مقالات

التجسد الإلهي – كيف نعرف الله وندخل في شركة حية معه – معرفة الله في المسيح يسوع

Saleb

+ يا الله الذي صنعت العظائم يا الله من مثلك (مزمور 71: 19)
+ من مثلك بين الآلهة يا رب من مثلك معتزاً في القداسة مخوفاً بالتسابيح صانعاً عجائب (خروج 15: 11)
+ جميع عظامي تقول يا رب من مثلك المنقذ المسكين ممن هو أقوى منه والفقير والبائس من سالبه (مزمور 35: 10)

الله الحي الحق والنور والحياة، ليس مثله شيء نستطيع أن نقارنه به أو نعرفه من خلاله من جهة إدراك طبيعته الفائقة، لأنه لا يُدنى منه وهو يفوق الفهم والمعرفة الطبيعية التي للإنسان، لأن الإنسان الله هو صانعه: [ إذ الخليقة الخادمة لك انت صانعها تتشدد لتعاقب المجرمين وتتراخى لتحسن إلى المتوكلين عليك ] (حكمة 16: 24)، فكيف للمخلوق الذي يترجى خالقة للمعونة والسند، أن يدرك كماله ويعرفه من ذاته أو يقدر أن يحد خالقه في عقله المخلوق !!!
فكيف لغير المفحوص أن يُفحص، وكيف لغير المرئي أن يُرى، وكيف لغير المُدرك الأزلي الأبدي الله الخالق أن يُدرك من المحدود الزمني الإنسان المخلوق، ويقول القديس أمبروسيوس أسقف ميلان في كتابه الشهير شرح الإيمان المسيحي عام 378م: [ يقول الرب ” هذا الجيل الشرير يطلب آية ولا تُعطى له آية إلا آية يونان النبي ” (لوقا 11: 29). لا تُعطى آية للاهوت، بل تُعطى فقط للتجسد. لذلك حينما كان النبي مُزمعاً أن يتكلم عن التجسد يقول النبي ” أطلب لنفسك آية ” وحينما قال الملك: ” لا أطلب ولا أُجرب الرب ” كان الجواب: ” هوذا العذراء تحبل ” (أنظر إشعياء 7: 11 – 14). لذلك لا يُمكننا نرى آية عن اللاهوت، فكيف يُمكن قياس اللاهوت؟ ] (القديس أمبروسيوس في شرح الإيمان المسيحي الجزء الثاني الكتب 3، 4، 5 – ترجمة د.نصحي عبد الشهيد نوفمبر 2009 – إصدار مؤسسة القديس أنطونيوسن المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية – نصوص آبائية 144 صفحة214)

بالطبع هناك في أعماق الإنسان حنين دائم وشوق شديد بلهفة قلب عميقة لمعرفة خالقه كأب وحبيب خاص لنفسه، وهذا الشوق والحنين موجود في صميم طبيعة البشرية كلها، لذلك نجده في أعماق كل إنسان محفور ومنقوش في أعماق أعماقه وأن لم يُصرح به علانية ولكنه في داخل نفسه يشعره ويحن إليه بشدة، وكل إنسان يشتهي ان يُكلم خالقه ويستمع إليه يخاطب نفسه ويتلامس معه !!! وهذا كله يا إخوتي نابع من صميم طبيعتنا التي تشكلت على صورة خالقها الحي !!!

ولكن الإنسان بعدما دخل في خبرة الظلمة وعاش بالشرور وفسد طبعه، لا يستطيع ان يُقبل إلى النور، لأنه لا يقدر أن يثبت أمامه قط، لأن النور يبدد الظلمة، كما أن الحياة تفضح الموت، وتظهر رائحة الموت أمام الحياة، فهل يستطيع أحد أن يفتح قبراً ويحتمل الرائحة التي تفيح منه، أو هل يقدر ميت ان ينهض ويستقبل الحياة، وهل تستطيع ظلمة أن تُنير أو تحتمل إشراق النور فيها، لذلك مكتوب: [ والنور يضيء في الظلمة والظلمة لم تدركه (أو لم تقوى عليه) ] (يوحنا 1: 5)، فهل رأينا من قبل ظلمة تثبت أمام النور، أو تقدر ان تُغطيه !!!

لذلك لا يستطيع الإنسان الطبيعي الساقط تحت سلطان الموت والذي يغطيه الظلام أن يرى الله وجهاً لوجه، لذلك قال الله لموسى النبي العظيم: [ لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش ] (خر33: 20)
ومن هُنا نرى احتياج الإنسان ظاهر عن واقع في قول المرنم: [ تحجب وجهك فترتاع تنزع أرواحها فتموت وإلى ترابها تعود، تُرسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض ] (مزمور 104: 28و 29)

لذلك أُعلن لنا لطف الله بظهور مخلصنا في ملئ الزمان لكي يعرفنا الله لا كمعلومة إنما كلقاء حي ومُحيي، حتى نستطيع ان نراه ونتعرف إليه وندخل في شركه حيه معه، وقد كُتب هذا لنا كإعلان في الإنجيل: [ الله لم يره أحدٌ قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر ] (يوحنا 1: 18)، [ الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي ] (عبرانيين 1: 3)

ويقول القديس اثناسيوس الرسولي في مقاله الشهير تجسد الكلمة: [ فطالما أن فكر البشر قد انحط كلية إلى الأمور الحسية، فالكلمة أيضاً تنازل وأخفى نفسه بظهوره في جسد، لكي يجذب البشر إلى نفسه كإنسان، ويوجه إحساساتهم نحوه، ومن ثم إذ يتطلع إليه البشر كإنسان فإنهم بالأعمال التي يعملها يقتنعون إنه ليس مجرد إنسان بل هو إله أيضاً، وكلمة الإله الحقيقي وحكمته … فلقد امتلأت كل الأشياء من معرفة الله بإعلان الكلمة نفسه في كل مكان؛ فوق وتحت بصيرورته إنساناً، وفي العمق بنزوله إلى الجحيم، وفي العرض أي في كل المسكونة. لقد امتلأ الكل من معرفة الله. ولهذا السبب ايضاً فإنه لم يُتمم ذبيحته عن الكل بمجرد مجيئه مباشرة، بتقديم جسده للموت ثم إقامته ثانية. لأنه لو فعل ذلك لجعل ذاته غير ظاهر، ولكنه صيّر نفسه ظاهراً جداً بتلك الأعمال التي عملها وهو في الجسد والمعجزات التي أظهرها، وبذلك صار معروفاً أنه ليس بعد مجرد إنسان فقط بل أنه هو الله الكلمة. لأن المخلص تمم بتأنسه عمليتي المحبة: (أولاً) أنه اباد الموت من داخلنا وجدّدنا ثانية. (ثانياً) أنه إذ هو غير ظاهر ولا منظور، فقد أعلن نفسه وعَرَّف ذاته بأعماله في الجسد، بأنه كلمة الآب، ومُدبر وملك الكون. ] (تجسد الكلمة الفصل السادس ص46، 47 – إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية بالقاهرة نصوص آبائية 107 – الطبعة الرابعة سبتمبر 2006م – ترجمة عن اليونانية د.جوزيف موريس فلتس وراجعة د. نصحي عبد الشهيد)

هذا هو عظم التجسد وهدفه، أن نعرف الله بإعلان وظهور واضح بيننا بحلول الكلمة في جسم بشريتنا ملتحفاً بنا حتى تتجلى الرؤيا وتظهر ونستطيع أن نبصر الله ونتلامس معه بقوة فنحيا ونستنير بنوره لنستطيع أن نراه بنفس ذات النور، ولننتبه بدقة لِما هو مكتوب بتدقيق:

[ كان النور الحقيقي الذي يُنير كل إنسان آتياً إلى العالم ] (يو1: 9)
[ نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل ] (مز34: 5)
[ لأن عندك ينبوع الحياة بنورك نرى نورا [ (مز36: 9)

فنور الله أشرق لنا بيسوع المسيح الذي خبرنا عن الآب، وكل من نظر إليه استنار واستطاع بالنور الذي أشرق في قلبه الذي منه الشفاء [ ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها ] (ملاخي 4: 2)، أن يرى نور الله المُشرق ويتطلع إليه فيفرح ويبتهج فيدخل في شركة حيه مع الله الحي لذلك يخبرنا الرسول قائلاً، وكاشفاً لنا عن كرازة الإنجيل الحية:
[ الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فأن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً ] (1يوحنا 1: 1 – 4)

فافرحوا يا إخوتي بظهور مخلصنا القدوس الصالح في الجسد، اللوغوس الذي أدخلنا في معرفة الله التي حُجبت عنا بسبب معاصينا وسلطان الموت الذي ملك علينا، فبعد ان حُرمنا من معرفة الله وشركته التي كانت في الفردوس، ظهر الله الكلمة في الجسد لكي فيه يدخلنا إلى داخل الله ويُشرق في قلوبنا بمعرفته [ لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ] (2كورنثوس 4: 6)

فبالإيمان بالله الكلمة المتجسد وقبوله وحده في القلب كنور وحياة وقيامة للنفس نستطيع أن ندخل إلى الله ونعرفه مُشرق في وجه يسوع الذي أشرق لنا بنور عظيم في ملء الزمان لنعرف الله الحي، وبهذا الإيمان أصبح لنا سلطان إلهي مُعطى لنا نحن المولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد (1بطرس 1: 23): [ النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم. كان في العالم وكُوِنَ العالم به ولم يعرفه العالم. إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه. الذين وُلِدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله ] (يوحنا 1: 9 – 13)

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى