علم المسيح

حياة يسوع الجديدة



حياة يسوع الجديدة

حياة يسوع الجديدة

.
إنه، ولا شك، في غاية الوعورة – إذا لم نقل من المتعذر – أن نربط الأحداث التي
تخللت حياة يسوع الناهض بتواريخها. فالذي يؤخذ من إنجيل البشير متي (28: 10)
وإنجيل البشير مرقس (16: 7) هو أن المسيح قد ظهر لتلاميذه في الجليل أولاً، وأما
إنجيل البشير يوحنا فيلهم أنه ظهر في أورشليم، وإنما يجب أن نلحق تلك الأخبار
بعضها ببعض، عندما نطالعها، وتلك هي إحدى مهمات المفسرين: أن يعملوا علي استكشاف
تلك الأحداث في ترابطها التاريخي. وأكثر تلك التفاسير شيوعاً أن المسيح قد ظهر
للتلاميذ في المدينة المقدسة أولاً، ثم ظهر لهم بعد ذلك في الجليل، وكانوا، بعد
الفصح، قد قفلوا إلي موطنهم

 

.
وإنما ثمة ملاحظة واجية، أخطر بما لا يقاس مما سبق، ولعلها تلهم شرحاً. فمما لا
نزاع فيه أن الظروف الحياتية التي تميزت بها سيرة المسيح بعد القيامة، ليست هي نفس
الشروط التي خضع لها في الفترة الأولي، ويتبين ذلك بوضوح من قراءة النصوص
الإنجيلية، كما أن ذلك جزء من التعليم المأثور في الكنيسة. فجسد المسيح لم يخضع،
بعد القيامة، لما خضع له قبلها من قيود. ويبدو أن حضوره في موضع ما، كان رهن
إرادته، لقد قال للمجدلية، وقد سارعت إليه منفعلة: “لا تلمسيني!” وأما
توما، المتريب، فقد تقدم إليه يسوع بأن يضع يده في جنبه المفتوح. وكان
“يظهر” لتلاميذه، وتلك لفظة لم تكن قط قد وردت في الإنجيل بهذا المدلول،
ويؤخذ منها، علي ما يبدو، أن التلاميذ ما كانوا ليشاهدوه، لو لم يشأ لهم ذلك

 

.
هناك تفاصيل كثيرة تلح في الإشارة إلي الميزات الغريبة التي اتصفت بها حياته
الجديدة. فالمسيح قد ظهر لتلاميذه، وهم في غرفة موصدة المنافذ. فخيل إليهم أنهم
يرون طيفاً. (لوقا 24: 36، يوحنا 20: 19)، وإذ كان مع تلميذي عمواس، إذا به يتواري
عنهم، ويختفي من أمامهم اختفاء (لوقا 24: 31)، وقد اتخذ أشكالاً غريبة. فالمجدلية
قد توهمته البستاني، وتلميذا عمواس قد “أمسكت أعينهما عن معرفته” (لوقا
14: 16)، وظهر للتلاميذ في “هيئة أخري” (مرقس 16: 12)، وبطرس نفسه، مع
أقطاب التلاميذ، عند شاطئ بحيرة الجليل، خاطبوه وما عرفوا أنه هو (يوحنا 21: 4)

 

. هل
فكر في هذه التحولات ذاك الذي ترك لنا الحديث الغريب، حيث جاء: “لم أكن في
الظاهر ما كنت في الواقع! “، ومع ذلك – وهذا مما يتجاوب والقضايا التي أتينا
علي ذكرها – لم يكن شئ أبعد عن فكرة الإنجيليين من أن يحسبوا المسيح، بعد قيامته،
مجرد خيال. فقد قال لتلاميذه المجتمعين، وقد ذعروا من حضوره بينهم: “لم هذا
الاضطراب، ولم الهواجس تنبعث في قلوبكم؟ انظروا يدي ورجلي! فإني أنا هو! جسوني
وانظروا فإن الروح لا لحم له ولا عظم كما ترون لي ” (لوقا 24: 38 – 40)، وإذ
كانوا بعد متذبذبين، غير مصدقين من شدة العجب، قال لهم: “هل عندكم ههنا طعام؟”
فقدموا له من طعامهم سمكاً وشهد عسل. ” (لوقا 24: 36 – 43).. سوف يكتب القديس
إغناطيوس الأنطاكي، منذ نهاية القرن الأول: “أما أنا فإني لواثق أن يسوع
المسيح كان له جسد، حتى من بعد قيامته، وأنه أكل وشرب مع تلاميذه، وإن بات متحداً
بالآب اتحاداً نفسياً”، وبالإمكان أيضاً أن نورد علي سبيل التفكهة البرهان
المدون في “رسالة الرسل” المنحولة: “الشبح الشيطاني لا يترك أثر
قدمه في الصخرة!”

 

. من
النقاد من يتبين – توهماً – في الأناجيل، نظريتين متباينتين في القيامة: إحداهما
روحية، “تذهب إلي أن الناهض لم يظل خاضعاً لشروط الحياة البشرية
المألوفة”، والأخرى تقول “برجعة المسيح إلي الحياة”، ثم يصرح، بعد
ذلك، أن النظريتين “متنافيتان”. ذلك، ولا شك، صحيح في النظام البشري
الطبيعي، ولكنا ألسنا، ههنا، في نظام يفوق الطبيعة؟ لابد من التسليم بأن يسوع، بعد
موته، قد ظهر في طبيعة لم تكن محض بشرية، بالمعني الحصري، وأنه كان بوسعه، وهو
متلبس بجميع خواص الجسد، أن يفلت مما نخضع له من قيود! فكأن الألوهية فيه قد
ازدادت، بفضل الموت، سيطرة علي ذاك الغشاء الجسدي

 

. لقد
رأي الرسول بولس، في معرض كلامه عن قيامة الأموات، في فقرة مشهورة من رسالته
الأولي إلي الكورنثيين، “أن كل إنسان موعود بذاك التحول عينه”، قد يقول
قائل: “كيف يقوم الأموات؟ وبأي جسد يرجعون؟” – يا جاهل! إن ما تزرعه،
أنت، لا يحيا إلا إذا مات. وما تزرعه فليس هو الجسم الذي سيكون، بل مجرد حبة من
الحنطة، مثلاً، أو غيرها من البذور. إلا أن الله يؤتيها جسماً علي ما يريد، لكل من
البذور جسمه المختص به

 

.
“كل الأجساد ليست واحدة، بل للناس جسد وللبهائم جسد آخر، وللطيور أخر،
وللأسماك آخر. والأجسام أيضاً أجسام سماوية وأجسام أرضية، بيد أن بهاء السماوية
منها نوع، وبهاء الأرضية نوع أخر، وبهاء الشمس نوع، وبهاء القمر نوع آخر، وبهاء
النجوم نوع آخر، حتى إن نجماً يمتاز عن نجم في البهاء. فهكذا قيامة الأموات: يزرع
الجسد بفساد ويقوم بلا فساد، يزرع بهوان ويقوم بمجد، يزرع بضعف ويقوم بقوة، يزرع
جسد حيواني ويقوم جسد روحاني” (1 كورنثوس 15: 35 – 44)، لقد كان إذن جسد
المسيح القائم – بالمعني الذي أفصح عنه الرسول بولس في هذا النص – جسداً بشرياً
حقيقياً ولكن “ممجداً”

 

أفلا
يحق لنا أن نلتمس في هذا التعريف بالذات، تفسير ما يبدو لنا متناقضاً في النصوص
الإنجيلية؟ إن مفاهيم الزمان والمكان، تتصل اتصالاً وثيقاً بوضعنا الإنساني، وهي
التي تفرض علينا قيوداً مرهقة. ولكن هل الجسد “الممجد” خاضع لها أيضاَ؟
أو لا يستطيع أن يكون هنا وهناك في ذات اللحظة، وقد سقطت عنه حواجز المكان، وبات
أمسه ويومه وغده نقطة متجمعة في الأبدية، حيث صار إلي تمامه! أولا ينبغي أيضاَ أن
نجد دعامة هذا الافتراض، في موضع آخر من نفس الرسالة (15: 5 – 8)، حيث يلمح الرسول
بولس إلي ظهورات يسوع مدة الأربعين يوماً، بعد القيامة، ويدرج في ذات النطاق،
وكحدث شبيه بها كل الشبه، الظهور الذي أكرمه به يسوع، في طريق دمشق، مع أنه جري
بعد أربعة أعوام، إذ كان المسيح قد صعد إلي السماء منذ فترة طويلة؟

 

. ذاك
معني القيامة، كما كان يسوع نفسه قد أنبأ بها. وقد قال للتلاميذ، ساعة حضر عليهم
مجتمعين: “ذاك ما قلت لكم، إذ كنت بعد معكم: إنه كان لابد أن يتم جميع ما كتب
عني في ناموس موسى، وفي الأنبياء والمزامير” (لوقا 24: 44). لقد كانوا
ملتئمين في ذات العلية التي كان يسوع – من قبل أربعة أيام، أثناء العشاء – قد قدم
لهم فيها جسده ودمه. وكانوا يتحدثون عن الأمور الغريبة التي جرت في الصباح، وعن
القبر الخالي، وعما خبرت به النسوة، وما عاينه بطرس ويوحنا. وكانوا قد تحصنوا
منيعاً، لما باتوا فيه من شدة الخوف من ضغائن اليهود، وكان اثنان من التلاميذ –
ربما من أولئك السبعين الذين كان يسوع قد وكل إليهم مهمة التبشير – قد وصلا إلي
العلية ملتهثين، وأخبرا التلاميذ بأن المعلم قد إلتقاهما وتحدث إليهما، في طريق
عمواس، علي بعد غلوات من أورشليم.. فثار جدال في أقوالهم. لقد كانت غيوب الدنيا
محومة فوق تلك الحفنة من الرجال، وكانت نفوسهم حافلة بذاك الأمل الذي ظل العقل
يأبى التسليم به. إذ ذاك ظهر لهم يسوع. وقال: “لا تخافوا”

 

. مثل
هذا الظهور قد حدث مراراً كثيرة، بل أكثر مما يأتي الإنجيل علي تفصيله: فسمعان
بطرس قد أكرم بأحدهما، وبولس قد ذكر ظهوراً آخر شهده لا أقل من خمس مائة شاهد.
وأولئك الرجال والنساء الذين كانوا قد عاشوا – منذ أكثر من سنتين – في ظل الغيب،
ولم يستوعبوه، إذا بهم يقذفون في صميمه، فتتضعضع حياتهم اليومية، وما كانوا قد
استعادوه، حالاً، من مهام الصيد، وأشغال المهنة

 

. إلا
أن بعضهم ظلوا مكابرين: ” فإن توما، أحد الإثنى عشر، الذي يقال له ذيذمس (أي
التوأم)، لم يكن معهم حين جاء يسوع. فقال له التلاميذ الآخرون: “لقد رأينا
الرب!”. أما هو فقال لهم: “إن لم أر أثر المسامير في يديه، وأضع إصبعي
في موضع المسامير، وأضع يدي في جنبه، فلن أومن!”

 

.
“وبعد ثمانية أيام كان التلاميذ أيضاَ في الداخل، وتوما معهم، فأتي يسوع –
والأبواب موصدة – ووقف في الوسط، وقال: “السلام لكم!”، ثم قال لتوما:
“هات إصبعك إلي ههنا وانظر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل
مؤمناً “، أجاب توما، وقال له: “ربي وإلهي!”، قال له يسوع: ”
أفلأنك رأيت آمنت؟ طوبى للذين يؤمنون ولم يروا” (يوحنا 20: 24 – 29). مشهد
رائع بقوة حقيقته، يبدو فيه التلميذ، – مثل ما عرفناه في سائر الإنجيل – مدققاً،
متيناً، محجاجاً، ويتجلى فيه المسيح رفوقاً بالمرتابين، وقل ما يضاهي ذاك المشهد
تأسية لضعف الإنسان، وتعهداً للقلب المضعضع، بالأمل والمساندة

 

. ثم
كانت الظهورات في الجليل. وقد أشارت الأناجيل المؤتلفة إلي أحدها. (متى 18: 16)،
ولكن البشير يوحنا، خصوصاً قد أراد له فصلاً ولا ريب إضافياً، وشبه ملحق بالإنجيل،
وقد ألمع إليه بوضوح إنجيل بطرس المنحول، في نص مجذوم، لسوء الحظ: “لقد كنا،
نحن تلاميذ السيد، في الدموع والكمد، فرجع كل منا كئيباً إلي بيته. أما أنا سمعان
بطرس وأخي اندرواس فقد احتملنا شباكنا وقصدنا بحر الجليل، يرافقنا لاوي بن حلفا
الذي كان السيد قد..”، وقد ذكر يوحنا من الحاضرين بطرس وتوما ونثنائيل الذي
من قانا الجليل، وابني زبدي واثنين آخرين، وكانوا قد صرفوا الليل في الصيد، ولم
يصيبوا شيئاً. فعند الصباح، صاح بهم من الشاطئ رجل مجهول: “هيا فتيان، هل
عندكم شئ للأكل؟” قالوا: “لا!” فقال لهم: ” ألقوا الشبكة من جانب
السفينة الأيمن، فتجدوا”، فألقوها، فلم يعد في وسعهم أن يجتذبوها لكثرة
السمك!” (يوحنا 21: 1 – 15)

 

..
وكان يوحنا أول من أدرك الأمر، فقال لبطرس: “هو الرب!”، فأسرع زعيم
الرسل وائتزر ثوباً له – لأنه كان عرياناً – وألقي بنفسه في البحيرة، وازدلف إلي
يسوع. لقد كانت معجزة الصيد، قبلاً، قد أشرعت للنور قلب أولئك الرجال البسطاء، وها
هي المعجزة نفسها، فوق ذات المياه، تتم عليهم ثانية نور الهدي. كانت المعجزة
الأولي قد نصبت للكنيسة معالمها الأولي، فجاءت الثانية شبه وعد بتلك المصادرات
الكبيرة التي سوف يوفق إليها، عن قريب، صيادو البشر!

 

. إن
التعاليم الأخيرة التي ألقاها يسوع علي أتباعه، في تلك الساعات الحاسمة التي أوتي
فيها – لتدعيم إيمانهم – حياة ثانية، قد هدفت إلي إعداد الكنيسة لمصيرها، وتفقيهها
نهائياً في رسالتها

 

.
“اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. فمن آمن
واعتمد يخلص، ومن لا يؤمن يقضي عليه، وها هي ذي الآيات تصحب المؤمنين، باسمي
يخرجون الشياطين، وينطقون بألسنة جديدة، ويأخذون الحيات بأيديهم، وإن شربوا سماً
قاتلاً فلا يضرهم، ويضعون أيديهم علي المرضي فيبرأون.. وها أنا معكم كل الأيام،
إلي انقضاء الدهر” (متي 28: 18 – 20، مرقس 16: 15 – 19)

 

منذ
تلك اللحظة غدت واجبات الكنيسة وحقوقها راسية لا مراء فيها. ففي إثر معجزة الصيد،
وبعد الوجبة التي ذهب فيها بعض من المائة والثلاث والخمسين سمكة المنتزعة من
الشبكة، قال يسوع لسمعان بطرس: “يا سمعان بن يوحنا أتحبني أكثر من
هؤلاء؟” قال له: “نعم، يارب، أنت تعلم إني أحبك”. قال له:
“إرع خرافي!”. ثم قال له ثانية: ” يا سمعان بن يوحنا،
أتحبني؟” قال له: “نعم يارب، أنت تعلم إني أحبك!” قال له:
“إرع نعاجي!” ثم قال له ثالثة: ” يا سمعان بن يوحنا، أتحبني؟”
فحزن بطرس من ذاك الإلحاح، وقال له: يارب، أنت تعرف كل شئ، وأنت تعلم إني
أحبك”.

 

..
قال له يسوع: ” إرع نعاجي” (يوحنا 21: 15 – 17). لقد أراد الراعي
الصالح. قبل أن ينطلق، أن يعهد بقطيعه إلي من كان أقدرهم وأولاهم. وقد قبل بطرس
بالمهمة. بالرغم مما بادره به المسيح حالاً من نبأ استشهاده: “الحق الحق أقول
لك: إنك إذ كنت شاباً، كنت تمنطق نفسك، وتمضي حيث تشاء، ولكنك متي شخت، ستمد يديك،
وآخر يمنطقك ويذهب بك حيث لا تشأ!” (يوحنا 21: 18)، وهكذا تراءى، من خلال تلك
النبوءة الكالحة، الصليب الذي سوف يردي عليه سمعان الملقب بالصخرة. ولكنه لم يجزع،
بل أذعن لمصيره، في قرارة قلبه. فقال له يسوع: “اتبعني!”، وانتحيا ناحية
من ضفاف البحيرة، عند تلك الشواطئ الغبراء السوداء تارة، والوردية الفاهية تارة
أخري، حيث الرمال مرقطة بأصداف صغيرة براقة.. النصح أخير، أم لتوجيهات حاسمة؟

 

..
هكذا قضي أولئك الرجال أريعين يوماً في ذاك الجو من الحقيقة العلوية. وأصبح
مفهوماً أن يكون إيمانهم قد اقتبس من تلك المعايشة رسوخاً لن تزعزعه الأيام. وفي
ذات يوم، بالقرب من المدينة المقدسة. وعند أكمة الزيتون حيث كانوا قد واكبوه
ظافراً، وإذ كان يسوع يتحدث إليهم، بسط يديه ليباركهم، وفيما هو يباركهم، بدا –
وهو في وسطهم – كأنه ينفصل عنهم نحو الفضاء رويداً رويداً، إلي أن تواري عن
أعينهم، تاركاً لهم الفرح!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى