله
والعالم المادي علاقة تشبه هذه العلاقة وأن تتم تلك العلاقة في تجسد الكلمة؟

 

الاعتراض
الرابع

ولرب
معترض يقول أن التجسد يقيد الإله بحدود الزمن. ولما كان الزمن والحدوث يتضمن كل
منهما الآخر فالتجسد يقيد الإله بالحدوث.

فالجواب
على هذا الاعتراض شبيه بجوابنا على مشكلة الحيز.

أي
أنه إن كان هنالك إشكال فهو كائن بطبيعة الحال في مسألة خلق العالم. فمجرد القول
بأن الله خلق عالما محدودا وهو يديره بنظام محدود يجعل الله مقيدا بالحيز الزمني
نوعا ما سواء كان في نظر المسلم أو المسيحي أو اليهودي. وإن أقوال الله وأفعاله
وأفكاره إنما تتمثل لنا بصورة متلاحقات زمنية أي أنها أشبه بحلقات متصله بسلسلة
الزمان فلها ماض وحاضر ومستقبل. والقرآن من أوله إلى آخره مملوء بذكر حوادث تقيد
الله تعالى بالقيود الزمنية إذ يعزو إليه أمورا فعلها أو لا يزال يفعلها أو
سيفعلها. ولما كان اللفظ بمثابة مرآة للمعنى وكلمات لله تعبر عن أفكاره فقد قيدنا
فكر الله بالصيغ الزمانية. وإذا قيدنا الفكر فقد قيدنا المفكر نفسه. وإذا كان
الزمان والحدوث يتضمن أحدهما الآخر فإن الله بتقييده نفسه بنظام زمني قد قيد نفسه
بالحدوث.

ولسنا
ننكر أن هذه الاستنتاجات لا تفضي بنا إلى كل الحق فإن الله منزه في الحقيقة عن
الزمن. ولكن كلا المسلم والمسيحي عاجز عن إدراك هذه الحقيقة. ولهذا لا نرى للمسلم
حقا بعزو هذه الشبهة إلى الديانة المسيحية مع أنها كائنة في الديانة الإسلامية
أيضا.

وإذا
قال المسلم أن تقييد الله تعالى بالحدود الزمنية على الوجه المار ذكره إنما هو في
الظاهر فقد قلنا يجوز أن نعتبر للتجسد أيضا وجهة باطنة ووجهة ظاهرة. فالوجهة
الزمنية هي حقيقية بقدر ما الزمن هو حقيقي. والوجهة الأبدية لا يستطيع أحد
إدراكها. وإذا حاول المسلم أن يتنصل من هذا المشكل بقوله أن الحوادث وأعمال الله
وأقواله وأفكاره وإن وقعت في الزمن فإنها لا تؤثر في ذات الله أو فكره تعالى لأن
جميعها كانت مدونة في اللوح المحفوظ أي أنها كانت في فكر الله منذ الأزل فلم يكن
لها ماض ولا حاضر ولا مستقبل نقول أن هذا التأويل لا يجدي فتيلا إذ لا بد للمسلم
من التمييز بين وجود العالم خياليا في فكر الله تعالى ووجوده وجودا حقيقيا محسوسا
وإلا فإن العالم أزلي كذات الله. وإذا سلم المسلم بوجود فرق صح القول بأن الله بعد
أن أخرج العالم من حيز الفكر إلى حيز المحسوس قيد نفسه نوعا ما بقيود زمنية وما
يترتب عليها من النتائج على الوجه المار ذكره.

وإذا
ادعى المسلم أن الذات شئ والصفات شئ آخر وأن ذات الله منزهة عن الوقت حالة أن
صفاته يجوز أن يكون لها تعلق بالحوادث بدون أن يمس ذلك بتنزهه تعالى نقول أنه قد
يمكن أن يكون في هذا الرأي شئ من الصحة ولكنه يتناول الفكر في حد ذاته أي فكر
الإنسان لا الإله فقط. فقد ذهب الفلاسفة إلى أن في ذات الإنسان شيئا منزها عن
الزمن والدليل على ذلك أنه لو لم تكن الأعمال والأفكار والذات نفسها داخلة في الحيز
الزمني لاستحال على الإنسان تمييز الحوادث ولتعذر عليه أن يفرق بين الأمور فيندفع
إذ ذاك مع تيار الحيز الزمني بدون فكر أو إدراك كما تندفع أوراق الشجر بمجرى
النهر. فلا بد إذا هنالك من وجود نقطة ثابتة منزهة عن الزمن تمكن الإنسان من تمييز
ما هو غير ثابت ولا بد له من موقف منزه عن الزمن ليدرك به الزمن. وما يصدق على
الله يصدق أيضا على روح الإنسان. وهذا الفكر يعين على إدراك عقيدة التجسد إذ أنه
يثبت أن في الإنسان اعتبارا غير زمني هو أساس ذاته ولعله كان حلقة الاتصال بين
الطبيعتين الإلهية والزمنية في شخص الكلمة المتجسدة يسوع المسيح.

والخلاصة
أن التجسد هو وجهة خاصة من وجوه المشكلة العامة بل إنما هو من توابع الترتيب الذي
تنازل الله بموجبه فقيد نفسه عند خلقه العالم وسنه ناموسا لإرادته.

 

الاعتراض
الخامس

وهو
قولهم أن التجسد ينسب الضعف والمسؤولية إلى الله تعالى.

لا
يأذن لنا الوقت أن نطيل الكلام على هذا الاعتراض ولكننا سنبحث فيه بالإسهاب عند
الكلام عن الكفارة. فيكفي أن نتذكر هنا:

(1)
أن المفعولية في حد ذاتها هي من الصفات اللازمة للفاعلية. ولذلك لا بد للإله الحي
من الاتصاف بها. وقد أثبتنا سابقا أن إله المسيحيين المثلث الأقانيم هو متصف بكلتا
الفعلية والمفعولية في ذاته وهذا يدحض زعم الذين يقولون أن الكفارة تقتضي
المفعولية.

(2)
قد أثبتنا أيضا أن انتساب الله إلى العالم واتصاله به يقتضيان المفعولية بمعنى أن
الخلق لا يربط فقط المخلوق بالخالق بل يربط أيضا هذا بذاك. وبعبارة أخرى أن تعلق
الله بالعالم يقتضي أن تكون العلاقة بين الخالق والمخلوقات عموما (وبين الخالق
والمخلوقات العاقلة خاصة) علاقة متبادلة وذلك لأن لكل فعل أثرا لازما والفاعلية لا
يمكن أن تتجرد عن المفعولية أبدا.

(3)
أما قولهم أن التجسد ينسب الضعف إلى الله فعار عن الحقيقة لأن العالم الطبيعي غير
العالم الأدبي فما يكون ضعفا في ذاك قد يكون قوة في هذا والعكس بالعكس. ولما كان
مصدر التجسد مستقرا في العالم الأدبي لم يكن من المدهش أن يظهر للعين البشرية
بمظهر الضعف. ولكن “ضعف” الله أقوى من قوة البشر.

الكفارة
ملاحظات عامة

قلنا
مرارا سابقا أننا حالما نهجر أوجه الأمور الأدبية تتغير اعتبارات الموضوع تغيرا
عظيما ولذلك يجب أن نغير طريقة البحث والاستقراء لئلا نسقط في الخطأ فالحيز
الطبيعي (أو المادي) يبدأ ببدء العلاقة المتبادلة بين شيئين غير عاقلين (كالعلاقة
بين دقائق الحجر) أو بين شيئين أحدهما عاقل والآخر غير عاقل (كالعلاقة بين اللاعب
وكرة اللعب) فواضح أن هذه العلاقة أو النسبة المتبادلة هي ميكانيكية محضة ولا صلة
لها بالحيز الأدبي. وأما الحيز الأدبي فإن الأفعال أو الصفات الداخلة في منطقته لا
بد أن تكون صادرة عن خلائق حية عاقلة ولذلك يجب تغيير اعتبار الضعف والقوة
وتنقيحه. ففي الحيز الطبيعي أو المادي مثلا ترى القوة صادرة عن استخدام العضلات أو
ما أشبه. فهل نقول أن القوة الأدبية أيضا صادرة عن مثل ذلك المصدر أو بأن حفظ
السلطة الأدبية لا يتم إلا باستخدام القوة البدنية؟ كلا! إن طرق حفظ السلطة الأدبية
قد تظهر للبعض كأنها صادرة عن ضعف ولكن الوسائط الأدبية مع ضعفها الظاهري أكثر
وأدق وأعظم تنوعا من الوسائط المادية.

هذا
وإن الهوة العظيمة بين الإسلام والنصرانية هي أن المسلم يجعل العلاقة بين الله
والإنسان علاقة مادية (وهذا يجعل الخلائق العاقلة خلائق غير عاقلة) حالة كون
المسيحية تجعل الإنسان خليقة أدبية عاقلة ولذلك لا بد أن تكون العلاقة بينه وبين
خالقه أدبية أيضا. والسلطة التي يستخدمها الله على الإنسان ليست سلطة مادية مطلقة
بل أدبية. وهذا بيت قصيد الخلاف بين الإسلام والنصرانية فمتى زال زال معه كل خلاف
آخر لأن ما يراه المسلم ضعفا يراه المسيحي قوة وما يراه ذلك قوة يراه هذا ضعفا.
على أن هذه الاختلافات في الآراء تبلغ أشدها عند الكفارة بصلب المسيح. وجبل
الجلجثة هو ميدان النضال بين النصرانية والإسلام. فالصلب في نظر المسلم واليهودي
هو تجديف على الله لأنه ينسب العجز والضعف إليه تعالى. وأما المسيحي فإنه يرى فيه
نصرة لم يشهد العالم مثلها قط لأنه يعلم أن “ضعف” الله أقوى من قوة
الإنسان و”ضعف” الوسائط الأدبية أقوى من قوة الوسائط غير الأدبية.

إن
الحاكم الجائر قد يخضع رعيته لسلطته بالوسائل المادية كالأسلحة والجيوش الخ. ولكن
هل هذه هي الطريقة التي يجب أن يستعملها الأب الحكيم مع أولاده؟ أيجوز له أن يشهر
سيفه في وجه طفله عندما يأمره بشئ؟ ألا يجب أن يستخدم الصبر وطول الأناة والسلطة
الأدبية لإخضاعه؟ قس هذا على ما بين الله والإنسان.

أجل.
إن الله يستخدم الصبر وطول الأناة فالصبر يفضي إلى الاحتمال والاحتمال يقتضي
“المفعولية” ولا يخفى أن الصفات الأدبية لا يمكن تجريدها من أمثال الصبر
والاحتمال والمفعولية وغيرها. وقد جاء في الكتاب المقدس آيات كثيرة تدل على صبر
الله وطول أناته كقوله “أم تستهين بغنى لطفه وطول أناته غير عالم أن لطف الله
إنما يقتادك إلى التوبة” وقوله أيضا: “في كل ضيقاتهم تضايق وملاك حضرته
خلصهم”.

فإذا
سلم المسلم بأن الإنسان شرير عاق وأن الله محب رحيم فلا يمكن والحلة هذه أن ينكر
الطرق السلمية التي يستخدمها الله لردع ذلك الإنسان الشرير. ومن هنا يتضح لنا أن
المحبة والقداسة

 

الباب
الرابع

كفارة
الكلمة المتجسد

عن
خطية العالم

رأينا
سابقا الفرق الأساسي بين رأيي المسلمين والنصارى في ذات الله. وأثبتنا أن الرأي
الإسلامي ينفي الصفات الأدبية عن الله تعالى ويدخل صفاته في الحيز المادي ويجعل
علاقته مع أرواح خليقته علاقة خارجية ميكانيكية غير أدبية حالة كون الرأي المسيحي
يصوره بصورة كائن أدبي يتصف بكل الأمور التي يجب أن يتصف بها كائن مثله ويظهر بكل
المظاهر التي تقتضيها طبيعته. ومع ذلك فإن سعيه لاختبار تلك الأمور وظهوره
بالمظاهر المختلفة لا يؤثران في رفعته ومقامه أبدا ولا يحطان من مجده الأقدس لأن
مجده الأقدس يقتضي أمثال تلك الأمور.

وقد
رأينا أيضا أنه عندما تؤثر الخطية في العلاقة الكائنة بين الكائن الأعظم ونفوس
خليقته الروحية لا يبقى هذا الكائن كما كان قبل دخول الخطية لأنها تؤثر فيه. ولا
يستنكف أحد من هذا الكلام لأننا رأينا في مبحث سابق أن المفعولية لا تشين الله
أبدا (أو الرحمة والعدل حسب قول بعضهم) (1) ليستا صفتين متضادتين بل هما وجهتان
لشئ واحد. فالمحبة لا تهمل الخاطئ ما لم تفعل من أجله كل شئ في طاقتها والقداسة لا
تقبل الخاطئ ما لم تتحقق وتجعل الخاطئ يتحقق مقدار خطاياه ليس لأجل ذاتها بل لأجل
الخاطئ. وبعبارة أخرى أن القداسة تشير إلى ما يجب عمله والمحبة تشير إلى ما سيعمل
القداسة هي المحبة. والمحبة هي مقدسة فإن لم تكونا كذلك فلا فائدة من كل منهما
البتة. وهكذا قل في علاقة الله في المسيح مع الإنسان. الأمر الذي أفضى إلى الصلب.
وإذا علمت ذلك فلنتقدم إلى الكلام عن الكفارة.

——-

(1)
تنبيه: إن المحبة والقداسة هما أوسع الألفاظ معنى ويدلان على أسمى الصفات الإلهية.
أما الرحمة والعدل فيختصان بالمحاكم. ونطاقها أضيق من نطاق المحبة والقداسة. أجل
إن الله هو قاض ولكنه ليس قاضيا فقط. وهنا وجه الغلط عند المسلمين فإنهم يجعلون
الله قاضيا فقط.

أما
النقمة والغضب فينظر إليهما باعتبار اختلاف تأثيرهما في الإنسان. وعلى كل فإن
هنالك فرقا كبيرا بين غضب أب محب وغضب قاض أو ملك. فإن العامل في الأول هو المحبة
التي تفوق كل قانون. والعامل في الثاني هي القوانين التي هي دون المحبة

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى