علم التاريخ

الكنيسة المارونية



الكنيسة المارونية

الكنيسة
المارونية

ظهور
الكنيسة المارونية: واستولى الفرس على أبرشيات أنطاكية فرحب اليعاقبة بقدومهم
وتعاونوا معهم. وطالت الحرب الفارسية (609-628) فلمس هرقل أهمية ولاء اليعاقبة
والأرمن لقربهم من حدود فارس ولكثرة عددهم فرغب في تسوية الخلاف القائم بين هؤلاء
وبين الكنيسة الأرثوذكسية الجامعة. فأعدَّ سرجيوس البطريرك المسكوني حلاً للمشكلة
فقال بطبيعتين مع الكنيسة الجامعة وبفعل واحد لاسترضاء اليعاقبة والأرمن والأقباط.
ووضعت الحرب أوزارها فأخذ هرقل يطوف في الولايات الأسيوية ويحض المسيحيين على
التفاهم وتوحيد الصفوف بالشكل الذي اقترحه سرجيوس بطريرك القسطنطينية. ووصل هرقل
إلى الجزيرة في صيف السنة 631 وزاره فيها أزر كاثوليوس الأرمن فقبل الحل الجديد.
ثم اتصل هرقل بأحبار اليعاقبة في منبج فقالوا بالمشيئة الواحدة والطبيعتين واعترف
هرقل ببطريركهم أثناسيوس الجمّال بطريركاً قانونياً على كنيسة أنطاكية. ثم اتجه
الأمبراطور شطر سورية الشمالية مقرِّباً موحداً فلقي ترحيباً كبيراً.

 

ووصل
هرقل إلى حمص في هذه السنة عينها (631) فخف رهبان بيت مارون إلى استقباله فيها
ورحبوا به ترحيباً “فأقطعهم أراضي واسعة” وأبقى في أيديهم ما كانوا قد
أخذوه من الكنائس والأديار التي كانت لليعاقبة. فازدادوا عزة ومناعة ونفوذاً
وتعاونوا معه.

 

وأطلّ
المسلمون على سورية وانتشروا في سهولها واستولوا على مغانمها وتراجع هرقل وأوصى
أعوانه وأنصاره، وبين هؤلاء رهبان بيت مارون وأتباعهم، بالتيقظ والتربص مؤكداً
عودته بعد حين فاشتد ضغط المسلمين على هؤلاء الأعوان والأنصار. وأكّد اليعاقبة
للمسليمن أنهم ليسوا من أنصار الملك فأطلق المسلمون يدهم فاضطهدوا رهبان بيت مارون
وأتباعهم محاولين استرجاع ما خسروا من أديار وكنائس. وكان اليعاقبة لا يزالون
كثراً في أبامية ونواحيها ولهم دير عظيم بالقرب منها على اسم مار باسوس بلغ عدد
رهبانه ستة آلاف وثلاث مئة. فطلب الموارنة لهم ملاجئ حصينة يعيشون فيها أحراراً
طلقاء ويمتنعون بها إلى أن يعيد الروم الكرة ويجولوا جولة ثانية في الحرب القائمة
بين المسيحيين والمسلمين. واغتنم معاوية نشوب الثورات في أوائل عهد قسطنطين الرابع
فأنفذ حملاته الشهيرة ووصل إلى أسوار القسطنطينية (673-677) فأنفذ الروم المردة
والجراجمة إلى جبال لبنان للقيام بغارات جريئة في بلاد الشام تعرقل أعمال تموين
العدو وتهدد عاصمته. فاحتمى بهؤلاء كثيرون من أهل البلاد وضوى إليهم “جماعة
كثيرة من الجراجمة والأنباط”. وهؤلاء الأنباط هم في عرف رجال الاختصاص
العناصر الآرامية المعاصرة ومنها الموارنة. ولم تأتِ هذه الهجرة دفعة واحدة وإنما
حدثت في أزمنة متتالية فجاء الموارنة إلى لبنان على موجات صغيرة واستقروا بطبيعة
الحال في أعاليه الشمالية في منطقة الجبة القريبة من وادي العاص وفي بلاد العاقورة
التي كانت لا تزال قليلة السكان كثيرة الغابات.

 

وسار
موكب المشيئة الواحدة في البلدان التي لم تكن قد احتلها المسلمون سيراً موفقاً
فقال بها بطاركة القسطنطينية وأرمينيا ومصر وأيدهم أونوريوس بابا رومة فصدر
الاكثيسيس بالمشيئة الواحدة في السنة 638. وتولى السدة القسطنطينية بعد سرجيوس من
قال بالمشيئة الواحدة وبث الدعاية لها وناصر من ناصرها. وتعاقب على الكرسي
الأنطاكي من قال هذا القول منذ السنة 631 حتى السنة 681. وأشهر هؤلاء مقدونيوس
صديق سرجيوس ومكاريوس صاحب المصنفات في المشيئة الواحدة. وكان القول بالمشيئة
الواحدة على ما دعا إليه هرقل قد شاع في أبرشيات أنطاكية وأورشليم وتفشى بين طبقات
الشعب والاكليروس من الملكيين الموارنة منهم وسواهم. ومن هنا اهتمام البابا
مرتينوس وتفويضه إلى يوحنا أسقف عمان أمر رعاية من تبقى من المؤمنين الأرثوذكسيين
وتخويله خلع الأساقفة في أبرشيات أنطاكية وأورشليم الذين ضلوا فضللوا. وقد نغالي
كثيراً إذا اعتبرنا البطاركة الأنطاكيين المونوثيليين المقيمين في القسطنطينية
آنئذ شرقيين
In Partibus
Infidelium
بكل ما في هذا الاصطلاح
من سلطة وهمية وفقر في النفوذ. فموقف الأمبراطور من مكاريوس قبيل انعقاد المجمع
المسكوني السادس يدل على صلة بين البطريرك لاأنطاكي وبين الأساقفة الخاضعين
لسلطته.

 

وكان
ما كان من أمر المجمع المسكوني السادس (681). وحرّم القول بالمشيئة الواحدة. وأصر
بطريرك أنطاكية مكاريوس على غيه وأمعن في تيهه فوسم بطابع الهرطقة وحرم هو أتباعه.
وآثر مكاريوس الاتصال ببابا رومة على البقاء في القسطنطينية فأذن له بذلك. فأقلع
إلى إيطاليا مع أعضاء الوفد الروماني ووصل إلى رومة والتبست عليه وجوه الرسد فغلا
في هرطقته فدخل ديراً وأقام فيه. واعتبر اليعاقبة عمل المجمع المسكوني السادس
غلواً في ما ذهب إليه المجمع الخلقيدوني فاشمأزوا واتهموا قسطنطين الرابع بالخيانة
وادعوا أنه باع ضميره لقاء مئة وسبعين قطاراً من الذهب دفعها إليه البابا أغاثون!!
وأصبح من نكَّب من الملكيين عن طاعة المجمع السادس بلا رأس فاجتمع رهبان بيت مارون
ورسموا على قول المؤرخ اليعقوبي، بطريركاً وأساقفة في ديرهم. وهكذا تأسست كنيسة
مارونية مستقلة بين أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن.

 

يوحنا
مارون: (627-707) واثبت ما يستنتج من تقاليد الموارنة أن رهبان دير مارون وأتباعهم
أثناء شغور الكرسي الأنطاكي نادوا بيوحنا أحد رهبانهم الأفاضل بطريركاً على
أنطاكية وأنه هو أول بطاركتهم ومما جاء في التقليد أنه رقد في جبل لبنان وتوالى
بعده بطاركة الموارنة.

 

الموارنة
والمشيئة الواحدة: ويذكر القديس جرمانوس البطريرك المسكوني (715-729) الموارنة في
كتابه المجامع والهرطقات فيقول أنهم لم يعترفوا بالمجمعين الخامس والسادس. ويعد
القديس يوحنا الدمشقي رسالة في العقيدة الأرثوذكسية قبل السنة 726 ليتبناها الياس
أسقف يبرود أمام رئيسه بطرس متروبوليت دمشق فيجيء في القسم في آخرها أن الأسقف لا
يقول إلا بها وأنه لا علاقة له بأي دستور إيمان آخر ولا سيما دستور إيمان
المورانة. ويوجه ثيودوروس أبو قره أسقف حران (740-820) رسالة إلى صديق له كان
يعقوبياً فاهتدى فيقول بالعربية: “ولا نرى إن القوى التي كانت في التركيب
الأنسي بطلت لأن الكلمة هو كان المدبر والمحرك لها وإن كان قد يرى ذلك جند
الموارنة”. ولعله ينسب للموارنة رأي غلاة المونوثيلية المتأخرين.

 

وقام
سعيد ابن البطريق بطريرك الإسكندرية (933-940) يؤرخ منذ الخليقة حتى أيامه فقال إن
مارون علَّم بالطبيعتين والمشيئة الواحدة والفعل الواحد والأقنوم الواحد. وإضافة
أنه علم في عصر موريقيوس وأن أكثر من تبعه تلاميذه أهل مدينة حماة وقنسرين
والعواصم فسميوا المارونية. وسعيد ابن البطريق هو افتيخيوس المشار إليه آنفاً وهو
يخلط بين القديس مارون ويوحنا مارون البطريرك الماروني الأول فيضعف روايته.

 

ويتصدى
للبحث في هذا الموضوع في القرن العاشر مؤرخ مسلم هو أبو الحسن علي المسعودي
المتوفي في السنة 957 للميلاد. وقد اشتهر بحب الاستطلاع والبحث في المواضيع
الإسلامية وغيرها. وصنف كتباً عديدة أشهرها مروج الذهب. وبحث في كتاب التنبيه
والاشراف في الموارنة فقال:

“وظهر
في أيام موريق رجل من أهل مدينة حماة من أعمال حمص يعرف بمارون وإليه تنسب
المارونية إلى هذا الوقت المؤرخ به كتابنا. وأمرهم مشهور في الشام وغيرها وأكثرهم
بجبل لبنان وسنير وحمص وأعمالها كحماة وشيزر ومعرة النعمان. وكان لهم دير عظيم
يعرف شرقي حماة وشيزر ذو بنيان عظيم حوله أكثر من ثلاث مئة صومعة فيها الرهبان.
وكان فيه من آلات الذهب والفضة والجوهر شيء عظيم. فخرب هذا الدير وما حوله من
الصوامع بتواتر الفتن من الأعراب وجور السلطان. وهو يقرب من نهر الأنباط نهر حمص
وأنطاكية. وكان مارون قد أحدث آراء أبان بهما عمن تقدمه من النصارى في المشيئة
وغيرها. وكثر متبعوه. وقد أتينا على شرح مذهبه وموافقته الملكية والنسطورية
واليعاقبة في الثالوث ومخالفته إياهم في ما يذهب إليه من أن المسيح جوهران وأقنوم
واحد ومشيئة واحدة. وهذا القول متوسط بين النسطورية والملكية”.

 

كتاب
الهدى: وقد سقطت محن الدهر وعوادي الزمن على آثار الموارنة الأولين فلم يبقى منها
شيء يذكر. وأقدم ما عند الموارنة كتاب الهدى والمقالات العشر(كتاب الهدى هو دستور
الطائفة المارونية في الأجيال الوسطى عني بنشره الأخ بطرس تامر
العشقوني-حلب1935-). وكتاب الهدى أو كتاب الناموس أو كتاب الكمال الذي ينسب إلى
المطران داود الماروني هو في الحقيقة مجهول المؤلف لأن المطران داود لم يؤلفه
وإنما نقله من السريانية إلى العربية في نحو سنة 1058 وذلك إجابة لطب راهب فاضل
اسمه يوسف. والمطران داود مجهول أيضاً وكذلك صديقه الراهب يوسف. وليس في متن كتاب
الهدى ما يدل على واضعه سوى العبارة “وقال الأب القديس” أو ما يشابهها.
ولا نعلم من هو هذا الأب القديس. ولعله مار يوحنا مارون أو أحد خلفائه البطاركة
الأولين أو غيرهم وقد يكون هذا الكتاب من كتب الطائفة المارونية بدليل ما جاء في
الباب الثالث عشر منه عند ذكر آراء المسيحيين في أخذ القربان. فقد جاء ما نصه
بالحرف: “فرأت الروم أن تقريبه في كل يوم واجد ولكنها قالت إن ترك أخذه في
أكثر الأوقات أولى من أخذه دائماً. أم الأرمن فإنهم لا يرون تقريبه بالجملة إلا في
أوقات مخصوصة مثل الخميس الكبير والفصح وما أشبه ذلك من الأعياد الكبار. فأما أكثر
السريان وهم أهل مذهبنا وأكثر اليعاقبة وشريان المشرق والنساطرة فرأيهم في
المواظبة على أخذه في أكثر الأوقات أول من تركه”. ويتضح من هذا أن السريان
أهل مذهبه هم غير الروم والأرمن واليعاقبة والنساطرة وسريان المشرق. نقول قد يكون
هذا الكتاب من كتب الموارنة بدليل ما اقتبسنا وقد لا يكون. وقد يكون لبعض الموارنة
لا لجميعهم.

 

والذي
يهمنا من كتاب الهدى جاء في القانون الأول منه وفيه كلام صريح في أمر المشيئة
الواحدة. وإليك نصه:

 

 “فنقول
إنه هكذا نعتقد وهكذا نؤمن أن أحد الأقانيم الثلاثة الشريفة وهو الابن الكلمة
المولود من الآب ليس في الزمان والابتداء وليس كتوالد الأجسام بعضها من بعض بل هو
نور من نور إله حق من إله حق في آخر الزمان من أجل كثرة رحمته قد صنع خلاص الجنس
الآدمي بمشيئة الآب وروح القدس هبط من السماء من غير أن يفارق ذات الآب ومن غير
تغير ولا فساد تجسد من روح القدس والطاهر ابنة يواقيم وحنة وأخذ منها جسداً
موازياً لنا في طبيعتنا وموازياً لنا في جوهرنا الإنساني جسماً ذا نفس ناطقة عالمة
وشابهنا في كل شيء سوى الخطيئة وولد منها ابناً واحداً ورباً واحداً يسوع المسيح
أقنوماً واحداً وشخصاً واحداً ذا جوهرين معقولين من جوهر الآب الأزلي بلاهوته ومن
جوهرنا بناسوته محسوس بالجسم الإنساني وغير محسوس باللاهوت محدود بالجسم الزماني
الإنساني وغير محدود باللاهوت الأزلي الأبدي.

 وإذ
قد اعتقدنا فيه هذا الاعتقاد الذي ذكرناه فإننا لا نعتقد فيه أيضاً اثنين ولا
مسيحين ولا فعلين حاشا من ذلك بل هو واحد يسوع المسيح ابن الله الذي من أجلنا تأنس
أقنوم واحد وشخص واحد وهو يعقل بجوهرين ومشيئة واحدة وفعل واحد إله أزلي ليس له
ابتداء وإنسان آدمي زماني ذو جسم نفساني حساس زماني. وهو إله تام باللاهوت وإنسان
تام بالجسم الإنساني.

 وبهذه
الأوصاف قد آمنت البيعة المقدسة وبها أقرت واعترفت هي وجميع أولادها. وعلى ذلك
اتفق رأي النصارى المؤمنين وآمنوا بالرب يسوع المسيح ابن الله الحي الأزلي الذي
هذه أوصافه. وكانت أرواحهم متفقة في جميع ما قدمنا ذكره إلى هذا الذي انتهينا إليه
من أوصاف الابن الأزلي يسوع المسيح. ثم اختلفوا فيه كان بعد الاتحاد وافترقوا
فرقاً كثيرة.

 فأول
فرقة ظهرت من الفرق المشهورة المنسوبة إلى آريوس وهي التي تدعى الآريوسية ثم
النسطورية وهي المنسوبة إلى نسطور ثم اليعقوبية وهي المنسوبة إلى يعقوب الذي كان
من مدينة تدعى بردعاء ولذلك يقال له البرادعي ثم الملكية وهي المنسوبة إلى قسطنطين
ابن قسطنطين ابن هرقل الملك ثم المارونية هو المنسوبة إلى مارون يوحنا بطريرك
أنطاكية العظمى. (ويعلق هنا المطران دريان فيقول: “وفي النسخة الكريمية يوجد
بعض التشويش في هذه العبارة خاصة فقد وردت فيها كما يلي: ثم المارونية المنسوبة
إلى مارون وإلى قسطنطين ابن قسطاس ابن قسطنطين ابن هرقل” لباب البراهين
ص239).

 وثبتت
هذه الفرق الأربع على أن الفرقتين الملكيتين والمارونية التي ذكرناهما إنما هما
فرقة واحدة ورأيهما في الاتحاد والجوهر والأقنومية رأي واحد وإنما اختلفتا في
المشيئة فقالت الملكية في المسيح أنه ذو مشيئتين للجوهرين مشيئة إلهية للجوهر
الإلهي ومشيئة إنسانية للجوهر الإنساني. وقالت المارونية بل هو ذو مشيئة واحدة
للجوهرين الإلهي والإنساني. ومن بعض ما احتجت به الملكية أنه لما كان المسيح ذا
جوهرين جوهر إلهي وجوهر إنساني وجب أن يكون ذا مشيئتين مشيئة إلهية للجوهر الإلهي
ومشيئة إنسانية للجوهر الإنساني إلا أن الجوهر الإلهي تختص به التفضل والأنعام
وإظهار المعجزات مثل شفاء المرضى وفتح أعين العمي وإنهاض الزمني وإحياء الموتى وما
أشبه ذلك. والجوهر الإنساني يختص به العالميات مثل الأكل والشرب. ولو كان المسيح
ذا مشيئة واحدة لوجب أن يكون جوهراً واحداً وعاد الأمر إلى ما قالت اليعقوبية.
واستدلت على ذلك بقوله في الإنجيل: أما النفس فمختارة مستعدة وأما الجسم فموجوع
ضعيف. وبقوله: ما أتيت لأصنع مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني. وقال طائفة
المارونية هاتان المشيئتان اللتان ادعيتموهما لا تخلوان من أن تكونا إما متساويتين
أو متضادتين. فإن كانت متساويتين في جميع حالهما عاد الأمر إلى مشيئة واحدة. وإن
كانتا متضادتين جاء من ذلك أن يكون الجوهر الإلهي يشاء ما لا يشاء الجوهر
الإنساني. وكذلك الجوهر الإنساني يشاء ما لا يشاء الجوهر الإلهي. وإذا حصل ذلك وقع
التباين والفضاء وحصلا اثنين وبطل حكم الاتحاد وصار الثالوث رابعاً وآل الأمر إلى
رأي نسطور وما ادعاه في المسيح”.

 

المقالات
العشر: وكتاب المقالات العشر في المشيئة الواحدة للأسقف توما الكفرطابي يقول مع
كتاب الهدى بالطبيعتين والمشيئة الواحدة ويستدل من مقدمة هذا الكتاب أن صاحبه توما
كان أسقفاً على موارنة كفرطاب وكورة حلب في النصف الثاني من القرن الحادي عشر وأنه
كتب في المشيئة الواحدة ليرد على يوحنا السابع بطريرك أنطاكية الأرثوذكسي وذلك في
السنة 1089. ومن أهم ما جاء في هذه المقالات قوله:

 

 ونحن
وأنتم دمنا ثابتين على ذلك زمان كثير إلى زمان مكسيماس خاصتكم الذي من تحقيق ولد
زنا لأن أمه كانت مرأة عجمية زنت مع رجل يهودي من ملة السامرة. فلما ولد منها هذا
المذكور ونشأ ثم أنه تدرب بكل أموراً منشقة عن العدل بكل مكر وأفعال ردية لأنه
تربى في طبرية وانتقل من هناك إلى مدينة قسطنطينية. وعند ذلك الحين كان في مدينة
قسطنطينية ملكين أخوة مرقيان و أخيه تسلما مقاليد سياسة مملكة الروم. حينئذ تقدم
إليهم مكسيما المذكور و طفق يشير عليهما بأن يوجب اننا نريد مشية أخرى و يكونا
مشيتين لذو الطبعين. و هذا الاعتقاد يلزم افتراق الطبيعتين من الاتحاد الشريف. ثم
أن الملكين امتثلا قوله لأن قال كما أنتما ملكين يصير لكما شعب يسمى ملكيين
باعتقاد مسيتين و طبعين و مذبحين و يُصلّب باصبعين. فلما حسن ذلك عند الملكين كي
يظهر لهم سمعة جديدة في العالم أمرهم مكسيماس يكتبوا مناشير إلى بلاد الشام كي
أنهم يعتقدوا مقالة المشيتين التي قالها مكسيماس. فلما انتهت كتبهم إلى بلاد سوريا
الشام و بلد حلب و دمشق و جبل لبنان. حينئذ قالوا أهل الشام أننا نحن راجعين إلى
حكم دير ماران سرياني تفسيرها عربي دير ربنا. لأن صفة هذا الدير كان على شط العاصي
خارج مدينة حماة. و كانت جملة رهبانه ثمانمائة راهب كلهم قديسين. ثم وصلت لهم كتب
الملكين مرقيان و أخيه إلى دير ماران. فلما وقفوا على قرائتها و تأملوا مضمون إشارتها
للحين نفروا منها غاير الانفار. ثم أن الرهبان ردوا جواب كتب الملكين قائلين لهم
هكذا: أنتم تعلمون لأن نحن بأيدينا أمانة الثلاثماية وثمانية عشرا أباً بمدينة
نيقية وقامت عليه خمس مجامع وثبتتها لنا وأحرموا لكل من يغيرها أو يميل عنها.
وتأمرونا نقيم مذهب مكسيماس بيد غالبة وسيف. ومذهب حق لم يكون بقوة حرب. وهذا
الشقاق اخترعه مكسيماس من تلقين قلبه بأغراض مفسدة مايلة عن عدل المجامع. فإنْ كان
مكسيماس قوله حق يجي ويجتمع ونحن وأياه بمدينة الله أنطاكية. فإن رأينا نعمة روح
القدس حل عليع علمنا أن قوله عدل. وإذا لم يكون كذلك وإلا لم يكرهنا أحد على إتباع
مقالته غصباً بغير شهادة برهان من كتب للكنيسة المقدسة الرسولية وتثبيت قوانين
المجامع المقدسة المهذبة بنعمة الروح القدس.

 ثم
إنّ أولئك الرهبان القديسين كتبوا جواب مراسلة الملكين وتسلم رسل الملوك وانصرفوا
من عندهم. فلم يشعروا إلا وقد ظهرت جيوش الإسلام وقطعت البلد وتغلبوا على دمشق
ومصر وأيضاً بيت المقدس وجميع الشام فلم عادوا الملكين كاتبوا دير مارون. عند ذلك
ثبتوا أهل الشام وجبل لبنان على تلك المقالة المقدسة المفوضة من الرسل والمجامع
المتقدم ذكرها. فلما عاد توفوا الملكين مرقيان وأخيه.

 حينئذ
تقلد سياسة مملكة الروم بعد هولاي هرقل الملك المنصور الذي رفع مجد دين النصرانية
وأباد أعاديها وأهلك أضدادها من الفرس وغيرهم. وأهلك بلدانهم وأخرب حضراتهم وأمحى
ذكرهم ورفع منارة الصليب الكريم على جميع الأعالي وكسر معبودات المجوس عباد الأوثان
وأقام بحق الملك نظير قسطنطين الكبير الملك القديس الذي ثبت مقالة للثلاثماية
والثمانية عشر في مدينة نيقية.

 وإن
الملك هرقل القديس نكر على مقالة مكسيماس ثم كتب عرف البابا لاوون بطريرك رومية
بفساد تلك المقالة التي زادها مكسيماس بغير شهادة حق. فلما بلغ كتاب الملك هرقل
إلى لاوون حينئذ تأمله وفهم مضمون صحة إيمانه عند ذلك أرسل جوابه رسالة يبارك له
بملكه ويدعي له بالنصر قائلاً له أن الذي ابتدع هذا الشقاق مستحق تأديب قطع لسانه
ويده. فلما وصل كتاب البطريرك قبله هرقل قبل الوقوف عليه. حينئذ أشخص بين يديه
مكسيما وأمر بعض غلمانه أحد اسمه قسطا قطع لسان مكسيما ويده وأنفاه إلى جزيرة تسمى
الريكية. وهذا المقال مؤرخ عندنا وعندكم بكتاب سعيد ابن بطريق. وهناك مات مكسيما
منفياً وبطلت مقالة المشيتين ومحا ذكرها في ملك هرقل وابنه قسطنطين وابن قسطنطين
كان اسمه قسطاس مقدار سبعين سنة.

 وبعد
هولاي تقدموا تلاميذ مكسيماس إلى أهل المراتب وقدموا له البرطيل والرشوات الجزيلة
وردوا المقالة المنشقة كما كانت من مكسيما. وانشقوا أولئك إلى تلك المقالة. وثبتنا
نحن أهل حلب وحماة وحمص في الشرق وجبل لبنان بمقالة الخمس مجامع. وثبتوا تلاميذ
مكسيماس منشقين وحودهم لا يخالطهم أحداً. وأكثروا المقال والعيب واللعنات بغضة
منهم ورقاعة إلى جميع صفوف النصارى المؤمنين أخوتنا المسيحيين.

 وأنتم
تلاميذ مكسيماس أخذتم لعنة تلعنوا بها جميع المسيحيين ظلماً وبغضة بغير شهادة عدل
وما سمعتم ما قال الإنجيل المقدس صلوا على من يلعنوكم ظلماً افرحوا وابتهجوا لأن
أجركم كثير في السماء وباركوا على من لعنوكم ومن صخرك ميل مر معه ميلين. وأنتم
أخذتم لكم لعنة تلعنوا بها النساطرة والافرنج والأرمن والقبط والحبش واليعاقبة
والموارنة.

 ولا
تعتبوا علينا ولا تلومنا لأننا أوريناكم الصواب ولكم بروسكم ولربنا المجد. ونحن
سمينا موارنة من دير ماران تفسيره دير ربنا. وأنتم انشقيتم وحدوكم وسميتم ملكين
على اسم الملكين عابدين مشيتين وارادتين وفعلين وغرضين ومذبحين وتصلبوا باصبعين
وافرقتم السيد المسيح مسيحين. عرفتك ذلك بعد اكرامك يا أبي القديس وصلي علي منشان
الله له السبح آمين آمين.

 

موقف
علماء الموارنة: وأحكم ما صنف في هذا الموضوع على يد الموارنة كتاب لباب البراهين
عن حقيقة أمر الطائفة المارونية للمطران يوسف دريان. فإنه جاء والحق يقال غزير
المادة جزيل المباحث واضح التعبير. وظهر بعد بثمانية عشر عاماً كتاب آخر بالافرنسية
لصديقنا سيادة الحبر العلامة بطرس دسي وقد أسماه “الكنيسة المارونية حتى
نهاية العصور الوسطى”. وقد استوعب سيادته أصول هذا الموضوع وأحاط به بالطريقة
العلمية الحديثة فجاء كتابه مرجعاً لا يستغنى عنه وتلخص نظرية المطران يوسف دريان
والمطران بطرس ديب بما يلي:

 

 أولاً:
إن القول بالمشيئة الواحدة لم يصل إلى أبرشيات أنطاكية في عهد سرجيوس واونوريوس
وهرقل وأن القول بالمشيئتين تسرب إلى هذه الأبرشيات بواسطة بعض الأسرى في أوائل
القرن الثامن.

 ثانياً:
إن الموارنة ولو قالوا بالمشيئة الواحدة لا يصح أن يقال بصواب أنهم مونوثيليون
بحصر المعنى لأن المشيئة الواحدة في عرفهم “واحدة معنوياً أي في مفعولها
ونتيجتها لا في قوتها ومبدئها”.

 ثالثاً:
إنه لا يجوز عد الموارنة الأولين هراطقة لأنه لا يصح فيهم تحديد الهرطقة وشروطها
ولا سيما وأنه لم يكن في عملهم أي عناد أو جسارة أو مكابرة أو عصيان على سلطة
الكنيسة كما برهنوا على ذلك عند أول اتصالهم بالكرسي الرسولي الروماني بعد تحديد
المجمع المسكوني السادس.

 

ويرى
صديقنا العلامة سيادة المطران مخائيل ضومات أن التعبير “مشيئتان طبيعيتان
وفعلان طبيعتان” الذي أقرّه المجمع المسكوني لم يظهر في المناقشات الأولى
التي رافقت قضية المشيئة الواحدة. وقد أخذها بعضهم بمعنى أدبي يقصد به “الأمر
المراد” وبالفعل “الأمر المفعول”. وفي عدم التمييز التباس أدى إلى
جدال هو أشبه بشيء بما قام هو تعبير الطبيعة الواحدة الموروس عن كيرلس الإسكندري.

 

ملاحظة:
خلال الحروب الصليبية اتحدوا بروما طيلة 80 عاماً ثم انفكّوا. تجددت الاتصالات بعد
الغزو العثماني الجائر. فعادوا إلى روما في 1584. وفي 1736 عقدوا الاتفاق الكامل،
فأضحوا لاهوتياً على مذهب روما. وقبلوا المجمعين السادس والسابع المسكونيين.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى