علم

ضدّ الأغنياء الجهلاء



ضدّ الأغنياء الجهلاء

ضدّ
الأغنياء الجهلاء

العظة
رقم 7 الشاب الغنيّ

(متى
19: 16 – 26)

للقدّيس
باسيليوس الكبير

سبق
منذ قليل أن سردنا لكم قصة هذا الشاب، والمستمعون بانتباه بينكم يتذكرون جيداً على
الأقل ما استنتجناه حينذاك: أنه يختلف عن الناموسي الذي يذكره القديس لوقا وأيّ
اختلاف. والحق أنّ هذا الأخير لم يكن أكثر من مجرِّب، طرح سؤاله بسذاجة مصطنعة.
أمّا الآخر، فأسئلته صريحة، غير أنه يفتقر إلى الاستعداد الحسن. فلو سأل يسوعَ
سؤاله من باب التهكم لما عاد أدراجه متجهماً يضرب أخماساً بأسداس بعد أن سمع أجوبة
يسوع. لذلك يبدو لنا متمازجَ الطباع: فالكتاب تارة يُظهره جديراً بالمديح وتارة
أخرى في أتعس حال. فإن اعترافه بالمعلمّ الحقيقيّ وعدم انسياقِه خلف كبرياء
الفريسيين وادعاءِ الناموسيّين وحشد الكتبة، واطلاقَه هذا اللقب على المعلم الصالح
الوحيد لأمرٌ كان يستحقَّ منا الثناء، وكذلك يُمدح لإظهار انشغال جديّ باكتساب
الحياة الأبدية، لكن بقية القصّية تكشف أنّه لم يصبُ إلى الخير الحقيقيّ بملء
كيانه، بل أخذ في الاعتبار ما يتفاخر به معظم الناس: لقد نال من المعلم تعاليمَ
الخلاص، لكنه لم يَنْقُشْها في قلبه ولم يأخذ بتلك الارشادات. لذا ذهب منهاراً وقد
أعماه هوى الغنى. إنّ هذا الجانب من شخصيّته يشهد ضدّه ويفضح ما في خلقه من خلل
وما في أعماقه من تضارب.

 

الغنى
يكشف عن غياب المحبّة الحقيقية.

أتدعوه:
يا معلم ولا تتصرف كتلميذ؟ أتعترف بصلاحه وتزدري بهباته؟ ولكنّ ذا صلاح لا بدّ أن
يجزل الهدايا. أتستفهم منه عن الحياة الأبديّة ولكن تفتضح تعلّقك المطلق بملذاّت
الحياة الدنيا؟ أيّ كلمة صعبة ومتعبة وتفوق الطاقة قالها لك المعلم؟ قال: ”
بعْ أموالك وأعطِ الفقراء”. لو عرض عليك فلاحة الأرض القاسية، والأسفار
الخطرة التي يتطلبها عملُ التجارة لشراء البضاعة، وأيَّ عمل يكسبك رزقك بمشقة
قصوى، لكان من حقّك أن تُحبط عزيمتك وتقوم ضدّ تلك النصيحة. لكن ها تنفتح أمامك
طريقٌ بهذه السهولة وتتلقى وعداً بالحياة الأبديّة من غير تعب ولا أعراق، فبدل أن
تبتهج بخلاص سهل جداً، تقفل راجعاً، كاسِفَ الوجه متحيراً وتبطل بذلك كلَّ ما
بذلته من الجهود حتى الساعة. لأنّك ولو لم تقتل ولم تزنِ ولم تسرق ولم تشهد بالزور
ضدّ أحد، كما تدّعي، غير أنك تبطل قيمة غيرتك الممدوحة لأنّك لا تريد أن تكللها
بالعمل الوحيد الذي يفتح لك أبواب الملكوت.

 

 إن
رامَ أحد الأطباء أن يعيد لك أعضاء حُرمتها بالولادة، ومن جراء مرض، أفلا يُنهض
ذلك فيك الهمّة والشجاعة؟ ولكن عندما يشاء طبيب نفوسنا أن يجعلك كاملاً، أنت يا من
ينقصك الأساسي، تقصي عنك نعمته، وتبكي ويثور ثائرُك! أرى جيداً أنّك بعيد جداً عن
الوصيّة، بل كنت تكذب حينما ادّعيتَ أنّك متمّمُهاً وأكدتَ أنك تحب القريب كنفسك.
لأن ما طرحه أمامك الرب يكشف حقيقة بعدك عن المحبة الحقيقية. فلو كان لمزاعمك أيّ
أساس من الصحّة وقد نفّذت وصيّة المحبّة منذ الصّبا، معطياً لكلِّ أحدٍ كما تُعطي
نفسك، فمن أين لك هذا الغنى الوافر؟ إنَّ العناية بالفقراء تستهلك الثروات. فكلّ
واحد يتلقى القليل الذي يحتاج إليه لمعيشته، ولكن الجميع يوزّعون أموالهم في الوقت
الذي ينفقون فيه على أنفسهم. هكذا فمن يحب قريبه كنفسه لا يملك من غير الضروريات
ما زاد عن قريبه. إلاّ أنّك، على ما يبدو جلياً، تحتفظ بمقتينات طائلة. فمن أين لك
هذه؟ الأمر واضحٌ: أنك لتفضل متعتك الشخصية على تعزية السّواد الأعظم. عظمة ثروتك
تبرهن عدمَ محبتك: لو كنت تحب القريب لسعيت إلى توزيع أموالك منذ زمن بعيد. غير
أنّها أعزّ عليك من أعضاء جسدك، حتى إنّ بترَ أعضائك الأساسيّة لأقل إيلاماً من
التخلي عنها. ولو أنك كسوت العريان وزوّدت الجائع بالرغيف، وشرّعت بابك للغرباء،
لو أضحيتَ أبا الأيتام، ولو مسَّت قلبك الويلات على ألوانها، فعلى أي مال كنت
لتجهش بالبكاء اليوم؟ أكنت تجد مثل هذه الصعوبة في التنازل عمّا يتبقى لك، لو
عُنيت منذ زمن طويل بتوزيعه على الفقراء؟ لا أحد يتضايق في السوق من التخليّ عمّا
في حوزته لاقتناء ما ينقصه من الحاجات، وكلما ابتاع المرْءُ أشياء ذات قيمة بسعر
منخفض، كلّما فرح بالغنيمة الموفقة. أمّا أنت، فلا تعجبك الفكرة أن تكتسب الحياة
الأبديّة مقابل ذهبك ومالك وأراضيك، التي هي حجارة وتراب.

 

تعلُّق
بالمال وبحياة الترف.

ما
حاجتك للغنى؟ ألكي ترتدي ثياباً أشدَّ أناقة؟ لكنَّ رداء من ذراعين يكفيك وثوباً
واحداً يفي بالحاجة على قدر خزانة ثيابك كلّها. ألتأكُل أفضل؟ إن خبزة واحدة تكفي
لسد جوعكَ. فلمَ هذا التحسر؟ وممَّ تشعر نفسك محروماً؟ أمن جاه الغنى؟ لكن إن لم
تتهافت على مكارم الأرض سوف تجد المجد الحقيقي الساطع، الذي يؤول بك إلى ملكوت
السماوات.

 

لكنّ
أقتناء الثروات يشكّل بحد ذاته مَدعاة إلى السرور، حتى وإن لم تأتي بأية فائدة.
والحق أننا نشعر جميعنا كم أن شغفك المفرط بما لا فائدة منه باطل بحد ذاته. إلاّ
أنك تستغرب ما سأصرِّح به، مع أنه الحقّ بعينه: بدِّد ثروتك كما يعلّم السيّد،
فتحتفظ بها. لكن حاول أن تستبقيها لنفسك تلقها سَرَت إلى أيدي الآخرين. فإذا تمسكت
بها لم تنلها. أمّا إنْ وزعتها فلن تضيعها. ” بدّد فأعطى المساكين فبرّه يدوم
إلى الدهر” (مز 111: 9).

 

ليس
صحيحاً أن الناس يتعلّقون بالمال لأجل اللباس والغذاء هذا التعلّق الجنوني. انّما
الشيطان المحتال الحذق يوحي للأغنياء بألف فرصة لصرف المال، ويجعلهم يشتهون ما
يزيد عن الحاجة الأساسية وما لا نفع له على أنه ضروري! ليس ما يكفي تبذيرهم
وإسرافَهم.

 

يقسمون
ثروتَهم إلى قسمين: اليوم وغداً. يحتفظون بالنصف ويتركون النصف الآخر لأولادهم. ثم
يفتّتون حصّتهم إلى مدفوعات متنوعة. إسمع كيف يوزعونه. يقولون: ليبقى النصفُ تحت
تصرّفي وليُغلق على النصف الآخر. أمّا الحصة المخصصة لرغدة عيشي فستتجاوز حاجاتي
الضروريّة بأشواط. على هذا المبلغ أن يُتيحَ لي عيش حياة الرفاهية في بيتي
والظهورَ في الخارج بكلّ ما سيدغدغ أحلامي من مظاهر الأبَّهة. وهذا مبلغ يغطي
أسفاري التي أريدها رائعة وباهظة الكلفة. وذاك يؤمن لي حياة رِفعةٍ أُحسدُ عليها
حسداً. لعمري إني معجبٌ بخصب مخيلتهم في ابتكار الأباطيل! آلاف العربات لجرِّ
الأمتعة والناس، وهي ملبسة بالنحاس الأصفر والفضة. عدد هائل من الجياد الأصيلة
التي يسجّل نسبها كما للإنسان! منها يتنزّه عليه سادتنا في أرجاء المدينة ومنها
للصيّد وأخرى مصطفّة على طول الطرقات. الطقم منها والرّسن والعقود كلّها فضة، كلها
بالذهب مشغولة، وأغطية أرجوانية تزينها كالعرسان. حشودٌ من البغال مقسمة حسب
ألوانها. صفوف من السائقين من أمام ومن خلف. وعبيدٌ بعدد الرمال ليخدموا كل هذه
العظمة: وكلاء ومدبّرون ومزارعون وأصحاب شتى المهن، الأساسي منها والذي أختُرِع
للراحة والترفّه، طباخون وصانعو حلوى وسقاة خمر وصيّادون ونحاتون ورسامون وحرفيون
لآلاف الملذات والمتع. قطعان من الجِمال، منها ما يحمل ومنها ما يبقى في المراعي.
قطعانٌ من الخيل والثيران والبقر والغنم والخنازير مع رعاتها. أراضٍ واسعة حتى
تُطعم كلّ هذه الماشية وتضاعف الأرباح. حمامات في المدينة وحمامات في الريف. بيوت
تبرق بشتى أنواع الرخام.بعضها من حجارة فِريجيَة وبعضها الآخر من بلاط ليكاؤونية
وتسّاليا.منها يدفئ المنزل في الشتاء ومنها يبرّده في الصيف. البِلاط يزهر
بالفسيفساء والسقوف ملبسة بالذهب وكلّ الجدران التي لا يكسوها الرّخام تزينها
جداريّات غنيّة بالألوان.

 

فإن
بقي لديهم مالٌ بعد كل هذه المصاريف، يخزنونَه في مكان أمين. يقولون: ” لا
أحد يعلم ما يخبّئه الغد. لعلّ حاجات طارئة تداهمنا؟” بالفعل، لا أحد يعرف إذ
كنت ستحتاج يوماً إلى هذا الذهب المخزون. ولكننا نعلم حقَّ العلم أيَّ عقاب ينتظر
أنانيتك. فإنك عندما لم تستطع أن تبدّد أموالك رغم كلَّّ اختراعاتك، ما كان منك
إلاّ أن دفنتها في التراب. يا لغرابة الجنون! لما كان التبر (الخام) راتعاً في
المناجم أخذوا يحفرون في الأرض. ويوم يخرجونه منها سرعان ما يعودون ويدفنونه في
التراب. وظنّي على كلّ حال أنك بدفنك ثروتك تواري قلبك الثرى كذلك، لأنه ”
حيث يكون كنزك فهناك يكون قلبك” (متى 6: 21).

 

هذا
هو السبب في استهجانك الوصيّة على أنها صعبة. فأنت ترى الحياة مَيْتة لا نسمة فيها
إذا لم تَقْضِها بالإسراف والبذخ.

 

تذكّرني
حالة هذا الشاب وأمثاله بحال مسافر أحبَّ أن يزور إحدى المدن، ووصل عند أسوارها،
فوجد هناك نزلاً أقام فيه. لكن خارت عزيمته أمام الخطى القليلة المتبقية له. فإذا
به يخسر كلّ ما جناه من أتعابه السالفة ويمنع نفسَه عن زيارةِ معالم المدينة
الجميلة. هذه حال الذين يعملون بالوصايا ولكن يثورون ضدّ فكرة التخليّ عن
أموالهم.أعرف كثيرين يصومون ويصلّون ويتحسّرون على خطاياهم ويقومون بأعمال التقوى
المجانية على أكمل وجه، غير أنّهم لا يسخون على الفقير بقرش. فما نفع الفضائل
الأخرى إذاً؟ إنهم لن يدخلوا ملكوت الله لأنه ” لأسهل على الجمل أن يعبر ثقب
إبرة من أن يدخل غنيّ ملكوت السماوات ” (لوقا 18: 25). وهذا كلام صحيح صاحبه
لا يكذب. إلاّ أنّ قليلين يتأثرون به. معظمهم يهتف: كيف نعيش إن عدمنا المال؟ أي
عيشة لنا إن بعنا ما عندنا وزالت الممتلكات؟ أقول: لا تسألوني أيّ مقصد عميق وراء
وصايا الله. فالذي سنّ لنا الناموس يعرف أيضاً أن يوفق بين المستحيل والشريعة.
مهما كان الأمر فإن قلبك موزَن كما بالميزان ومعلوم جيداً إن كان يميل إلى الحياة
الحقيقية أم إلى الملذات الحاضرة. عليك أن تتصرف بالمال كوكيل عليه وليس كمالك
وكمن يتمتع به. فحريّ بذوي العقول الراجحة أن يقتنعوا بذلك وأن يحافظوا على هدوئهم
إن هُم تنازلوا عنه وكأنهم يعيدون للآخر ماله، عوض أن يحزنوا ويغتمّوا كما لو أنهم
خسروا ثروتهم الخاصة. فعلامَ هذا الأسف؟ لِمَ هذا الحداد عندما يُقال لك: ”
بع ما تملك”؟ هل تلحق بك هذه الأمور إلى الأبدية؟ إنها لا تستحق أن توليها
مثل هذه الأهمية لأن زَهْوَ ضيلئِها سوف يخبو أمام بهاء السماويات. وإن كان لا
بدَّ من مغادرتها ههنا، فلِمَ لا تباع ويؤخذ ثمنها فوق، في السماوات؟ عندما تشتري
جواداً بذهبك لا تشعر بالأسى. لكنك تبكي لفكرة مقايضة الأموال الفانية بملكوت
السماوات وترفض العرضَ وتأبى قبولَ الصفقة بحجة آلاف المصاريف. فما هو جوابك
للديّان، أنت يا من تلبس جدرانك ولا تكسو أخاك؟ أنت يا من تزين خيلك ولا تكترث
أبداً لأخيك المتستّر بالأسمال؟ أنت يا من تترك قمحك يتأكّله العفن ولا تُطعم به
الجائعين؟ أنت يا من تدفن الذهب ولا تبالي أبداً بغارقٍ بالديون هَمَّ يشنق نفسَه؟

 

من
ضروب الجنون

إن
صدَف أن امرأتك تشاطرك حبَّ المال، فالشر إذاك مضاعف: فهي تُلهب فيك حب الرفاهية،
وتوقظ في نفسك جموحاً إلى اللذة الفاسدة وتُثير مغاليات لا تعقّل فيها. وتراودها
أحلامُ حجارة نفيسة من لآلئ وزمرد وياقوت وعسجد، فتوصي بنحته ونسجها وتجعل داءك
يتفاقم من جراء هذا الترف الصّاخب. وليس ذلك عندها نزوة عابرة بل إن همومها تلك
تسكن نهاريها وتُحيي لياليها. فيسارع ألف متملق لتلبية أدنى رغباتها ويجرّون إليها
الصباغين والصاغة والعطارين وصانعي القماش والمطرزين. لا تدع زوجها يستعيد أنفاسه
ولا لحظة لكثرة مطالبها المتواصلة التي تُرهق بها كاهله. ليس من ثروة في العالم
تستطيع إشباع رغبات المرأة، ولو تدفقت تدفق الأنهار. مطلوب عطورات مستوردة من بلاد
السند والهند، كأن الموضوع شراءُُ الزيت من السوق، مرغوبٌ صفدُ الأرجوان ومن
المحار مثلّث الصَّدَفة بكميات أوفر من صوف الخروف. والذهب المرصع بالماس النفيس
يتزيَّنَّ به حليةً للشعر وعقوداً. يبرق الذّهب أيضاً في زنانيرهنّ ويكسو منهن
اليدين والقدمين. إن عاشقات الإبريز أولئك لمسرورات بأن يقيَّدن بالأصفاد لو كانت
الأصفاد من ذهب.

 

فمتى
يفطن إلى شؤون روحِه، ذاك الذي لا ينفك يقضي طلبات زوجته؟ فكما تبتلع الزوبعة
والعاصفة السفن المنخورة، كذلك ميول النساء الرديئة تغرّق نفس زوجهن المتهاونة.
فمن البديهي ألاّ تعود الثروة تجد أمامها إمكانية لإفادة الآخرين، وقد هدرها زوجان
احتارا في أمر ما يخترعانه من ضروب الجنون.

 

إن
سمعت القول”: ” بع ما تملك ووزّعه على الفقراء” لكي تجمع لك مؤونة
للنعيم الأبديّ، أراك تذهب حزيناً عابساً. أمّا إن سمعت من يقول لك: جُدْ بمالك
على بنات الدلع، خوِّله لنحّاتي الحجارة الكريمة وللنجارين وصانعي الفسيفساء
والرسامين، أراك تبتهج كما لو عقدتَ صفقة رابحة. ألا ترى هذه الجدران التي تتداعى
وتظهر جزئيّاتها هنا وهناك في كلّ أنحاء المدينة مثل صخور البحر المكسّرة؟ عندما
بنيت، كم كان في المدينة فقراء تغافل عنهم الأغنياء في ذلك الزمان، لانهماكهم
بأعمال البناء؟ وأين تلك الأبنية الرائعة؟ وأين الذي جعلته عظمتها محسوداً بين
الناس؟ ألم تسقط هذه الجدران وتضمحلَّ اضمحلال قصور الرمل التي يبنيها الأولاد؟
أولا يرثي صاحبها لهواه الباطل من قعر الجحيم الآن؟ فلتكن نفسك أكبر! ذلك أن
الجدران مهما ضاقت واتسعت سوف تقوم بالمقام عينه. عندما أزور أحد هؤلاء الوقحين
الذين اغتنوا في سن متأخرة، وأرى في منزله كلَّ هذه الرفاهية تبرق، أُدرك أن ذاك
الإنسان ليس عنده أكرم مما يقع تحت نظري، وأنه يزيِّن الجوامد ويترك نفسه بلا صقل.

 

قُل
لي أرجوك، أي وظيفة بالغة الأهمية تشغلها مقاعدك وطاولاتك الفضية وأَسرّتك
العاجية، حتى تحول دون عبور المال إلى أيدي المساكين؟وعلى ذلك فإنهم ينتظرون أمام
بابك بالألوف، يرسلون إليك تضرّعات تقطع القلوب. لكنك تأبى أن تعطي، وتُقسم أنّه
يستحيل عليك أن تنعم عليهم بمبتغاهم. وفيما يتفوه لسانك بالقسم تشهد يدك ضدك
بالحَنثَ. فمع انها صامتة، إلاّ أنها تذيع رياءك، تلك اليد التي تسطع فيها جوهرة
خاتم. فكم من الديون يستطيع هذا الخاتم وحده ان يسدّدها؟ كم من البيوت المنهارة يمكنه
أن يقوِّمها؟ خزانة ملابسك وحدها تكفي لكساء شعب بكامله يرتجف من البرد. ومع هذا
تجرؤ على طرد الفقير خائباً من غير ان تعطيه قرشاً واحداً، من غير ان تخشى غضب
ديانك الغضب العادل! أنت لم ترحم فلن تُرحَم، أنت لم تفتح بيتك، فسوف تُطرد من
الملكوت، أنت لم تكسر خبزك، فلن تنال حياة أبدية.

 

طمع
الأغنياء

إنك
تدّعي الفقر: إنّي أوافقك الرأي. ذلك أن الإفتقار إلى ألف غرض وغرض هو الفقر
بعينه، وشهواتك التي لا تشبع لا تنفك توحي لك بحاجات لا تحصى ولا تُعدّ. تريد أن
تزيد على العَشرة الأَمْناء في حوزتك عشرة أخرى، ولمّا تحوز على العشرين، ترغب
أيضاً في مثلها وعوض أن تحدو بك الأرباح المتوالية إلى التروّي، أراها توقد فيك
الطمع.

 

كلّ
كأس توقظ في السكّير ظمأً، والأمر نفسه ينطبق على المغتنين حديثاً، الذين تتضاعف
شهواتهم على هوى ثرواتهم، فيحتدّ فيهم المرض بقدر ما يربحون، وفي النهاية ينقلب
وَلَعهم عليهم، إذ إنهم لا يفرحون بكثرة خيراتهم بقدر ما يغتمّون بسبب تفكيريهم
فيما ظَنّوه ينقصهم أيضاً، وبالنتيجة تتأكّل الهموم أنفسهم وهم يبذلون قصارى جهدهم
في توسيع ثروتهم أكثر. عوض أن يفرحو ويحمدوا الله على أنهم أوفر حظاً من كثيرين، إذا
بهم على العكس، يستاؤون ويغضبون لأن شخص وشخصين أثرى منهم. فما ان يبارونهم في
الغنى حتى يحتالون في مضاهاة ثروة شخص أغنى من سلفه، حتى إذا بلغوا مأربَهم
يحوّلون جام غيظهم على ثالث. فعندما يصعد المرء سلّماً، لا بدّ أن يضع رجلاً على
الدرجة الأعلى ويصعد هكذا يبلغ الأخيرة. وهكذا لا يتوقف هؤلاء الناس في سباقهم إلى
الأولوية حتى يرتقوا قمّة الغنى فيتدحرجون من هناك في سقوط ذريع! إن باري الكون
وهب طائر سلوقيا1 نهماً فوق القياس ليخدم البشر. أمّا أنت، فقد جعلت روحك لا ترتوي
مصيبةً على الناس. إنّ البخيل يشتهي كلّ ما يقع في دائرة نظره. ” وكذا عينا
الإنسان لا تشبعان” (أمثال 27: 20). البخيل لا يملّ من الأخذ. ” الجحيم
لم تَقُل يوماً كفى!” (أمثال 30: 16).

 

متى
ستستهلك أموالك الحاضرة؟ متى تتنعم بها وأنت ترهق نفسك في جمع أموالٍ جديدة؟
” الويل للذين يَصِلون بيتاً ببيتٍ ويَقرنون حقلاً بحقل” إلى أن يضمّوا
ممّا للجيران (أشعياء 5: 8). وأنت ماذا تفعل؟ ألا تختلق ألفَ ذريعة لاغتصاب مال
غيرك؟ يقول: ” بيته يطلّ على بيتي ويُحدث ضجيجاً وهو مأوى المشرّدين”
ولا ينفك يزعجه ويضايقه في كلّ مناسبة، ويضغط عليه ويتعبه إلى أن يحمله على مغادرة
المكان. فما الذي تسبب في مقتل نابوت، رجل يزراعيل، سوى امتداد عينَي آخاب إلى
سرقة كرمه (1ملوك 26)؟ بئسَ الجار في المدينة البخيل وبئس الجار في الريف. البحر
يعرف حدوده والليل لا يتعدى مداه منذ الدهر. أمّا البخيل فلا يحترم الزمان ولا
يعرف الحدود ويطالب أبداً بالأولويّة، فهو يحاكي عنف النار، تجتاح كلَّ ما حولها
وتلتهم كلَّ ما تجد. إنَّ الأنهار الناشئة ابتداءً من ينبوع ضئيل، والمتنامية
قليلاً قليلاً بفعل السواقي المترافدة، تصير شلالات لا تقاوم في جريها وتكسح كلَّ
ما يعترض طريقها في سيولها الجياشة. هكذا الذين اكتسبوا شيئاً من النفوذ يجعلون
أولى ضحاياهم أدوات تخدم شرورهم ويستغلُونهم لإخضاع أناس آخرين تحت نير سلطتهم
فتزيد جرائمهم الجديدة من نفوذهم. فإن الذين غَصَبوا حقَّهم في البداية فجعلوهم
مرغمين على معاونتهم يمدون لهم الآن اليد في إلحاق المضايقات والمظالم بالآخرين.
فأي جيرة وأي صداقة واي تجارة يمكن أن تقيمها معهم من غير ان تقع تحت وطأة
منكراتهم؟ ليس ما يقف في وجه ثرواتهم المداهمة، بل كل شيء يذعن لطغيانهم، كل
الدنيا ترتجف من نفوذهم. ذلك ان ضحايا تجاوزاتهم يؤثرون الإفلات من مضايقات جديدة
على المطالبة بالانتقام عن الإزعاجات القديمة. فالغني يدفع الثيران المقرونة
بالنورج ويفلح أراضي ليست ملكه ويزرعها ويحصدها. فان صدَدْتََه نصيبك الضرب وإن
اشتكيت فدعاوي للقدح والذم وقد توقَّف وتُرمي في السجن. وناصِبو الدسائس أبداً من
حولك يهدّدونك بالموت الزّعاف. فيا لسعدِكَ إن نجوت منهم بمجرد تلبية مطالبهم.

 

الدينونة
تنتظرك.

عساك
تكفّ قليلاً عن شرورك وتدع عنك الحسابات لتتأمل أيّة نهاية تسوقك إليها شهوتك! إنك
تملك أميالاً من الأراضي الزراعيّة والبساتين والجبال والسهول والأحراش والأنهار
والمراعي. وماذا بعد؟ أليست ثلاثة أذرع من الأرض لا أكثر تنتظرك في النهاية؟ ألن
يكفي وزن بعض الحجارة ليحفظ جثتك التعيسة؟ فلِمَ كل هذه المتاعب؟ ولِمَ هذه
الجرائم. لماذا تعين يديك بنفسك على جمع ما لا ثمر فيه؟ آه! عساه ان يكون لا ثمر
فيه، ولا يكون وقوداً للنار الأبديّة! هل تستفيق يوماً من سكرتك؟ هل تعود يوماً
إلى رشدك؟ هل تتمالك نفسك؟ ألن تضع دينونةَ المسيح نصب عينيك.

 

 كيف
تنفي التهمة عن نفسك وضحاياك منتصبون من حولك يصرخون إلى الديان العادل: من يعذرنا
عليه؟ ماذا تفعل يومذاك؟ أيّ المحامين توكِّل وأي شهود تجلب؟ كيف ترشو القاضي الذي
لا يمكن ان يحابي؟ هناك ليس من خطيب. ليس من دفاع يستطيع إخفاء الحقيقة عن القاضي.
إنّ المادحين المتملقين لا يرافقوننا، ولا الأموال ولا مظاهر الأبّهة. ستَمْثُلُ
للمحاكمة بلا صديق، بلا معين، بلا محام، بلا عذر، خازياً حزيناً محطماً مهجوراً،
ولا إمكانية لتعبرّ عن نفسك بحرية. كيفما تلتفت بناظريك تنتصب مشاهدُ جرائمك أمام
عينيك. هنا دموع اليتامى وثمة بكاء الأرملة. هناك الفقراء الذين أثخنتهم بالجراح،
وهناك العبيد الذين بطشت بهم والجيران الذين نكلت بهم. كلُّ ذلك سوف ينتصب ضدّك:
جوق مساوئك المثير للشفقة سيطبق عليك. لأنه كما يتبع الظلُ الجسد، كذلك تلاحق
الخطايا النفوس، مصوّرة عن أعمالنا صورة مفصَّلة دقيقة. لذا لا جدوى من إنكارك،
وليس لشفتيك المعيبتين إلاّ أن تختما: فإن أعمالنا تشهد علينا، ولا حاجة للكلام،
إذ إنها تظهر تماماً كما فعلناها. فكيف أصوّر لعينيك هذه الرؤيا الرهيبة؟ إن كنت
تسمع مني، إن مسَّ قلبك ما أقول، ألا تذكّرْ ذلك اليوم حين “يظهر غضب الله من
علو السماء” (رو 1: 18) تذكر مجيء ربّنا يسوع المسيح في المجد، حينما ”
يخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين فعلوا السيئات إلى قيامة
الدينونة” (يو 5: 29). وأمّا الأثمة فينهال عليهم خزي أبديّ ” وغضب نار
يأكل العصاة” (عبرانيين 10: 27). لعمري فلتحزنك إذاً هذه التهديدات، لا
الوصيّة. لكن كيف أمَسّ القلب منك؟ ماذا أقول لك؟ ألستَ تتشوّف إلى الملكوت؟ ألا
تخشى جهنم؟ مَن لي بدواء يشفي نفسك؟ لأنه إن لم ترهبك المرهبات الفظيعة ولا
اجتذبتك المباهج، فليس تبشيري إلاّ لقلب من حجر.

 

التذرّع
بالعائلة والمستقبل

يا
صاحبي تأمل طبيعة الغنى. لِمَ يثير الذهب منك كلَّ هذا الولع؟ إنما الذهب حجارة
والفضة حجارة واللؤلؤ حجارة. والجواهر كلّها حجارة: الزبرجد والزمرّد المصريّ،
والعقيق والياقوت والجَمَز واليَشَبْ. هذه نخبةُ الثروة. إلا أنك تخفيها في مخابئ
وتطمر هذه الروائع في الظلام وتَلبسها وتتباهى بوميضها النفيس. لكن قلْ لي، ماذا
تجني من تلويح يد يسطع فيها وميض الحجارة؟ ألا تخجل من اشتهائك الحصاة كالنساء
الحوامل اللواتي يقضُمْنَ الحصى؟ أنت أيضاً تطلب حجارة برّاقة أيها الجشع، واليشب
الأسمر والملوَّن والجَمَز.

 

 لكن
هَبْني متأنِّقاً استطاع أن يطيل عمره يوماً واحداً. ألعلَّ الغنى أخجل الموت
يوماً واحداً؟ والمال طرد المرض؟ فإلى متى هذا الذهب، فخّ النفوس وصنّارة صيْد
الموت وطعم الخطيئة؟ إلى متى الغنى، مسبِّب الحروب الذي يطرِّق السلاح ويُرهف السيوف؟
لأجله ينسى الأهل عواطف الطبيعة وينظر الأخ لأخيه بعين قاتِل. بسببه تطعم الصحراءُ
قطّاعَ الطرق والبحرُ القراصنةَ والمدنُ الوشاةَ. مَن ولد الكذب؟ من صنع التزوير؟
من خلَّف الحنث؟ أليس الغنى وما يثير من جنون؟

 

 ما
بالكم أيها البشر؟ من حوّل أموالَكم إلى خونة؟ تقولون: إنها تساعدنا على العيش.
ولكنّهم مع الأموال يزوّدونكم بمؤونةً للشرّ تقولون: إنها فديةُ النفس. أوليست
مسببة لهلاكها تقولون: “لكننا نحتاج إلى المال لأجل أولادنا”. فيا له من
سبب وجيه لتغتنوا! إنكم تتذرّعون بأولادكم لتطمئنوا قلبكم.لكن لا تتهموا البريء:
أبنكم له معلمه وله خادمه الخاصّ. لقد حصل على الحياة من سواكم، ومنه أيضاً ينتظر
لقمةَ العيش. ألم يكتب الإنجيل للمتزوجين أيضاً؟ ” إن أردت أن تكون كاملاً بع
كل ما تملك ووزعه على الفقراء”. فعندما استمطرت العليَّ مباركة زواجك وطلبت
منه البنين، أقلت له: ” هبني أولاداً لأخالف الوصايا؟ هبني أولاداً لكي لا
أدخل الملكوت”؟ ثم من يضمن برّ ولده ويؤكّد انه لن يسيء استعمال الثروة التي
نكون تركناها له؟ ما أكثر الذين صار لهم الغنى خادماً للدعارة! ألا تعرف قول سفر
الجامعة: ” شرٌّ مؤلم رأيته تحت الشمس: غنىً مدَّخراً لشقاء مالكه” (5:
13) و” كرهْتُ كلّ ما عاينت تحت الشمس من تعبي الذي سأتركه للإنسان الذي
يخلفني: ومن يدري هل يكون حكيم وأحمق؟” (2: 18 – 19).

 

 انتبه
ألاّ توفّر الأموال التي تجمعها بكلّ جهد وتعب مادةً للخطيئة فتجد نفسك معاقباً
مضاعفاً، على خطاياك الشخصيّة وعلى التي أوحيت بها للآخرين. أليست نفسك لك قبل
أولادك؟ ألك عشيرٌ حميم أكثر منها؟ إذاً فأكرمها بالميراث واصرف عليها بسخاء وبعد
ذلك تشاطر أولادك ما تبقى. كثيرون من الأبناء لا يرثون عن ذويهم أي ميراث لكن
يعودون ويجمعون لهم إرثاً. أما نفسك إن أهملتها، فمن يتحنن عليها؟

 

 هذا
بالنسبة لأرباب العائلات. أمّا الذين لا أولاد لهم، فبأي حجة دامغة يموّهون بخلهم؟
يقولون: ” لا أستطيع بيعَ أموالي ووهبها للمساكين بسبب ما للحياة من متطلبات
قاسية”. ماذا تقول؟ أليس الربّ معلّمَك والإنجيل قاعدة حياتك؟ وكيف تسنّ
لنفسك بنفسك ناموساً؟ انظر الخطر الذي تعرّضك له هذه الأفكار: فإن رفض ما أوصانا
به الربّ من أعمال بشكل واضح وإعلانه مستحيلاً ليس إلاّ ادّعاء بأنّنا اوفر حكمة
من واضع الناموس.

 

 تقول:
بعد ان أتنعم كل حياتي أورِث أموالي للفقراء وإني سوف أورِد هذه الرغبة في وصيتي
صريحاً. أفتنتظر ألاّ توجد بين الناس لتصير لهم صديقاً؟ هل أدعوك اخي الحبيب بعد
أن أراك ميتاً لا قبل؟ شكراً جزيلاً لسماحة يدك! فما ان اودعت قبراً وعدت تراباً
حتى اضحيت جوّاداً وشهماً! لكن قل لي أرجوك لأي وقت تطالب بأجرك، ألحياتك أم
للممات؟ طالما كنت عائشاً، انصرفت إلى التمرغ باللذات وتوغلت في دغدغات الشهوة ولم
تكن لك أدنى قوة لترفع نظرك إلى المساكين. من جهة اخرى، ماذا يسع الميت ان يصنع؟
وأي أجر لصنعه؟ أرنا أعمالك وحينذاك طالبنا بالمكافأة. لا أحد يساوم بعد إقفال
السوق. ليس من بطولة بعد انتهاء المعركة وإن دخل أحدهم الميدان بعد انتهاء السباق
فليس يكافأ بالإكليل. هكذا عند مغادرة الحياة، من البديهي ان التقوى لا تنفع
عندئذ.

 

 ثم
إنك تعد بالإحسان حبراً على ورق. لكن من يعلمك بيوم الوفاة؟ من يضمن كيفية الرحيل؟
فكم من الناس أردتهم الصواعق العاتية من غير أن ينبسّوا ببنت شفة. وكم من الناس
أفقدتهم الحمى وعيهم؟ ولِمَ تنتظر الوقت الذي يحتمل فيه ان تفقد تمالك أفكارك؟
ليلةٌ ليلاء، وألم شديد، ولا أحد بقربك. أمّا الذي يترصد ثروتك فساهر يرتب الأمور
كلَّها وفق مصالحهِ، ويتلاعب بمشيئاتك. حينذاك، حينما تدير الطرف من حولك وتفطن
لوحدتك العظيمة، ستفهم طياشتَك. حينذاك ستبكي البلاهة التي حدت بك إلى انتظار ذلك
اليوم لتنفيذ الوصية الإلهية، فيما لسانك مشلول ويدك المرتجفة تيبّسها التشنجات
بحيث لا تستطيع أن تعبرّ عن مشيئتك لا باللسان ولا بالقلم. وحتى لو أدليت بها
جلياً وأعربت عنها بصوت مسموع، يكفي حرف زائد لتشويه كلّ ما في خاطرتك. ختمٌ
يُغَيّر وشاهدا زور وثلاثة، وإذا بتركتك كلّها في أيدي آخرين.

 

 لماذا
تضلّل نفسك؟ اليوم تستغل ثروتك لارتضاء رغبة الجسد، ارتضاءً دنيئاً، وتعد للغد
بأموال لن يكون لك عليها سلطان. لقد أظهرت كم من الجبن يشوب نيتك. تقول: أريد أن
أستمتع باللذاّت في حياتي، وعند موتي أتمم الوصية المعطاة لي. فإليك أيضاً يقول
إبراهيم: ” إنك نلت خيراتك في حياتك” (لوقا 16: 25). لكن لا يمكنك أن
تعبر بالطريقة الكربة الضيقة إن لم تطرح عنك أوّلاً ثقلَ غناك. كنت ما زلت تحمله
عند وفاتك، ولم ترمِه عنك كما أمرت. طالما حييت، آثرت ذاتك على شريعة الله. ولمّا
مُتَّ واستحلت أرضاً ورماداً رُحتَ تؤثر هذه الشريعة على أعدائك. تقول: ”
لنعطِ أموالنا لله حتى لا يستولي عليها فلان”. لكن ماذا أسمي هذه الهبة،
أانتقاماً أم محبةً؟ أُتْلُ وصيتك هكذا: ” أردت أن أحيا أكثر وأتمتع
بثروتي”. شكراً للموت وليس لك. فلو كنت خالداً لما تذكرت الوصايا يوماً.
” لا تضلّوا فإن الله لا يسخر منه” (غلاطية 6: 7). إنّ الجسد الميت لا
يدخل في الذبيحة. تقدمتك قربها حيّةً، فالذي يُعطي من فضلته يستقبل بغير ترحيب.
وتهدي الله الخيرات التي تبقى عندك في آخر حياتك؟ إن كنتَ لا تجرؤ أن تقدم بقايا
المائدة لضيوفك الكرام، فكيف تدعي إطفاء غضب الله بفضلاتك؟

 

خاتمة

أيها
الأغنياء، تبصّروا في عاقبة حالكم، وأخمدوا تعلّقكم بهوى المال. كلّما عزَّ الغنى
على قلبكم، كلمّا توجّب عليكم الانتباه كيلا يفلت منكم. احتفظوا بكلّ ثروتكم
وخذوها معكم ولا تتركوا منها لأحد تركة! حينذاك قد يضع خدامك أيديهم على آخر حلّة
لديكم وسيسرعون في تصرف جنازتكم، حتى يرضوا الوارثين. وقد يقولون في أنفسهم عنكم:
” إنه من غير اللائق أن يزيّن ميتٌ وتتنقل جثة غير واعية في موكب باهظ
الكلفة. ألا يجدر بالأحرى إعطاء هذا الثوب الثمين للأحياء عوض أن نترك رداء بهذه
القيمة يهترئ مع الميت؟ وما نفع المقبرة الفخمة والجنازة الطنانة ولِمَ كلّ هذا
التبذير؟ الأفضل استخدام هذه الأموال الباقية للضرورات المعيشية”. هذا ما سوف
يُقال أنتقاماً من قساوة قلبك وسيوزعون أموالك على الورثة استرضاءً لخاطرهم.

 

 ألا
قوموا بالخطوة الأولى وهيئّوا مثواكم الأخير. نِعْمَ الكفن التقوى! إلبسوا عليكم
كلَّ غِناكم. وتزينوا واحتفظوا به. أصغوا لتلك الوصية الرائعة، وصية هذا المسيح
الذي يحبّكم وقد بذل نفسه عنكم. هلاّ نطيع هذا الحكيم الذي يعرف صالحنا. فلنحبّه
بشغف لأنه يُحبنا، ولنعترف بالجميل على فيض إنعامه. لكن فوق كلّ ذلك، لنتمِّم
وصاياه حتى نُضحي وارثين الحياة الأبدية في المسيح يسوع له المجد والعزّة إلى دهر
الداهرين. آمين

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى