علم الكتاب المقدس

الوحى ومعناه



الوحى ومعناه

الوحى
ومعناه

تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس (2بطرس 1: 21) 

ما هو الوحي؟

فهمنا
من الفصل الأول أن الكتاب المقدس هو إعلان الله، وأنه الإعلان الوحيد الذى منه
حصلنا على المعلومات الإلهية، وبدونه ما كنا نعرف أي شئ عن خلاص النفس ولا عن
الأبدية ولا عن الله. ولقد أصاب واحد عندما قال إن فلاحاً بسيطاً يقرأ الكتاب
المقدس وهو سائر خلف محراثه يستطيع أن يعرف عن الله أكثر مما يعرف العالم فى
مختبره، أو حتى أستاذ اللاهوت إذا كان ينكر وحي الكتاب المقدس.

الكتاب
المقدس هو وحي الله. ومع أن تعبير «وحي الكتاب المقدس» ليس تعبيراً كتابياً بحصر
اللفظ؛ إلا أن مضمونه واضح كل الوضوح في الكتاب المقدس كله. ولقد نشأ هذا التعبير
من قول الرسول بولس « كل الكتاب هو موحى به من الله » (2 تي 3:
16). هذه الكلمة «موحى به من الله » لم ترد سوى فى هذا النص، لكن هذه المرة
الفريدة، مليئة بالمعاني الغنية والمباركة. فهي باليونانية؛ لغة العهد الجديد
الأصلية «ثيوبنوستوس»- وتعنى حرفياً؛ نفَس أو نسمة الله. فالكتاب المقدس هو إذاً
أنفاس الله أرسلها إلى أواني الوحي. قديماً نفخ الله في أنف الإنسان نسمة حياة
« فصار آدم نفساً حية » (تك 2: 7)، أما الكتاب المقدس فهو ذات أنفاس
الله، وهو لذلك كتاب يهب الحياة الروحية، كقول الرب له المجد للتلاميذ
« الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة » وكرد بطرس عليه « يارب إلى
من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك » (يو 6: 63، 68).

عرف
“وبستر” الوحي كالآتي: “هو تأثير روح الله الفائق للطبيعة على
الفكر البشرى، به تأهل الأنبياء والرسل والكتبة المقدسون لأن يقدموا الحق الإلهي
بدون أى مزيج من الخطأ”. ويوضح الرسول بطرس أن الأنبياء، أواني الوحي، أثناء
كتاباتهم المقدسة كانوا تحت تأثير سلطان الروح القدس فيما كتبوا، ليس فقط مسترشدين
به، بل أيضاً مسوقين منه (2بط 1: 21). علق على هذا وليم كلي بأن الله
استخدم أناس الله كالعربات لتحمل إلينا قصده من إعطاء كلمته. فوظّف عقولهم
وقلوبهم، لغتهم وأسلوبهم، لكنه أوصل إلينا بها حكمته في إتمام قصده بصورة تسمو فوق
الأداة المستخدمة، وبمعزل تام عن أدنى خطأ.

طريقة الوحي

هناك
فصل هام يشرح لنا مسألة الوحي فيه يقول الرسول بولس « كما هو مكتوب ما لم تر
عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه، فأعلنه الله
لنا نحن بروحه، لأن الروح يفحص كل شئ حتى أعماق الله. لأن من مِن الناس يعرف أمور
الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه، هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح
الله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا
من الله، التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما يعلمه الروح
القدس، قارنين الروحيات بالروحيات. ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله
لأنه عنده جهالة. ولا يقدر أن يعرفه (يعرف هذه الأمور) لأنه إنما يُحكَم فيه (فى
هذه الأمور) روحياً. وأما الروحي فيحكم في كل شئ وهو لا يحكم فيه من أحد» (1كو2:
9-15).

في
هذا الفصل الهام يذكر الرسول بولس ثلاثة أمور هي:

أولاً:
الإعلان؛

حيث أعلن روح الله القدوس لكتبة الوحي أفكار الله العجيبة. فهذه الأمور – كما
فهمنا – هى ما لم تر عين ولا سمعت أذن ولا خطرت على بال إنسان، لكن روح الله
القدوس – الذي يفحص كل شئ حتى أعماق الله – أعلنها لأواني الوحي. ويوضح الرسول في
ع11 أن الإمكانية الوحيدة لحصولنا على هذا الإعلان هو روح الله. هذه هي الخطوة
الأولى فى موضوعنا؛ أعنى الإعلان.

ثانياً:
الوحي
؛
فتحت السيطرة المطلقة والهيمنة الكاملة من الروح القدس، تمت صياغة ذلك الإعلان
بذات أقوال الروح القدس، فتم القول « قارنين الروحيات بالروحيات ». هذه
الآية تفسَر في أحيان كثيرة تفسيراً خاطئاً، إنها لا تعنى مقارنين الروحيات
بالروحيات، أو مقارنين أقوال الكتاب ببعضها، بل تعني أن الرسل كانوا موصلين
الإعلانات المعطاة لهم من الروح القدس بذات العبارات التي يريد الروح القدس أن
يستخدمها.

ثالثاً:
الإدراك؛

وهذه هى المرحلة الثالثة من قصة وصول أفكار الله إلينا. فبعد أن أُعلن الحق بالروح
القدس لرجال اختارهم الله، ثم أوحى الروح القدس إليهم ليوصلوا لنا هذه الأفكار
بذات الكلمات التي أملاها عليهم روح الله، فإنه يلزم لإدراك الحق وامتلاكه أن يكون
المؤمن في حالة روحية، لأن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله، ويستحيل عليه
قبول وفهم الأمور الإلهية.

هذه
الأمور الثلاثة هي إذا كالآتي:

الخطوة
الأولى: من الله إلى كاتب الوحي، وفيه يصل إلى ذهن كاتب الوحي ما يريد الله
أن يقوله. هذا هو الإعلان.

الخطوة
الثانية: من أواني الوحي إلى الرقوق أو الورق. وفيه يكتب النبي ما يريده الله
أن يكتبه. وهذا هو الوحي.

الخطوة
الثالثة: من الرقوق أو الورق إلى قلب القارئ، وفيه يتقبل الإنسان الاستنارة من جهة
ما يريده الله أن يقوله، وما كتبه الله فى الكتاب. وهذا هو الإدراك

هذه
هى الخطوات الثلاث لوصول أفكار الله إلى الإنسان. إنها تشمل المنبع والمجرى
والمصب. والكل من عمل روح الله.

وواضح
أننا اليوم لسنا في زمن الإعلان أو الوحي، لكننا لا زلنا نحتاج إلى استنارة من روح
الله القدوس لنفهم المكتوب (مز119: 18).

 

الخطوات
الثلاث من فكر الله إلى قلب المؤمن

نظريات الوحي

حاول
اللاهوتيون تفسير الوحي، وقدموا لذلك نظريات متعددة، نذكر منها:

1-
النظرية الطبيعية
: فاعتبر البعض أن الوحي هو إلهام طبيعي كذلك الإلهام الذي
يصاحب الشعراء والأدباء فى كتابة قصائدهم وأعمالهم الفنية.

لكن
هذه النظرية مرفوضة لأنها تتجاهل العنصر الإلهي الذي يؤكده الكتاب المقدس عندما
يقول « تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس » (2بط1:
21).

2-
النظرية الميكانيكية أو الإملائية
: وفيها قالوا إن الله قام بإملاء كتبة
الوحي ما كتبوا، تماماً كما لو كان يحرك آلة كاتبة أو إنساناً آلياً.

هذه
النظرية على عكس النظرية السابقة تتجاهل العنصر البشرى، ولا يوجد أدنى سند لهذه
النظرية في الكتاب المقدس، بل على العكس إن لنا العديد من الأدلة على أن شخصية
الكاتب ومشاعره ظاهرة فيما كتب (انظر رو9: 1-5). فكتابات الأنبياء والرسل تحمل
طابع زمانهم وظروفهم واختباراتهم. لقد أحس إشعياء بالرهبة المقدسة وهو يحدثنا عن
الرؤيا المسجلة فى أصحاح 6 من نبوته، كما وغمر إرميا في الأحزان الكثيفة وهو يكتب
مراثيه، وامتلأ قلب داود بالفرح وبالعرفان وهو يكتب مزاميره الشهيرة مثل مزمور23،
103،..الخ

إننا
نوافق تماما الكاتب الألماني “إريش ساور
” الذي قال
حاشا أن نقول إن الله ألغى شخصية كتبة الوحي فيما كتبوا، فهذا الأسلوب من الوحي لا
يليق بالله مطلقا. إننا نجد مثل هذا الأسلوب فى الوثنيات والعبادات الشيطانية التي
فيها تُفقِد الأرواح الشريرة الإنسان شخصيته (انظر 1كو12: 2، مر5: 1-9). أما
الإعلان الإلهي فإنه لا يلغى شخصية أواني الوحي، إذ أن أحد أهداف الإعلان الإلهي
هو وجود شركة بين روح الإنسان وروح الله، فالله لا يسر بأن يشغل آلة ميتة، بل
إنساناً ذا مشاعر، لا مجرد عبد بل صديق.

ولهذا فإننا نرفض أيضا نظرية الوحي الإملائي أو الميكانيكي.

3-
النظرية الموضوعية:
بمعنى أن الله أوحى لأواني الوحي بالفكرة فقط،
دون العبارات نفسها، إذ ترك لكل كاتب أن يختار العبارات التي تروق له دون تدخل من
جانبه. ولعل الذين اقترحوا هذه النظرية أرادوا بها تفادى أية تناقضات في الكتاب
المقدس لا يعرفون حلها، أو أى عدم دقة تاريخية أو علمية مزعومة.

لكننا
أيضاً نرفض هذه النظرية إذ أن الكتاب ينقضها. فكما أشرنا فيما سبق هناك فارق بين
الإعلان والوحي، الإعلان كان للفكرة، لكن لئلا يعجز كتبة الوحي عن توصيل أفكار
الله بكل دقة، فإن الله لم يتركهم يختارون العبارات. هذا ما أكده الرسول بولس
عندما قال « لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية، بل بما (مشيراً إلى
الأقوال) يعلمه الروح القدس » (1كو2: 13). وأيضاً قوله عن اليهود إنهم
« استؤمنوا (لا على أفكار الله، بل) على أقوال الله » (رو3: 2).
وأيضاً ما قاله استفانوس عن موسى إنه « قبل من الله أقوالاً حية
ليعطينا إياها » (أع7: 38). وداود يقول « روح الرب تكلم بي، وكلمته
(وليس أفكاره) على لساني » (2صم23: 2)

إننا
نتفق مع المصلح الشهير لوثر الذي قال: لم يقل المسيح عن أفكاره إنها روح وحياة، بل
« الكلام (أو بالحري ذات الألفاظ) الذي أكلمكم به هو روح وحياة »
(يو6: 63).

4-
النظرية الجزئية
: وتعنى أن هناك أجزاء فى الكتاب المقدس موحى بها، وأخرى غير
موحى بها. ولكي ما يثبت أحد اللاهوتيين هذه النظرية، فإنه فسر الآية الواردة في
فاتحة الرسالة إلى العبرانيين « الله.. كلم الآباء قديماً بأنواع (وفى حاشية
الكتاب بأجزاء أو جزئياً) وطرق كثيرة »، والمقصود من هذه الآية أن إعلانات
العهد القديم المتنوعة والكثيرة لم تكن كاملة، وكانت تنتظر الكمال في تجسد الكلمة،
ومجيء الابن الحبيب بالجسد، لكن هذا اللاهوتي فسرها بأن ليس كل الكتاب على نفس
الدرجة من الوحي والعصمة؛ فنوع من الكلام هو وحي كامل، والبعض الآخر وحي جزئي،
وأجزاء ثالثة ليست وحياً على الإطلاق. لكن هذا اللاهوتي ارتبك ولم يعرف كيف يجيب
عندما سأله واحد: وكيف تعرف أن عبرانيين 1: 1 الآية التي بنيت عليها نظريتك هى ضمن
آيات الوحي الكامل التي يمكنك الاستناد عليها؟

كلا،
بل إننا نتفق تماماً مع “رينيه باش” الذي قال: سواء كان الإناء المستخدم
في الوحي مقتدراً فى القول كموسى، حكيماً كدانيآل، فاسداً كبلعام، عدواً كقيافا،
مقدساً كيوحنا، بلا جسد كالصوت الذي سُمِع فوق جبل سيناء، بلا شعور كاليد الكاتبة
على حائط قصر بابل.. فإن الفكركان من الله، والعبارة أيضاً من الله.

5-
النظرية الروحية:
بمعنى أن الله أعطى الوحي للروحيات فقط، أما
الأمور الأخرى التاريخية أو العلمية..الخ فهي تحتمل الخطأ، شأنها شأن أية كتابات
أخرى في ذلك الزمان. ويقول أصحاب هذه النظرية إن الله تكلم إلينا فعلاً عن طريق
كتابه المقدس، لكن ليست نصوص الكتاب هى كلمة الله، بل فقط الرسالة الروحية التي
أتت إلينا من خلال هذه الكلمات. فحادثة دانيآل في جب الأسود مثلا هي في نظرهم قصة
خيالية لكنها مع ذلك تصور لنا أهمية الصلاة! ومعجزة تكثير الخبز لم تحدث فعلاً –
هكذا هم يقولون – لكنها تعلمنا الإيثار وتقديم ما عندنا للآخرين، وهكذا. عبر عن
هذه النظرية واحد عندما علق على قصة إغلاق إيليا للسماء، وإعالة الغربان له
بالقول: هذه القصة من الوجهة التاريخية خاطئة، ومن الوجهة الروحية صحيحة!!

ينتج
عن هذه النظرية الفاسدة عدم قبول ذات كلمات الكتاب باعتبارها « أقوال
الله »، كما أنها تجعل القارئ حراً تماماً أن يقبل أو يرفض ما يراه هو صحيحاً
أو خطأ فى عبارات وأقوال الوحي. وعندما نرفض إعطاء السلطان لكلمات الكتاب المقدس
ففيمن نثق بعد ذلك يا ترى؟ أيجوز لنا أن نجعل من أنفسنا قضاة على أقوال الله؟

ترى من الذي يقرر ما هو صحيح، وما ليس له قيمة؟
كيف يمكنك التمييز بين الحقائق والتعاليم؟ هل نترك ذلك لتذوقنا نحن للأمور؟ إننا
بذلك نكون قد وضعنا أنفسنا فوق الوحي لنحكم نحن عليه، وبذلك يفقد الوحي معناه
أصلاً. ثم كيف نفصل رسالة الوحي عن الخلفية التي منها قُدِمَت لنا هذه الرسالة؟
وأين في كل الكتاب نجد هذا الفاصل المزعوم؟ أين نجد ولو إشارة أو تلميحاً عنه؟ أين
في كل الكتاب يمكننا أن نستنتج أن جزءاً من الوحي مهم وآخر غير مهم؟

الوحي اللفظي أو الكلي

قال
المعلم المقتدر ف.ب.هول: نحن لسنا بحاجة أن نضع نظرية لشرح الوحي الحرفي أو
اللفظي، فهذه شأنها شأن كل الحقائق الإيمانية لا نفسرها بل نقبلها بالإيمان. ونحن
إذ نوافق هذا المعلم المعتبر، فإننا لن نشرح الوحي لكننا نُعرّفه كالآتي: هو تأثير
إلهي مباشر يؤثر على ذهن كتبة الوحي، به تأهلوا لأن يقدموا الحق الإلهي بدون أدنى
مزيج من الخطأ؛ وبناء عليه فإن الروح القدس أعطى كتبة الوحي لا الأفكار فحسب، بل
قادهم قيادة ماهرة في إنشاء العبارات اللازمة للتعبير الخالي من الخطأ عن هذه
الأفكار التي أعلنها لهم.

الإدراك
هنا ليس له المركز الأول؛ فقد يكون ذهن النبي مستنيراً إلى حد ما من جهة ما يكتب،
أما الوحي فلا يوجد فيه شئ اسمه “إلى حد ما”، بل هو تملُّك كامل من
الروح القدس لأواني الوحي، سواء أدرك النبي ما يقول أو لم يدرك. فمع أنه توجد
درجات فى الإدراك، إلا أنه لا يوجد درجات في الوحي. لقد كان لدى داود بعض الإدراك،
ويوحنا المعمدان كان إدراكه أكبر من داود، ورسل العهد الجديد كان إدراكهم أكبر من
يوحنا المعمدان، أما الوحي الذي أُعطى لداود، بل وأقول أيضاً الذي أُعطى قبله
لبلعام، هو وحي بنفس القدر الذي أُعطى لبولس.

والوحي
يجعل النبي يتكلم بغض النظر عن حالته؛ فقد يتكلم دون توقع منه كالنبي الشيخ في بيت
إيل (1مل13: 20)، أو دون دراية بما يقول كما حدث مع قيافا (يو11: 51)، أو دون رغبة
منه كما حدث مع بلعام (عد23،24)، أو دون إدراك كامل لكل أبعاد ما يقول كما حدث مع
معظم أنبياء العهد القديم (دا12: 8،9 و1بط1: 11،12).

ومع
أن الوحي عصم الأنبياء من الخطأ، لكنه لم يفقدهم شخصياتهم. إن ظهور شخصياتهم يمثل
العنصر البشرى في الوحي، وحفظ الروح القدس لهم من أي خطأ في التعبير عن أفكاره
السامية يمثل العنصر الإلهي. لقد تزود كتبة الوحي بمعونة خاصة من الروح القدس
حفظتهم تماماً من الخطأ، دون أن يعنى ذلك أنهم تزودوا بقدرات إدراكية فائقة، فهذه
القدرات خاصة بالله مصدر الوحي، لا الأنبياء أواني الوحي.

عن
هذا الوحي اللفظي والكامل قال أمير الوعاظ سبرجون: إننا نناضل لأجل كل كلمة في
الكتاب المقدس، ونؤمن بالوحي الحرفي واللفظي لكل كلمة من كلماته، بل إننا نعتقد
أنه لا يمكن أن يكون هناك وحي للكتاب إذا لم يكن الوحي حرفياً، فلو ضاعت الكلمات
فإن المعاني نفسها تضيع.

وقال
الأسقف رايل: إن الإيمان بالوحي الحرفي اللفظي، رغم كل ما فيه من صعوبات، هو أفضل
عندي من الشكوك والحيرة. فإني أقبل هذه الصعوبات وأنتظر باتضاع حلها، لكن طوال
فترة انتظاري فإني أقف على الصخرة.

أمثلة لتوضيح «الوحي اللفظي»

والقصد
من تسميته بالوحي اللفظي أن نبرز أهمية الألفاظ، فالألفاظ هامة جداً للتعبير
الدقيق عن الفكر، وهي مختارة اختياراً إلهياً لهذا القصد. وهاك بعض الأمثلة التي
توضح ذلك.

1-
زمن الفعل:
ففي محاورة للرب يسوع مع فريق من الصدوقيين (أحد الفرق
الدينية على أيام المسيح) الذين ينكرون أمر القيامة، أوضح أن القيامة أمر متضمَّن
في الكتب استناداً على قول الله لموسى « أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله
يعقوب ». لقد بنى المسيح تعليمه في هذه الآية على زمن الفعل. فمن قول الرب
« أنا إله » بصيغة الحاضر – وليس “أنا كنت إله” (
I am, not I was) هذا معناه أنهم أحياء عنده، لأن الله ليس إله أموات (مت22:
31-33). ونفس هذا الأمر نجده أيضاً عندما أعلن الرب يسوع أمام اليهود قائلاً
« قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن (وليس أنا كنت) » (يو8: 58). وهذا معناه
أنه الله الواجب الوجود.

2-
ضمير الملكية (حرف الياء):
إذ يسأل الرب يسوع الفريسيين قائلاً
« المسيح ابن من هو؟ » ثم يستطرد قائلاً « فكيف يدعوه داود بالروح
رباً قائلا قال الرب لربى اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن
كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟» (مت 22: 43- 45).

3-
المفرد وليس الجمع:
يؤكد الرسول بولس تعليماً مبنياً علي لفظ واحد
مكتوب بالمفرد لا بالجمع في قوله « أما المواعيد فقيلت في إبراهيم وفى نسله
(بالفرد لا الجمع. ثم يوضح قائلاً) لا يقول وفي الأنسال كأنه عن كثيرين، بل كأنه
عن واحد (وفي نسلك) الذي هو المسيح » (غل3: 16)

4-
كلمة واحدة فقط عليها التركيز:
فكلمة واحدة فقط يكون لها مدلول هام يؤثر
بقوة في المعنى، وهو ما نجده فى الرسالة إلى العبرانيين إذ يقتبس الرسول من نبوة
حجى 2: 6 ويقول « أما الآن فقد وعد قائلاً إني مرة أيضاً أزلزل لا
الأرض فقط بل السماء أيضاً». ثم يعلق قائلاً « فقوله مرة أيضاً يدل على تغيير
الأشياء المتزعزعة كمصنوعة » (عب12: 26،27). ومرة أخرى يقول المسيح لليهود
« أليس مكتوباً في ناموسكم أنا قلت إنكم آلهة. ثم يعلق قائلاً
« إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن أن يُنقَض
المكتوب »
(يو 10: 34،35).

من
هذا كله يتضح لنا دقة تعبيرات الكتاب المقدس، بل وأهمية حروفه. وليس الحروف فقط بل
النقط أيضاً، ولذلك قال المسيح « لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس
حتى يكون الكل» (مت5: 18).

«العنصر البشري»

لقد
استخدم الله العنصر البشري في الكتاب المقدس. فالله استخدم لغة البشر لكي يخاطبنا
بها، كما استخدم أيضاً عقول كتبة الوحي وأذهانهم وذاكرتهم وعلمهم واختباراتهم
ومشاعرهم والظروف المحيطة بهم. ومن هذا الامتزاج بين العنصرين الإلهي والبشري معاً
تكونت كلمة الله كما يقول داود « روح الرب تكلم بي وكلمته علي لساني »
(2صم23: 2). لقد سيطر الله علي العنصر البشري للكاتب مما سمح بظهور الطابع الشخصي
لا الخطأ الشخصي.

هذا
الأمر نجده واضحاً في فاتحة إنجيل لوقا. فلوقا جمع الوثائق المعتمدة من شهود
العيان وتحقق بنفسه من صحتها، وكان هذا هو العنصر البشرى في المؤرخ المدقق. لكنه
عندما قام بالكتابة فإنه لم يكتب من ذاته دون أن يستلم الروح القدس كيانه بأسلوب
فائق كيما يختار الحقائق التي يذكرها وتلك التي لا يذكرها، ولكي يرتبها في
نسق معين كيما يخرج منها باستدلالاته واستنتاجاته.

يمكننا
تشبيه هذا الامتزاج بين العنصرين الإلهي والبشري بالفنان الذي يعزف علي عدة آلات موسيقية
فنسمع أصواتاً مختلفة ولو أن العازف واحد، ومع عظمة العازف فإنه سيتحرك في حدود
قدرات الآلة التي بين يديه. هكذا فإن الله الذي كوّن الإنسان وشكّل ظروف بيئته،
جهز أيضاً كل واحد من كتبة الوحي، أفرزه من بطن أمه ودعاه بنعمته (غل1: 15) ليعزف
بواسطته مقطوعته الرائعة. وإني أتساءل: هل كان ممكناً لشخص آخر غير سليمان أن يكتب
لنا عن خواء العالم وبطله كما فعل هو في سفر الجامعة؟ إنه لم يكن ناقماً علي
العالم إذ لم يُحرَم من شيء مما تحت الشمس، بل تمتع بلذائذ الحياة كلها دون أن
يفقد الحكمة؛ وأخيراً سجل لنا اختباره « باطل الأباطيل الكل باطل »، لكن
كتابته كانت بالوحي. ومن مثل بولس كان يمكنه أن يكتب لنا عن عدم امتلاك البر
الإلهي بالأعمال الناموسية؟ فمن مِن البشر كان له من الامتيازات نظيره حتى قال
« إن ظن واحد آخر أن يتكل علي الجسد فأنا بالأولىَ» (في3: 4)، لكنه اعتبر هذا
كله من أجل المسيح خسارة!! لكن ما كتبه أيضاً كان بالوحي. وأنت إذ تقرأ كتابات
لوقا تشعر إزاء اللمحات الطبية فيها* أن كاتبها طبيب؛ وهذا لا يتعارض مع كون الروح
القدس أملاه ما كتب.

مشكلة واعتراض

هذه
المشكلة هى كيف نسمي الكتاب المقدس «كلمة الله» رغم أنه يحتوي علي أقوال الشيطان
وأقوال الأشرار، أو علي الأقل أقوال بعض القديسين الخاطئة في لحظات فشلهم وضعفهم
(انظر جا2: 24)؟ والإجابة البسيطة علي ذلك هي أن الأمر بتسجيل هذه الأقوال هو الذي
كان بالوحي لا الكلمات ذاتها.

في
آيات مثل متى 12: 24، 26: 69،70 وتكوين3: 4 وغيرها، نحن عندنا تسجيل صحيح لأقوال
خاطئة، أو بالحري التسجيل كان بالوحي، رغم أن الأقوال نفسها ليست موحى بها.

إذاً
فالتعليم بالوحي الحرفي أو اللفظي لا يعلم بأن كل أقوال الوحي هي على ذات القدر من
الأهمية، بل إنها كلها سجلت في الكتاب بالوحي.

ولقد
أوضح بولس هذا الأمر عندما ميز آراءه الخاصة في مسائل خاصة بالزواج موضحاً بصريح
العبارة أن هذا رأيه هو وحُكمه الروحي في الأمر وليس « وصايا الرب »
(1كو7).

ويعترض
البعض على هذه النظرية بقولهم إننا بهذه النظرية عن الوحي اللفظيوالحرفي نؤلِّه
النص، أما هم فيفضلون أن يضعوا الرب وليس الوحي سيداً عليهم. ولقد أصاب د. لويد
جونز في رده عليهم بالقول: كيف تعرف الرب؟ ما الذي يمكنك أن تعرفه عنه خارج
الكتاب المقدس؟ وكيف تتأكد أن ما تعرفه بالاختبار عنه ليس وهماً مستمدَاً من
خيالك؟ أو أنه ليس من نتاج حالة نفسية غير مستقرة؟ أو أنه ليس أحد تخاريف العبادات
السرية الشيطانية التي انتشرت فى هذه الأيام؟ أولئك الذين يقولون نحن نتمسك بالرب
وحده، أو الذين يقولون إننا نذهب إلى الرب مباشرة عليهم أن يجيبوا على هذه الأسئلة
أولاً.

وإذا
كان بوسع المرء أن يحكم على التعليم من الثمار التي تنشأ عنه؛ فما أمر ثمار إنكار
الوحي الحرفي للكتاب المقدس.. فليس بمستغرب أن يتبنى كثير من لاهوتيِّ القرن
العشرين الانحلال الجنسي بل والشذوذ الجنسي والطلاق، رغم تحذير الكتاب الصريح من
هذه الشرور.

قديماً
قال الجاهل في قلبه ليس إله، ففسدوا ورجسوا بأفعالهم (مز14:
1)، واليوم قالوا ليس وحي من عند الله وكانت نفس النتيجة من الفساد والرجاسة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى